إميل البستاني
اليوم أعبي جرابي من عند تلميذي، فهو ومحاضرته «لبنان والعالم العربي» موضوع هذا الأسبوع.
إميل البستاني طاقة لا تنفد، أبدًا تتوالد فيها عناصر الإرادة والجرأة والإقدام، أراد مذ كان صبيًّا أن يكون رجلًا فكان إنسانًا جامعًا، أطلق القدماء على أبي الفتح محمود بن الحسين أحد أدباء العصور العباسية لقب «كشاجم»، وقد نحتوا هذا اللقب من أوائل حروف هذه الكلمات التي كان يوصف بها: كاتب، شاعر، أديب، جميل، مغن، وهذا الاسم ينطبق على العصامي العبقري إميل البستاني إذا بدلنا الكلمة الأخيرة وقلنا: كاتب، شاعر، أديب، جميل، مليونير.
أظن أن كلمة مثر أو مليونير لا تقل شأنًا عن كلمة مغن …!
ما أقل عقل المعلم! كنت أرى إميل فأقول: ترى كيف يتجه هذا الشاب؟ إلى الأدب، إلى الشعر، إلى الكتابة، ما خطر ببالي قط أنه سيولي وجهه صوب الحساب، وأن من الأفراد القليلين الذين اعتدلت كفتا الأدب والرياضيات في ميزان مواهبهم.
أعطيتهم كعادتي كل أسبوع موضوعًا لينظموه شعرًا، ورددت الباب خلفي ورحت لأعود في نهاية الوقت أجمع تلك الخرابيش، فوقع نظري على ورقة إميل، وكان الموضوع وصف جرو كلب على وزن قصيدة المهلهل وقافيتها؛ فإذا بإميل يبدأ كليب يزعج الدنيا ومن فيها … إلخ.
فقلت له: مكسور يا ابني.
قال: لا يا معلمي ألا ترى الشدة؟!
فضحكت وقلت: أما هو جرو كلب! أتصغِّر المصغَّر؟ أتطحن الطحين!
فأجابني الفتى بإصرار وعناد: نطحنه إذا كان خشنًا يحتمل الطحن …
كان هذا الفتى فلتة، إرادة حديدية، وعبقرية فذة، وطلعة ميمونة، علقت عليه آمالًا كبارًا، ولكن صح فيَّ وفيه قول الشاعر:
لا تسل عن غبطتي حين سمعته في الندوة اللبنانية يدعو الكلمات فتلبي مطيعة، لم تنسه الثروة العارمة بيانه، ولم تطغ السياسة الحادة على أدبه، وما أخذت لغة التجارة شيئًا من أسلوبه المطبوع الناصع.
قال أحد من علق على محاضرته: إنه كان خطيبًا لا محاضرًا، وهذا حق. الخطابة هي إحدى صفات إميل البارزة، فوقفته العادية وقفة خطيب، ونظراته النافذة نظرات خطيب، وحركته المألوفة حركة خطيب، فهو حركة دائمة، هكذا كان منذ كان، أبقى له الله رداء الشباب.
وإميل ناري الشعور، ولكنه في أقصى انفعالاته لا يتخلى عن تلك الابتسامة، والخبير بها مثلي، يعرفها من لونها … يأبى الركود والاستقرار، ولو تخلى كمال بك جنبلاط عن حملاته لاستولى إميل على المبادرة … غضب إميل فاستأذن وغاب عن الجلسات الأخيرة، وتلك عادته عندما كان يفور في «جمعية الثمرة» عندنا. وكان يغضب جنبلاط فيضب على أوراقه ويخرج، وهذا هو الفرق بينه وبين زميله في الجبهة الاشتراكية، فكلاهما صلب العود لا يغمز.
إميل اليوم — ملء سمع دنيا العرب وبصرها — متصل برجالات الغرب، سياسيين واقتصاديين، ولكن هذا النفوذ لم يمح خطًّا واحدًا من طلاقة المحيا التي عرفتها منذ ربع قرن، ويوم كان إميل البستاني تلميذًا في الجامعة الوطنية قد لا يملك ما يقوته ويكسوه. المرح الدائم، والعمل المستمر هما قوام هذا الرجل.
ما وقف يتكلم أمس حتى قلت: إنه هو. وما توغل في موضوعه حتى بدت لي الروح التي نشأ عليها، كذلك كان لبنانيًّا عربيًّا قحًّا يقدس اللسان ويؤمن بحيوية الجنس، وضرورة الاتحاد، ويقدس المثل اللبناني القائل: جارك القريب خير من أخيك البعيد.
عرَّفنا إميل في محاضرته بنار الحضارة التي علقت بأذيال الصحراء حيث حلت الطائرات والسيارات محل قوافل النياق.
مساكين الجمال! ولت أيامهم، ولكل عصر رجال.
نحن المعلمين تعجبنا القراءة البريئة من اللحن، والعبارة الصحيحة السليمة، وهذا ما سرني من تلميذي. تكلم ساعة وما وقف إلا ريثما جاءت الشمعة، فعاد الشلال إلى تهداره، أعصاب حديدية تشهد لها بالمتانة والليونة وقفاته المشهورة تحت قبة البرلمان.
وضع إميل في محاضراته خطوطًا رئيسية لاتصال لبنان بالعالم العربي؛ خطوطًا ثقافية وصناعية وتجارية، ثم راح يعللها تعليل أستاذ خبير، وقد أصاب جدًّا حين أوصى من يعنيهم الأمر أن يهتمُّوا بالطلاب العرب المنتشرين في مدارس لبنان وجامعاته.
حقًّا إن هذا الإهمال غريب! لي ثلاثون سنة في مدرسة هي أحفل المدارس بالطلاب العرب من جميع الأقطار، وفي هذا العمر من الحياة المدرسية ما جاء واحد قط من قبل الحكومة يسألنا عن هؤلاء الشباب كيف حالهم؟ ولا قال لهم أحد: كيف حالكم عن معرفة؟ اللهم إلا ورقات كنا نملؤها في زمن الانتداب لندل على عددهم وطوائفهم، وما زالت هذه الأوراق الموروثة تأتينا فنعبئها، وهذا كل شيء.