من أمين الريحاني إلى كميل شمعون
يا كميل، مر «أعوانك» أن يروحوا في كسب المكارم، ويدلجوا في حاجة من هو نائم، فوالذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحد أودع قلبًا سرورًا وخلق الله له من ذلك السرور لطفًا، فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه كما تطرد غريبة الإبل.
حضرة الرئيس:
لا تؤاخذنا على رفع الكلفة؛ فنحن في هذه الدنيا الثانية غيرنا في الأولى، فلا «بروتوكول» ولا تشريفات، ولا مواعيد مقابلة، نطل عليه تعالى بلا استئذان، ونجتمع بحاشيته من ملائكة وقديسين ساعة نشاء. الحالة هنا كما تحاول أن تجعلها أنت: «خوش بوش».
وقبل وبعد؛ فأنا ربيب الأميركان وعشير ملوك العرب كهلًا، ومن كان هكذا لا تعنيه الألقاب، وهل يلجأ إليها إلا المدَّجلون؟!
دع العرَض وخذ مني الجوهر، إنني أباركك من هذه الأعالي، وإذا لم تكن بركتي «رسولية» فهي إنسانية يستحقها من كان إنسانًا مثلك، لا تتعجب إن كتب إليك من لم يتعود مراسلة الرؤساء والحكام، فما خاطبتك إلا لأنك ذو رسالة، ولأن رسالتك هي رسالتي.
كمِّل يا كميل، والله معك، لا تؤمن بقول العاجزين: الكمال لله، لا يا أخي، والكمال أيضًا للإنسان، وهو لهذا خلق. أما سمعت المسيح يقول: كونوا كاملين لأن أباكم السماوي كامل.
الإنسان الطيب نصف إله بل هو الإله، والقلب النقي الطيب يعاين الله، وهذه هي الصوفية المسيحية، فليكن «صليبك» على كتفك، «والهلال» ينير طريقك، وإلى الأمام.
أنت تطير يا كميل، أما أخوك أمين فكان ينزل عن ظهر فرس ليقتعد غارب بعير، أما قرأت ملوك العرب؟!
أرجو منك أن تعيد قراءته، وتقرأ أيضًا تاريخ نجد الحديث، وفيصل، وقلب العراق، ولا تنسَ «المغرب الأقصى» فالدعوى من أخينا فرانكو آتية ولا بد.
والآن قل لي: كيف رأيت «الطويل العمر» أما هو كما قلت عنه؟ يقولون: إن من الكلام لسحرًا، والحق إن من الكلام لنبوة، فهذا الرجل حقق كل أمالي، وقد انجلى لي مستقبله حين رأيته فكأنه كان طليعة عيني.
لا تسأل عن فرحنا هنا حين رأينا فيصلًا الثاني يقلدك وشاح الرافدين وتقلده وشاح الجبل، لقد تهللنا جميعًا، أنا وجده فيصل كنا نضحك ونصفِّق، وقد قال لي فيصل: كنت تسعى يا أمين لتوحد ملوك العرب وتجمع شملهم، فانظر بعينك ما تمناه قلبك وزرعته يدك.
يا أخي كميل، كم سعيت لأُحطم تلك «الأخشاب» التي تفصل القلوب والنفوس، فالحمد لله على أنها تتهاوى أمامك واحدة إثر واحدة.
كمِّل يا كميل.
إخواننا العرب جماعة طيبون، كرماء أجاويد، والكريم الجواد تستطيع أن تتفق معه. من لا يهمه «الجمع» لا يختلف معه على «القسمة»، أظنك آمنت مثلي بالكرم العربي وطيب قلب العربي، بعدما شهدت ما شهدت عند «الطويل العمر» وعند حفيد صاحبي فيصل، في بلاد ألف ليلة وليلة.
ساعة كنت تخترق دجلة كنا نحن: الشميَّل والشدياق وأنا نخترق نهرًا عظيمًا يسمونه بلغة دنيانا نهر التوهو بوهو، فرأيناكم مغتبطين وندهناكم مرارًا ولكنكم لم تسمعونا، فقال الشميَّل: إنهم سامعون بقلوبهم فلنبارك عملهم ليثبتوا.
أما الشيخ أحمد فارس فزفر زفرة حرى كاد أن ينشق لها صدره، فصحنا به يا مالك يا شيخ! فقال: وصلني مكتوب من صديق لا أعرفه يقول فيه: إن قنافذ الطائفية تهدج حول البيوت اللبنانية.
فقلنا له لا تخف يا شيخ، ألا ترى ما نرى؟!
فقال: ولولا هذا كنت فطست … لقد ذقت «المغراية» وخربت بيتنا التعصبات الطائفية ومع ذلك يا جماعة الخير، أرى أننا كنا في ذلك الزمان خيرًا من جماعتنا اليوم، المسلم والمسيحي كانا صريحين، أما اليوم فلا أدري ما أقول عنهم.
فقلت له: ما دام الرؤساء متفقين وما دام كميل يؤدي الرسالة على حقها، بصفاء قلب وخلوص نية، فلم يبق من عمر الطائفية والتعصب الديني إلا القليل.
وهنا تنهد الشميَّل وقال: ما بقي من العمر أكثر ما مضى.
وسمعنا حس قادم فتطلعنا وإذا «أبو علي» مقبل علينا، ومعه الكبش والضب، فقلت له: أما زلت تؤمن أن السياسة أعقد من ذنبه كما كنت تقول؟
فأومأ برأسه أن نعم، ثم همس: اللهم وحِّد العرب واحفظهم، ولا تجعلهم أضحية كهذا الكبش.
ولما ركبت الطائرة لترجع إلى لبنان حاولت أنا أن أركب عربة مارالياس وألحق بك، ولكن خفت أن ألدغ من الجحر مرتين … كانت الأولى لدغة الدرَّاجة فحرمتني المكوث عندكم بضع عشرة سنة، ولا أدري ما يصيبني إذا مت ثاني مرة، ولذلك عدلت.
لقد توجت كتابي بكلمة من كلام الإمام علي، إلى سميِّك كميل بن زياد النخعي، وأحب أن أختمه بكلمة ثانية له، وهي إلى كميل أيضًا:
يا كميل: إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، فاحفظ عني ما أقول لك.
أستودعك الله الآن، ولا أقول لك «إلى اللقاء» لأني أرجو لك عمرًا طويلًا، لتحقق ما تنويه من خير للأمة ووطنك.
حاشية: السر بيني وبينك: الجنة هنا مشاع للجميع. قل لهم لا تختلفوا عليها، الله أب عام، لا فرق عنده بين أولاده، طمِّنهم جميعًا، الميراث بيننا بالسوية، وإياك أن تراعي في المنام خليلًا …
ضع الفأس على أصول الأشجار، إلخ … الآن هذا كاف، وسأكتب إليك عند الحاجة، امشِ على ما قدَّر الله.