الفصل الخامس
النبي المضاد
ماذا يقول آخر ملحد توحيدي؟
في سنة ١٩٤٩م نشر إميل سيوران (١٩١١-١٩٩٥م) كتابًا من نوع
خاص؛ لأنه لا يواصل إرادة الحقيقة كما تقول نفسها، بل ينهال
على القارئ بكمٍّ هائل من المفارقات التي تفكِّر تحت وقع
نزعة صوفية تستحوذ على كلِّ ما هو مرتاب فينا، وتجعل كل
خطاباتنا التقليدية عن الإلحاد غباءً ميتافيزيقيًّا.
لقد كان عنوان الكتاب هو
رسالة في
التحلل١ (
Précis de décomposition)، وقد وُصف بأنه
«ولادة جديدة»
٢ للمؤلف بعد كتاباته الأولى باللغة الرومانية.
وهو نفس عنوان القسم الأول من الأقسام الخمسة المكونة للكتاب
(ص٧–١٣٤)، إلى جانب «مفكر المناسبة» (ص١٣٥–١٥٥) و«وجوه
الانحطاط» (ص١٥٧–١٧٦) و«القداسة وتكشيرات المطلق» (ص١٧٧–٢٠٠)
و«ديكور المعرفة» (ص٢٠١–٢٥٢). وهو كتاب علينا أن نقرأه في
صِلة وشيجة مع كتابَين آخرَين قريبين منه؛ هما
أقيسة المرارة (١٩٥٢م)
٣ و
غواية الوجود (١٩٥٦م).
٤
ربما لا يكتب سيوران حسب «منهج» نسقي، لكنه يمتلك «طريقة»
خاصة في الكتابة.
٥ وهو لا يدَّعي أكثر من أن يكون «بطلًا سالبًا»،
٦ ونصوصه لا تعوِّل إلَّا على «كتابة المفارقات»،
٧ حيث يَعِدُنا المفكِّر بأن يفكر ضدَّ نفسِه في
كلِّ مرة، في نوع من «نبوءة الأسوأ» (
prophétie du pire)
٨ ولكن بواسطة خيبة أمل استراتيجية من الكينونة في
العالم.
ومنذ القطعة الأولى من الكتاب يكشف سيوران عن «العدو» الذي
يجدر بالمفكِّر أن يحاربه: إنها سلالة «التعصُّب». من لا
يؤرخ جيدًا للتعصب الذي يخترق ثقافته لا يمكن أن يبدأ في
التفكير. التعصب ليس فكرًا، بل هو لحظة تخلِّي الفكرة عن
طابعها المحايد وتحوُّلها إلى «اعتقاد» يريد أن يصبح
«حدثًا»؛ ثمة حالة «صرع» تصيب الفكرة فتنقلب إلى «مزحة دموية»؛
٩ ومن ثم يبدو البشر في نظر سيوران بمثابة
«عبَّاد أوثان بالغريزة»؛ ومن ثَمَّ إنَّ «القدرة على
العبادة» لديهم هي «المسئولة عن كل جرائمهم».
١٠ هم دومًا في حاجة إلى الإيمان بشيء ما، إلى
الْتهام معبود ما.
يبدأ الناس في التعصُّب ما إن يأخذوا في «تأليه» أفكارهم؛
ولذلك يفترض سيوران أنَّ القتل يتمُّ دومًا باسم إله ما، وكل
الأسباب الأخرى للقتل مثل العقل أو الأمة أو الطبقة أو
العِرق هي مشتقة وسليلة محاكم التفتيش أو الإصلاح الديني.
١١ وفي رأيه أنَّ كل تحمُّس يخفي نزعة بهيمية،
تجرِّد الإنسان من قدرته على «عدم اللامبالاة» وتحوِّله إلى
حيوان دعوي. والمتعصِّب هو كلُّ مَن يدَّعي امتلاك حقيقة
يقدِّمها على أنها أداة ناجعة لتقسيم الناس بين مؤمن ومنشق؛
ولذلك يفترض سيوران أنَّ الشكَّاك هم أرحم من القدِّيسين،
عندما يتعلَّق الأمر بالحقيقة: فهم لا «يقترحون» شيئًا،
يتركون الناس في «أمان».
١٢ التعصُّب يعيد الحيوان إلى مكانه. وهذا الهوس
بالحقائق التي تجبر الناس على اعتناقها أو تقاسمها هي حسب
سيوران تخترق كل مشاغل البشر: كل مؤسسة من المعبد إلى
الإدارة هي تملك «المطلق» الخاص بها، وتقدِّم نفسها في هيئة
«ميتافيزيقا لاستعمال القردة»،
١٣ فامتلأ العالم بضجيج دواب متحمسة لخلق «الحدث»
وفرضه على الآخرين: إن آخر بلا حصته من الحقيقة سوف يكون
عِبْئًا لا يُحتمل. وهكذا تحوَّل المجتمع إلى «جحيم من المنقذين».
١٤ وما صار أندر من الكبريت الأحمر ليس المؤمن
بشيء ما، بل ذلك الشخص الحر «غير المكترث» بحقائق الآخرين.
وفجأة يصبح الوجود كله فضولًا لا يُطاق. خطأ الفضول أنه
يصنع «آخرين» كي يخاطبهم، لكن الفضول لا يصبح خطيرًا حقًّا
على الآخرين إلَّا عندما تنبت في وجهه «مخالب نبي»
١٥ حاقد، وعندئذٍ يتحوَّل التعصُّب إلى آلة لإنتاج
قردة حاقدين على كل نوع من اللامبالاة إزاء العالم. إنَّ
الفضول اللاهوتي يحوِّل أيَّ إيمان إلى جهاز تعصُّب مبثوث في
كل أركان الحسِّ اليومي بالحياة. ومتى اعتنق التعصُّب دينًا
فإن «كل إيمان [سوف] يمارس شكلًا من الرعب، يزداد إرعابًا
لنا بقدر ما يكون «الطاهرون» هم القائمين عليه.»
١٦
ولذلك ينبِّه سيوران إلى الفرق الخفي بين «المتعصِّب»
و«رجل السياسة»: إن السياسي كائن يمكن رشوته؛ فهو يأخذ على
الدوام «دروسًا في الغناء» أمام العوام. أما «المتعصِّب فهو
كائن لا يمكن إفساده: فإذا كان يقتل من أجل فكرة، فهو يستطيع
أيضًا أن يعرِّض نفسَه للقتل من أجل فكرة، في الحالتين، سواء أكان
طاغية أم شهيدًا، هو غول. فليس أخطر من الذين تعذبوا من أجل
عقيدة ما: إنَّ المضطهِدين الكبار يتم تجنيدهم من بين
الشهداء الذين لم تُقطَع رءوسهم.»
١٧
لذلك من العاجل دومًا أن نميِّز بين مَن يرتاح إلى قصص
العذاب ومن ينفر منها. إنَّ «الرغبة في السلطة» هي تعتاش
دومًا على سرديات الألم وتستثمر فيها. أما «الفكر» فهو
يفضِّل «مجتمعًا مغرورًا» على «مجتمع من الشهداء». لا يحق
لأي تفكير أن يسعد بمشاهد الذين يموتون من أجل فكرة. إن
«فرجة الموت من أجل فكرة»
١٨ تؤلمه.
لا يتعلق الأمر بخلاف ذَوقي حول طبيعة البشر، بل قَصْد
سيوران هو أنَّ طبيعة البشر تنطوي من نفسها على كمٍّ هائل من
الاستعداد للتعصُّب لشيء يتجاوزها. إنها مهووسة بإنقاذ
العالم، وتنصِّب في كلِّ شبر من الحياة معبدًا لإنقاذ
الآخرين؛ ولذلك لا يبدو أن «نقد الدين»، كما تصوَّره فلاسفة
قرن التنوير، يمكن أن يحرر الناس من طبيعتهم. ليس الدين بحد
ذاته هو المشكِل، بل طبيعة البشر المهووسة بالإيمان بشيء ما،
بتصور ما للحياة تريد فرضه على «الآخرين» باعتبارهم «مثلنا»
بلا رجعة. «كل شرور الحياة متأتية من تصوُّر معين للحياة».
١٩ إن الخطر هو «استبداد المبادئ»، وليس
المستبدين، المبادئ التي تقوم على فضول يدَّعي أنه يمكن أن
ينقذ البشر من أنفسهم.
يقول سيوران: «في كل إنسان يثوي نبيٌّ ما، وعندما يستيقظ
فإنه سوف يكون هناك شر أكثر قليلًا في العالم … إنَّ جنون
الوعظ والتبشير هو من الرسوخ فينا بحيث إنه ينبع من الأعماق
المجهولة لغريزة البقاء.»
٢٠
لا يتعلَّق الأمر بنقد هذا الدين أو ذاك، بل بنقد طبيعة
البشر التي تحتاج دومًا إلى نبوةٍ ما كي تنقذ الكينونة في
العالم. ليس «النبي» ادِّعاءً أخلاقيًّا لرهط من الناس بأنهم
يتلقَّون «الوحي» من مستوًى من الوجود يتعالى على حواسنا
وعقولنا. إنَّ النبي هو الفكرة العميقة، بل الغريزية التي
تنام في أعماق الطبيعة الإنسانية لكنها لا تستفيق إلا
نادرًا. إنها فكرة «التبشير» بوجود يتجاوزنا، لكن قوتها تكمن
على وجه الدقة في ارتباطها الأصلي بغريزة البقاء. ليست
النبوة في آخر المطاف غير طريقة في إنقاذ العالم من مجرد
الفناء بلا معنًى. وهو مطلب لا يمكن تحقيقه بوسائل هذا
العالم. لا يوجد داخل العالم أي نقطة ارتكاز أخرى يمكن أن
تساعد البشر على احتمال الكينونة في العالم. ولأن هذه
الكينونة في العالم هي هشَّة وزائلة وغير مكتفية بذاتها،
فإنَّ غريزة البقاء تتحوَّل في الأثناء إلى نوعٍ من
النبوة. ما يستيقظ في أعماق البشر ويدعوهم إلى رسم حدود
للعالم، حتى يمكن الاستشراف إلى نوع آخر من الحياة خارج
العالم، ليس صوتًا «خارجيًّا» بل فكرة ترقد في طبيعتهم: هي
فكرة التدرُّب على الخلود بوسائل بشرية.
لكنَّ الكلفة الرهيبة لهذا التدريب ليس القبول بوجود
«أنبياء»، بل الشعور بأنَّ الحياة نفسها قد تمت مصادرتها من طرف
«المتعصبين»: إذ سرعان ما يتحوَّل الحسُّ النبوي لديهم إلى
فضول مسلَّح بجنون التبشير بحياة أخرى. يريد المتعصِّب أن
ينقذ العالم من عدم الاكتراث به؛ ولذلك يعلِّم الناس الفضول
بوصفه تقنية احتلال نموذجية لمساحة الحياة. الفضول سياسة
شبهات لبثِّ الريبة والخوف من العاجزين عن هذا النوع من
الفضيلة الحاقدة، الريبة من «المشاغبين» و«السخفاء»
و«المهرجين»، لكن سيوران ينبِّهنا إلى أنَّ هؤلاء أقل البشر
إجرامًا في حق العالم.
٢١ ذلك أنَّ أكبر المصائب على الناس ليست السخرية
من العالم، أو التهريج، أو اتِّخاذ السُّخف وجهة نظر تجاه
الحياة، بل «التعصب»؛ أي تنصيب مساحة نبوة حاقدة لمحاكمة
الإنسان باسم تصوُّر جاهز عن إنسانيته. والنتيجة المرعبة هي
«أن تصبح الحياة المشتركة أمرًا لا يُحتَمل، وإن كان فضلًا
عن ذلك لا يُقارَن مع عدم قابلية الحياة مع أنفسنا للاحتمال.»
٢٢
المتعصِّب هو كائن لم يعد يمكنه احتمال الوجود كما هو، في
لا مبالاته المرعبة إزاءنا، ولم يجد من حيلة أخرى لمقاومة
الكينونة «سدى»، سوى تحويل «الأنا» الوحيد في قلبه إلى «دين»،
٢٣ إلى مركز روحي سرعان ما يخفي عنَّا تهافتنا
داخل الكون، ويحوِّل «الجسد» الفاني أو القطعة العضوية التي
نسكنها إلى «كوكب» ميتافيزيقي مفيد. التعصُّب هو خطأ في
تقدير أبعادنا بوصفنا مركز الحياة. قال سيوران: «أن نحيا،
يعني أن نمارس ضربًا من العمى حول أبعادنا الخاصة.»
٢٤ لا يمكن أن تحتمل الحياة وأن تحسن تقدير موقعها
داخل العالم، في نفس الوقت. ثمة خطأ وجودي يجعل احتمال
الحياة ممكنًا. ليس خطأ معرفيًّا يمكن إصلاحه، بل طريقة في
تقدير تاريخنا الخاص بوصفه آلة لصنع المثل العليا والقصص
والأساطير التي تنتج المعنى.
لا يمكن تحمُّل الحياة دون قصَّة. والقصة لا تعني أكثر من
«وهم» مناسب حول «أهميتنا» في الكون. وهذا هو ما يسمِّيه
سيوران «الغريزة النبوية»: أن نحلم بعالم آخر. ليس حلمًا
يمكننا أن نستفيق منه، بل حلم هو شكل الحياة نفسها. قال: «إن
النبي في كل واحد منَّا إنما هو بذرة الجنون التي تجعلنا
نزدهر في الفراغ.»
٢٥
هذا يعني أنَّ التعصُّب لا شفاءَ منه، ما دمنا نقبل بالبحث
عن منقذ يأتي من مكان ما خارج الفراغ الذي نشتق منه حياتنا.
ليس الخطأ أن يحاول البشر استدعاء النبوة الكامنة في
طبيعتهم؛ بل أن يدعي أحدهم أنه المنقذ الوحيد. ذلك الذي
يمتلك الإسفنجة التي بها يستطيع أن يمسح وجه الكون من أجلهم.
إنَّ النبيَّ موجود في طبيعة كلٍّ منا، لكن المتعصِّب ليس
قدرًا لأحد. المتعصِّب هو نبي «غير سويٍّ»؛ أي يخرج للبحث
عن خلاصه «خارج
اللاشيء
الذي يوجد فيه.»
٢٦ ما يقترحه سيوران هو التدريب على احتمال الحياة
دون قصَّة جاهزة عن أنفسنا، أي دون تعصُّب. ليس من قدر النبي
أن ينتج متعصبين، بل يمكن أن يكون «النبي مضادًّا» لنفسه؛ أي
لقدر التعصُّب الذي يمكن أن يخرج منه.
تكمن طرافة سيوران في أنه لا ينقد نموذج النبي، بل على
الضدِّ من ذلك هو يدفع به إلى نهايته: ذلك بأنه لا يمكننا
تحديد سلالة التعصب والشفاء منها، إلا بإعادة تملُّك فكرة
النبي التي يستمد منها المتعصب قصَّته. يبدو أنَّ الرهان هو:
تحرير النبيِّ من المتعصبين له. وعلى الأرجح مصير الأنبياء
في كلِّ الديانات متشابه. يريد سيوران أن يفصل بين النبوة
وجنون التبشير، بين احتمال الحياة كما هي وبين التعصُّب الذي
يزيِّف أبعادها باسم مركزية روحية لا وجود لها. وهذا النبيُّ
الذي استطاع الشفاء من جنون التبشير، الذي تخلَّص من رغبة
إنقاذ الناس من أنفسهم، وتخلَّى عن مهنة صناعة المُثُل
العليا للحيوانات الحزينة، ولم يعُد مستعدًّا للقتل من أجل
فكرة، ولم يعُد معنيًّا بالفرق بين الطاغية والشهيد، إنما
يسمِّيه سيوران «النبي المضاد» (
l’anti-prophète).
٢٧ لا يتعلَّق الأمر بنقد الأنبياء التاريخيين، بل
بإمكانية فكرة النبي كما يمكن تمثُّلها في حدود طبيعة البشر.
وحسب سيوران ليست النبوة استثناءً أخلاقيًّا. كل فرد من
البشر يحتوي في صلب غريزة البقاء التي لديه على بذرة نبي قد
لا يستيقظ أبدًا. قد يظل كتلة هلامية من الحيوان الذي لا
يبالي بالعالم. يظل فكرة محايدة تجاه نفسها، لكن ما يقع في
عالم البشر هو دومًا حسب تشخيص سيوران نشوء سلالة من
المتعصِّبين، ودائمًا باسم فكرةٍ ما لم تعد محايدة، وانقلبت
بحدَّة مرعبة إلى اعتقاد يريد أن يصبح دِينًا. وهكذا هناك
سيناريو جاهز يشعر كل كائن بشري أنه مدعو إلى اقتباسه: هو
تحويل غريزة البقاء إلى قصة تأسيسية؛ أي إلى نبوة.
يستيقظ النبي في قلب أي إنسان عندما يكفُّ فجأةً عن احتمال
الفراغ الذي يشتق منه حياته، ويبدأ في نوع من «التداين»
الميتافيزيقي: أن يستدين نقطة ارتكاز خارج العالم من أجل
مساعدته على احتمال الوجود في العالم. ليس التعصُّب خطأً
ذوقيًّا، بل هو جزء من سياسة بقاء عاجزة عن احتمال الحياة
كما هي؛ ومن ثم هي غريزة بقاء لم تجد من حلٍّ أخلاقي لاحتمال
الوجود في العالم سوى أن تحول غريزة النبوة إلى سياسة تعصب.
ما يدعونا إليه سيوران ليس فقط الكشف عن سلالة التعصب التي
تخترقنا، بل مساعدة إمكانية النبي الكامنة فينا على التمرُّد
على تاريخ التعصُّب، والتحوُّل إلى «نبي مضادٍّ»، أي قادر على
إعادة غريزة البقاء إلى حجمها؛ ومن ثَمَّ تدريب الأحياء على
احتمال الحياة في حدود اللاشيء الذي تستمدُّ منه وجودها؛ أي
في نطاق معرفة غير مزيفة بأبعادها داخل الكون.
قال: «في ما مضى كان لي «نفسي» (
moi)؛ أما الآن فلم أعد غير
موضوع … أنا (
je) ألتهم كل أدوية الوحدة؛ فإن أدوية العالم
قد كانت جدَّ ضعيفة كي تُنسيني إياها. وإذ قتلت النبي في
نفسي (
en moi)، أنَّى يزال لي مكان بين البشر؟»
٢٨
هذا الخيط الرفيع الذي يفصل «نفسي» عن «أنا» المتكلم، هو
المسافة التي على النبي المضاد أن يقطعها خارج أفق المتعصب.
على النبي المضاد أن يواصل الكلام، ولكن ليس لإنتاج
المتعصبين. لكن تجديد الكلام مع البشر سوف يفرض عليه أن يدخل
مرة أخرى «مقبرة الحدود» أو «التعريفات» (
cimetière des définitions).
٢٩ عليه أن يخوض معركة الأسماء.
أولى معارك النبي المضاد أن يحرر الأشياء من الأسماء.
ثمة تأويل جديد لدى سيوران لمعنى الاسم: أنه ليس وسيلة
سيطرة على الموجود، بل نحن نسمِّي الأشياء من أجل أن تصبح
«قابلة للاحتمال». لا نحتمل إلَّا ما نعثر له على اسم مناسب؛
ولذلك هو يفتح توترًا طريفًا بين الاسم والتعريف: من يعرف
يرسم حدودًا تجرد الكائن من براءته، «تجعله بلا طعم ولا
جدوى، وتعدمه»؛ والحال أن «التفكير المتسكِّع والفارغ» لا
يطلب أكثر من «توسيع اسم الأشياء».
٣٠ إنَّ مرض الفكر الأول هو إفراغ الأشياء من
نفسها، وتعويضها بالصيغ أو المعادلات. «تحت كل معادلة ترقد جثة.»
٣١
وهكذا، فإنَّ تحرير التفكير من «رذيلة التعريف» هو البحث
عن العزاء في الحضارات التي كانت يومًا ما قادرة على «الطيش»
(
frivolité) ليس بوصفه خطأً أو عيبًا، بل بوصفه «امتيازًا وفنًّا»:
٣٢ الطيش بوصفه مقاومةً روحيةً لجديَّة فقدت القدرة
على اختراع الحياة. إنَّ الجِدَّ قد كان دومًا مُشْكِلًا
سياسيًّا، يتعلَّق بطريقتنا في تدبير الوجود في العالم. قال:
«الطيش هو الترياق الأكثر نجاعةً لألم الكينونة، لخطأ أن
يكون المرء ما هو.»
٣٣ الطيش الذي يفكِّر. هو ذاك الذي يحوِّل ما هو
«سطحي» أو مجرَّد «مظاهر» إلى «أسلوب» خاصٍّ بعصرٍ ما. كلُّ
حضارة هي تقنية لإخفاء الوجه العدمي من الحياة؛ لأن
«الكينونة متى تُركت لنفسها، دون أي حكم مسبق بأناقتها،
إنما تكون غولًا.»
٣٤
ذلك يعني أنَّ مطلب التفكير الأول ليس أن نعرف، بل أن
نحتمل كوننا نحن، ليس أن نعرف الأشياء، بل أن نحتملها. ومن
أجل هذا اخترع البشر ما يسمُّونه «النفس» (
âme): مظهر داخلي
لإخفاء حقيقة الكينونة في العالم. ليست النفس غير تقنية
لاختراع «المظاهر» كي لا نرى العالم كما هو. «نحن نخترع مظاهرنا»
٣٥ حتى لا يرانا أحد. يحاول الفكر فينا أن يعتني
بماهيته بوصفها شيئًا «مميزًا» عن بقية العالم، لكنه لا ينجح
في ذلك إلا عندما يُقدم آخر الأمر على تنصيب «مطلق» ما به
يقيس المسافة التي تفصله عن الأشياء. إنه يبحث عن «كبرياء عمودية»
٣٦ تساعده على إخفاء العالم كما هو. قال: «كل مطلق —
سواء أكان شخصيًّا أم مجردًا — هو طريقة في إخفاء المشاكل؛ وليس
المشاكل فقط، بل جذورها أيضًا، التي هي ليست شيئًا آخر غير
هلع الحواس.»
٣٧
هذا الطرح يعيد «الله» إلى مكانه. ها هنا في هلع الحواس
أمام كَمٍّ هائل من سديم الظواهر التي تخترعها النفس كي لا
ترى غول الكينونة، يتراكم ذُعر جبَّار يدعو النفس إلى
«الفناء في الله» (
disparaître en Dieu)، تحت وقع «غواية»
حادة تدفعها كي تسقط في هاوية ما كانت تهرب منه. وعلى كومة
من المخاوف السحيقة يصبح «الله: سقطة متعامدة على ذعرنا،
خلاصًا ساقطًا مثل الرعد وسط مساعينا التي لا يمكن لأي رجاء
أن يخدعها.»
٣٨ وهكذا يبدو «الإيمان» ضربًا من «التخلِّي
الكبير» عن أنفسنا حتى لا نسقط في عدد لا نهاية له من «الطرق
المسدودة». تضطر النفس في كل مرة إلى تفادي الكينونة
بالانخراط في تقليد قديم من «الجبن» عن مواجهة العالم،
وتعتبر أنه من «واجب اللياقة العقلية» أن نفنى في فكرة أكبر
منا، في مطلق ينقذ موتنا من نفسه. قال: «إنه يوجد نوع من
الكرامة التي تحفظنا من الفناء في الله، والتي تحوِّل كلَّ
لحظاتنا إلى صلواتٍ لن نقوم بها أبدًا.»
٣٩
ولكن ما هي هذه الكرامة؟ بدلًا من التعويل على أسئلة
الموت الأخروي يريد منَّا سيوران أن نعود بالأحرى إلى الدهشة
من الحياة نفسها؛ فالموت يبدو «دقيقًا» جدًّا، في حين أنَّ
الحياة لا تملك أية حجة عن نفسها. ولأنها تراكم قدرًا هائلًا
من اللامعنى فإنَّ «الحياة تُشعرنا بالفزع أكثر من الموت.»
٤٠ إن الرغبة الحادة في الحياة هي المُشكِل وليس
الموت، لكن الموت هو المقياس الحقيقي للتمييز بين قدرات
البشر على الحياة. بل إن سيوران يقسِّم «الأحياء» إلى نوعَين
بينهما توجد هوة لا يمكن قطعها أو اختزالها: «أحدهما يجهل
موته، والآخر يعرفه؛ أحدهما لا يموت إلا برهةً، والآخر ما
فتئ يموت في كل حين … أحدهما يعيش كما لو كان أبديًّا؛
والآخر يفكر باستمرار في أبديته وينكرها عند كل فكرة.»
٤١
لا تعني الكرامةُ أكثر من السيطرة على بُعد الموت في
حياتنا. ومن يشعر أنه مائت هو يقبض على معنى الموت بوصفه
بُعدًا داخليًّا في حياته أو في طبيعته، «ولا شيء ممَّا هو
طبيعي يمكن أن يجعل منا شيئًا آخر غير أنفسنا.»
٤٢ إنَّ الصحة مثلًا تبقي على الجسد في براثن
«هُوية عقيمة»؛ أما المرض فهو «نشاط، وهو النشاط الأكثر
حِدَّةً الذي يمكن لإنسان ما أن يطوِّره …»؛ لأنه نوع من
الانتظار لإشراقة «لا يمكن تداركها».
٤٣ المرض نوع من الكرامة. هو يضع الجسد أمام هواجسه
دون أن يزيِّفها. إذ لا يوجد أي دواء ناجع ضد «هواجس الموت»؛
ولذلك يعتبر سيوران أن المنهج الوحيد للانتصار على هذه
«الشهوة» هو أن «نعيشها إلى النهاية، أن نتحمَّل كل مفاتنها،
وكل فظائعها، ألا نفعل شيئًا من أجل تجنُّبها … فمن كثرة ما
يشغل نفسه بلا نهاية الموت، ينجح الفكر في
إنهاكه.»
٤٤
ما يقترحه سيوران هو عدم تجنُّب التفكير في الموت، بل
مواجهته حتى يتم إنهاكُه وإفراغه من المعنى. وهكذا بدلًا
من الخوف من الموت علينا أن نفكِّر في قدرتنا الداخلية على
الانقراض. أن ننخرط كليةً في قلق سحيق من «انقراضنا الخاص»
(
propre extinction) حتى لا نسمح لأي تصور ديني عن الموت بأن
يزعجنا. على التفكير أن يكون خاصًّا دائمًا، أي منهمكًا في
نوع من «أدب الرعب والتأمل في تعفُّنه»
٤٥ الخاص بوصفه يحمل موته من الداخل كقدرة خاصة على
احتمال الحياة. على المرء أن يتحوَّل من الداخل وبكلِّ إرادة
إلى ما يشبه «الرماد» الوجودي، بحيث ينجح آخر المطاف في
النظر إلى حياته بوصفها «
ماضي موته، وهو نفسه لن يكون سوى مبعوث من
بين الأموات لم يعُد يستطيع الحياة.»
٤٦ على المرء أن يعامل قدرته على الموت كما لو كان
«أركيولوجي القلب والكينونة» الذي لم يعُد بإمكان أيِّ نوع من
«الأسرار» المقدسة أن تغريه. حسب سيوران لا توجد أيُّ أسرار،
بل فقط «شعائر ومشاعر» (
rites et frissons) استعملها الناس
من أجل التغلُّب على هاجس الموت بواسطة الحياة؛ ومن ثم لا
يستطيع أيُّ كشف للحجب أن يجعلنا نبصر بأكثر من «هاويات بلا
نتيجة»، ولن يبقى أمامنا غير الإقرار بأنه «لا يوجد من تدريب
روحي إلا على العدم، وعلى سخافة أن تكون حيًّا».
٤٧
ما هي مهام النبي المضاد عندئذٍ؟
يعيش النبي المضاد على «هامش اللحظات» المتتالية في حياته
كوفرة بلا جدوى، بحيث يشعر بأنه مكلَّف بأن يوجد مرة أخرى،
وليوم آخر، يبدو في كل مرة غير قابل للامتلاء بأي نوع من
الحياة، ولكنه في المقابل لا يحق له أن يتذمَّر. يشعر أنه
ممنوع من البكاء؛ لأن «الدموع تبذر الطبيعة».
٤٨ واستحالة البكاء هي التي تساعد الأشياء من حوله
على الوجود. مَن يبكي يمحو براءة الأشياء. وبدلًا من ذلك،
يدعونا سيوران إلى مهمةٍ أقرب إلى طبيعتنا: أن «نفكِّك
الزمن» إلى لحظات تتالى دون تكوين أي «وَهْمٍ للمحتوى أو
مظهر للدلالة».
٤٩ أن نفرغ الزمن من براءته، من ادِّعائه الدائم
بأنه يحمل مستقبلًا ما. وهذا الشعور بأن الزمن قد أُفرغ من
أي مضمون ينتج لدينا حرية من نوع خاص: حرية «السآمة» أو
الملال من تتالي الآنات دون أي وعد معيَّن. «السآمة هي فينا
صدى الزمن الذي يتمزق … هي وحي الفراغ، تجفيف هذا الهذيان
الذي يسند — أو يخترع — الحياة.»
٥٠
يربط سيوران بين قدرة البشر على خلق القيم وبين الهذيان،
وذلك من خلال «الاعتقاد بأنَّ شيئًا ما يوجد» من أجله.
السآمة هي قوة الحرية من ثقل الزمن، نوع من تعطيل آلة الزمن
من الداخل؛ فالزمن لا يسيل إلا في شكل رغباتنا. ومن ثَمَّ
فإنَّ «السآمة إنما تكشف لنا عن أبدية هي ليست تجاوز الزمن
بل خرابه».
٥١ ما يبحث عنه البشر حقًّا ليس الخلاص من الموت،
بل «علاج ما للوجود»
٥٢ نفسه. كيف نعالج الناس من وجودهم؟
عندما يتحررون من هوسهم بالحقيقة وبالعظمة، هم يتحررون من
أجهزة «الجِد» التي أسَّس عليها الإنسان أهميته، لكنهم لن
يتحرروا منها إلا عندما يكتشفون فضيلة «اللاجدوى الرائعة»
(
superbe inutilité)
٥٣ مما يَعتبره الناس حقيقيًّا أو عظيمًا. ينبغي
معاملة ما يعتبره الناس «اعتباطيًّا» وكأنه «تمرين»
المتوحدين، كما فعل الشكَّاك اليونان الذين دمَّروا فكرة
الحقيقة أو الأباطرة الرومان في عصر انحطاطهم الذين دمَّروا
فكرة العظمة القديمة، ولكن «ليس من اليسير أن نهدم صنمًا».
٥٤
وينبِّه سيوران أنَّ الصنم لا يوجد بالضرورة خارجنا،
بل نحن نحتاج إلى «تفسير لفن الانحطاط»
٥٥ الذي ننخرط فيه منذ ولادتنا. يولد الإنسان
مُزوَّدًا بخوفٍ حادٍّ من أن يُترَك وحيدًا؛ ولذلك هو يسعى
بكل قواه إلى البحث عن أشباهه والبقاء في أُفقهم. وهذا
«الشبيه ليس قدرًا لكنه غواية بالانحطاط».
٥٦ يبدأ الانحطاط مع اللغة. فالإنسان هو «ثرثار
الكون»، يحب دومًا أن يتكلَّم في الجمع، و«من يتكلَّم باسم
الآخرين هو دائمًا وأبدًا دجَّال. إنَّ السياسيين والمصلحين
وكل الذي ينتحلون تعلَّة جماعية هم غشاشون. وحده الفنان لا
يكون كذبُه شاملًا؛ لأنه لا يخترع إلا ذاته.»
٥٧
على النبي المضاد أن يكون شاعرًا: وحده الشاعر يتكلَّم
باسمه، لا يمكن لشاعر أن يخاطب أحدًا إلَّا ذاته. وحده
الشاعر يتحمَّل «مسئولية الأنا»؛
٥٨ ولذلك يفشل الفيلسوف حين ينتحل صفة «الإنسان»
(
le “on’’) بعامة؛ الإنسان بعامة لا يوجد إلا في الجمع من
خلال «التعريفات» المجردة. كذلك يفشل كل نشاط دعوي أو نبوي
عندما ينتحل صفة «نحن»، ويعوِّل على «الكلمات الملهمة» التي
يقع إلصاقها على عتبة المعابد من أجل اصطياد «المؤمنين». لا
يريد النبيُّ المضاد أن يعلم أحدًا؛ ولذلك هو يلتفت نحو
الشِّعر: إنَّ العذر الوحيد للشِّعر أنه «لا يثبت شيئًا».
٥٩ وما يفعله الشعراء هو حراسة الحياة من نفسها؛
نعني من قدرتها على الهذيان الذي ينتهي دومًا إلى اختلاق
«منظومة من الأخطاء»
٦٠ المفيدة التي تعوضنا.
لا ينقذ الحياة في كلِّ مرَّة إلا خطأ مفيد. هذا يجعل
الحياة مجرَّد «تحالف ضدَّ الموت»
٦١ يؤجِّل رغبة الناس في الانتحار. ومع ذلك، فإنَّ
الأحياء لا ينتحرون. وليس ذلك بسبب شهوة العيش، بل لأنهم
بمجرَّد أن يكتشفوا أنَّ حياتهم «لا شيء»، مجرد حدث اعتباطي
بشكل جذري وليس له جدوى واضحة في الكون، هم يشعرون بأن
«
اللاشيء الذي يمد في
أفعالهم هو مع ذلك يمتلك قوة تتفوق على كل أنواع المطلق؛ وهو
ما يفسِّر التحالف الضمني للفانين ضد الموت.»
٦٢ ومن ثمة، ليست قوة الحياة في ما تدافع عنه من
مطلقات يقينية، بل في قدرتها على أن تشتقَّ من لا شيء سببًا
كافيًا لعدم الانتحار. والتعريف المناسب لها هو أنها «حالة
عدم انتحار»
٦٣ متواصلة.
ليس على النبيِّ المضاد أن يحرِّر الحياة من نفسها باسم
«نحن» تتجاوزنا. عليه فقط أن يغيِّر وجه الأسئلة بأن «يخترع
مجموعةً من الأوصاف الجديدة» للآلام القديمة للبشر. إنَّ
الألم هو شكل الوحدة الذي لا يتغيَّر. والفرق بين الحضارات
ليس في تاريخ الألم بل في النعوت التي تخترعها حول آلامها.
«ففي عالم من الآلام كلُّ واحد منها هو منفرد بنفسِه عن
الآلام الأخرى جميعًا. أمَّا أصالة العذاب فهي راجعة إلى
الصفة اللفظية التي تعزله في مجموع الكلمات والأحاسيس.»
٦٤ إنَّ الحضارات مباريات متتالية حول آلامها،
لكنها مباريات لغوية؛ ومن ثم فإن «الله نفسه لا يعيش إلا
بواسطة الصفات التي نضيفها له: إنها علة وجود اللاهوت.»
٦٥ ليس على النبيِّ من أجل تدجين آلامنا سوى أن
يضيف لها «نعتًا جديدًا».
لكنَّ النبيَّ المضاد يعرف أنَّ البشر قد جرَّدوا فكرة الله من حدَّة مفاجأتها لنا
وغُربتها عنَّا. إنَّ إله المعتقدات قد استحوذ على مساحة الألوهة ودجَّنها بشكل مخجل.
لقد تَمَّ إفراغ الألوهة من أهميتها وحيويتها وفعليتها،
وصارت جافَّة وبلهاء إذْ صَبَّ فيها البشر أشعة باهتة وقُوًى
واهنة، بحيث لم يعد ممكنًا حتى تعويضه بالشيطان؛
٦٦ إذْ لا يمكن توجيه الصلوات إلى شيطان. «لا يمكن
للمرء أن يعبد البداهة:
الصحيح ليس موضوعًا للعبادة».
٦٧ لم يعد يمكن مواصلة الصراع القديم بين الخالق
والمخلوق. صار الإله مفهومًا. مساحة بيضاء من اللُّطف والخير
والجلالة والعدل، خالية من أي توتر أو مفارقة. وفجأة فقد
الناس رغبتهم في الألوهة. «إن مخزونات الطاقة التي نتوفر
عليها من أجل اختراع الله قد انعدمت تمامًا.»
٦٨ ما فعله البشر هو «طمأنة الشيطان» بأنهم فقدوا
شهوة الألوهة من فرط حرصهم على أن يكون الله على صورتهم،
لكنَّ إلهًا يشبهنا لن تكون له أي أسرار. حَرص البشر على
صُنع إله على صورتهم من أجل أن تكون لعبادته معنًى، لكنهم
بذلك قد أفرغوه من اختلافه الجذري عنَّا؛ نعني أفرغوه من
الحياة وألبسوه ثياب الحداد البشري. إن الدين حداد بشري على
الغائب. كل دائرة البشر هي مشهد مترامٍ من «الشهداء»: «كلهم
مستعدون كي يدفنوا أسماءهم تحت يقين ما … وحيواتهم مصنوعة من
حرية واسعة للموت لم يحسنوا الاستفادة منها.»
٦٩
مهمَّة النبيِّ المضادِّ هي إعادة الحيوان البشري إلى
«نفسه» التي يتركها في كل مرة. وذلك يعني مساعدته على
الشفاء من «الهوس الجذري بأنَّ الإنسان موجود، أنه هو ما
هو، وأنه لا يستطيع أن يكون غير ذلك.»
٧٠ وهو هوس بشيءٍ لا يمتلك عنه أي «تعريف» محدد؛ إنه
أكثر كائن «غير دقيق» (
imprécis) على الإطلاق: «في حين أن
الدوابَّ تذهب مباشرةً إلى هدفها، هو يضيع في كلِّ
المنعطفات؛ إنه الحيوان غير المباشر بامتياز.»
٧١ هذا الطابع غير المباشر هو الذي قاده إلى اختراع
مرض الحياة الأكثر غرابةً: «الحضارة». وهو مرض البحث عن علاج
لحالة وجودية لا دواء لها، وهي الوجود نفسه بالشكل الذي
يميِّز البشر. ونعني بذلك مرض «تغيير الإنسان»
٧٢ باسم نوعٍ ما من الخلاص؛ ولذلك فإن أَوْكد مهمة
للنبيِّ المضادِّ هي «إلغاء الخلاص» (
annulation de la délivrance)؛
٧٣ لأنها صناعة تقتل الحياة، تقتل ما هو «غير
مكتمل» فينا: «نحن لا نحيا حقًّا إلا برفض التخلُّص من
العذاب، وكما بنوع من الغواية الدينية بعدم التدين.»
٧٤ من أراد أن يبقى حيًّا عليه أن يرفض إنقاذه؛
ذلك أنَّ الحياة في وقاحتها العميقة مُشكِل شِعري، وليس
شيئًا آخر. «إنَّ عيب كل مذهب في الخلاص هو أنه يلغي الشعر،
وهو مناخ ما هو غير مكتمل. يخون الشاعر نفسَه عندما يصبو إلى
أن ينقذ نفسه: إنَّ الخلاص هو موت النشيد ونفي الفن والفكر.»
٧٥ الخلاص هو إيهام بأنَّ العالم يساوي نفسه، وأنه يمكن
إنقاذه، وأنه يمكن الاستغناء عن الحياة بواسطة مستوًى آخر من
الوجود؛ حيث لا يمكن أن نتألم. والحال أنَّ إفراغ الناس من
آلامهم هو إفراغهم من أنفسهم، وتحويل «حيواتهم إلى موتات مخفية»
٧٦ عنهم. كلُّ حضارة هي سياسة تحويل آلام الحياة
إلى «قيم تبادلية» بين الفانين. وهذا الإنقاذ الميتافيزيقي
يجد في خلق «المفاهيم» صناعته المفضلة: في إنتاج «السم
المجرد» (
le venin abstrait)
٧٧ الذي يفكر، لكنَّ الفكر ينظِّم ما هو «سطحي»،
يحوِّل الحياة إلى «أحداث مفهومية»، لكنه لا يحسن «التورط في
الدوائر التي تدل عليها»؛ لأنه يفرغ الحواسَّ من «كآبتها»،
يؤوِّلها بعيدًا عن «فراغ الكون» الذي ترنو إليه، ويحوِّلها
إلى مجرد «وجهة نظر»: كآبة في حدود مقولة ما.
٧٨