في ذلك الزمان
كان جورج بك زوين ابن الحرية الحديثة البكر، فقاتلنا حوله وربحنا المعركة. إن الرجل ما انفك شديد المراس، ما عرف أنفه الخزامة في جميع أطواره، ولا يزال قويًّا. انتخب عضوًا عن قضاء كسروان في مجلس الإدارة على عهد مظفر باشا، رغم معارضة البطركية وتأييدها للشيخ يوسف حبيش، ففرض زوين إرادته على المنطقة واعشوشبت طريق بكركي، ثم كانت مشادة بين زوين وبين قائمقام كسروان أعرف أنا ويعرف زوين أسبابها، فانتهت بنقل القائمقام واستقرار جورج بك على كرسي القائمقامية مدة بالنيابة، فكان نائبًا وقائمقامًا في وقت واحد.
ألا ترى — كما أرى — أن اليوم صورة الأمس؟ وأن الشاعر صادق فيما قال:
وفي غضون قائمقامية جورج بك بالنيابة جاءه خوري رعية من بلاد جبيل يشكو تأخر رعيته عن تأدية «المعلوم» المفروض منهم عليهم، فتحيَّر القائمقام، بل قل — كما يعبر الفصحاء والبلغاء — أسقط في يده، ولكن جورج بك كان وما زال ممن ينفذون في المضيق، فراح يفكر بحل معضلة لا نظير لها فيقيس عليه، هو لا يريد أن يرد الخوري ولا أن يغيظ الشعب، والشعب عضده ونصيره. فشك غير طويل، فهبط الوحي والإلهام فأخذ «المعروض» ووقع في جبهته: مجانًا أخذتم مجانًا أعطوا.
قرأ الخوري وفهم، وهمهم ثم طوى العريضة وأولجها في جيب يسع ميناء جونيه بسفنها وقواربها، وودَّع وانصرف باسمًا شاكرًا. تعجب سعادة القائمقام من رباطة جأش الخوري وصموده لضربة كان يظن أنها ستنقض عليه كالصاعقة، وشكر المولى على الاستراحة …
وبعد أيام علت الصرخة وجاء أبناء رعية الخوري يتشكون … أخذ الخوري بعض أوانٍ مقدسة فضية وذهبية من الكنيسة وباعها وأنفق ثمنها على قضاء حوائجه، من ألبسة للعيال وخبز وملح.
فجد البيك في طلب المحترم، فقدم حضرته السراي كأنه مدعو إلى حفلة كوكتيل من كيس الدولة … ما أعجب البيك اطمئنانه وخاله مكبرًا رأسه متحديًا سلطة صاحب السعادة، فقال له فور دخوله عليه: يا محترم، أيش تركت للعوام؟! تقشُّ كل ما في الكنيسة من أوانٍ مقدسة وتجيئني كأنك ما عملت شيئًا؟!
فتضاحك الخوري وقال: يا سيدنا، كتبت لي عندما شكوتهم إليك: مجانًا أخذتم مجانًا أعطوا، فرحت أشكو أمري إلى ربي بعد أن ظلمني العبد، فألهمني: أن أقلب الورقة ينفكُّ المشكل، فقلبتها فقرأت فيها: ابن المذبح من المذبح يعيش، وأنا ما تجاوزت المذبح.
– صحتين يا محترم، وماذا ينفعنا القول: من أين لك هذا؟