معبود من الطين
الصدمة التي أصابت «راهب الفكر» بعد أن قرأ صفحات تلك الزوجة، بلغت حدًّا يصعب تصويره، وإن كان لا يصعب تصوره؛ فلم تكن قداسة حبِّه وحدها هي التي انهارت وتلطَّخت، ولكن كل شيء … كل شيء عزيز عليه سقط فجأة من عليائه في التراب وتلوَّث.
يا له من عجبٍ! كيف استطاعت هذه المرأة أن تكون كذلك؟! وكيف استطاع هو أن يصنع لها ذلك التمثال الشاهق بنُبله وطهارته! لقد جلَّ الخطب عن الحزن بل عن الجِد … وانقلب كل شيء في عينيه هُزءًا وسخرية! لقد تبيَّن له أمره.
يا له من أحمق! لقد كان شأنه شأن طائفة الوثنيين الذين صنعوا من الطين والوحل آلهة يعبدونها! وذكر رسائله إليها! وما كان ينعتها به ويتخيلها عليه! لم يبقَ ريب في أن كل سطر من سطوره ليس إلا ضحكة ممتدة تشهد بحمقه وغفلته.
وا أسفاه! ذهبتْ إذن هباءً كل تلك العاطفة المسكوبة على الورق من أجلها! وانقلبت تلك العبادة الرفيعة — التي عفَّر بها جبينه في محرابها — شيئًا مخجلًا مهزءًا كألعاب المهرجين ما دام مثل هذه المرأة هي التي كانت في المحراب!
لبث الكاتب تلك الليلة المشئومة ساهرًا حتى طلع عليه الصبح، وهو في جلسته لم يغيِّرها، ولم يشعر بنفسه، ولا بشيء حوله … ولم يعرف أين يستقر بقلبه الدامي ورأسه المكدود؛ فهو تارة يتوجع على الرغم منه؛ توجعَ من خُلع له ضرس، وإن كان فاسدًا، وتارة يضحك ذلك الضحك الذي وصفوه بأنه أحيانًا كالبكاء، وهذا ليس من خيال الشعراء؛ فلقد حدث ذلك «لراهب الفكر» تلك الليلة! لقد خادع نفسه كثيرًا، وقال لها: «ما لي ولهذه المرأة؟! وماذا يهمني من سلوكها ومن عشقها وسقوطها؟! أأنا زوجها؟!»
هذا منطق العقل، ولكن صوت النفس كان يرتفع في صمته الجلي راعدًا بين أركان قلبه: «إنها كانت لك أكثر من زوجة! لقد عشت معها ولها بكل فكرك وعواطفك … وخيالك، ومطالعاتك، ومؤلفاتك، ومشاهداتك! إنها كانت شيئًا يسندك، ويعينك، ويشجعك، ويقويك! إنها كانت لك نوعًا من الدين!»
حقًّا إنها كانت له كل ذلك، ولو لم تكن كذلك لما أحس الليلة هذا الفراغ المخيف … نعم إنه قد فقد شيئًا كبيرًا، يشعر لفقده بفجيعة.
ولم يستطع حكم أعصابه، فتساقطت العبرات من عينيه، وخجل من نفسه، وهو يلمح في مرآة الحجرة قطرات الدمع على خدَّيه … وهو الذي ما بكى قطُّ في شبابه الأول!
تذكر حقيقة تلك المرأة، وما قرأ الساعة من خبر فجورها، فضحك من أمره، أو أراد أن يتضاحك … ولكن هيهات أن يقنع نفسه … فقد اختلطت عَبَراته وضحكاته، وامتزجت في شهقة واحدة … فلم يعد من السهل فرز الضحك من البكاء!
كل هذا حدث له، وكل الأفكار مرَّت به، ما عدا أمرًا واحدًا نسِيه كل النسيان، ولم يتَّجه إليه تفكيره ولا خاطره؛ ذلك هو الزوج ذاته الذي أعطاه الكراسة؛ فقد ألهته مصيبته هو عن مصيبة الزوج، فلم يرها ولم يشعر بها، حتى حان موعد خروجه في الصباح، فتذكر أنه وعد الزوج بِرَدِّ هذه الصفحات إليه!
وهنا طفق يفكِّر في أمر هذا الرجل، ويسأل نفسه: لماذا وضع هذه الكراسة بين يديه؟ ولماذا يريد أن يناقشه فيها؟ وما وجه الكلام في مسألة كهذه؟ وماذا عليه هو أن يجيب؟ وما هذا الهدوء الذي يبدو على ذلك الزوج التعس؟! مهما يكن من أمر فلا مفرَّ من لقائه، بل إن في مقابلته لراحة له، وفي الحديث إليه عزاء! فكلاهما قد نُكب، وكلاهما قد أُصيب. وقد أحسَّ «راهب الفكر» عطفًا شديدًا على ذلك الزوج، ورحمة به، وحدبًا عليه، وشعر بأنه كأن عاطفة واحدة تربط أحدهما إلى الآخر؛ لكأنهما متضامنان في النازلة! ولكأن غريمًا واحدًا هو الذي نال منهما وثلَّ هناءهما!
وأسرع فارتدى ثيابه، ولم يجد رغبة في تناول فطوره، فاكتفى بجرعة من الشاي، وخرج من حجرته حاملًا الكراسة التي أيقظته فجأة وبقسوة من أجمل أحلامه!
نزل إلى بهو الفندق وهو يُخفي كل أثرٍ للانفعال، يمكن أن يبدو على وجهه، فوجد الزوج في انتظاره، وفي يده كتابه، فحيَّاه وجلس إلى جانبه صامتًا، ثم قدَّم إليه تلك الصفحات المخجلة، وهو لا يدري ماذا يقول … ولكن الزوج قال بصوتٍ خافتٍ مرير، وهو يتناولها من يده: قرأتها؟
– نعم!
لفظها «راهب الفكر» وهو مطرق، لا يجرؤ على النظر إليه … وسكت الزوج قليلًا، ثم قال بأدبٍ: إني آسف إذ أرغمتك على قراءة مثل هذه الصفحات … ولكني أعتقد أنك تدرك الآن موقفي، وتغفر لي إثقالي عليك، فإن زوج هذه السيدة التي قرأت عنها ما قرأت، لا بد أن يكون في حاجة إلى معونة رجل في مثل عقلك وخلقك.
فغمغم الكاتب قائلًا: ثِق بأني طوع أمرك، ورهن إشارتك … أرجو أن أكون نافعًا لك، في كل ما توجِّهني إليه من شئونك!
فقال الرجل، وقد استراحَ قليلًا في جلسته: يحسن بي أن أقصَّ عليكَ كل شيء من البداية؛ كي تحيط بظروف هذا الموضوع من نواحيه كلها، فأنت قد تجهل اسمي الكامل حتى الساعة! إني «…» من أسرة معروفة كما ترى، وكذلك زوجتي، وإن كانت أسرتي الآن متوسطة المال والجاه. ولقد نشأت منذ الصغر في مدرسة إنجليزية حتى بلغت رشدي، فالتحقت بمدارس الحكومة المصرية، ونلت شهادة «البكالوريا» ثم أرسلتني أسرتي إلى إنجلترا، لأتمَّ دراستي فيها، فمكثت هناك ست سنوات، عدتُ بعدها إلى مصر، وانخرطت في سلك الوظائف … وبالطبع فكَّر أهلي وقتئذٍ في البحث لي عن زوجة، ولكني كنت ممن يعتقدون أن الزواج نعمة لا نستحقها إلا بعد أن نبلغ في الحياة شوطًا مستقرًّا؛ فهو تتويج لجهود الشباب، وينبغي أن يبدأ في وقتٍ ينتهي فيه الجهاد الأول في سبيل المركز الاجتماعي، ويطمئن فيه الإنسان إلى عمله ومستقبله، فيهوِّن بذلك على شريكته متاعب المرحلة الأولى، ويشيِّد أسرته الجديدة على أسسٍ من الأمان لا من القلق، ويفتح نوافذ بيته على أفق باسم، لا على قفر مكفهر! لذلك لم أتزوج إلا وأنا في نحو الخامسة والثلاثين.
وقد اختارت لي أسرتي هذه الزوجة من أسرة عريقة، تربطنا بها أواصر المعرفة من قديم … وقد رأى أحدنا الآخر في فترة الخطوبة، ثم تَمَّ الزواج. ولم أشعر قطُّ بأن قلبينا ينطويان على شيء غير المحبَّة والمودَّة المتبادلتَين، ولم أَرَ منها قطُّ شيئًا ساءني إلا قلَّة اكتراثها بالكتب والمطالعة … وهذا شيء مقدَّس عندي؛ فإنَّ الكتاب لديَّ ضرورة من ضرورات الحياة! ولعلِّي اكتسبت عادة القراءة من طول إقامتي في «إنجلترا»؛ فقد كنت أسكن ضواحي «لندن»، وكان عليَّ أن أركب القطار في اليوم مرتين، في ذهابي إلى الجامعة، وعودتي منها، فكنت ألاحظ في أول عهدي أنه ما من راكبٍ واحدٍ لا يحمل كتابًا يطالعه في أثناء الطريق، ثم في البيت الإنجليزي … ما أمتع القراءة بجوار المدفأة! وأحاديث الأسرة حولها في مختلف شئون الحياة والفكر! لطالما تمنيت أن أبادل زوجتي الآراء فيما نطالع ونشاهد؛ فنملأ حياتنا الزوجية الطويلة بخير ما تملأ به حياة، لكن وا أسفاه! كانت هذه الزوجة — مثل كثيرات غيرها — ذات ثقافة سطحية مصطنَعة براقة المظهر، ولكنها في لبِّها وجوهرها لا تُعنى بغير التافه من شئون الدنيا، ولقد سميتها مازحًا «الفتاة الطائشة». ولقد أردت أن أصلح من أمرها، وأصنع منها المرأة التي أريد، وبدأت معها بما هو أيسر لها وأسهل على طبيعتها؛ وهي الرياضة، فعلَّمتها «التنيس» فحذقته في وقتٍ قليلٍ … من الإنصاف أن أقول لك: إنها ذات ذكاء عجيب، ولها إرادة لا تقاوم. ولقد أرادت فعلًا أن تُصغي إلى رجائي وتُعنى بالقراءة، وتمَّ لها ما أرادت، وكان ما تعلمه أنت من إقبالها على قراءة كتبك، مما أخبرتك به في حينه عند زيارتي الأولى لك!
وسكت الزوج لحظة، فقد أبصر «راهب الفكر»، يطرق شارد اللب. والواقع أنه أطرق مفكرًا في زيارات تلك الزوجة له، تلك الزيارات التي يجهلها الزوج حتى الآن! أترى من الواجب عليه أن يخبره بأمرها اليوم، أو يمضي في الصمت؟! وتردد لحظة ووازن بين الأمرين، فرجحت كفة السكوت؛ فالسكوت الساعة من ذهبٍ حقًّا، ولا ينبغي أن يفتح أي باب تنفذ منه شكوك جديدة، قد تحُوم حوله وحول هذه المرأة. ورفع رأسه استعدادًا للإصغاء، فمضى الزوج في كلامه: قرأت كتبك إذن يا سيدي الأستاذ كما قرأت غيرها … ولا شك في أنك تأسف مثلي للنتيجة … لم يَدُر في خلدك ولا خلدي أن كل ما استطاعت هذه السيدة أن تكسبه من ذلك هو أسلوب تكتب به مثل هذه الاعترافات! ولكن ما ذنبك أو ذنب المطالعة في ذاتها؟! كل شيء نبيل يمكن أن يكون أداة سمو وأداة عبث. وإن العِبرة أحيانًا باليد التي تتناول الأشياء لا الأشياء في ذاتها؛ فاليد القذرة قد تلطخ كل نظيفٍ، واليد المطهرة قد تنظف كل قذر … على أني أستطيع أن أؤكد لك أني ما علمت قطُّ يومًا عن امرأتي سوءًا، وإنه ليدهشني قولها في كراستها؛ إن أسرتها كانت تلقي عليها دروسًا في الأخلاق تثقل عليها، وتقيدها بالسلاسل، كأنها كلب ليس له حق النباح! كل ما أعلمه أن أسرتها، فيها من يتمسك بالقديم، وفيها من نشأ على الحديث … وإن للفتيات الحديثات اتجاهًا حرًّا يعدُّ فضيحة في نظر الأمهات والعمات، وكثيرات من البنات عُرِف عنهن الخفة في السلوك في المجتمعات، والسهرات، وعلى شواطئ البحر! والمغالاة في الملبس والمظهر … والتحرر إلى حدِّ قبول مغازلة الشبان في الطريق أو في «التليفون». ولكن الأمر في الغالب يقف عند هذا الحد، وإذا تزوجت بنت من هذا الطراز، ففي الغالب يتغير سلوكها السابق، ويتجه إلى احترام الزوجية والحرص عليها … فهل كانت زوجتي من هذا الصنف من البنات، وكان هذا ما تعلمه أسرتها عنها، وما تراقبها من أجله؟ أو كان في الأمر شيء أكثر من هذا؟! لست أدري! وكيف تريد لزوجٍ مثلي، تعلَّم كيف يحترم الزوج زوجته، يخطر في باله أن ينبش في مثل هذه الأشياء؟ كل ما في مقدوري العلم به هو ما خبرته بنفسي، من اتصالٍ بزوجتي طول هذه الأعوام الثلاثة … أني لم ألمح عليها قطُّ أي نفور مني! وكيف استطاعت أن تخفي ذلك عني؟ ولماذا تخفيه؟ ولماذا لم تصارحني؟
لقد كنا سعداء في عامنا الأول، وأظنها لم تنكر ذلك … وأحسبها ذكرت أنها بدأت تملُّ الزوجية بعد أول عام … ولكنها كانت قد وَلدت طفلة جميلة، وكنت أظن عاطفة الأمومة تصرِف الزوجة عن ذلك التعلُّق الجامح بزوجها باللهو والمرح والنزهة … لقد تحدَّثتْ عن تغيُّري بعد العام الأول من عَقد القران … واتَّهمتني بأني أوصيتها بالقراءة لعلمي أن السأم ينتظرها … أظن أن هذا هو سوء التفاهم الخالد في كل الحياة الزوجية، منذ نشأت على الأرض أسرة وزواج … ما من زوجة منذ القدم حتى اليوم لم تقل لزوجها هذه العبارة: «إنك قد تغيرتَ … كنتَ تحبني فيما مضى أكثر من الآن!» والحقيقة أن الزوج لم يتغير، ولكن لون الحب هو الذي تغير، دون أن يؤثر ذلك في بنائه؛ كما يتغير لون العمارة الجديدة من الزمن دون أن تفقد حجرًا … ولا يزيدها لون القِدم إلا إشعارًا بجلال الرسوخ، أو كما يتغيَّر لون التقدير الذي يظفر به الأثر الفني. ألا تلاحظ أن كتابًا من كتبك مثلًا قد استقبله الناس عند ظهوره بالطبل والضجيج؟! ثم يخفت كل هذا مع مرِّ الأيام، ولا يبقى للكتاب إلا ذلك التقدير الهادئ العميق المستقر في النفوس؟ لا يتزعزع اعتباره … ولا يبلى ولا يُنسى … وتظل الأعوام تسلِّمه للأعوام … وقد أصبح حقيقة راسخة، لا تُثَار فيها المناقشة، ولا يُبَاح فيها الجدل … ويدخل في نطاق الأعمال التي تسمونها «الكلاسيك» … بوقارها الصامت الذي حلَّ محل بريقها الصاخب؟ فيمَ إذن كان الاحتفال بالعيد الفضي والعيد الذهبي للحياة الزوجية؟ أهو شيء غير مظهر تقدير لذلك الحب الزوجي وقد رسخت أعمدة هيكله في صدر الزمان؟! ولكن المرأة — للأسف — تنسى ذلك أو تتناساه، وإذا تذكرته فإنها لا تقتنع به، فكل هذا لا يعدل عندها اللحظات الطائرة العابرة لذلك الحب البراق الفوار! لا يؤثر فيها كثيرًا ذلك الحب القيِّم النفيس الباقي؛ لأنها جبلت على الشغف بكلِّ ما يبرق في عينيها، ويخطف بصرها ومهجتها، ويطير بلبِّها! وإنها لتدفع الذهب، وترمي به في سبيل اقتناء سوار من الزجاج، أو حلية من الخزف بهرتها ألوانها!
لم يكن هنالك إذن تغيُّر منِّي نحوها أو فتور! على النقيض، فهي فهمت بعد أن وُلِدت لنا طفلة أن حبَّنا قد سما وجلَّ عن مظاهر العبث والملاعبة التي كان الحب الزوجي يحتاج إليها في أول مراحله ليثبت وجوده، ويبرهن على قوته … فهو الآن موجود بذاته، قويٌّ بنفسه … وتستطيع الزوجة أن تحسَّه في زوجها من كلمة أو إشارة أو إيماءة! أو من مجرد نظرة جزع يلقيها عليها إذا شحب وجهها ذات صباح، أو أصيبت ببردٍ خفيفٍ!
لا أظن كثيرًا من الأزواج عاملوا زوجاتهم بمثل ما كنت أعامل زوجتي! إني كنت أتصرف معها كما لو كانت «ليدي» من سيدات الأرستقراطية الإنجليزية! فما كنت أسمح لنفسي بالتدخل في شئونها، ولا حتى بلمس خطاباتها التي كانت ترِد باسمها، ولم أسألها يومًا أين كانت؟ ولا أين تذهب؟ ولا مَن هنَّ صديقاتها؟ على أني كنت دائمًا «تحت تصرفها»، وفي متناول يدها؛ فلم أتركها يومًا بمفردها، لا عن قصد حراستها أو تعمُّد مراقبتها … أو رغبة في الاطمئنان على سيرها، فتلك أفكار لم تخطر لي قطُّ على بالٍ، وإنما كنت أرى من واجبي ألا أتغيَّب عنها! وألا أخرج إلا معها، وألا أدعها تعتقد لحظة أن لي حياة منفصلة عن حياتها؛ فأنا رجل قد فهم الزواج على أنه شركة روحية! ولقد نفَّذت من جانبي كل ما يجب عليَّ في هذه الشركة، وقدَّمت كلَّ نصيبي من رأس المال … حتى أصدقائي لم أرد أن أستأثر بهم، وأنفرد بمجلسهم، وأمنحهم من الوقت ما قد يكون من حظ شريكتي، فعملت على أن أشركها معي في استقبالهم، والاجتماع بهم، ولم يكن يدور بخلدي قطُّ أنها ستكتب يومًا فتقول: إنها كانت تتبرَّم بهم وبي … وإنها كانت تضيق بوجودي، وتختنق لأني لم أتركها يومًا واحدًا … وإنها لم تتنفس إلا يوم أعلنت إليها خبر اضطراري إلى التغيب في أعمال حكومية بضعة أسابيع! هذا في الحق قد جاوز كل تقديري، وحرق كل تدبيري، وكيف يقع في وهمي أن كلَّ ما حسبته أنا حُسن معاملة، وظننته تصرفًا محمودًا، ورأيته تفانيًا في واجبي وإخلاصي؛ هو بالذات موضع الشكوى مني، وموطن ذنبي وجريرتي؟! إذا كان أحد يرى أني أخطأت فثِق بأن هذا حدث بغير علمي، وبدون قصد مني! وأن حياتي معها على هذا الوضع هي إذن سلسلة أخطاء … وكان عليها أن تنبِّهني إليها!
أما أنا فلا أعرف إلَّا أني صنعت كل شيء حتى لا تقع في الملل الذي تتحدث عنه، فما كان يسرني إلا أن تقترح هي نوعًا من النزهة أو السهرة فتجد بُغيتها، وتظفر برغبتها … فما من حفلة من الحفلات العامة أو الخاصة أو الخيرية، فيها شيء من الطرافة أو المتعة والتسلية لم نشاهدها؛ لطالما ذهبت بها إلى أفخم الملاهي ودور السينما وسباق الخيل! ولقد ذهبت بها في شتاء عامنا الأول إلى «الأقصر» و«أسوان»! أما في الصيف فكان الرأي لها أن تختار بين: «أوروبا» أو «الإسكندرية» أو «العزبة» في الريف … وقد أمضينا كل صيف في جهة من هذه الجهات، ولست أدري ماذا كان يجدر أن أصنع، لمداواة ضجرها ولم أفعله؟ إلا أن يكون للملل أو السأم معنًى آخر غير الذي ينصرف إليه ذهن مثلي، ولقد ذكرت هي هذا المعنى صراحةً في كراستها، وعبَّرت عنه بما سَمَّته «الرغبة في المغامرة»! أظنك توافقني على أن هذه «الرغبة» لا يمكن أن تخطر في بال زوج، فالمغامرة والزوجية ضدَّان لا يتَّفقان، إلا إذا كنت تراني زوجًا رجعيًّا مخرفًا، وكانت الزوجية في زماننا هذا، وفي بلدنا هذا، قد بلغت من التقدم والتطور «المودرن» شوطًا أعجزني إدراكه، وفاتني اللحاق به، على الرغم من اتصالي الدائم بأحدث أوضاع المجتمع الأوربي! إذا كانت زوجاتنا ترى «المغامرة» حاجة لا بد منها، وضرورة لا يُستغنى عنها! وإلا كانت الحياة الزوجية سأمًا لا يطاق … والعواطف الزوجية نوعًا من «الروتين» الفاتر … فإني لا أملك الحكم في ذلك بمفردي، وأترك لمثلك الحكم فيه وللمجتمع. إنما الذي أرى من حقِّي الكلام فيه، هو أني فهمت الزوجية كما يفهمها أكثر الناس، أو كما كنت أتوهَّم أنا أن أكثر الناس يفهمونها … وثِق، وأقسم لك بشرفي … (معذرة … إني لم أعد أدري أَمِن حقِّي أن أقسم لك بشرفي المسلوب! ولكني أرى في عينك أنك تصدقني!) … ثِق بأني كنت لهذه السيدة زوجًا لا غبار عليه!
وأطرق الرجل لحظة … وكأنَّ عينَيه تخترقان الماضي … وتنبشان أحداث ذكريات عزاز! وتأثر «راهب الفكر» لمنظره، ولم يجد كلمات تصلح لإظهار ما يكنُّه له وقتئذٍ … وخاف أن ينبس بلفظٍ جارحٍ لشعوره، فآثر الصمت والإصغاء.
ورفع الزوج رأسه بعد قليلٍ مستأنفًا حديثه: وهكذا سارت حياتنا الزوجية على الصورة التي وصفتها … وأنا أجهل كل الجهل — كما قلت لك — نزعات زوجتي الداخلية وخلجاتها الخفية! ولا أعلم إلا أني أعيش حياة زوجية سعيدة في ظل زوجة راضية قريرة العين، وابنة نحلم بتربيتها أحسن التربية … إلى أن كان ذلك اليوم منذ أسبوعين.
فقد لزمت المنزل ذلك العصر، لأكتب تقريرًا مهمًّا في بعض شئوني المصلحية، ودسست وجهي في أوراق الملفات، وأنا أردُّ تحيةَ زوجتي الموشِكة على الخروج، ذاكرةً لي على عَجَل — فيما أظن — أنها ذاهبة لزيارة صديقة من صديقاتها، ولم أحفل أنا بالطبع بهذا الأمر؛ فهو شيء معتاد … ولم أحاول حتى مجرد رفع رأسي للنظر إلى هندامها؛ فقد كنت مشغولًا بعملي! ولكني أذكر أن عطرها المثير الجميل كان يملأ خياشيمي … ولكن هذا أيضًا ليس عندي بمستغرب! إن أناقة زوجتي وترفها لمن الأشياء التي كانت تسرني … وخرجت مسرعة، ومكثتُ أنا غارقًا في أوراقي.
ومضى نحو نصف الساعة، وإذا خادم لنا كنا قد جئنا بها حديثًا من الريف لمعاونة الخدم في تنظيف البيت، دخلت تحمل هذه «الكراسة»، وكانت كما الآن داخل غلاف حكومي من أغلفة عملي، ووضعَتْها بجانب ملفاتي ظنًّا منها أنها لي، وكدت أن أشكرها، وأدس الكراسة بغلافها في ملفٍّ، ظنًّا مني أنها جزء من أوراقي قد سقط … ولكن … ولكني لمحت لون الكراسة الأحمر، ففتحتها فلحظت أن هذا الخط أعرفه؛ إنه خط امرأتي … وما شأن كتابات زوجتي بملفاتي الرسمية؟ فسحبت بيدي الكراسة، وأنا أقول للخادم: أين وجدتِ هذا؟
فأجابت بأنها وجدتها ملقاة على الأرض تحت أقدام «دولاب» الحلي في حجرة «الست»، وقد دخلتها لتنظمها بعد خروجها، كما أمرتها الخادم الكبرى المسئولة المشغولة … كما قامت بعملٍ آخر في الحديقة مع المرضع، فأشرت إليها بالانصراف إلى عملها … ووضعت الكراسة فوق المكتب في غير اكتراث؛ إذ لم يكن من الممكن أن أتصورها تحوي ما تحويه، وكان ذهني خاليًا كل الخلوِّ من أي ريبة … وعدت إلى عملي، ولم يعلق في رأسي ذلك كله؛ إلا أن هذا شيء يخص زوجتي، قد جاءت به الخادم خطأ! ويجب ألا أنسى ردَّه إليها عند عودتها … أو الأفضل أن أطلب الخادم من الفور، وآمرها بأن تضع هذه الكراسة في حجرة «الست» … وتركت عملي ورفعت رأسي عن ورقي … ومددت يدي أتناول الكراسة … وأنا أهمُّ بنداء الخادم، وإذا سؤال يخطر لي فجأة: فيمَ تستطيع زوجتي أن تكتب كل هذه الصفحات؟ وقلبت أصابعي على الرغم مني بعض صفحات الكراسة، وإذا بصري يقع على ألفاظ وعبارات وقف لها شعر رأسي! وعدتُ أقرأ من البداية كل ما في يدي … والعَرق يسيل في كلِّ بدني … والرعدة تسري في أناملي، فلا تحسن تقليب تلك الصفحات … وكلما مضيت في القراءة شعرت بالظلام يدب في عيني، والدوار يصعد إلى دماغي! فتماسكت وتحاملت، وجعلت أسرع في القراءة وأنا ألهث إسراعًا حتى لا أخر على الأرض، قبل إتمام هذه الصفحات … إلى أن قرأت كل شيء.
مستحيل … من المستحيل قطعًا أن أصف ما حدث لي وقتئذٍ … هنالك أشياء تُحَسُّ، ولكنها لا توصف … وإنها لتشتدُّ حتى تُفقدنا صدمتُها إدراكَنا الوقتيَّ بما حولنا … وإنها لتهول حتى تخرج من نطاق المشاعر المعنوية إلى محيط الآثار المادية في جسم الإنسان؛ فلقد نسيت في لحظة كل شيء، ولم أعِ شيئًا، إلا أنَّي أحسُّ ألمًا كالمغص في المعدة وميلًا إلى القيء … وشعورًا شديدًا بالإغماء … قاومته بكل ما بَقِيَ لي من قوة حتى لا أُشعر أحدًا بما أنا فيه … وتمددت على مقعدي، وألقيت برأسي إلى الوراء … ولبثت هكذا لا أفكر إلا في استرداد قواي … إلى أن انقطع تصبُّب العرق … وبدأ النور يعود رويدًا رويدًا إلى بصري … والدوار يزول والتنفس ينتظم … فاعتدلت في مقعدي منهوكًا، وأنا أمسح وجهي بِكُمِّ ردائي المنزلي … وذهب عني قليلًا هذا الأثر المادي للصدمة … ونشط إدراكي من جديدٍ … فكان أول ما اتَّجه إليه، ليس الحزن ولا الأسى، ولا الألم ولا الغضب؛ فتلك مشاعر لا نحسُّها في الأحداث الجسام إلا فيما بعدُ … إننا إذ نفاجأ بموت عزيز علينا لا نفكر في البكاء، ولكن نفكر في كيف يُدفن … أما الدموع فيأتي دورها بعد ذلك؛ إنها للذكرى لا لمعالجة المواقف، لذلك ما فكرت وقتئذٍ إلَّا في أمرٍ واحدٍ؛ كيف يكون موقفي منها؟!
من العبث أن يُلقى مثل هذا السؤال على العقل وحده في مثل هذه الظروف؛ فكل شخص يتصرف في ذلك الحين طبقًا لطبيعته ونشأته وثقافته. ومن الدقة أن أقول لك: إني لم أحاول قطُّ أن أتدبر الأمر أو أحكِّم عقلي فيه … فلم يكن هذا وقته … بل لم يكن هنالك وقت لذلك على الإطلاق … فإن نفسي كلها قد استحوذ عليها شعور واحد، هو مزيج من الرعب والاشمئزاز والنفور، لمجرد الخاطر بأن عينَي قد تقع على هذه الزوجة وهي عائدة! كان ما يشغلني ويقلقني هو أمر لقائها بعد ذلك! كلا! إن هذا لا يمكن تصوُّر وقوعه … لو قيل لي وقتئذٍ: إن الموت قد تجسَّد فانظر إليه؛ لكان أهون على نفسي من النظر إلى وجهها بعد الآن … ليس في مقدوري أن أصف لك هلعي من مجرد فكرة النظر في وجهها … ذلك الوجه الجميل الذي ما كنت أملُّ أبدًا من النظر إليه … وتركز تفكيري كله عند ذاك في تلك النقطة … كيف أراها؟ كيف أستطيع أن أراها؟ إنها لا شكَّ عائدة هذا المساء، وستدخل عليَّ تحيِّيني؛ لأنها طبعًا لا تعلم بعدُ بأني قد علمت، فماذا أنا قائل؟ وماذا أنا صانع؟ كلا … إنه المستحيل بعينه … إني أتخيل إمكان كل شيء في هذا الوجود، إلا إمكان وقوع عيني عليها ذلك اليوم … ونهضت واثبًا على قدمي … وأنا لا أرى لنفسي غير الهرب … نعم! فلأهرب أولًا من مرآها؛ إذ محال أن يظللنا سقف واحد بعد الساعة! الهرب أولًا منها … الهرب … وليكن التفكير في الباقي بعد ذلك.
وذهبت مسرعًا إلى حجرتي فارتديت ثيابي، وأعددت حقيبتي، وقد وضعت فيها كراستها مع ملابسي، وكل ما أحتاج إليه في غيبة طويلة … وطفقت عيني تقع على الرغم مني على أثاث تلك الحجرة التي قضينا فيها معًا أيامًا سعيدة … فإذا كل شيء فيها الآن يصيح بالخيانة … هذا السرير الذي وصفته هي في صفحاتها … وهذا البساط الذي كانت تمشي فوقه رائحة غادية، يوم رأت صاحبها أول مرة … وأنا لا أدري سر قلقها ولا سُهادها … كل سؤال له عندي الآن جواب! حتى سبب انتقالها إلى حجرة أخرى خاصة بها … لقد ذكرت هي لي أنها كانت تخشى أن تزعجني بالليل، كلما نهضت لتشرف على طفلتنا في حجرتها مع المرضع، وأن من الخير الآن أن يكون لكل منا حجرة مستقلة، فصدَّقتها وشكرت لها حرصها على راحتي وراحة الصغيرة. ولكن متى اقترحت ذلك بالضبط؟ أليس ذلك بعد عودتي من رحلتي وغيبتي المشئومة؟ تلك التي تم خلالها ذلك الإثم! ولماذا أرادت ذلك؟ أليس رغبة منها في التحرر والخلو إلى نفسها وإلى تدوين اعترافاتها! ومن يدري؟! ربما استطاعت أن تخرج ليلًا، وتعود دون أن يفطن أحد! ومن يدري إلى أين خرجت عصر اليوم بهذه السرعة، واللهفة التي أنسَتْها — ولا شك — إخفاء كراستها حيث كانت تخفيها؟! لعلَّها كانت تضعها في خزانة حُليها ذات المفتاح الذي لا يفارقها … ولكن القضاء شاء أن تسقط الكراسة اليوم دون أن تتنبَّه، وهي تخرج حلية تزين بها جمالها الفاجر!
كل تلك الخواطر مرَّت كالبرق في ذهني، وأنا في حجرتي أمام حقيبتي … فأدركت للفور أنَّ ذهابي أمر لا بدَّ منه. وإذا كانت الجمادات تصيح بي هكذا، وتذكِّرني وتحدِّثني، وتجيبني عن كل سؤال! فما بال الأشخاص؟ وما بالها هي … بما في عينيها من نظرات لن يستطيع الكذب بعد الآن أن يسدل عليها قناعه؟!
وخرجت من حجرتي، وناديت أحد الخدم، فحمل الحقيبة، ووضعها في سيارة «تاكسي» أمرت بإحضارها … وذهبت دون أن أخبر أحدًا أين أذهب. فأنا نفسي لم أَدْرِ ما أقول للسائق، وهو يسألني عن مقصدي! إلى أن خطر لي في الطريق أن أنزل هذا الفندق «بحلوان»، فلطالما نزلته وأنا أعزب قبل الزواج كلما طلبت الاعتكاف والاستجمام. جئت هنا وأنا كالشيء المحطَّم، ولم أَنَمْ ليلتي ولا ما تلاها من ليالٍ! وأعدت قراءة اعترافاتها مرة ومرتين! إنها حقًّا لفظيعة، إن الخيانة الزوجية لأمر فظيع! وإنها تذكر تفاصيلها، وتسرد وقائعها، لا بلهجة النادم التائب عن زلة … ولكن بلهجة الواثق المتحدي بأن هذا حقها المشروع! يا لله! أتلك شريكتي وأم طفلتي التي كانت تعيش إلى جانبي معزَّزة مدلَّلة كل تلك الأعوام؟!
ومضى أغلب الأسبوع الأول وأنا في عذابٍ أعفيك من سماع وصفه وتفصيله … فقد لا يهمك ذلك، وحتى لو سألتني ذلك فإني لن أستطيع له تصويرًا، ويكفي أن أؤكد لك أني صرت إلى حالة تشبه الجنون، أو تقرب فعلًا من الجنون … فإن عدم النوم مع التفكير المضني المستمر، والأعصاب الثائرة المنهكة، وتركيز الذهن في نقطة واحدة ليل نهار؛ كل ذلك كاد يوقعني حقًّا في مرضٍ عصبي خطير! لقد كان من المتعذر على بصري أن يرى شيئًا غير صور دائمة شبه مجسَّدة، لما وصفته في صفحاتها من مناظر الزنا! لقد أصبح رأسي صندوقًا لا يحوي غير هذه الصور معروضة لذهني، لا تتغيَّر ولا تتبدَّل أيامًا بِرُمَّتها … لقد كنت أحيانًا أضرب رأسي بيدي ضربًا شديدًا، أريد تحطيم ذلك الصندوق الشنيع! لقد كدتُ ذات ليلة ألقي بنفسي من النافذة تخلصًا من تلك الصور.
ولقد فهمت منذ تلك اللحظة ما الذي يدفعنا في أكثر الأحيان إلى الانتحار! إنه ليس الألم؛ بل فكرة … ليس أخطر على الإنسان من اضطهاد الفكرة … ليس الخطر علينا من الحقائق والواقع؛ بل من الصور والأشباح! فإن الذي يدفعنا غالبًا إلى الموت هي أشباح.
على أني في تلك اللحظة تذكَّرت ابنتي! هي التي أنقذتني، فتركت كل شيء، وجعلت أفكر فيها، لقد كنت نسيتها! وبتفكيري فيها تغيَّرت تلك الصور المخيفة، وانزاحت قليلًا من رأسي … فشعرت ببعض الراحة! لقد أنقذتني ابنتي من بعض آلامي، ولعلها أنقذتني كي أنقذها، وأنه واجب عليَّ محتم أن أنتشلها من أحضان مثل هذه الأم. وهنا حدث تحوُّل في اتجاهي كله؛ لم تعد الزوجة تعنيني! بل إنه على الرغم من الصدمة التي حلَّت بي لم يخطر ببالي قطُّ لحظة واحدة أي خاطر إجرامي، أو أي رغبة في عقاب أُنزله بها أو بشريكها في الإثم! حتى اسمه لم أحاول معرفته أو التحري عنه، وربما كان هذا راجعًا إلى طبيعتي أو نشأتي وتربيتي كما قلت لك، إنما الذي خطر لي هو البُعد بنفسي في الحال عن هذه الأدران! وأذهلتني المفاجأة عن كل شيء أو شخص غيري … فهربت بمفردي؛ ولو تنبَّهت لحملت معي ابنتي، ولكني أحمد الله أني لم أتسرع، ولم أرتكب حماقة؛ فإني في مطلع الأسبوع الثاني، وقد عرفت بعض الهدوء، وبدأت جفوني تعرف بعض النوم! عكفتُ على تدبير أمري، فنظمت شأني وضمدت جراح نفسي، وغسلتها بمطهر رائع الأثر، أتدري ما هو؟ هو الجيد من الكتب! إنك لم ترني هنا إلا وبيدي كتاب … إني وأنا أغرق نفسي في المطالعة القيمة؛ إنما أغرقها في محلول بلسم.
ولما سكنت العاصفة في رأسي قليلًا، بدأت التفكير في الموقف كله، فرأيت أن التصرف السليم هو في كتمان كل ما حدث عن الناس، ومفاوضة زوجتي سرًّا في الطلاق على هذا الأساس؛ وهو أن تنزل لي عن حقها في حضانة البنت؛ وأن أتسلَّم طفلتي من الفور، وأربِّيها على مبادئي، وكما يحلو لي!
وأظن المنطق يقضي بأن مبادئي أسلم لهذه البنت على الأقل وأشرف لها من مبادئ أمها … وإذا أرادت الأم أن تحرص على مستقبل ابنتها، فلتحذر كل الحذر من أن يطَّلع المجتمع على هذه الفضيحة! ولها أن تخلق سببًا شريفًا تبرر به الطلاق، ولن تجد هي صعوبة في اختراع سبب له؛ «فالطلاق» اليوم أصبح «موضة» وبدعة، شأنه شأن «المغامرات»! إنما عليها أن تجد سببًا لا يَشين ابنتها في المستقبل؛ فالويل للطفلة إذا علم الناس الحقيقة، فهم سوف يقولون مع المثل السائر: «البنت لأمها»، وبذلك يُقضى على سمعة هذه الصغيرة منذ الآن!
ولكن بقيت أمامي مشكلة؛ من الذي يفاوض هذه الزوجة؟ أما أنا فمستحيل أن تراها عيني أو يخاطبها لساني … إن مجرد تخيُّل ذلك يصيبني بقشعريرة أخاف أن ينتكس معها أمري. وهنا خطر لي أن يقوم بذلك عني رجل يُعتمَد عليه، يوثَق بشرف كلمته وحفظه للسر، ولم أتردد في اختيار هذا الرجل! فقد كان هو ابن خالي، ذلك الضابط الذي رأيته معي! فلقد نشأنا معًا منذ الصغر، ودرجنا على المودة والإخلاص من قديم، وكان هو من بين جميع أقاربي الصديق الوفي، والأخ العطوف. وعلى الرغم من اختلافنا في المشارب والميول، وافتراقنا في الطبائع والاتجاهات؛ فإننا متَّحدان في جوهر السلوك، متلاقيان في كثير من الخصال؛ فهو يختلف عني منذ الصبا في ميله إلى الحياة العسكرية وتبرمه بالحياة الفكرية، وفي تفضيله الحصان على الكتاب، وبراعة الرماية على متعة القراءة … ولكننا نتَّفق في فهمنا لكلمة «الواجب»، وفي تقديرنا لمعنى الشرف … إنه رجل، وكان دائمًا رجلًا، حتى يوم كنا أطفالًا نلعب لعبة «الحصاة»، يخفيها أحدنا في إحدى يديه، ويسأل الآخر عنها، فإذا غلط ضربه بالمنديل المفتول كذا ضربات! كنا معشر الأطفال اللاعبين نحاول التنصل أحيانًا، والمماطلة أو المغالطة! أما هو فكان صريحًا مستقيمًا ماضيًا؛ كأنه سيف … إذا أخطأ مدَّ كفَّيه من تِلقاء نفسه، وتلقَّى الضرب وهو يتلوَّى من الألم حتى يوفي بالشرط.
كان هذا الأخ هو الذي فكرت فيه … ولم أفكر في أحد غيره، حتى ولا أمها؛ خشية تسرب الخبر في الأسرة، وانتشار التهامس، ثم الثرثرة، والقيل والقال، ولكن ابن خالي هذا لو قلت له: اكتم عني فلن يتكلم، وإن ذُبح … فاستقدمته بالتليفون إلى هذا الفندق، فجاء على عجلٍ، وكان الوقت عصرًا أو بعد العصر بقليلٍ، فلم أرَ أن أَصِفَ له الأمر بنفسي أو أخبره؛ لئلا أزيد فيه أو تخونني أعصابي، فأصورها تصويرًا ظالمًا … وآثرت أن أضع بين يديه الكراسة يطالعها أولًا، قبل أن أنطق بحرفٍ، وهو عين النهج الذي اتَّبعته معك بعد ذلك … فحمل الكراسة ومضى بها إلى بيته في القاهرة، على أن يجيئني بها في اليوم التالي وقد قرأها؛ إذ كان من المتعذر عليه المبيت خارج بيته تلك الليلة، فقد سافرت زوجته إلى مدينة «أسيوط»، لتكون بجانب شقيقتها الحامل التي تضع … وتركت له إدارة المنزل، ورقابة ولدَيْه، كلاهما يذهب إلى المدرسة؛ فالولد الأكبر في الثامنة من عمره، والأصغر في السادسة، فهو كما ترى قد تزوج قبلي بسنوات!
وجاء الغد، وعاد إليَّ ابن خالي بالكراسة … ولكن بأي وجه؟! لقد كان شاحبًا شحوبًا هالني وأفزعني، ورأيت في عينيه كأن مصيبتي أفدح مما ظننت وأعظم، وأخذتني عليه شفقة، وكاد يذهلني ما به عما بي، فقلت له وأنا أجلسه بجواري: «هوِّن عن نفسك، ولا تدع كارثتي تفعل بك كل هذا! ولنعالج الأمر بعقل هادئ … فأصغ إليَّ أحدثك بما استقرَّ عليه عزمي، وأرجو أن تقرَّني فيما اعتزمتُ.»
فلبثَ مُطرِقًا، ولم أسمع منه إلا غمغمة تصعد من أعماق قلب مجروح قائلة: «سحقًا للنساء!»
وأردت أن أعيد الصفاء إلى ذهنه؛ لنتعاون على حلِّ المشكلة حلًّا حصيفًا، ولكنه انتفضَ قائمًا، وكأنه لا يُصغي إليَّ، وفاجأني بقوله، وهو ينظر إلى مكان «التليفون»: اسمح لي أطلب «الترنك»! لا … لا بدَّ من الاستعلام في «أسيوط»!
فاستوقفته وأنا أردِّد في شيء من العجب: «أسيوط»!
فقال في لهجة عصبية تدلُّ على خروجه عن طَوْره: «من أدرانا يا أخي؟ من أدرانا؟ لقد جاءنا تلغراف حقيقة بأن شقيقتها موشِكة على الوضع، فسافرتْ … وقد حادثتها تليفونيًّا البارحة فوجدتها حقيقة هناك، ولكن كل هذا لا يقوم دليلًا … إنها تذهب كثيرًا إلى «أسيوط» أخيرًا! ولمن؟ لقد ذهبت هذا العام أكثر من … أكثر من …»
وظلَّ يَهذي بكلامٍ كثيرٍ عن زوجته، فأدركت من الفور أني قد ارتكبت غلطة كبرى، من دون أن أشعر. إن الكراسة فيها لو تذكرت نبذة عن زوجته، وآراء البعض فيها وفي تصرفاتها، وانفراد زوجتي بالدفاع عنها، وعن أفعالها … وهاك نَصَّ بعض دفاع زوجتي في صفحاتها:
«… هذه الصديقة المسكينة كل جريمتها أنها أرادت أن تعيش، وأن تتنفس قليلًا! وأن تحيا كمخلوق حرٍّ متمدن! ولكنها في نظر عمتي وأمثالها من أفراد أسرتي، امرأة ساقطة؛ أفعالها وأحوالها تشبه أفعال وأحوال العاهرات!
ما من أحد يلتمس العذر لمن يغتابونهم فيذكر ضعفَهم الإنسانيَّ، لعلِّي أنا وحدي التي كانت في قرارة نفسها تلتمس الأعذار لجميع الغوايات والغلطات على هذه الأرض!» إلخ … إلخ.
ما الذي أطاش عقلي فأسلِّم زوجًا آمنًا صفحاتٍ بها هذه العبارات عن زوجته؟! الحق أني ما تنبَّهت لذلك! إن عينَي عميتا عن كل ما تعلَّق بغيري، ولم تريا إلا ما خصَّني وألمَّ بي! إن الأثرة فينا أقوى منا، وإن الأنانية ركبت في كل حاسة من حواسنا؛ كما يركب «المحرك» في كل آلة من الآلات.
فلقد دفعت إليه الكراسة وأنا لم أفطن إلى أنَّ فيها ما يمسُّه، ولعلَّه قرأها فتسمَّر بصره على ما يخصه، وأرغمته على الجلوس ليفضي إليَّ بذات نفسه، فجلس وطفق يبدي لي ألمه لما قرأه عن زوجتي! ويحاول تعزيتي تارة والثورة لي تارة أخرى! لكنه في أكثر الأحيان كان يسهو عن موقف الصديق المحمَّل بمهمة، ويخرج عن صفة القريب والخَدين، المطالب بالرأي والنصح، ولا يبقى منه إلا زوج تنهش الريب والشكوك قلبه.
ولم يلبث أن نَسِيَ قصَّتي قليلًا، وأفاض في شرح قصته؛ فذكر لي أنه هو أيضًا لم يَنَمْ ليلته تلك بعد مطالعة الكراسة، وأنه قام في البيت هائجًا ينبش في هدوء الليل، وأطفاله نيام والخدم راقدون، صناديقَ زوجته وأمتعتها وخزانتها وأثوابها، يفتح ما طاوع يده، ويكسر ما استعصى عليه فتحه … باحثًا … منقِّبًا عن ماذا؟ عن اعترافات زوجته هي الأخرى! لم يعثر بالطبع على شيء، فليس كل النساء يحتفظن بكراسات، ولا كل الزوجات يسجلن الاعترافات، فتلك، ولا شك، مزية من مزايا زوجتي، المغامِرة المولعة بالحرية، المتمدنة المشغوفة بالحياة … وزوجته على كل حالٍ تكبر في السنِّ قليلًا زوجتي … ولها من ظروفها وميولها وطبيعتها، ما قد يجعلها تختلف عن صديقتها بعضَ الاختلاف في الأسلوب والطريقة على الأقل، بفرض اتحادهما في لب المبادئ. ولكن ابن خالي وقع فريسة تلك الصور الشائنة التي طالعها، فخلط بين زوجته وزوجتي، ولم يميز بينهما في وضع من الأوضاع! وتوهَّم زوجته قد سارت عين الشوط الذي قطعته زوجتي في طريق الخيانة، وطفقت ذاكرته تمدُّه بتفاصيل لم يأبه لها في حينها، والآن يرى لها من المعاني ما ترتعد له الفرائص.
هو أيضًا قد تغيَّب في مهامَّ رسميةٍ، وهو أيضًا طالما سمع من زوجته كلمات، ولحظ إشارات تشبه ما قرأ في صفحات صديقتها، ولطالما أحبَّ زينتها، ووافق على بهرجها؛ ظنًّا منه أن هذا يُرضيها ويُرضي المتَّبع المألوف عند نساء هذا العصر، دون أن يخطر بباله الشك في وفاء زوجته، أو الارتياب في أمانتها! إنه كان يصدِّق كل كلامها هو الآخر، ليس من السهل مطلقًا على زوجٍ أن يرتاب في زوجته … ولقد صدق من قال: «إنَّ الزوج هو آخر مَن يعلم شيئًا عن حقيقة مسلك الزوجة»! فإنَّ جوَّ الثقة الذي تنسجه الألفة الطويلة، والاتصال الوثيق واحتكاك اللحم باللحم، وامتزاج الدم بالدم، واختلاط الاسم بالاسم، ورباط الأطفال، وحِبال الحياة بما فيها من آلام وآمال؛ كل ذلك يلقي بالزوج في عالمٍ من الطمأنينة، تهمد فيه حواس الشك، وتنغلق فيه أهداب اليقظة وتتثاءب الفطنة وتنام.
إن الزواج هو وادي العميان، يتعطَّل فيه بصر الإنسان ببعض حقائق الأشياء؛ فهو قد لا يرى ما حدث، وقد يرى ما لم يحدث! ومن يدرينا أن زوجته ذهبت بالفعل في طريق الغواية إلى حدِّ الخيانة الصريحة؟ ولماذا يبني هذا الفرض على كلمات لزوجتي ليس فيها ما ينمُّ عن ارتكاب إثم بالذات؟ هذا على الأقل ما أردت أن أُقنع به ابن خالي؛ أعالج به موقفه المؤلم! ولكن الإقناع في هذه الأمور لا ينفع، والمنطق لا يغني شيئًا! ليس أخطر في الزوجية من تَنبُّه الريبة النائمة؛ فإنها متى صحت دَبَّ فيها نشاط عجيب، فلن تعرف النوم بعد ذلك أبدًا … ولقد حفظ ابن خالي العبارات الخاصة بزوجته في الكراسة، واستظهرها كلمة كلمة؛ فعبارة: «أرادت أن تعيش، وأن تتنفس قليلًا كمخلوق حرٍّ … وأفعالها وأحوالها التي تشبه أفعال وأحوال العاهرات … وجميع الغوايات والغلطات» … إلخ، إلخ.
كل كلمة من هذه انقلبت في رأسه عينًا يقرأ بها كتاب حياته الزوجية من جديد … ويا لهول ما قرأ! إنه في كل لحظة يأتي إليَّ بما يسميه برهانًا جديدًا على جرائم امرأته، وآخر ما رسخ في اعتقاده فكرة خطيرة؛ هي أنه يشكُّ في نَسب ولده الأصغر … إنه على رزانته التي كنت أعرفها فيه يقسم لي إنه ليس ابنه، ويدعوني إلى أن أحدق في وجهه، وأتفرَّس في ملامحه، فهو يزعم أنه لا يشبهه مطلقًا كما يشبهه الابن الأكبر … ولكن لماذا لم يقُل هذا الكلام من قبل؟! وكيف لم يفطن إلى مسألة الشَّبه حتى الآن! من العبث أن تجادل في ذلك رجلًا وضعه القدر هذا الوضع.
إني من ساعة أن رأيت وجهه الذي رجع به، أدركت أن الواجب يقضي عليَّ بأن أمنعه من العودة إلى منزله، وهو على تلك الحال؛ خشية أن يرتكب حماقة مما يندم عليه الإنسان عند هدوئه. ثم إني خِفت عليه من أثر الصدمة في أيامنا الأولى، وأثر الوحدة … ولقد جرَّبت هذا قبله، وأعرف مداه! فعملت على استبقائه في هذا الفندق يومين أو ثلاثة حتى نتدبر الأمر معًا. وخاطبنا منزله بالتليفون فأحضروا له هنا بعض ما يلزم له من الملابس والحاجات الصغيرة، ثم خاطب هو بعض من يثق به من قريباته العجائز؛ ليَبِتْنَ في منزله؛ ويُعنين بأمر الولدَين، ويشرفن على البيت والخدم في أثناء هذه الغيبة القصيرة التي قال للجميع: إنها من ضرورات عمله الرسمي … ثم جعلتُه يطلب إجازةً مرضية بضعة أيام كما سبق لي أنا أيضًا أن فعلت! ولبثنا هنا هكذا كما رأيتنا! أما هو فلم يَنَمْ منذ حضوره إلا بحقنة من «المورفين» رجوت الطبيب البارحة أن يلجأ إليها. وأمَّا أنا فبعد أن كنت أحمل نكبتي وحدها، وأطمع في معونة ابن خالي عليها؛ إذا بي أصبح وعلى كاهلي نكبتان … وإذا هو في حاجة إليَّ أنا، كي يُعان.
والآن وقد انتهيتُ من سرد قصتنا عليك، أراك تدرك ما أنا فيه، وتعذرني إذا التمست عندك الرأي والمشورة!
وسكت الزوج سكوتَ من قد أَفرغ كل ما في جعبته، وبدا على وجهه ما يبدو على مَن ألقى مسألة يُنتظَر عنها الجواب!
ولم يكن من السهل على «راهب الفكر» أن يخرج فجأة من جَوِّ تلك القصة التي سمعها؛ ليجيب أو يفكر أو يدبِّر … فهو لم يكن بالغريب عنها هو الآخر … إنه شخص من أشخاصها، دون أن يعلم أحد … وإن صلته الخفية ببطلتها، التي حركت كلَّ هذه المأساة؛ لمِمَّا يوقر نفسه بخوالج من العسير إخفاؤها … ولكنه لم يجد بُدًّا من أن يقول شيئًا، فرفع رأسه وقال بإخلاصٍ: إنِّي في خدمتك … كن على ثقة بذلك!
فغمغم الزوج: أشكرك!
وأطرق، وظهر عليه تردد! كأنه أراد الكلام وأمسك عنه … أو أنه كان يتوقع من محدِّثه دخولًا في الموضوع، لا ترديدًا لعبارة مجاملة … وفطن «راهب الفكر» إلى ذلك، فبادر يقول: نعم … لا بدَّ للأمر من مخرج!
فقال الزوج لساعته: مسألتي أنا واضحة، الحلُّ عندي هو ما ذكرت الآن؛ الطلاق بلا صخبٍ، واحتفاظي بابنتي من الفور، ولا يعنيني شيء آخر بعد ذلك … ألديك اعتراض على هذا؟
– لا … هذا هو الحل الوحيد الجدير برجلٍ محترمٍ مثقف مثلك.
قالها «راهب الفكر» بلهجة حارة صادقة.
ومضى الزوج يقول، وهو شاخص ببصره إلى الفضاء: ولكن المسألة الدقيقة العسيرة؛ هي مسألة ابن خالي! إنه لم يضع يده مثلي على خيانة صريحة، أو اعترافٍ مكتوبٍ يستطيع بمقتضاه أن يريح ضميره، ويتصرف تصرفًا قاطعًا، ولكنها شكوك وأوهام، تعذبه ولا تؤدي به إلى حلٍّ من الحلول … ماذا ترى في أمره؟ ماذا ينبغي له أن يفعل؟ إنه لا يستطيع أن يطلِّق زوجته ويشرِّد أسرتَه، لمجرد رِيَب خامرته … ثم إني أمنعه من أن يشير إلى الكراسة بحرفٍ، إذا خطر له أن يواجه زوجته بما جاء فيها من عبارات تمسُّها؛ لأن هذه الكراسة شيء يجب أن يُنسى، وسرٌّ لا يملك أحدنا أن يذيعه … ما رأيك؟
فتحيَّر «راهب الفكر» فالإجابة هنا من أصعب الأمور، ولكنه أخذ يقول، وكأنه يخاطب نفسه: رأيي؟ لا أريد أن أتحمَّل تَبعة رأيي، ولكني أقول لك إن الريب والأوهام والشكوك، دون دليل قاطع محسوس؛ هي أقتَل للنفس، وأضيع للشخص من كل حقيقة … إنك بالطبع تذكر مأساة «عطيل»، وإذا كان «شكسبير» لم يجد حلًّا لغيرة «عطيل» وشكوكه، فهل أجد أنا هذا الحل؟ ولكن الذي قد أراه علاجًا — وأنا غير واثق ولا ضامن — هو المصارحة!
لماذا لا يذهب ابن خالك إلى زوجته، فيسارُّها ويصارحها في حجرتهما المغلقة، ويفضي إليها بشكوكه دون أن يذكر الكراسة … فليقل مثلًا إنه بلغه كذا، وإنه مرتاب في كذا … وليُخرِج من جوفه كل ما فيه من سم هذا الدواء … ولينظر النتيجة؛ فإما أن يرى من زوجته ما يثبت شكه في إدانتها … وإما أن يرى من كلامها ونبراته ما يقنعه ببراءتها … أظن هذا هو الأمر الذي كان يجدر ﺑ «عطيل» أن يفعله منذ البداية، قبل أن يستفحل معه الداء! ومَن يدري لو أنه صنعه من أول الأمر … ماذا كان يحدث من نتيجة؟ … أعتقد أن هذا هو الحل.
أتذكر حديث الإفك؟ ذلك الاتهام الشائن الذي ألصقه بعض الناس ﺑ «عائشة» زوجة النبي محمد ﷺ؟ إن عذاب الشك الذي عرفه «محمد» وقتئذٍ لجدير حقًّا بنبي إنساني! إن هذا الحادث في حياته لم يأتِ عبثًا … إنه خير دليل على أنه جاء ليهدي الإنسانية، وهو بشر منها، يتعذب بكل أنواع عذابها الأرضي! ما الذي صنعه «محمد» عند ذلك؟ صارح زوجته بالأمر.
أوصِ ابن خالك بأن يفعل ذلك هو أيضًا، وأن يُقْدِم عليه رابط الجأش، هادئ الأعصاب … فتلك مسألة يتوقَّف عليها مستقبل أبناء، ولا يجوز لنا مواجهتها، ونحن نتخبط في ظلامٍ من عواطفنا المضطربة، ونفوسنا الثائرة.
– أتظنُّ من السهل أن يحتفظ الإنسان بهدوء نفسه، وصفاء بصيرته مع زوجته وهو في مثل هذا الموقف؟
– لم أقلْ إِنَّ هذا سهل ميسَّر! ولكن لا بد له من أن يبذل جهدًا في سبيل ذلك … ولا بد لك من إقناعه ورياضته على امتلاك ناصية نفسه، حتى يرى الأشياء جليةً قبل البتِّ.
فأطرق الزوج لحظة … ثم قال، وكأنه يخاطب نفسه: كيف أنصح له وأنا لا أتصور أن هذا في الإمكان … حذار من أن تطلب إليَّ أنا — أيضًا — أن أقابل زوجتي وجهًا لوجه؟ لا تحاول ذلك معي! أرجوك!
ولفظ العبارة الأخيرة بنبرة تكاد تشبه الصرخة، زمجر فيها الغضب، وتراءى الرعب، ووثب العنف والإصرار … فبادر «راهب الفكر» يقول: لا … لا تَخَفْ! الأمر معك مختلف، ولم يخطر ببالي قطُّ أن أسألك أمرًا كهذا!
فاطمأنَّ، وقال: بالتأكيد أمري مختلف كل الاختلاف؛ فأنا ليس لديَّ ما أقول لهذه السيدة، بعد أن قالت هي كل شيء! لقد قرأت في كراستها ما فيه الكفاية، وقد أفصحت هي بما ينبغي لإدانتها وبأكثر مما ينبغي … أما ابن خالي، فلا بدَّ له من أن يقرأ في عَيْنَيْ زوجته.
– هذا بالضبط ما أردت أن أقول!
قالها «راهب الفكر» كمن يتنفس الصعداء … وصمت الزوج قليلًا، ثم قال: الآن قد انتهينا من أمر ابن خالي … وسأتولى علاج شأنه، بما ارتأيت له أنت من رأي، وبقيَ أمري أنا … لقد ذكرت لك أني كنت قد اعتمدت عليه في مفاوضة زوجتي، ولا جدال في أنه لم يَعُدْ يصلح لهذه المهمة، فحسبه ما هو فيه، ولا مفرَّ من اختيار غيره، ولن أبحث طويلًا فيما أرى، فإني مهما أنقِّبُ عن رجلٍ ثقة، ساكن الروع، حسن التصرف، سديد الرأي؛ فلن أجد خيرًا منك أنت.
فصرخ «راهب الفكر»؛ كمن فوجئ بوخزة: أنا؟!
ولم يكن لمثل هذه الصرخة مبرر ولا مقتضٍ عند من لا يعلم سرَّها وسر صاحبها. فأُخذ الزوج، ونظر في وجه جليسه نظرة المستقصي … فتمالك «راهب الفكر» نفسه، وتدارك أمره، ولطَّف من صوته قليلًا: إني … إني … أعجب لاعتقادك أني أصلح لهذه المهمة.
فقال الزوج باقتناعٍ: ولِم لا؟ ليس من الضروري أن يقوم بهذا العمل قريب من الأقرباء! إني مطمئن إليك أنت كلَّ الاطمئنان … إن ثقتي بكَ لا حدَّ لها، وإني شاعر بأنكَ تستطيع أن تتمَّ المهمة في جَوٍّ من الكتمان، وأن تؤدي لي هذه الخدمة على خير الوجوه.
– ليس أحب إليَّ من خدمتك في ظرفك هذا … لكن.
– لا تقل «لكن»! بالله لا تقل «لكن»، إني ساعة لَمَحْتُك هنا، لمعت في رأسي هذه الفكرة؛ كأنها البرق الخاطف، بل لكأنه وحي من السماء هبط عليَّ أن ألجأ إليك … ولقد وضعت في يدك الكراسة عن تدبير … وكان كل أملي أن أسألك المعونةَ، وقد صرت وحدي كما ترى، فهل أنت خاذلي بعد كل هذا؟
فأطرق «راهب الفكر» برهة … ولم يجد من الطبيعي أن يرفض توسُّل هذا الرجل … إنه يكره هو أيضًا رؤيتها، ويخشى لقاءها وجهًا لوجه … لكن أمره معها على كل حالٍ هيِّن بالقياس إلى ذلك الزوج. وإذا كان على أحدهما أن يراها ويحادثها بعد الذي حدث، فلا ريب في أنه هو الأَولى بالمواجهة، الأقدر عليها … فليتحمَّل عن زوجها المسكين ذلك العبء … وليكتم حرجه في صدره، وليقدم … ورفع رأسه، وقال بصوت العزم: فليكن.
فقال الزوج وهو يشد على يده: أشكرك … ولن أنسى لك أبدًا هذا الصنيع!
ولم يلتفت «راهب الفكر» إلى جليسه … فقد حلَّق بذهنه لحظة … ثم قال له؛ وكأنه يخاطب نفسه: أهي في منزلها؟ هل أراها هناك؟ … لا … لن أذهب إليها في بيتها … فأنا بالطبع غريب عن البيت، كيف أزورها في غيبتك دون أن أثير فضول الجميع؟ إذا وافقتني فإني أدعوها بالتليفون إلى زيارتي!
فقال الزوج مرتاحًا دون تردد: افعل ما شئت!
– أتراها ما زالت في … في بيتك حتى الآن؟
فقال الزوج وهو يفكر: لست أدري … إني منذ غادرت البيت لا أعلم ما صارت إليه، ولكن أغلب ظني أنها هناك … إني أعرفها حق المعرفة … إنها ذات ذكاء … وقد فهمت، ولا ريب، كل شيء من اختفائي المفاجئ مع الكراسة، ولا أرى إلا أنها أوهمت الجميع أني على سفرٍ … ولبثت هي تنتظر!
– تنتظر؟!
– نعم، تنتظر خطواتي التالية؛ لتعرف منها اتجاهي بعد هذا الحادث.
وصمت الرجلان صمتًا قصيرًا قطعه الزوج صائحًا: ابنتي! أتوسَّل إليكَ أن تأتي إليَّ بابنتي. أنقذ ابنتي من يد هذه الأم … لن أطلب إليك شيئًا آخر غير هذا … ابنتي … ابنتي … وسمعة ابنتي … ومستقبل ابنتي.
– أعدك بذلك!
لفظها «راهب الفكر» في شبه همسة، كلها عزم وتصميم!