تاييس في التنيس
مضت سبع ليالٍ، وهو يفكِّر في أمر تلك الفتاة؛ لقد وعدها بالمعونة وتركها تعتمد عليه، ولقد ذهبت على أن تعود إليه. ولقد تمَّ بينهما الاتفاق على أن تزوره مرة كل أسبوع، ولكنه حتى الآن لم يعرف السبيل إلى هداية هذه الفتاة إلى دين «الفكر»، لقد بدأ يداخله الشك في نجاح مهمته … إن الراهب الديني يستطيع أن يَهدي الغانية الضالة إلى حظيرة السماء بغير عناءٍ، لأن جمال الفضيلة ظاهر للعيان، وفكرة الخير والشر في ذاتها لا تحتاج إلى برهان، ومبادئ العقائد الإلهية في مقدورها — بغير إعدادٍ طويل، أو تدليل وتعليل — أن تنفذ وشيكًا إلى القلوب … أما شئون الفكر والأدب فهي شيء لا يُغرَس في كل الأحيان غرسًا … إنها نزعة من نزعات الطبع، قد تُولَد في الإنسان أو لا تولد، فكيف يلقي بذورًا في أرضٍ لم يهيئها ربُّها للإنبات والإزهار؟! ولكن … مهلًا، في اعتقاده أن كل نفس إنسانية قد هيَّأها ربُّها لالتقاط طيِّب البذور، وأعدَّها لاستقبال نور الجمال. إنما العبرة بالباذر، والأمر مرهون بقدرة الكاشف عن أسرار الحسن العلوي … لا ينبغي أن يرتاب مرة أخرى في رسالة راهب الفكر، ولا يجب أن يضيِّع — بعد اليوم — وقتًا في مذاكرة هذه المسألة، إنما عليه أن يوجِّه همَّه إلى التفكير في الطريقة التي سيتبعها في معونة الفتاة.
وضاق صدره من طول البحث — عبثًا — كل تلك الليالي، وخطر له أن يسترشد بما فعله «راهب تاييس» فمدَّ يده إلى كتاب «أناتول فرانس» … إنه لم يفتحه منذ نحو عشرين سنة، ولقد نسيَ ما فيه، فغرق بين صفحاته ليلتَين … عجبًا! لكأنه يقرؤه للمرة الأولى … إنه لم يفرغ منه بعدُ، لقد قرأ أكثر من نصفه، فاتضحت لِعَينه أشياء، فصاح لنفسه: ما أشقى الآدميين! لقد كُتب عليهم العمى، وهم يحسبون أن لهم عيونًا مبصرة، إنا لا نبصر حقيقة الأشياء إلا بعيوننا الداخلية، ولا ندرك حقيقة الأمور إلا باتصالها، واصطدامها بجوهر مشاعرنا، إني مهما بلغت من سمو العقل وذروة الفكر، ما كنت أنفذ إلى أعماق الراهب «بافنوس» إلا اليوم … نعم اليوم، لأني أشعر بما كان يشعر به، وأحس أن الظروف تضعني في الموقف الذي وضعتْه فيه … هنالك مع ذلك فرق بيننا؛ إنه هو الذي ترك صومعته في بطن الصحراء، ومشي الليالي الطويلة حافي الأقدام، يطأ الحشرات، ويأكل عشب الأرض، ليذهب إلى الغانية الجميلة «تاييس» في مدينة «الإسكندرية»، كي يهديها إلى نور السماء … إنه تجشَّم من أجلها الأخطار والأهوال … ما الذي حمله على ذلك؟ إن تلك الفكرة لم تنشأ في رأسه إلا فجأة ذات مساء؛ إذ خطر له طيفها الجميل، وذكر رؤيته إياها أول مرة في مدينة البحر، قبل أن يهب الدينَ حياتَه. وذكر تحرُّقَه شوقًا إليها في ذلك الوقت، مثل غيره من بقية المغرمين. ولكن حب العقيدة طوى حب المرأة، فاعتصم بالوحدة في قلب الصحراء، حتى بدا له اليوم ذلك الخاطر العجيب؛ أن يقوم بتلك المعجزة، ويربح هذه الغانية للدين.
وطفق يلتهم الصفحات شوقًا للوصول إلى ذلك الموقف من الكتاب، حيث يقف «بافنوس» أمام «تاييس»، ليعرف وسائله، ويفقه كلماته، التي استطاعت أن تهز تلك النفس الزائغة، وتبهر تلك الأعين الناعسة، وتفتح ذلك القلب الفاجر العابث، لجمالٍ نبيلٍ، لم يكن له به من قبل عهدٌ!
إني أحبك يا «تاييس»، أحبك أكثر من حياتي، وأكثر من ذاتي! من أجلك غادرت صحرائي! من أجلك لفظت شفتاي — المكتوب عليهما الصمت — ما لا ينبغي أن يُسمع … من أجلكِ اضطربت نفسي، وتفتَّح قلبي، وانبعثت منه أفكار، كأنها ينابيع دافقة يرددها الطير والحمام، ومن أجلك مشيت الليل والنهار، خائضًا غمار رمال تسكنها العفاريت! من أجلك سرت بقدمي العاريتين فوق العقارب والثعابين! نعم!
أحبك، لا على مثال هؤلاء الرجال الذين يجيئونك محترقين في مطالب الجسد، كأنهم الذئاب. أحبك في الله، ولدهور الدهور! إن ما أحمله لكِ ليس ما تحمله الذئاب الضارية، أو الثيران الثائرة … إنك محبوبة لدى هؤلاء، ولكنه حب السبع للغزال! إن غرامهم المفترس يفتك بكِ حتى قرارة نفسكِ. أما أنا أيتها المرأة، فإني أحبك حب الروح، حب الحقيقة! الحب في صدري هو حرارة الحق … هو الإحسان الإلهي! وإني لأَعِدُك بما هو خير من النشوة الفانية، والحلم الزائل! أَعِدُك بأفراح السماء! إن النعيم الذي آتيكِ به لا ينتهي أبدًا! إنه لعجب من العُجاب! إنه لإعجاز يفوق كل إعجاز! ولو قدِّر لسعداء هذه الدنيا أن يلمحوا مجرد ظلِّه لخرُّوا في الحال أمواتًا من الدهشة!
أيتها السماء! اشهدي! إني لن أترك هذه المرأة حتى أضع في جسدها روحًا مماثلًا لروحي، فألهميني كلامًا ملتهبًا يذيبها، كما تذوب الشمعة تحت أنفاسي.
أيتها المرأة ألا فلتكن أصابعي قادرة على أن تصنعك من جديدٍ، وتطبعك بطابع جمال جديد لتصيحي بعدئذٍ، وأنت تذرفين العبرات من الفرح: «اليوم فقط قد ولدتُ، اليوم فقط رأيت النور!»
لم يقرأ أكثر من ذلك، لقد أدرك النتيجة! إن هذا الرجل الذي يستطيع أن يلقي في أذن امرأة مثل هذه الكلمات لا بد بالغ منها ما يريد! إن المرأة، هذه الزهرة الأرضية السماوية في آن، لتتفتح أكمامها لمجرد تساقط لفظ «الحب» النديِّ، مهما يكن الثوب الذي اتَّخذه «الحب» ومهما تكن غاياته ومراميه! إن إيمان المرأة هو الحب … ها هنا السبيل الهيِّن السهل، الذي يوصِّل المرأة إلى الإيمان، إلى كل إيمان. وعندئذٍ اختلج قلبه … إن موقفه من هذه الفتاة يختلف، وينبغي أن يختلف عن موقف الراهب من الغانية، لا لأن قلبه لا يستطيع أن يمتلئ حبًّا بهذه الفتاة، بل لأنه لا ينبغي له أن يفعل. ومع ذلك فإن الحبَّ أيضًا هو الذي قاد الفتاة إلى مكان عزلته، مجتازة صحراءه الفكرية على قدميها الصغيرتين، وحذائها ذي الكعب العالي الذي لم يطأ غير البساط الوثير، والرخام اللامع، والزهر المتساقط على عشب الحدائق. نعم، حبُّها لخطيبها المثقف هو الذي أتى بها من عالمها إلى عالم هذا المفكر.
ولبث ينتظرها هذا الصباح في ساعة الموعد، فلم تأتِ؛ فقال لنفسه وهو يتنفس الصعداء: لقد استردَّها عالمها المضيء، وجذبتها دنياها البراقة، وكُفيتُ أنا مئونة الفخ في دمية من طين وتراب!
على أنه لم يستطع أن يخفيَ ما قام في أعماق نفسه من اضطراب، ليس يدري له سببًا، ولا يفهم له تعليلًا: إنما هو نوع من الشعور بالأسف العميق على ماذا؟ ولماذا؟! لا يستطيع أن يجيب؛ فالأمر يخرج عن نطاق ذهنه الواعي!
وطُرِقَ البابُ بغتةً، وظهر رجل نوبي في ثياب نظيفة أعلمه أنه سائق سيارتها، وقدَّم إليه رسالة منها وانصرف. إنها تعتذر عن تخلُّفها عن الميعاد، وتقول إنها الآن في لباس «التنيس»، وإنها خجلت من القدوم إليه، والمثول في حضرة «كاهن الفكر» بهذه الثياب، وإنها لا تجد بعدُ من نفسها الشجاعة على تضحية مثل هذا الصباح الرطب الجميل في سبيل شيء، وإن كان هذا الشيء هو الأدب والفكر … وإنها الساعة تستنشق الهواء بملء رئتيها، وتعرض شعرها المرسل وذراعيها العاريتَين لشمس هذا الشتاء البديع. وإنها تتأمل النيل يلمع في مجراه الأخضر، كأنه سيف ملقًى فوق أعشاب حديقة، أو كأنه شريط من الفضة فوق قبعة خضراء … وهنا تسأله الصفح عن إيراد هذا التشبيه؛ فهي لم تنسَ بعدُ أنها امرأة، وأن طراز القبعات الحديث ما زال يشغل من التفاتها أكثر مكان. وختمت كلامها بتكرير الْتماس المغفرة، راجية منه أن يستبعد ما قد يخالجه من سوء ظنٍّ بها، وأن يثق بثباتها على العهد، وتمسُّكها برغبتها، وإيمانها بقوة عزيمتها، ونجاحها آخر الأمر فيما وطنت النفس عليه، من السمو بروحها وفكرها إلى المستوى اللائق بخطيبها الحبيب إلى قلبها!
إنها كتبت بالطبع هذه الرسالة بخطٍّ سريع رديء، وعبارات لا تخلو من أخطاء في الهجاء، وأسلوب فطري أقرب إلى أسلوبها الحديث من أسلوب الكاتب في الأداء، ولكن … أي نفحة عاطرة تنبعث من هذا الكلام؟ وأي نفس حية ذكية تكاد تَثِبُ من بين هذه السطور؟ إذا صدق ظنُّه فإن هذه الفتاة نبعٌ صافٍ لا ينقصه غير الكشف عن أعماقه، حتى يتدفق ماؤه العذب، يروي النفوس وينعش الأذهان … إن جوهر الروح الأدبي عند هذه الفتاة وهي لا تدري! فالأدب روح قبل كل شيء، أما الأسلوب فأداة تُكتسَب فيما بعدُ بالمران الكثير، والصبر الطويل، وليس المنشود لهذه الفتاة فيما يعتقد حذق الأسلوب الأدبي من حيث هو خلق وإنشاء، بل من حيث هو روح يضيء داخل نفسها البلورية، فينطلق لسانها بالحديث الرفيع، ويطلق من صدرها المشاهد العالية والأفكار السامية!
آه! إن سبيله الآن قد أشرق بالنهار المبين، وعمله قد تحددت خطوطه وأركانه! إنه يريد هو أيضًا أن يخلق هذه الفتاة خلقًا جديدًا، وأن يجعل منها عروسًا تمرح بشعرها المرسل وروحها المضيء في مروج الفكر الرحبة المزهرة، يريد أن يجعلها ملكة من ملكات المجالس، ممن جاءت أخبارهن في التواريخ، تعرف كيف تمسُّ، بصولجان روحها، نفوسَ الرجال، كما يمس المِرود العين، فإذا تلك النفوس قد تفتحت لترى ما لم ترَ، وإذا النشاط قد دبَّ بها فتثمر القرائح وتنهض الهمم، وإذا الخير قد فاض، والحياة قد نبضت في الأشياء والكائنات.
آه! إن المرأة هي كنز الكنوز، ولكنه مدفون في سابع طبقات الأرض، فمن ذا يستخرجه غير ساحر من حذاق الكهان … بل هي معجزة المعجزات، مطوية في سابع طبقات السماء، فمن ذا يستنزلها غير راهبٍ شديد الإخلاص، قوي الإيمان؟!