تحول
وضع أترسون خطاب لانيون جانبًا، وانصرف إلى المظروف الأخير، وقبل أن يفتحه أمسكه في يديه بضع لحظات؛ إذ كان يعلم أن هذا الخطاب سيكون الاتصال الأخير بينه وبين هنري جيكل. انتابه الفضول والقلق مما سيقوله صديقه. فتح أترسون الخطاب بتؤدة، وفكّ رزمة الأوراق السميكة وشرع في القراءة:
وُلدت لأسرة شديدة الثراء. وكنت مولعًا بالعمل الجاد والدراسة، ونعمت بصحبة الأصدقاء. أنبأت كل المؤشرات بحياة واعدة مباركة بالحظ الموفور. كان الجميع على يقين من أنني أسير صوب حياة مهنية عظيمة. وحقًّا كانت نقيصتي الوحيدة هي طبيعتي المنطلقة أيما انطلاق، وكنت أواجه دائمًا صعوبة شديدة في إخفاء بهجتي بالحياة والظهور بمظهر أكثر نبلًا. من وجهة نظر عائلتي أن تظهر مفعمًا بالحياة ومتحمسًا للغاية هو ضرب من ضروب عدم اللياقة. لذا تعلمت أن أخفي سعادتي، فكنت أحيا مع عائلتي بشخصية، وأعيش بيني وبين نفسي بشخصية أخرى. كان هذا حتى منتصف العشرينات من عمري حينما تأملت مليًّا فيما يدور من حولي وأدركت أنني أعيش حياة مزدوجة. قد يتباهى البعض باكتشافاتهم، غير أنني اعتبرتها أسرارًا مخجلة، وأضنيت نفسي في إخفائها عن العالم. بمرور الوقت نجحت في الفصل ما بين جانبَيْ طبيعتي؛ الجانب الطيب والجانب الشرير، فلم أعد كاذبًا بأي شكل من الأشكال نظرًا لأن كلا جانبي طبيعتي كانا حقيقيين، فكنت نفسي بالتمام عندما أنخرط في فعل مشين، مثلما كنت نفسي بالتمام عندما أحيا حياة طيبة نقية. تمحورت دراستي العلمية حول هذه الطبيعة المزدوجة للإنسان التي فيها يجمع الإنسان بين الخير والشر. وافترضت أن ثمة تعليلًا منطقيًّا وكيميائيًّا لهذا الانفصال، ولا بد أنه جزء من تركيبنا البدني. لماذا يوجد شخص أشقر وآخر أسمر؟ لماذا البعض طوال القامة وآخرون قصار القامة؟ قطعًا يوجد تعليل مشابه يفسر وجود الجانبين الطيب والشرير في البشر. وكنت أنا نفسي حقل تجارب لنفسي، كل يوم أشعر بالدنو من فهم هذا الانفصال؛ اعتقادي القوي أن الإنسان ليس واحدًا وإنما اثنان. شخصان في إنسان واحد. وأنا على يقين من أن علماء آخرين سوف يواصلون البحث بل يكتشفون أننا في واقع الأمر أكثر من شخصيتين. أما الآن فلا بد أن ألتزم بما أعرف أنه حقيقي؛ أثناء أبحاثي وتجاربي أصبحت على قناعة بأنه يمكن فصل هذه الطبيعة المزدوجة، فقلت لنفسي إنه إذا أمكن فصل كل شخصية إلى كيان منفصل، فستكون الحياة أيسر، فيستطيع الشرير أن يذهب في طريقه والطيب في طريق أخرى، ومن ثم يمكن التمييز بينهما، وعندئذ سينتهي الشك والتشويش، فوجود القوتين المتضادتين في نفس الجسد قد سبب الكثير من الألم بالفعل. وكان سؤالي التالي: «كيف يمكن أن أفصلهما؟»
لن أخوض في التفاصيل العلمية الدقيقة لاكتشافي لسببين؛ أولهما: أرى الإفصاح عن مثل هذه المعلومات خطرًا للغاية، فجميعنا فضوليون بالطبيعة ولا أريد أن يُؤذى أي إنسان آخر. وثانيهما: أن اكتشافاتي ليست كاملة كما ستعرف من اعترافاتي. وغني عن القول، أنه بعد الكثير من التجريب والمحاولة والخطأ، اكتشفت ما ظننته المزيج المثالي.
تأنيت قبل أن أضع هذه النظرية موضع التنفيذ عمليًّا، أعلم جيدًا أنني جازفت حتى الموت؛ أي عقار يمس فكرة من نحن لا بد أن يكون خطيرًا. على أن فضولي كان كبيرًا؛ فقد غلبت رغبتي العارمة في تعلم شيء جديد أي مخاوف لديّ. اشتريت كمية كبيرة من ملح معين من شركة بيع بالجملة، فقد كنت على دراية بأن هذا الملح هو آخر خيط في اللغز. وفي وقت متأخر من إحدى الليالي مزجت كل العناصر معًا في مخبار قياس، وأخذت أراقب فيما تصاعدت الفقاعات والدخان وغلى المزيج. وقد تغير لونه مرات عدة قبل أن ينتهي به الحال إلى اللون الأخضر المائي. أخذت نفسًا عميقًا كي أستجمع شجاعتي، ثم تجرعته في عجالة.
وكم كانت دهشتي من الألم والسقم الذي أصابني، إذ أخذت أتدحرج على الأرض من الوجع، وشعرت أنني قطعًا ألحقت بنفسي ضررًا بالغًا. وعندئذ، توقف الألم وشعرت أنني على ما يرام كليةً. انتصبت من وقعتي وشعرت بأنني أكثر رشاقة وصحة وشبابًا مما كنت على مدار سنوات عديدة. وساورني شعور غريب بالهلع، بل يمكنني أن أقول إن صورًا وحشية أومضت في ذهني. أرى أن كلمة «وحشية» هي الكلمة المناسبة هنا. قطعًا شعرت بأنني إنسان وحشي متحرر من أي التزام في الحياة. مددت ذراعي ولاحظت للمرة الأولى أنني صرت أقصر؛ فقد انكمشت بطريقة أو بأخرى خلال عملية التحول، وأصبحت كل ملابسي كبيرة عليّ الآن. لقد أصبحت مستر إدوارد هايد.