إصبع القدر
دخل الشتاء! وشعر «راهب الفكر» بحاجة إلى الدفء وحنين إلى الشمس! إنه يخشى الشتاء؛ لأنه لا يطيق برده مع برد الوحدة! إن طيفها استطاع أن يؤنسه في الربيع والصيف والخريف، ولكن ليالي الشتاء الطويلة! آه … ليس أقسى من الفراق مع الشتاء! يا لَذكراها يوم كانت تأتي ها هنا، وتخلع معطفها، وتنزع قفازها! ثم تلقي بقبعتها، وتنثر شعرها الجميل! لا … ليس في مقدوره أن يبقى في ذلك المكان، في مثل ذلك الوقت من العام، حيث كل شيء يقطر كرذاذ المطر بمرارة الذكرى! عند ذاك خطر له أن يترك مسكنه زمنًا، ويهبط فندقًا يستطيع أن يسري فيه عن نفسه، وأن يشغل باله عن «طيفها» وقتًا.
واستصوب الفكرة، فنهض من فوره إلى حقيبته فأعدَّها! ثم انطلق إلى «حلوان»، ونزل فندق «جراند أوتيل»، وكان الجو منعشًا، والهواء جافًّا، والبرد غير قاسٍ ولا قارس، فلم يغيِّر من عادته شيئًا، وجعل يخرج في الصباح إلى أقصى المدينة؛ مخترقًا طرقاتها الخالية ومنازلها الصامتة! إن حلوان حقًّا هي مدينة السكون! كل شيء فيها هادئ، يومئ بالهدوء، وكل شيء فيها يكاد يضع سبابته على فمه؛ كيلا يبدر صوت يزعج قُطَّانها وضيوفها الآتين للراحة والاستجمام! وكانت الصحراء في خارج المدينة بُغيته؛ يجلس على حافتها الساعات؛ كأنه على حافة بحرٍ عجاج! يشاهد كيف تلعب كرة الشمس مع كثبان الرمال، كأنها حورية الماء تلعب مع الأمواج! فهي تارة ترمي على صدر الرمل شعرها الأشقر، فيصفر وجهه ويحمر، وتارة تتوارى عنه خلف الغمام الرمادي، وتتركه شاحب اللون كالخائف من ذهابها! وتارة تمزق قليلًا غلائل غمامها، وتبسم بسمات متقطعة، فتبدو كثبان الرمال كالرقطاء قد رَقشتها قطع السحب بظلِّها المتناثر! إلى أن تنتهي الطبيعة من تلك المغازلة، وتضع حدًّا لتلك المداعبة بين الضوء والظل، فينهض «راهب الفكر» عائدًا إلى الفندق! ويجلس في شرفته المطلة على الحديقة، يتناول الشاي، وهو غارق في ذلك الكرسي الضخم المريح، من الخيزران المبطَّن بالوسائد! حتى تهبط الظلال، أو يبرد الجو فينهض داخلًا بهو الفندق، أو صاعدًا إلى حجرته! وكان بمفرده دائمًا يسلِّم على من يحيِّيه من عارفيه بتحية مختصرة، لا تشجع أحدًا على مصاحبته أو إخراجه من وحدته! حتى في قاعة الطعام؛ اتَّخذ له مائدة صغيرة في أحد الأركان لا يشاركه فيها أحد!
لبث على هذا الحال يومين … وفي اليوم الثالث وقع حدث لم يكن في الحسبان! لقد عاد من نزهة الصباح، فصادف في بهو الفندق رجلًا جالسًا يطالع كتابًا! ما كادت عينه تلمحه حتى اضطرب كالقصبة، وخفق قلبه خفقة شديدة، وصعد الدم إلى وجهه، وخيِّل إليه أن مَن في البهو يسمعون دقات قلبه وضربات نبضه! وخاف أن يبدو عليه شيء، فأسرع متعثرًا إلى حجرة يخفي فيها ما ألمَّ به … يا للعجب! إنها إصبع القدر … نعم! هو الذي ترقب كثيرًا وانتظر … ولم يجد إلى ضالَّته سبيلًا … ولم يَدْرِ لها مكانًا في هذا الفضاء الواسع! ها هي ذي إصبع القدر تشير الآن إلى الطريق في صورة ذلك الرجل الجالس! إنه لم يكن قد رأى هذا الرجل غير مرة واحدة، ولكنَّ صورته كانت قد رسخت في ذهنه، وشخصه كان قد اتَّخذ له في نفسه مستقرًّا منذ زمن طويل! وكيف ينسى هذا الرجل وهو … زوجها! نعم … إنه زوجها بعينه … زوجها الذي جاء إليه في مسكنه منذ نحو عام، يحدِّثه عنها ذلك الحديث الذي لم ينسه ولن ينساه!
«زوجها هنا؟ إنها هي أيضًا هنا إذن! هي هنا؟ هي هنا؟!» ردَّد ذلك لنفسه عشرات المرات وهو في حجرته، وقد ذهب عنه الاضطراب قليلًا، وحلَّ محله الفرح، أو على الأصح شيء كالفرح ممزوج بالخوف … إنه بالطبع يتوق إلى رؤيتها … ولكن مع ذلك … يحس برهبة! إنه يريد رؤيتها … ويخاف رؤيتها! نعم! وليس يدري علة ذلك الخوف!
أتراه يخشى أن يعجز عن ضبط نفسه أمامها فتقرأ ما في وجهه … وتطَّلع على سره؛ وتتبين لساعتها أنها أمام رجل غير ذلك الذي ذهبت عنه منذ عام، وودَّعته وهو هادئ بارد، مشغول عنها وعن وجودها وذهابها بورقِه وكتبه وأفكاره وتأملاته؟! من غير شك أنها بغريزتها ستشم رائحة الرجل الجديد! إن للمرأة لغريزة تدرك بها ما يقع في نفس الرجل منها، وإن لم يجرِ بينهما كلام … بل إنها تستطيع — دون أن تنظر إليه — أن ترى بعين خفية إذا كان قد رمقها أو لم يرمقها، وأي موضع من جسمها وقع عليه بصره! إنها مثل تلك الزهرة التي تعرف بالغريزة أي نوع من الهوام يفتن بألوانها … وتدرك بالطبيعة متى أثَّر سحرها فيه فتتأهب لاستقباله والانطباق عليه؛ كما أنها تعرف عجزها عن استهواء بعض الأنواع فتتركه يمرُّ بها … ويذهب عنها؛ وكأنها عنه مشغولة لاهية! لم يكن يدير في رأسه مثل هذه الأفكار من قبل، ولكنه الآن، وهو موشك أن يلقاها وجهًا لوجه، أدرك للمرة الأولى خطر تلك الحاسة الخفية في المرأة؛ فهي التي ستمزق قناعه، وتكشف عن عواطفه، لا كما صوَّرها هو وسطرها وأقنع بها نفسه، ولكن!
على أنَّ هنالك خوفًا آخر كان يحسُّه؛ إنه يتهيَّب مجرَّد لقائها! إنَّ لها عنده الآن لَهَيْبَةً! إن البُعد والشوق والأحلام جعلت تنسج لها في نفسه — رويدًا رويدًا على مرِّ الأيام — صورة لم تَعُدْ من صور البشر! لقد نَسِيَ تفاصيل قسماتها الواقعة، ودقائق ملامحها الحقيقية! ولم يعد يذكر منها إلا جمالًا مثاليًّا، وجلالًا خلقيًّا!
إنها في نظره اليوم شيء معنوي رفيع، أكثر مما هو كائن موجود، إنها قصيدة، ولم تَعُدْ حقيقة … إنها أسطورة، وليست حياة. إنه سيقابلها الآن لا كما كان يقابلها بالأمس … بل إنه سيبدو عليه — ولا ريب — احترام لشخصها، قد تُرَاع منه وتُدهش … سيكون شأنه معها شأن مَن يقابل قديسة من القديسات وقد بُعثت حية، أو ملكة من ملكات الحكايات التي عمرت أدمغة الأطفال، منذ غابر الأجيال.
ثم هنالك أمر آخر … كيف يسلِّم عليها … وعلى أي وجه يُدار الكلام معها؟ أيتكلَّف لها ويتصنَّع، ويجعل أنه قد نسيها قليلًا، وأنها امرأة لا يحمل لها إلا ذكرى شاحبة عابرة! هذا هو الوضع المعقول في نظرها ونظر زوجها … ولكن كيف السبيل إلى ذلك! وهي التي عاشت معه بطيفها طوال الأيام والليالي … يبثُّها خواطره ونوازعه، حتى زالت بينهما الكلفة، واستحكمت الألفة!
طفق يفكِّر في كل ذلك حتى حان وقت الغداء، فتردَّد وحار؛ أينتظر في حجرته، ويطلب أن يؤتى إليه بالطعام؟ أم يتشجَّع وينزل إلى القاعة، ويتعرض لمواجهة الأمر؟! إن شوقه إلى رؤيتها في حقيقتها كان قد بلغ أيضًا مبلغًا لا تنفع عنده المقاومة، ولا تفيد الإرادة … لماذا لا يقابلها؟ إنه لحسن الحظ قد أُعْطِيَ الوقت الكافي لتدبُّر موقفه وتهدئة رُوعه؛ ففيمَ الخوف؟ وكيف كان يصنع إذن لو أنه أُخذ على غِرة، ورآها في البهو بغتةً وجهًا لوجه؟! كل ما ينبغي له الآن أن يضبط نفسه، وقد هُيئت وأعدَّت لملاقاة ما هو حادث، وأن يكون طبيعيًّا في تصرفاته على قَدْرِ الإمكان … وليترك الأمر للقدر فهو الذي يخلق الظروف التي يتحرك فيها الناس ويسكنون، ويلتقون ويفترقون! ونهض وقد صحَّ عزمه على النزول إلى القاعة، والجلوس في مكانه المعتاد إلى الخوان الصغير، كأن لم يتغير شيء في نفسه، ولا في يومه … غير أن شيئًا داخليًّا ذكَّره بالمرآة، فوقف أمامها لحظة يصلح — لأول مرة — من هندامه قبل أن يغادر الحجرة، ولم تعجبه ربطة عنقه، فحلَّها وعقدها من جديدٍ، ونظم شعره!
وأضاع في تلك الأشياء وقتًا لم ينفقه في مثلها طول حياته، ولم يسخر مع ذلك من نفسه؛ لأنه لم يكن يفكر في ذلك، بل كان يفكر فيها «هي»، وفيما ينبغي للقائها … وهبط أخيرًا إلى قاعة الطعام، واتَّخذ مجلسه فيها، وهو يجهد في التمسُّك بالهدوء، ويحاول أن يتجنَّب بأنظاره الناس، ولكن عينه، مع ذلك، كانت تبحث خفية «عنها»، وعن زوجها بين المقاعد والموائد … على أن من الغريب أنه لم يعثر لهما على أثرٍ، وانتهى الغداء ولم يَرَ أحدًا … ولم يأكل بالطبع في ذلك اليوم أكلته المعتادة، فإن قلقه النفسي أخمد شهيته … أين هما؟ أتراهما يتناولان الطعام في حجرتهما؟! هذا معقول! إذن، فلا أمل له في أن يراهما إلا في البهو أو الشرفة أو الحديقة!
وخرج يمشي وئيدًا في تلك الأمكنة بحثًا عنهما … عجبًا! أهو الآن الذي يطاردهما بعد أن كان يريد الهرب منهما؟! ولكن هكذا الإنسان! الآن وقد اختفى شبحهما امتلأ قلبه شجاعةً، ونفسه رغبةً في أن يراهما، ولو مرة واحدة أخرى! إن كل خوفه الآن هو أن يفلتا منه، ويذهبا بلا رجعة، وهو الذي لم يكن يفرح بالعثور عليهما، ولكن فيمَ اليأس؟ إنهما الساعة، ولا ريب، يستريحان بعد الغداء … ولن يخرجا من حجرتهما قبل العصر، فليَدَعْ كل شيء للمصادفة، ولِيَسِر هو في طريقه على نظامه السابق! يقرأ وقت القراءة، ويكتب وقت الكتابة، ويتنزَّه وقت التنزُّه، ويتناول الشاي في الشرفة إذا جاء العصر. وقد فعل … وجلس ذلك اليوم في مقعده الخيزراني بشرفة الفندق. وإذا هو يبصر «زوجها» في الحديقة يمشي في بعض مسالكها، مع ضابط في الجيش برتبة «البكباشي»؛ على كتفيه شارة النسر والنجمة، ولم يَرَ أحدًا آخر معهما ولا قربهما … أين «زوجته» إذن؟ من يدري؟ ربما تركها في الحجرة … أو ربما خرجت مع إحدى صديقاتها، فليس من الضروري أن يمكثا معًا طول الوقت، ولا بد أن يراها معه في فرصة من الفرص، فقد يتَّفق ألا يلتقي النزلاء من المعارف يومين أو ثلاثة، في مثل هذا الفندق الكبير … ولكن لا مناص من تلاقيهم يومًا من الأيام. وكان هو يرى الزوج من مقعده … ولكن الزوج لم يكن قد فطن إليه حتى الساعة، وقد خطر في باله — وقتئذٍ — أن يتحيَّن من الزوج التفاتة فيُظهِر نفسه له، لعلَّه يُقبِل عليه، وتتجدَّد بينهما المعرفة، وتتوثق الصلة، حتى إذا صادفها مع زوجها بعد ذلك، كان موقفه منها أدنى إلى السلامة، وأقرب إلى المألوف!
وجعل يرقب الزوج من شرفته، فأبصره يحادث صديقه الضابط حديثًا خافتًا، لا يستطيع سماعه بالضرورة! ولكن البادي من حركات يده يدلُّ على أنَّ الحديث خطير، وأنه يجهد في تهدئة صديقه وإقناعه، ولم يكن مظهر الزوج هو الذي يسترعي النظر، إنما هو منظر صاحبه الضابط … كل شيء في ذلك الضابط ينمُّ عن نفس ثائرة، ويكاد ينطق بهياجٍ عصبي مكتوم، إنه كان يمشي يهتز ويترنَّح وينفخ ويزيد؛ كأنه مرجلٌ يوشك أن ينفجر!
هذا كلُّ ما استطاع راهب الفكر أن يعرفه من مظهر الرجلَين، ولقد كانا في سنٍّ واحدة على وجه التقريب، فكلاهما في نحو الثامنة والثلاثين أو التاسعة والثلاثين، وكان من الواضح أن الرابطة بينهما أوثق من رابطة الصداقة العادية، ولبِثا في حديثهما وإشاراتهما وقتًا، ثم استدارا ليعودا إلى داخل الفندق، فلم ينتظر «راهب الفكر» حتى يبصراه … وخَشِيَ أن يشغلهما عنه ما هما فيه … وأغراه القلق بالعجلة، وحثَّه الشوق على خلق الفرصة بنفسه … فنهض سريعًا، وتصنَّع الخروج من الفندق ساعة دخولهما حتى يقابلهما بالباب، وقد تم هكذا كما أراد. ولكن الزوج وقد رآه، لم يفعل أكثر من أن حيَّاه تحية سريعة مقتضبة … ومضى مع صاحبه دون أن يقف أو يبسم أو يبدو عليه انصراف عمَّا يشغل باله وبال صاحبه الضابط من شئون.
دخلا وتركا رجل الفكر واقفًا ساهمًا لا يدري ما يصنع، وأفاق من ذهوله فلم يَرَ لنفسه مخرجًا غير الخروج من الفندق، كما أوهم أنه انتوى؛ ومشي في الطريق على غير هُدًى، وهو يقلِّب في رأسه ما حدث! إنه كان ينتظر على الأقل تحية أطول من هذه مع شيء من الاهتمام … وبضع كلمات يتبادلانها تُفسح المجالَ للقاء آخر، وتنمُّ عن حرصٍ على صِلة يُرجى لها النماء، لقد كان في تحية الزوج، على قِصَرها، معنى الاحترام، ولكن ليس فيها معنى الرغبة في إنشاء صداقة أو اتصال. ألا تراه يبالغ في مطالبة الناس بما يريد هو، وبما لم يخطر في بالهم هم؟ ما ذنب هذا الزوج المشغول الآن بشئونه، المنصرف إلى أحواله، الخالي الذهن مما يجري في رأس هذا الأديب؟! إن الإنسان ليفسِّر تصرفات الناس أحيانًا، ويضخمها أو يصغرها؛ تبعًا لعلاقتها بمشاعره وأهوائه … أما هي في ذاتها فليست ضخمة ولا ضئيلة، ولكنها متناسبة مع منطق الظروف المجردة من كل اعتبار … ووجد في هذه الفكرة تسرية عنه، فعاد إلى حجرته في الفندق وهو يوصي نفسَه بأن يأخذ الأشياء كما تقع، وأن يقبَل من الناس ما يعطون، لا ما كان ينتظر منهم! وألا يتعجَّل الأمور، ولا يصطنع الفرص ويختلق المناسبات! ونام ليلته هادئًا. وجاء اليوم التالي فلم يحدث جديد … إلى أن تناول عشاءه في قاعة الطعام، وفرغ منه؛ فخرج مارًّا ببهوِ الفندق! فما كاد يضع قدمه فيه حتى أبصر أمامه «الزوج» جالسًا بمفرده، وفي يده كتاب مفتوح، وكأنه ينظر فيه بعين، ويرقب بالعين الأخرى شخصًا ينتظر قدومه!
وضبط «راهب الفكر» نفسه هذه المرة، وتأهَّب لتأدية تحية مختصرة لا يزيد فيها عن حد اللياقة ولا ينقص ذرة … وإذا هو لدهشته يرى الزوج قد نهض لاستقباله محتفلًا به، راجيًا منه أن يتفضَّل بالجلوس معه لحظة، وكان في عينيه ونبراته حرارة الإخلاص والرغبة الصادقة، لا تكلُّف المجاملة أو مراعاة الواجب، فلم يتردد رجل الفكر! ولبَّى دعوته وهو فرِح في قرارة نفسه، وبدأ الزوج الحديث قائلًا: أخشى أن أكون قد أزعجتك؛ فأنت قد جئتَ «حلوان» ولا شكَّ للراحة … أو لتضع مؤلفًا جديدًا في هذا الهدوء! إني أخشى أيضًا أن تكون قد نسيتني، ولعلَّك رددت التحية البارحة، وتكرَّمت بقَبول دعوتي الآن، وأنت لا تذكر من أنا … فلقد تقابلنا مرة واحدة منذ عام!
فبادر الكاتب يقول بابتسامة كلها مودة: إني أذكر كل شيء كأنه بالأمس، لقد كنتَ أنت المتفضِّل بزيارتي!
فأطرق الرجل؛ كأنما يهرب من شبح ذكرى، وقال بصوتٍ خافتٍ غامض: نعم.
ثم لم يلبث أن تدارك أمره، فرفع رأسه على عَجَل قائلًا: أنزلتَ هذا الفندق منذ وقت طويل؟!
فقال رجل الفكر: منذ ثلاثة أيام!
فقال الزوج: عجبًا … وكيف لم أرك إذن إلا البارحة؟!
فلم يُجِبِ الكاتب عن هذا السؤال … بل سأله هو أيضًا: وأنتم؟ متى جئتم «حلوان»؟
وكان وضع السؤال بصيغة الجمع مقصودًا، ولكن الزوج أجاب دون أن يفطن إلى مراد الكاتب: لقد جئتُ منذ أسبوعين!
هنا أطرق «راهب الفكر» حتى لا يرى الزوج تغيُّرَ وجهه، فقد أدرك من هذه الإجابة أنَّ الزوجة لم تحضر مع زوجها … وشعر في تلك اللحظة بإحساسَين متناقضَين: أحسَّ شيئًا من القنوط، وشيئًا من الراحة في الوقت عينه؛ فهو يتحرق لرؤيتها، ولكنه لا يكره تأجيل لقائها حتى يعدَّ له نفسه الإعداد الكافي … إن هيبة لقائها كانت مشقة … فليتنفس الآن الصعداء … وحسبه اليوم أن يعرف أخبارها إلى أن يحين اليوم الموعود. والتفت إلى الزوج لعله يعرج بالحديث إلى الزوجة، منتظرًا منه أن يكون هو البادئ، ولكن الزوج كان هو الآخر مترددًا … وكأنه يرجو أن يُحرَّك لذلك أو يُدفَع إليه، وهبط عليهما صمت؛ خاف الزوج أن يطول، فبدَّده قائلًا: أتعجبك «حلوان»؟
فقال الكاتب للفور: نعم … وأنت؟
فتردَّد الزوج قليلًا، ثم قال: إني في الحقيقة جئتها لسببٍ خاص!
وتشجَّع «راهب الفكر» وسأله: أأنت هنا وحدك؟
– نعم … ولكن ابن خالي الضابط الذي رأيته معي البارحة ينزل هنا أيضًا منذ أربعة أيام … إنه مصاب بالأرق … ولم يَنَمْ ليلة واحدة منذ مجيئه … إنه ليكاد يُجَنُّ … لقد طلبت له أحد الأطباء في الليل … لا شيء أفظع من الأرق! إنه لقدير أن يُجِنَّ رجلًا، أو يدفع به إلى الانتحار.
قال ذلك في نبرة المخاطب لنفسه؛ المؤمن بما يقول، المجرِّب المعاني لما يصف … وتذكر «راهب الفكر» أرَقه السابق هو الآخر مصادقًا وهو يقول مُؤمِّنًا: نعم! … نعم!
واستأنف الزوج الكلام قائلًا، وكأنه يحدِّث نفسَه: إني في موقف يشقُّ على النفس احتماله!
وأراد الأديب أن يجذب الحديث إلى حيث يرمي، فقال: لو كانت السيدة زوجتك معك لأعانتك على احتمال كل شيء! فأطرق الرجل، وقال مغمغمًا: زوجتي؟!
فقال الكاتب بنبرة أراد أن تكون طبيعية: إني لم أزل أذكر حديثك لي عنها … وقولك لي إنها أمست تحب الكتب، وتُقبِل على القراءة!
فرفع الزوج رأسه، وقال في شبه صيحة مكتومة: إنها الآن تكتب يا سيدي!
– تكتب؟!
لفظها الكاتب في دهشة يمازجها رضًا، ولكن الزوج قال بصوتٍ بعيدٍ عن الرضا، قريب من الأسف والأسى: نعم! تكتب اعترافات!
– ماذا؟!
قالها «راهب الفكر» مستفهمًا مستغربًا، ولكن الزوج اعتدل في جلسته، وقد اتخذ وجهه صورة أخرى، فيها معانٍ مختلفة من العزم والحزن والتوسل والتجلُّد، وأنشأ يقول: إني انتظرتك هذا المساء هنا عن قصدٍ وتعمُّد؛ فإني بعد أن رأيتك البارحة، وعلمت أنك في هذا الفندق، خطر لي أن أعرض عليك ما انتويت عرضه، ولم يكن من السهل عليَّ أن أفاتحك في الأمر. ولكن ما دام الحديث قد جرَّنا إلى ما كنت أريد، فإني أسمح لنفسي أن أطلعك على أمرٍ خاص بي، قد يهمك الاطلاع عليه وقد لا يهمك! ولكني، على كل حالٍ، محتاج إلى أن تصدقني الرأي فيه! وفيما يجب أن يُتبع … ثم إذا شئت فإني أخبرك بما أنتظره منك بعد ذلك!
فلم يبدُ على «راهب الفكر» أنه فهم شيئًا كثيرًا من هذا القول، وأدرك الزوج ذلك من وجهه، فقال له: ستفهم كل شيء بعد اطِّلاعك على اعترافاتها. ومن اللغو أن أقصَّ عليك القصة وهي مسطورة بخطها في كراسة! إني لا أريد أن أثقل عليك، أو أضيع من وقتك! حسبك أن تقرأ تلك الصفحات الليلة، إذا أردت قبيل نومك، فتلمَّ بكل موقفي … حتى نستطيع في الصباح أن نتناقش في الأمر مليًّا … ألديك ما يمنع من ذلك؟
فأشار الكاتب برأسه أنه «لا يوجد مانع»، فنهض الزوج وهو يقول: «اسمح لي بدقيقة واحدة كي أحضر لك الكراسة من حجرتي!»
وانصرف مسرعًا تاركًا «راهب الفكر» في شبه ذهول … أي كراسة؟! وأي اعترافات؟! تُرى ماذا كانت تكتب هي أيضًا؟ وماذا كانت تقول؟ عجبًا! أهذا ممكن الحدوث؟ ولم لا؟! لعلها كانت تكتب إليه هو؛ كما كان يكتب إليها … لعلها كانت تملأ تلك الكراسة حديثًا مع طيفه؛ كما كان يملأ رسائله حديثًا مع طيفها، ولقد كانا يتراسلان إذن ويتكاتبان، دون أن يعلم أحدهما بما يفعل الآخر! لقد كان كل منهما يبثُّ الآخرَ على الورق حبَّه وحنانه … ويعترف بدفين عواطفه ويخفيها في طيات الصفحات! إنه إذن لم يكن يلقي في الهواء الصيحات، وما كان ينفث سدًى في جوف الليل بالآهات … كل هذا كان يبلغ قلبها على البعد، وكانت تجيب … يا لَأعجوبة الله التي تربط هكذا بين القلوب!
تدفقت هذه الخواطر، وتراقصت في رأس «راهب الفكر»، ولكنَّه تذكَّر موقف الزوج، بل ذكر موقفه هو مِن الزوج … وماذا هو قائل له وصانع معه؟
إن ذلك الزوج الحزين قد رأى أن يُطلِعه على كراسة زوجته … ولا شك في أنها قد وقعت في يده على غير إرادتها … ولا جدال في أنه يريد أن يناقشه الحساب فيما ورد فيها … ما أحرج هذا الموقف! إنه لم يخطر له على بالٍ أن يسيء إلى زوجٍ، أو يعتدي على كرامة زوجة … وكيف يدرأ عن نفسه تلك التهمة؟ وكيف يطيق أن يفقد تقدير هذا الزوج له، واحترامه إياه؟! حقًّا إن هذا الزوج المهذب لم يُبْدِ إشارة واحدة تنمُّ عن قلَّة تقدير، أو نقص احترام «الراهب الفكر» … ولكن المعول عليه ما يجول في خاطره، وما يجوس داخل نفسه … وهو ما لم تشأ كياسته أن تُظهره، وما لم يُرِد تهذيبُه أن يبديه! ما هو الطريق السويُّ في هذه الحال؟ لا شكَّ أنه الصدق … فليصارحه بالحقيقة … والحقيقة هنا بسيطة نقية، وتصرفاته كلها لا غبار عليها ولا مأخذ. فكل ما بينه وبينها من علاقة لا يعدو العاطفة الطاهرة المكتومة في صدر الورق … مهما يكن من أمرٍ فهو لا يعرف بعدُ مدى حديثها في الكراسة، ولا ما كاشفته به من مشاعرها … ولا كيف وصفت هذه العواطف! لا ريبَ عنده في أنها عواطف نبيلة رفيعة … غير أنه لا بدَّ من الاطلاع عليها، قبل أن يعرف حقيقة موقفه من الزوج! وسرعان ما تقشَّع ذلك الحرج الذي أحسَّه منذ قليلٍ؛ ولم يبقَ في نفسِه غير السعادة الفياضة، والشوق الملتهب إلى مطالعة كراستها!
وظهر الزوج عائدًا يحمل دفترًا متوسط الحجم، أحمر اللون، داخل غلافٍ حكومي قدَّمه إلى «راهب الفكر»، وهو يقول له: إني واثق بالطبع من شرفك … وأعرف أنك ستقدِّر أن ما بهذه الصفحات سرٌّ عائلي لا يجوز إفشاؤه، إذا استطعتَ أن تقرأ هذه الكراسة الليلة؛ لتعيدها إليَّ في الصباح، فإنك تُحسن صنعًا، وأكون لك شاكرًا … على كل حالٍ موعدنا في الغد … وأرجو لك نومًا هنيئًا!
وتصافح الرجلان … وافترقا.
وذهب «راهب الفكر» توًّا إلى حجرته، ودخلها حاملًا الكراسة؛ كأنه يحمل قلبه!