الزوجة المُثلى
ذهب «راهب الفكر» في اليوم التالي إلى «حلوان» لِيَعرض على الزوج أقوالَ الزوجة، وتلقَّاه الزوج هاشًّا له، معجبًا بنشاطه، مُقدِّرًا لعنايته بإنهاء الموضوع في هذا الزمن اليسير، ولكنه لم يكد يجلس إلى القادم، ويصغي إلى ما جاء به، حتى أطرق مليًّا وقد صدمته عواطف شتى سريعة! فقد لاح له بصيص أمل خفق له قلبه، غير أنه لم يكن أكثر من خطفة البرق في ليلٍ ملبَّد بالسحب، بَرْق أضاء جوانب نفسه لحظة … ولكن ليكشف بعدها عن الحقيقة الواقعية … وهي غيوم سوداء، مكتَّل بعضها فوق بعض … لقد كان لقولها إنها بريئة، وإنها لم تكتب سوى صفحات وهمية بعض اللمعان المفاجئ! ولكن الزوج ما لبث أن تذكر عبارات الكراسة التي يحفظها عن ظهر قلب، فانقبضت نفسه من جديدٍ، وتلبَّد كلُّ شيء فيها: هذا محال! أهذا ممكن؟ أهذا معقول؟ والتفت إلى «راهب الفكر» يقول بمرارة وعتاب: أهكذا تذهب عني أمس باليقين المريح، لتعود إليَّ اليوم بالشك المؤلم؟! لقد كنت أرثي — كما تعلم — لابن خالي وما هو فيه من عذاب الشك! لقد حمدت الله أني على يقين، وأن أمري ميسور الحل … أهذا معقول؟ ألا تراها تحاول تغطية موقفها، وتبرئة نفسها؟! أجبني … هل صدقت أنت هذا القول؟ هل تستطيع حقًّا أن تصدقها؟! أخبرني بالحقيقة … بحقيقة شعورك؟ ما رأيك في قولها هذا؟ إني أريد الاستماع إلى رأيك!
فلزم «راهب الفكر» الصمت لحظة، ثم قال متوسلًا: لي عندك رجاء … لا تطلب رأيي … تلك مسألة عائلية دقيقة، لا يحسن بي أن أتدخل فيها برأي … كل ما لي أن أفعل هو أن أقوم بينكما بدور الرسول أو السفير … اجعلاني فقط واسطة اتصال بينكما … لا أكثر!
– أوَيصحُّ أن تتركني هكذا فريسة الشكوك؟!
– إني آسف … فكِّر لنفسك … وأَصْغِ إلى صوت قلبك وإحساسك … واقطع برأيك أنت وحدك … ولا تضعني موضع الحرج … إني لا أشك في أنك تفهم دقة موقفي في مسألة كهذه.
– فاهم!
لفظها بإذعانٍ يستثير الشفقة، وجعل يطرق ويفكر، ويقلب في رأسه الأمر على وجوهه … ثم استوى ناهضًا فجأة، وهو يقول: لا تؤاخذني! انتظرني لحظة!
ومضى واختفى برهة، ثم عاد يحمل الكراسة، وجلس في مكانه يقلِّب صفحاتها على غير هدًى، ويطالع فقرات من هنا وهناك … ثم صاح: وهذه حكاية وهمية؟ أهذا كلام خيالي؟ اسمع هذا … اسمع أرجوك!
«… إن زوجي على الرغم من فتوره الحالي نحوي، وقربه الذي لم يعُد يثير فيَّ أي نشوة قوية، ما أساءني قطُّ يومًا، بل إنه ليعزني ويَودُّني. وفجأة بدا لي شبح عملي المخيف البشع، ما سوف يحدثه له من آلام، لو أني أطعت هواي وهربت من بيتي، أو قطعت صلاتي الزوجية بمثل هذه الفضيحة. وتيقظت في نفسي تلك اللحظة بقية ضمير وإخلاص، فلم أقبل بحالٍ أن أجعل زوجي وطفلتي، ضحايا ضعف وأخطاء وعواطف، هي عندي أقوى من إرادتي!
ثم هنالك شيء آخر: لقد فكرت في مصير تلك المرأة، التي تذهب إلى رجل، لتضع حياتها بين يديه، دون أن يكون في جيبها قرش! حقًّا كيف أستطيع، وأنا المجردة عن كل أموال خاصة، إذا انفصلت عن أسرتي وترفَّعت عن مد يد السؤال إلى ثروة والدتي، أن ألقي بعبئي على كاهل «…»، وأفرض عليه أمر معاشي وكسوتي وزينتي وترفي؟ إن كرامتي لتأبى ذلك، وإذا أرغمني حبي وضعفي على التفريط في هذه الكرامة، فهل يطيق هو؟!
لا ينبغي أن يضلني الحب إلى هذا الحد … وليس من الضروري أن ينتهي الحب دائمًا بالهرب مع الحبيب … وهو لا شك لم يخطر بباله قطُّ هدم عش الزوجية، والانطلاق معه بعد قطع الرباط الرسمي المقدس؛ لأنه يدرك عواقب ذلك … وإن مثل هذه الفكرة وحدها كفيلة بإطفاء جذوة غرامه، إنما الذي أراده، ولا ريب بتلك العبارة التي لفظها، ونحن في نشوة الغرام، أن أدبر وسيلة، أو أخترع حجة للسفر معه بضعة أسابيع إلى فلسطين أو غيرها، دون أن يفطن زوجي أو تنتبه أسرتي للباعث على هذه الغيبة! ولكن هذا مستحيل! ومهما أوتيت من سَعة الحيلة، فلن أجد الوسيلة … حسبنا إذن هذا القدر من اللقاء! ولا يجب أن نطمع في أكثر منه، وإلا تعرضنا لكارثة لا يحب كلانا أن تقع.»
هنا كفَّ الزوج عن القراءة، والتفتَ إلى «راهب الفكر» قائلًا: أخبرني كيف يكون هذا خيالًا، والأشخاص هم عين أشخاص الحقيقة؟! فالزوج والطفلة والزوجة ووالدتها … كل أفراد أسرتنا هم بعينهم وظروفهم … ولكن هذه السيدة العاشقة تريد أن تبرئ نفسها، لأنه ليس في مصلحتها ولا مصلحة غرامها أن تهدم عش الزوجية … لهذه الأسباب التي كتبتها بخطِّها. فهي لا بدَّ لها من أن تستبقي الزوج، لتستبقي العشيق … أمر واضح … أما حجتها فهي واهية، وما أظن أحدًا يصدقها غير مغفل، ولو أني أُحسَب اليوم في عداد المغفلين … إلا أن ذلك حدث بغير إرادتي … أما عملها على إدخال هذا الوهم عليَّ وتصديقي له، فهو إمعان منها في الاستهانة بي، وإساءة الظن بإدراكي … وإنه لكثير عليَّ أن أكون مغفلًا مرة أخرى عن وعي وإدراك … لا يا سيدي … اذهب إليها حالًا من فضلك، واستكتبها ورقة بتسليمي الطفلة … وأَقسم لها عني بأنه لا أمل لها أبدًا في إعادة الحياة الزوجية … حتى وإن ثبت صحة زعمها … فأنا لا آمن على بنتي أن تُربى في كنف أم خطَّت بيدها هذا الكلام الشنيع! وطوى صفحات الكراسة بحركة عصبية، وأراد أن ينهض فاستوقفه «راهب الفكر» قائلًا: وإذا رفضت تسليم الطفلة، وتمسَّكت بحقها الشرعي في حضانتها؟
– ماذا تقول؟
– هذا مجرد فرض! حتى أكون مستعدًّا لما يطرأ.
– إذا رفضت … أكِّد لها على أني لن أتردد عندئذٍ في أن أسلك الطريق الآخر، الذي أردت أن أجنِّبها وأجنِّب الطفلة نتائجه … طريق القضاء والفضيحة … ولديَّ اعترافاتها مكتوبة أقدمها للتحقيق، وما أظن — أو تظن هي — أن هنالك محكمة تحكم ببقاء الطفلة في حضانتها بعد ذلك!
فالأجدر بها إذن أن تفهم غايتي، وتقدِّر عملي في إنقاذ سمعتنا جميعًا … فالطلاق الهادئ، وتسليمي الطفلة هو في مصلحتها ومصلحتنا كلنا، فخير لها ألا تثير أي إشكال … هذا كل ما في الأمر!
وسكت وهو يسأل بنظراته «راهب الفكر» عما إذا كان يود الاستعلام عن شيء آخر، فأجابه سلبًا بإشارة إنجاز مهمته، وقال وهو يمد يده بالتحية: وكيف حال ابن خالك؟
– حاله سيئة!
لفظها بقلقٍ وحزن، ثم مضى يقول: مسألة ابنه الأصغر هي النكبة … هذه الفكرة متسلطة عليه إلى درجة خطرة … لقد غافلني، وذهب البارحة لينظر مرة أخرى في وجه هذا الابن، وعاد في حالة مخيفة … يؤكد لي أنه ليس ابنه، وتدمع عينه وهو يحدِّثني عن ذلك الطفل، وقد سأله ببراءة وطهارة: لماذا تنظر في وجهي هكذا يا بابا؟!
إنه لا يدري ماذا يصنع! وهل هو مخطئ أو مصيب؟ وماذا يكون موقفه من هذا الابن غدًا؟ ثم من الزوجة؟ إن هذا المسكين في حالة مخيفة فعلًا! إنه لا ينام ولا يأكل. إني أؤكد لك أنه لم تَبْقَ له أعصاب تحكم إرادته.
وأطرق مهمومًا، فشدَّ «راهب الفكر» على يده مشجعًا، وحيَّاه صامتًا، وانصرف عنه راجعًا إلى مسكنه بالقاهرة.
وفي ذلك اليوم طلب حضور الزوجة مرة أخرى، ليعرض عليها قرار الزوج النهائي، فجاءت في المساء، فأجلسها إلى المكتب … وقبل أن تنطق بحرفٍ قدَّم إليها قلمًا وورقة، وقال لها بلهجة سريعة صارمة: اكتبي!
فالتفتت إليه دهِشة: أكتب ماذا؟
– قَبولك كل شروط الزوج؛ منعًا للفضيحة!
فنظرت إليه مليًّا، كَمَن يبحث في سريرته، وقالت: ألم يعد هنالك أمل؟!
فأجابها باقتضابٍ: مطلقًا … لا أمل ولا فائدة!
– أخبرني أولًا ماذا حدث؟ وماذا قلت له؟ وماذا قال لك؟
فأخبرها بكل شيء … وأعاد على مسمعها كل حرف فاه به زوجها، وكل كلمة تلاها عليه من اعترافاتها، وتفصيل رأيه وموقفه، ومسلكه إذا قبلت، ونواياه إذا رفضت … ففكرت في كل ذلك لحظة … ثم أخرجت من حقيبة يدها صندوق سجائرها، وتناولت سيجارة وأشعلتها بولاعتها، ثم نفخت في الهواء نفخة، وقالت متأففة: يا لحمق الأزواج!
وتعجَّب «راهب الفكر» لكلمتها، فسألها بكل رفقٍ: وما الذي بدا من حمق زوجك على الأقل؟
– عجبًا! أوَلا ترى حمق تصرفه؟
– وتصرفك؟!
فتنهَّدت تنهُّد اليائس وقالت: لا حيلة لي فيك! إنك دائمًا ضدي … إنك لا ترى أبدًا غير أخطائي أنا، وعيوبي، ولا تبصر سوى هفواتي أنا، وذنوبي! بماذا أسأتك؟ أخبرني! ماذا صنعت لك غير أني حملت لك مودة و… ومحبة لم تقدِّرها ولم تلتفت إليها.
فأطرق «راهب الفكر» وقد أصابه شبه رعدة، ولكنه قال في الحال بصوتٍ أجش: إن زوجك يا سيدتي هو المعتدَى عليه!
– وأنا لست مُعْتَديًا عليها؟! وهو الذي يريد أن يحرمني بيتي وابنتي من أجل غيرة حمقاء؟!
– أمِن الحماقة أن يغار الزوج على شرفه؟
– لا تتكلم هكذا! يدهشني أن أراك تتكلم هكذا كما يتكلم الرجعيون وأصحاب الأفكار القديمة! الزمن قد تغيَّر الآن، والنظرة إلى هذه المسائل قد تطورت واتسعت! والمبالغة في تلك الأشياء لا تجدها إلا في الطبقات السفلى! إذ تسمع، بين آنٍ وآن، أن زوجًا ذبح زوجته أو أخته بسبب الغيرة أو الاشتباه في السير والسلوك! أما في طبقاتنا الراقية فلا يصح أن نجعل من هذه التوافه مأساة بأي حالٍ … أنت رجل مفكر، حر التفكير … فكيف تنسى أن الحرية هي أساس كل شيء الآن؟ … والمرأة مثل الرجل مخلوق له حريته، والزوجة لم تعد قطعة أثاث، توضع في حجرة مغلقة في منزل الزوجية، بل هي آدمية لها حق التنفس والحياة! ولا بد أن تكون لها حريتها، وأن تذكر دائمًا أن لها قلبًا حرًّا، قد خُلق لينبض بالحب والكره، وأنَّ لها جسمًا حرًّا، لا يُملَك إلا بإرادتها ورغبتها، وأن الزواج لا ينبغي أن يفسَّر بأنه قيد يوضع في عنق المرأة … إنها اليوم ترفض كل قيد، حتى وإن كان من ذهب!
فهز «راهب الفكر» رأسه، وقال هامسًا كالمخاطب نفسه: الحمد لله أني لم أتزوج!
ولم تسمع الزوجة همسَه، فسألته: ماذا تقول؟
– لا شيء … إنما أودُّ أن ألفت نظرك إلى أن الزواج قبل كل شيء، عقد من العقود، لا قيد من القيود؛ عقد بين طرفين لكل منهما حقوق، وعلى كل منهما واجبات، وقد أُخذ رأيك فيه قبل إبرامه، وقَبِلْتِ أن تَحترمي شروطه، فما من أحدٍ يقيدك بقيدٍ … ولكنك مطالَبة بتنفيذ عقد!
– لا يا سيدي لا تغالطني من فضلك! لا فرق بين القيد والعقد إذا كانت الشروط تَمَسُّ حرية الإنسان، وأنت اليوم تسميه عقدًا؛ لأننا أرغمناكم على الاعتراف بحريتنا، ولكنه في الحقيقة قيد، بل لقد كان قيدًا ماديًّا في يومٍ من الأيام، إني لم أزل أشعر بقُشَعْرِيرة كلما تذكرت ما قرأناه في كتاب التاريخ، ونحن تلميذات في مدرسة الراهبات الفرنسية، عن زوجات الفرسان في القرون الوسطى.
لقد كان الفارس من أولئك الفرسان النبلاء، قبل ذهابه إلى الحرب يصنع لزوجته قيدًا من الفولاذ، له قفل ومفتاح يقيد به الجزء السفلي من جسم زوجته، ويطلقون على هذا القيد «حزام العفة» ويظل مغلقًا على هذه المواضع من بدن الزوجة المسكينة، حتى يعود الزوج من حربه بعد مدة طويلة … فيخرج مفتاحه ويحل القيد ويحرر جسم امرأته … ماذا تسمِّي هذه الزوجية؟ أهي عقد أم قيد؟!
– حقًّا إن الأزواج لحمقى! كما قلت أنت الساعة بالضبط! كيف فرطوا في استخدام هذا «الحزام» في العصور الحديثة؟! إنه لحزام مدهش … ما أحوج أكثر الأزواج إليه اليوم! إني لأعجب كيف لا يطالبون بصنعه وإحضاره مع «جهاز» كل عروس بدلًا من «البار» الأمريكاني، الذي لا يخلو منه أثاث في قَرَانٍ حديث!
فحملقت فيه بعينيها … وقالت: أتمزح؟ إنك لا شك تمزح!
– بالطبع، خُذي قولي على أنه مزاح … ما الفائدة؟! كل كلام غير قابل للتنفيذ هو بالضرورة نوع من المزاح!
فقالت، وهي تضحك: وإذا كان هذا قابلًا للتنفيذ؟
– ما كان يقع في غيبة زوجك الذي وقع!
قالها طبعًا في سرِّه، ولزم الصمت، فاستأنفت هي كلامها بغمزة من عينيها كلها مكر: أتحسب المرأة الحديثة من البلاهة، بحيث لا تجد لذلك حلًّا إذا أرادت؟ ثِق بأنها قديرة على أن تجعل لهذا الحزام أو القيد جملة مفاتيح!
– إني مُصدِّقك، والعلم الحديث والصناعة الحديثة كفيلان بمساعدة المرأة الحديثة في ذلك!
فقالت ضاحكة: ليس للزوج المحترم عندئذٍ إلا أن يستبدل القفل والمفتاح بختمٍ من الشمع الأحمر، عليه توقيعه الكريم، لتكمل المهزلة!
– اطمئني! لا أرى في نية الرجال في عصرنا الحاضر أن يقوموا بمهازل من هذا الطراز! ولقد نزلوا فيما أرى عن جميع الضمانات، ولم يتركوا على نسائهم من رقيب غير ضمائرهن وحدها، وأظن النتيجة مرضية جدًّا.
فنظرت إليه لحظة، ثم قالت: لا أحب منك هذه السخرية، كما لا أحب فيك عواطفك الجامدة، ومشاعرك الرجعية … أخبرني! ما دمنا نتكلم بمثل هذه الصراحة! لماذا تستنكر أن يكون للمرأة حريتها في الحب، وهو كل شيء في حياتها؟
– تقصدين حريتها في حب من تشاء كما تهوى؟
– شيئًا كهذا!
– لا لزوم بالضرورة للكلام من الناحية الأخلاقية، فأنا لا أحب مطلقًا أن أعطي أحدًا دروسًا في الأخلاق! فهي ثقيلة لا يحتملها أكثر الناس — وأنت منهم ولا شك — ولا أذكر الفضيلة والرذيلة، والعفة والحياء، فهي ألفاظ فقدت اليوم معناها، ولم تعُد تصلح إلا للاستخفاف والتندر في المجالس والمجتمعات! ولكني أقول لك باختصار: إن المرأة إذا كانت لم تتزوج بعدُ فهي حرة، تحب من تشاء، وتغازل من تشاء، ولكن عليها أن تلتفت إلى هذا الأمر البسيط؛ وهو أن الذي يحطم قواعد المجتمع، لا بد للمجتمع أن يحطمه!
– ثِقْ بأنَّ مجتمعنا العصري اليوم لا يحطم أحدًا.
– تلك مسألة لا أتدخل فيها، وهي متروكة لفطنة المرأة وحكمة المجتمع، فإذا وجدت المرأة أو الفتاة أنها، على الرغم من حريتها الكاملة وانطلاقها الجامح، ما زال المجتمع يحتفظ لها بمكانها المحترم، ويرشحها للزواج المرتجى؛ فهذا وضع … وأما أنها ترى أن المجتمع قد أسقطها من قائمة «الفضليات»، ونفَّر منها طلاب الزواج … وسلَّم لها بالحرية، وحكم عليها بالتشرد؛ فهذا وضع آخر … إن صاحب الأمر والنهي في سلوك المرأة غير المتزوجة هو المجتمع وحده! إنه القيِّم عليها … لا أهلها، ولا نصحاؤها … فهي قد تحررت اليوم — كما تقولين — من سيطرة كل إنسان، ولن يحدَّ من جموحها أحد غير حيطان المجتمع، هي التي تصدها وتوقفها، لترى مكانها بين الأمكنة … المجتمع هو الذي يتولى الآن سلطة الولاية، وهو الذي يمنح الثواب ويوقع العقاب، ويشتد أو يتسامح، ويدمغ المرأة أو الفتاة بطابع السمعة الطيبة والاسم الحسن، أو يكتب على جبينها بإصبع صبغة الأحمر التي تخلط بها شفتيها: «إني غير مسئول عن هذه!»
– تلك هي المرأة الطليقة … والمرأة المتزوجة؟
– المرأة المتزوجة قد أبرمت عقدًا، كما قلت لك، وقد تعهدت فيه بالحب لزوجها والوفاء له … ولا بد أن تفي بوعدها! المرأة اليوم تكثر من الكلام عن الحرية! إن الحرية الحقيقية هي في احترام العقود لا في الإخلال بها.
– ما من عقد — كما قلت لك — يستطيع أن يتحكم في قلبي ومشاعري! إني أحب زوجي وقت العقد، ولكن مَن يضمن لي أني أُقيم على حبِّه بعد ذلك؟ ما قيمة العقود التي تُبنى على عواطف الإنسان المتغيرة؟
– إذا تغيَّرت عواطفك فغيِّري العقد! اذهبي إلى زوجك، وقولي له بكل هدوء: إن عواطفي قد اتجهت إلى شخص آخر، ولم يعد في استطاعتي القيام بتعهداتي في الوفاء لك منذ اليوم! والأمانة تقتضيني أن أطلب إليك الطلاق، ولقد حافظت على اسمك وشرفك حتى هذه اللحظة!
هذا ما يجب أن تفعله المرأة إذا وثقت بصدق عواطفها، ولم تكن هازئة ولا مغامرة ولا ضعيفة عن صد شهوة عابرة … ولكن المرأة تريد أن تأخذ من الزوج اسمه وماله وبيته، لتجعل من ذلك كله إطارًا براقًا لخيانتها! إنها تريد أن تُدخِل الغش في العش، والتدليس في العقد، هذا العقد القائم في الحقيقة على وجود كلٍّ من الطرفين … الزوج عليه الكفاح في سبيل اللقمة، أو في سبيل رفاهية الزوجة! والزوجة عليها الكفاح — على الأقل — ضد نزعات نفسها، ثم إنفاق موارد الزوج في معاشهما المشترك، فلماذا تريد الزوجة أن تختلس مال الزوج، كي تتزين به لرجلٍ آخر؟! لماذا يشقى الزوج من أجل امرأة تخونه مع رجلٍ لم يَشْقَ من أجلها؟ تهزئين بحزام العفة، وبأولئك الفرسان النبلاء، ولا ترثين لهم وهم يذهبون لبذل أرواحهم في الحروب دفاعًا عن بيوتهم وزوجاتهم، ليعودوا فيجدوا هاته الزوجات قد بذلن عرضهن لمن لم يسفك من أجلهن قطرة دم؟! لماذا يحلو للزوجة دائمًا أن تجعل من زوجها ثورًا، يدور ويكد ويكدح في ساقية الحياة، ليروي ظمأ ملذاتها؟!
– يا له من دفاع مجيد عن حقوق الزوج!
قالتها باسمة، وهي تشعل سيجارة، فقال: بل دفاع عن حقوق الطرفين!
– ولماذا لم تتكلم بهذه الحماسة عن خيانة الأزواج؟
– إني لم أُبِحْ للزوج أن يخون زوجته!
– وإذا خانها، أليس لها الحق في أن تخونه؟
– لا.
– النغمة القديمة التي نسمعها من الرجال! تبيحون لأنفسكم ما تحرِّمون علينا لأنكم أنتم السادة ونحن الإماء!
– بل لأن الرجل هو الذي يَعرق، والمرأة هي التي تُنفق! اكدحي كما يكدح زوجك، واعرقي كما يعرق، فإذا تساويتما في التضحيات تساويتما في الحقوق … لا أقول إن الرجل يجب أن يخون، ولكنه إذا خان خان من ماله! ولكن الزوجة تخون من مال زوجها.
ثم هنالك شيء آخر … هو النسل … فالزوج يخون، ولا يدخل على زوجته نسلًا مدلسًا … أما الزوجة فإذا خانت أدخلت على زوجها نسلًا ليس من صلبه! لن تكون هنالك مساواة مطلقة بينكن وبين الرجال في هذا الإثم، إلا إذا تطور الزمن تطورًا آخر، فرأينا الزوجة تناضل في الحياة، وتكتسب بالقدر الذي يربحه الزوج! ثم يستطاع بواسطة العلم أو بغيره من الوسائل أن يُفرَز للزوج نسله عن نسل غيره، بغير وقوع في شكٍّ أو ارتياب، إلى أن يتم ذلك، فلا تتحدثن عن المساواة في الخيانة!
– إذا حدث ذلك فلن تكون هنالك زوجية، ولن يكون لها محل على الإطلاق!
– ولن يكون للخيانة عندكنَّ لذة ولا طعم؛ إذ لن يكون الزوج ضحيتها!
– يا لك من خبيث!
لفظتها في ضحكة ناعمة أخفت ما فيها من كلفة مرفوعة بينها وبينه في الحديث للمرة الأولى! ولم يلحظ هو ذلك، فقد رأى الوقت يمضي ولم ينجز بعدُ شيئًا من المهمة، وبحث عن القلم والورقة بعينيه، ثم قال لها بلهجة الجِد: هلمِّي اكتبي! لقد تكلمنا بصراحة أكثر مما يجوز!
فلم تلتفت إلى القلم والورق، بل نظرت إليه قائلة: على العكس! إني فرحة بهذه الصراحة بيننا في الكلام! إني أشعر براحة كبرى، وأنتَ تحادثني بغير تحفُّظ، وأحادثك بغير كلفة.
– إذن أريحيني أنا أيضًا، واكتبي!
فتنبَّهت للأمر، وصاحت: أكتب ماذا؟! أحقًّا تظن أني امرأة خائنة؟!
فكتم نفادَ صبره، وقال: من قال لك إني أظن ذلك؟! ليس من حقي أن أحكم عليك ولا لك، ولكن واجبي أن أدعوك إلى تحقيق طلب زوجك الذي لن يرجع فيه، وإذا كان لك بي بعض الثقة فاعلمي أن ما رأيت من زوجك يقطع بأن أي حياة زوجية بينكما لم تَعُد ممكنة!
فتأمَّلت قوله لحظة، ثم قالت بنبرة إخلاص: ولكن! ولكني لا أكره زوجي! إني على الرغم من كل شيء أحمل له دائمًا كل احترام، وكثيرًا من التقدير والمودة!
– ليس عندي شك في ذلك!
– إنه يغالي! إنكم تبالغون في النظر إلى ما وقع مني كأنها مأساة كبرى! إنها لم تخرج عن كونها عواطف لا تضرُّ أحدًا، كان من طيشي أن دوَّنتها … ومن سوء طالعي أن وقعت في يده … وهذه ليست أول حماقة تأتيها زوجة … إن من بين صديقاتي المتزوجات سيدة ولعت بالمقامرة إلى حدٍّ أنساها بيتها وزوجها وأولادها، فهي ليل نهار مكبَّة على المائدة تلعب «البوكر الأمريكاني»، وهو اليوم آخر بدعة في السهرات، مع أنه أخطر من «البكاراه»! وقد استنفد مالها، وأضاعت كل ما وصل إلى كفِّها في اللعب، حتى باعت أواني المنزل الفضية لتلعب بها، وزوجها ينظر إلى كل هذا ويضرب كفًّا على كفٍّ … ولكنه لم يفكر في طلاق أو فراق، وقد يكون عَذرها وفهمها … وأدركَ أن هذا أقوى من إرادتها … ولا بد أنه سامحها أو سيسامحها يومًا من الأيام … يجب أن يتَّسع صدر الزوج لهفوات الزوجة، هَبْنِي أخطأت! ألن يأتيَ اليوم الذي أندم فيه؟ ألا تذكر «تاييس»؟ أنسيت أنك أعطيتني يومًا كتاب «تاييس»، لأطالعه؟ لقد طالعته، وعلمت أن هذه المرأة التي قضت حياتها في الدعارة قد انقلبت في آخر حياتها قديسة! وقد غفر الله لها، وقبِل منها التوبة … لماذا لا تتاح لي أنا أيضًا الفرصة التي أتيحت «لتاييس» على الأقل؟ أجبني، ولا تكن قاسيًا عليَّ! أرجوك!
فنظر إليها مفكرًا في الجواب، ثم قال: «تاييس» لم تكن لها طفلة، ولم يكن لها زوج … وثِقي بأن زوجك — على الرغم من كل شيء — يحترم فيك زوجته التي أعزَّها ووثق بها، وأقسم إنه ما من مرة ذكرك أمامي، وهو يروي لي قصتك إلا قال عنك «هذه السيدة» … ولم ينسب إليكِ أي وصف محقر، حتى في أشد ثورات غضبه! إنه رجل مهذب بكل ما في هذه الكلمة من معانٍ، وهو زوج كامل حقًّا … لكن … كل ما في الأمر أنه يرى — بصفته أبًا لطفلة — أن من واجبه أن ينشئها نشأة أخرى، على مبادئ غير مبادئك … وأظن هذا من حقِّه، بل هو واجبه المحتم عليه أمام ابنته، فمن هذا ترين أنك — وأنت الزوجة — لا تملكين أن تكوني مثل «تاييس» الطليقة.
فأطرقت برهة … ثم رفعت رأسها بقوة انتثر لها شعرها الجميل، وجعلت تقول: هذا فظيع، ذلك الذي أسمعه منك، حتى التوبة لا تريدون أن تقبلوها مني! ولكن أنت المسئول منذ اليوم الأول.
ففتح «راهب الفكر» فاه دهشة، وقال: أنا المسئول عن ماذا؟
– إني يوم جئتك هنا — منذ أكثر من عام — لم يكن ذلك للأدب ولا للكتب، بل لأني كنت في أزمة نفسية شديدة … لقد كان مضى على زواجي نحو سنتين … وبدأت أحس شيئًا من خيبة الأمل … أو من الفتور الذي يعتري الحياة الزوجية … إني كنت دائمًا قبل الزواج فتاة ثائرة النفس محبَّة للحياة الدافقة الحارة … شديدة الفضول لكلِّ جديد … أمقت الوتيرة الواحدة في كل شيء: في الحديث، وفي المعارف، وفي المشاعر، وحتى في الحب! إن الحياة كان معناها عندي الحركة، لأن الموت هو الخمود … حركة العواطف الدائمة كحركة الجسم الدائمة … تلك هي الحياة. ولكن الزواج ليس إلا الجمود والركود في صورة علاقة باردة بين خطيبين محبَّين انقلبا صديقين فاترَين … لقد فسر لي هذا ما كنت أسمعه عن كثيرات ممن تزوجن زواجًا موفقًا حُسدن عليه، ومع ذلك كنَّ يبحثن سرًّا عن خليلٍ أو عشيقٍ أو حتى عن مجرد صديق يشعرن بقربه أنهنَّ مع رجل غير الزوج! إن الزوج لم يعد يوحي إلينا بأنه رجل … إنه يوحي إلينا باحترامه ومحبَّته ومودته والرحمة به … إنه كالأخ وابن العم القريب العزيز … ولكنه ليس الرجل … أي ليس ذلك الشخص الغريب الذي يدفعنا الفضول إلى معرفته، ويثير فينا لقاؤه تلك المشاعر الغامضة اللذيذة، وينبِّه فينا غريزة حبِّ التزيُّن والفتنة وانتزاع الإعجاب … ذلك كان إحساسي بعد عام من الزواج … وكنت قد سمعت بك كثيرًا من زوجي إطراءً منه لكتاباتك … ففكرت في لقائك، وذهبت إليك كما تعلم … ولكن للأسف لم تفتح لي صدرك ونفسك، ولم تأخذ بيدي في أزمة قلبي … وتركتني للعواصف والأنواء! إنك لم تفهم وكفى … ولم تُرِدْ أن تفهم!
فاختلع قلب «راهب الفكر»، وأطرق حتى لا تلمح في وجهه شيئًا، ثم تماسك وأمسك بالقلم والورقة، وقال: سامحيني يا سيدتي! هنالك أشياء سأعيش وأموت ولا أفهمها … والآن هل تتكرمين؟
فنظرت إلى الورقة والقلم وهو يدنيهما منها، وقالت بعد ترددٍ: إني … إني لم أفقد كل أمل بعدُ.
قالتها ونهضت لتنصرف، فقال لها في قلقٍ: ماذا أنت صانعة؟!
فأجابت في ابتسامة مبهمة: لن أقول لك الآن … إذا خاب سلاحي الأخير فإني سأحضر لأخبرك. وانصرفت قبل أن تسمع منه جوابًا!