الزوج
مرَّ يومان على زيارة الفتاة، وإذا الباب يُطرَق على «راهب الفكر»! إنه ليس موعدها، فمن الطارق؟ وأذن في الدخول، وإذا هو أمام رجل ناضج السنِّ، حَسَن السَّمت، أنيق الثياب، مشرق الوجه، لطيف الإشارة، كل شيء فيه يدعو إلى احترامه ومحبته والائتناس به، فحيَّاه وقدَّم له مقعدًا، فجلس وقال: إنك لا تعرفني، ولكني أعرفك من كتبك، منذ زمن طويل. ولست أدري ما الذي أقعدني حتى الآن عن الحضور إليك! من الأمانة أن أبادر فأقول: إن الفضل في حثِّي على القدوم يرجع إلى شخص آخر.
فنظر صاحب الدار إليه نظرة السؤال، فمضى الضيف يقول: إلى زوجتي!
فأدرك رجل الأدب من الفور … غير أنه رأى أن يتريَّث، فقال: أَلِيَّ الشرف أن تكون هي أيضًا من بين قرائي؟
فقال: أشدُّ قرَّائك تحمسًا!
فأبدى المفكِّر دهشته: كيف ذلك؟
فقال الزوج مبتسمًا: إن لهذه المسألة قصة طويلة، ولكني أكتفي الآن بالقول: إن زوجتي التي كانت تكره الكتب، قد بدأت منذ أسابيع تُقبِل على القراءة على نحوٍ أدهشني! لقد قرأت كتاب «تاييس» في ثلاث ليال!
فملك الأديب نفسه حتى لا يبدو على وجهه العجب … إن الفتاة قد كذبت عليه إذن يوم ردَّت إليه الكتاب قائلة: إنها لم تطالع منه سوى بضع صفحات! كما كذبت عليه إذ زعمت أنها ليست بعدُ سوى خطيبة … لماذا فعلت ذلك؟ ولم يسترسل في التفكير، فقد مضى الرجل يقول: وإنها تقرأ الآن كتبك كلها، وتكاد تفرغ منها، وإنها تناقشني فيها مناقشة تحرجني أحيانًا، وتسألني عنك أسئلة لا أستطيع عنها جوابًا، وأمس حينما أخبرتها أني لم أرك قطُّ، سخرت مني، ثم غضبت، ولم تبسم حتى وعدتها أن أراك وأزورك وتنشأ بيننا صلة!
فقال للزوج: إني سعيد بمعرفتك، وأودُّ لو أُلقي عليك سؤالًا: أسبق للسيدة زوجتك أن رأتني؟
فأجاب من فوره: لست أظن!
فازداد عجبه! إنها لم تخبر زوجها إذن بزيارتها له … إن مسلكها غريب! وكتم ما في نفسه، والتفت إلى الرجل، وقال: وما السر في إقبال زوجتك على القراءة أخيرًا بعد طول الإعراض؟
فقال الزوج: لست أدري، وهذا ما يوقعني في الحيرة!
فقال الأديب كالمخاطب لنفسه، وهو مطرق مفكر: نعم، هذا ما يحيرني أنا أيضًا!
ونظر الرجل إليه مستفهمًا: أنت أيضًا؟
– نعم إن الإنسان لا يحب الكتب بين يوم وليلة!
– إن زوجتي على جانب هائل من الذكاء وقوة العزيمة!
– هذا لا يكفي لتعليل الأمر.
ومرَّ برأسه عندئذٍ خاطر، فبادر يسأل الزوج: أرأيتها قرأت شيئًا آخر غير «تاييس»، وغير كتبي؟
فأجاب على الفور: لا، لم تقرأ غير ذلك، ولم تحادثني في غير ذلك!
وهنا أدرك — أو خيِّل إليه أنه أدرك — السبب الحقيقي … إنها تريد أن تنقب عن شيء، وترفع النقاب عن شيء … آه للمرأة! ينبغي أن نستثير فضولها، وأن نوقِظ حب الاستطلاع فيها، حتى نحملها على فعل العجائب! لقد فهم الآن كلَّ شيء … لقد نجح عفوًا — ومن حيث لا يتوقَّع — نجاحًا باهرًا في وضع يده على مبدأ الطريق، وفي سرعة لم تخطر له على بالٍ قد ظفر بنتائج رائعة.
كان ينبغي أن يعرف من أول الأمر، أنَّ الوسيلة الأولى للترغيب في القراءة: هي استثارة الفضول الشخصي … فإذا أردنا من طفل أن يجتهد في مطالعة رسالة، فلنخبره أنَّ فيها كلامًا عن هدايا ولعب ستُهدى إليه، وأخبارًا ستدخل عليه السرور … أما القراءة المجردة التي يبتغي منها اللذة الفكرية العليا وحدها، والاستمتاع بالجمال الذهني لذاته، فهي التي دونها المصاعب، وهي التي تحتاج — في اكتساب ملكتها — إلى زمن ومران.
على أنَّ هنالك أمرًا ما زال يكتنفه الظلام؛ ما هذا الفضول الذي دفع الفتاة إلى قراءة «تاييس» كلها في ليالٍ ثلاث، وإلى مطالعة كتبه بهذا التحمُّس والنشاط؟ أتراها أرادت بعد ذلك النفوذ إلى حقيقة شخصيته هو في أعماق كتبه؟! إذا كان هذا ما رمت إليه، فما الدافع؟ ألحظت شيئًا؟ كلَّا … إنه يفترض لهذه المرأة من الذكاء ما لا يمكن أن يحوي مثله عقل أنثى!
وقطع الزوج عليه تأملاته بقوله: كان ينبغي أن أقول ساعة دخولي الآن: إن الغرض من زيارتي أيضًا هو تقديم خالص شكري، وإظهار اعترافي بالجميل … إذ لولا كتبك …
فرفع الكاتب رأسه وقال على عجلٍ: كتبي لم تصنع شيئًا … إنَّ زوجتك لها من غير شك نفس رفيعة، وإحساس دقيق، وروح نبيل!
فقال الرجل بنبرة حارة: نعم، ولكنَّ هذه النفس الرفيعة النبيلة لم تظهر لي وتُشرق لعيني وبصيرتي إلَّا أخيرًا … إلَّا يوم قرأتكَ … إنَّها يا سيدي قد انقلبت مخلوقًا آخر في خلال أسابيع. لطالما تمنَّيت أن أرى زوجتي في صورة أخرى أرفع وأسمى من هذه الصورة التافهة للفتاة الطائشة التي لا تعرف غير «الخياطة» و«السينما» و«السباق» و«التنيس» و«السيارة» و«الحلاق» و«التواليت»!
تلك الفتاة الجاهلة ذات التعليم الزائف، لا يعدو حديثها بضع عبارات فرنسية تلوكها في سماجة كلما أحرجتها الظروف! تلك الفتاة المسكينة المغرورة، التي تحسب أنها متمدنة، لأنها عرفت كيف تضع بين أناملها إصبع الأحمر … تلك الفتاة التي تعرف أن لها فمًا يجب أن يُملأ، ولا تعرف أن لها رأسًا يجب أن يُملأ أيضًا، إذا أرادت أن تجعل من نفسها شخصًا جديرًا بالاحترام … إني كدت أقنط يا سيدي من المرأة في بلادنا … ولطالما قلت لزوجتي إنها قد تظفر مني بالعطف، ولكنها لن تظفر مني أبدًا بالإجلال الواجب لها، إلا إذا عرف عقلها كيف يخاطب عقلي، وهي لن تبلغ هذه المرتبة حتى تقرأ ما أقرأ، وتتذوق من شئون الفكر ما أتذوق، وتستطيع أن تسدَّ فراغ حياتنا الطويلة بحديثها الطلي المفعم بألوان الغذاء الفكري المهضوم!
ومضى الزوج في مثل هذا القول … والمفكر يصغي إليه في ظاهر الأمر، ولكنه في الحقيقة كان يفكر في مشكلة بدت له الساعة: إن هذا الرجل لا يعرف أن زوجته قد زارت هذه القاعة مرارًا قبل اليوم … إنها لم تُخبره — وهذا شأنها — ولكنه هو … راهب الفكر! هل يجوز له أن يمضي في صمته، ولا يُفضي إلى الزوج بما حدث؟ هل يليق بمثله الكتمان؟ على أنه من جهة أخرى يخشى إذا هو أخبره أن يرتكب حماقة، ويعرض هذه الزوجة لغضب زوجها، ويضعها موضع الحرج لإخفائها الأمر! ماذا يصنع؟ أينتظر حتى يبحث الموقف معها؟
لكن … هَبْهَا سبقت فبسطت لِبَعلها اليوم ما كان من شأنها معه، ويعلم الزوج أنه لم يفاتحه والظرف مناسب والفرصة مواتية، فماذا يكون موقفه؟!
صاح في أعماق نفسه: «آه! … لماذا فعلت تلك المرأة ذلك؟ تبًّا للنساء! اللهم ألهمني مخرجًا!»