رحلة إلى … قلب العصابة
عندما انطلق «بو عمير» بسيارته من البوَّابة الصخرية للمقر السرِّي للشياطين، كانت مُهمَّته واضحةً في ذهنه. لقد ودَّع الشياطين مؤقَّتًا؛ فهناك خطةٌ مرسومة سوف يستعين فيها ببعض الشياطين، إلا أن هذه المهمَّة التي خرج لها الآن تحتاجه هو فقط … إنها مُهمَّة رجلٍ واحد.
كانت السيارة تنطلق بسرعة الصاروخ في طريقها إلى «الجزائر»، حيث يستقلُّ الطائرة من هناك إلى «باريس». إن مُهمَّته لن تكون في «باريس» ذاتها، بل ستكون المهمَّة في مدينة «ريمس» الصناعية، التي تقع في شمال «فرنسا». إن مقر العصابة الدولية فيها، ولا يستطيع أحد الوصول إليه. إنه الآن يستعيد كلَّ التفاصيل التي ذكرها له رقم «صفر»، وتلك المناقشة التي دارت بين رقم «صفر» وبين الشياطين. إنه يشعر بالسعادة لأن الاختيار وقع عليه هو للقيام بهذه المهمَّة … وتذكَّر قول «إلهام»: إنه يجب أن يصحبه … أحد، لكن رقم «صفر» ردَّ عليها قائلًا: إنها مهمَّة رجلٍ واحد. إنه وحده الذي يستطيع أن يفتح الطريق … لاشتراك آخرين في المغامرة.
إنه يتذكَّر أيضًا كيف صمَت رقم «صفر» قليلًا قبل أن يقول: لقد وقع الاختيار على «بو عمير» لأن هناك كثيرًا من الجزائريين يعملون في «فرنسا». وأنتم تعرفون ذلك التاريخ الطويل بين «الجزائر» و«فرنسا»، والنضال الطويل الذي ناضلته «الجزائر» من أجل الاستقلال. ووجود جزائريين كثيرين في «فرنسا»، سوف لا يلفت النظر إلى «بو عمير»، كما أن مدينة «ريمس» نفسها، يسكنها أكثر من خمسة آلاف جزائري.
كان الطريق الساحلي الذي تقطعه سيارة «بو عمير» هادئًا … الجو رائق، والسماء تُنبئ بيومٍ مشرق. لقد كان الوقت صباحًا عندما انطلق «بو عمير» بسيارته من المقر السِّري للشياطين. كان يُفكر: إن هذه أول مرةٍ يخرج فيها في مغامرةٍ بمفرده، وهذا يجعله يشعر بالحماس. إنه سوف يلتقي بالعصابة وحده … وهو المسئول عن كل شيء.
إن «بو عمير» يتذكَّر تلك الكلمات التي قالها له رقم «صفر»: إنها مغامرةٌ عقلية؛ فأنت وحدك لن تستطيع التغلُّب على عصابةٍ بأكملها، إذا أصبح الصراع بالأيدي.
ستذهب إلى «الجزائر» وكأنك قادمٌ منها … يجب أن تتخفَّى جيدًا، وتبدو كأي جزائريٍّ ذاهب للعمل في «فرنسا». تستطيع أن تفعل ذلك بسهولةٍ إذا استخدمت عقلك جيدًا.
أخذ يستعيد كلَّ المعلومات التي زوَّدها بها رقم «صفر» عن تلك العصابة «الغامضة». رئيس العصابة يُدعى «بالمي»، وهو رجل متقدِّم في السن، يتمتَّع بذكاءٍ خارق، اشترك مع قوات الاحتلال الفرنسية للجزائر، وعاش في «الجزائر» سنوات طويلة. هادئ الملامح، تبدو عليه الطيبة وإن كان غير ذلك. أُصيب بحالةٍ عصبيةٍ تركت آثارًا في عينه اليمنى. يتحدَّث العربية الفصحى، وبعد حصول «الجزائر» على استقلالها، خرج من الجيش الفرنسي، ثم انضمَّ إلى عصابة من فروع «المافيا»، ولم يمضِ عليه عام في العصابة حتى استطاع أن يستقلَّ بنشاطه الإجرامي، وأن يتزعَّم مجموعةً من الخارجين على القانون، ونقل نشاطه من «روما» حيث كان فرع عصابة «المافيا»، إلى مدينة «ريمس» الفرنسية. وقد تجمَّعت عصابته الجديدة التي بدأت تفرض نفوذها على أماكن كثيرةٍ في العالم. واصطدمت عصابته الجديدة بالعصابة القديمة، فاستطاع أن يتغلَّب عليها، فانضمَّ إليه باقي أفراد عصابة «المافيا» … ولذلك فكل العصابات الدولية تعرفه، وتعرف قوته ونفوذه.
كان «بو عمير» يستعيد كلَّ هذه التفاصيل، ويُفكِّر في أنه سوف يلتقي مع شخصيةٍ إجراميةٍ من الطراز المخيف.
ومن جديد، بدأ يستعيد معلوماته عن أفراد العصابة، كما قالها رقم «صفر»: الرجل الثاني بعد «بالمي» هو «مارسان» … شابٌّ في الثلاثين. قوي العضلات، يُجيد إطلاق الرصاص بكلتا يدَيه. كان أحد الرجال البارزين في عصابة «المافيا»، غير أنه كان معجبًا بزعيمه الجديد «بالمي». عقلية فذةٌ في الإلكترونيات. يهوى الصيد. اشترك في الهجوم على «بنك سويسرا القومي» الذي اهتزَّت له الدنيا … ورغم أن عددًا من أفراد العصابة قد قُتل في هذا الهجوم، إلا أن «مارسان» استطاع ببراعة أن ينجو، ويعتمد عليه «بالمي» في المهمَّات الصعبة.
«باولوس» هو الرجل الثالث … أعور … بعد أن فقد عينه الأخرى في مُهمَّة إجرامية قام بها. قصير القامة، قوي، سريع الحركة، يبدو كالنائم وإن كان شديد اليقظة.
«لوثيلا» … فتاة في الخامسة والعشرين، انضمَّت للعصابة منذ خمس سنوات، واستطاعت أن تنال ثقة «بالمي» … تُجيد فنون التنكُّر، وتتحدَّث عددًا من اللغات. من أصل أمريكي، وقد اشترك أبوها في الحرب الفيتنامية، وقُتل في الحرب. ويُسمُّونها «الثعبان»، وتُجيد فنَّ الحصول على المعلومات.
كان «بو عمير» يستعيد معلوماته عن العصابة … إنه يتذكَّر أن رقم «صفر» قد قال: إن هؤلاء الأربعة هم أهم رجال العصابة، أمَّا الباقون فهم أفراد عاديون. صحيح أن هناك رؤساء لمكاتب العصابة في أنحاء كثيرةٍ من العالم، إلا أن المهم هو مقرُّ العصابة ذاته.
أُضيئت لمبةٌ حمراء في «تابلوه» السيارة، فرفع السمَّاعة المعلَّقة أمامه، وسمع صوت المتحدِّث، قال «بو عمير» بعد أن استمع للحديث: نعم إنني بخير. تحياتي إلى الشياطين. ثم أخذ يستمع قليلًا، ثم أجاب: المؤكَّد أنني أفتقدكم خلال هذه الساعات. سوف أتحدَّث إليكم عندما أصل. تحياتي.
وضع السمَّاعة، لقد كان المتحدِّث هو «أحمد» … إن «بو عمير» يتذكَّر تلك اللحظة الرقيقة التي غادر فيها المقر السري للشياطين.
شدَّ «أحمد» على يده وقال: سوف نفتقدك، لكننا سوف ننتظر رسائلك … إننا على استعدادٍ للوصول إليك في أية لحظة.
ضغط زرًّا في «التابلوه»؛ فانسابت موسيقى ناعمةٌ تملأ فراغ السيارة. ففي كل مغامرة، كانت السيارة مملوءةً بالشياطين، يتناقشون، ويضحكون. كم هم أعزَّاء هؤلاء الأصدقاء الشياطين!
تجاوزت السيارة الحدود الليبية التونسية، وظهرت المراعي الخضراء. جميلةٌ تونس. لم يتوقَّف «بو عمير» لحظة، كانت خطته الوصول بأقصى سرعةٍ لبدء المهمة. كانت الشمس قد مالت في اتجاه الغرب، وبدأت حدة الضوء تخف، ومن بعيد، كان يرى بعض الرجال الذين يعملون في الحقول. إنه يتذكَّر مرات كثيرةً جاء فيها إلى «تونس»، غير أنه لم يكن وحده … وتذكَّر تلك الليلة التي سهر فيها على شاطئ البحر المتوسِّط مع مجموعة الشياطين.
مضى الوقت سريعًا، وأشار عدَّاد السرعة إلى اقتراب الحدود الجزائرية. لم يمرَّ وقت طويل حتى ظهرت بوابة الحدود، حيث يقف عددٌ من رجال الشرطة التونسية، يتبعهم عدد من رجال «شرطة الجزائر». ضغط كلاكس السيارة يُحيِّي رجال الشرطة الذين أسرعوا بإنهاء الإجراءات حتى يُواصل طريقه بأسرع ما يمكن.
أصبح «بو عمير» داخل الأراضي الجزائرية الآن، وعليه أن يتجه إلى مدينة «الجزائر» العاصمة. كانت الجبال ترتفع في شموخٍ على جانبَي الطريق الذي يشقُّه ويتلوَّى داخله كأنه ثعبانٌ ضخم، وتذكَّر اسم «لوثيلا» عضو العصابة التي يُسمُّونها «الثعبان».
ظلَّت السيارة في اندفاعها تمر وسط القرى الكثيرة المتناثرة في أراضي «الجزائر»، أخيرًا لاحت «الجزائر» العاصمة.
أبطأ السرعة، وأخذ طريقه إلى المقر السري للشياطين في العاصمة الجزائرية …
عندما توقَّف أمام المقر، قفز بسرعة من السيارة، وأخذ طريقه إلى الداخل، وما كاد يفتح الباب حتى اتجه مباشرةً إلى التليفون ورفع السمَّاعة، ثم أدار القرص واستمع قليلًا، ثم سأل: هل الضابط «نعيم» موجود؟
استمع لحظة، ثم قال: أشكرك. قد أتصل به مرةً أخرى. نعم. «محمد بو شال». نعم. نعم. هذا اسمي! أشكرك.
وضع سمَّاعة التليفون، ثم نظر في ساعة يده، إن الساعة تتجاوز السادسة الآن … عليه إذن أن يتَّجه إلى شركات الطيران؛ علَّه يجد مكانًا إلى «باريس»، فأسرع بالخروج، وركب سيارته، ثم انطلق إلى شركة الطيران الجزائرية … غير أنه لم يجد طائراتٍ مسافرةً اليوم، وكان عليه أن ينتظر إلى بعد غد، فانصرف إلى شركة الطيران الفرنسية … اقترب من موظَّفة الاستعلامات، وسألها عن أول طائرةٍ إلى «باريس»، فنظرت في ساعة يدها، ثم أكملت: بعد ساعة!
شعر «بو عمير» بالفرح، فقال بسرعة: هل أجد مقعدًا فيها؟
جرت عينا الموظفة على «تابلوه» أمامها، ثم نظرت إليه مبتسمةً وقالت: مع الأسف الطائرة كلها مشغولة.
انتظرت قليلًا، ثم قالت: لكن يمكن أن تترك رقم تليفونك، فنضعك في قائمة الانتظار.
قال «بو عمير» في هدوء: ما هي احتمالات السفر؟
ابتسمت الموظَّفة وقالت: إنها مسألة ظروف … فقد يتخلَّف أحد الركَّاب.
ترك «بو عمير» رقم تليفونه، ثم انصرف؛ ليبحث في شركات الطيران الأخرى … غير أنه في النهاية لم يجد مقعدًا واحدًا … كانت كلها مشغولة، أو أن طائراتها قد أقلعت، أو أن رحلة طيرانها سوف تكون غدًا، أو بعد غد.
لم يكُ أمام «بو عمير» إلا أن يعود إلى المقر في انتظار الظروف … نظر في ساعة يده، كانت قد مرَّت نصف ساعة منذ غادر مكتب شركة الطيران الفرنسية …
ضغط بنزين السيارة التي انطلقت في طريقها إلى المقر السري، وعندما أوقف السيارة، قفز منها مسرعًا إلى داخل المقر، وعندما اقترب من الباب، كان جرس التليفون يدق ففتح الباب، واندفع إلى الداخل.
ما إن وضع يده على السمَّاعة يرفعها حتى انقطع الاتصال!
فكَّر لحظة، لقد كان هناك أكثر من احتمال!