مستر هايد الجامح
قبل مقتل سير دانفرز بشهرين، عدت من إحدى مغامرات هايد وتحولت إلى جيكل وخلدت إلى النوم. استيقظت من نومي وأنا تحت تأثير مشاعر غريبة للغاية؛ أدركت أن الغرفة من حولي هي غرفتي، لكن ثمة شيئًا خطأ. شعرت وكأنني لست في المكان الصحيح. استلقيت في فراشي أتساءل عن هذا الموقف. وكنت على قناعة بأن ثمة إجابة منطقية علمية لهذا الانزعاج الذي انتابني. كنت غارقًا في التفكير عندما لاحظت يدي. لم تكن يد دكتور هنري جيكل؛ فقد كانت نحيفة، وعظامها كبيرة وبارزة. كانت يد مستر إدوارد هايد.
قطعًا أمضيت ما يقرب من دقيقة أتفرس هذه اليد، وكنت مشدوهًا للغاية بكل ما يجري، وأخيرًا عندما ربطت كل الخيوط في ذهني، هرعت إلى المرآة. لم أستطع أن أصدق عيني؛ أجل، لقد ذهبت إلى الفراش وأنا دكتور هنري جيكل، واستيقظت وأنا إدوارد هايد. كيف يمكن أن يحدث؟ كان السؤال التالي الذي يدور في ذهني، وربما السؤال الأكثر إلحاحًا: كيف يمكن علاج هذا؟ كان الوقت منتصف الصباح، وجميع الخدم مستيقظون، والعقار في المختبر، ومن المستحيل أن أسير عبر الفناء للحصول عليه. كان من الممكن أن أغطي وجهي، لكن هذا ما كان ليخفيني بالدرجة الكافية. ومن حسن الحظ أخذت نفسًا عميقًا وأدركت أن خدامي قد اعتادوا بالفعل مجيء وذهاب هايد. فارتديت ملابسي في عجالة وغادرت الغرفة. مررت ببرادشو الخادم، الذي ارتعد من حضور مستر هايد في وقت مبكر من النهار. وقطعًا لفت نظره أيضًا ملابسي الفضفاضة. واختفى مستر هايد في الفناء. وبعدها بعشر دقائق كان الدكتور جيكل جالسًا لتناول الإفطار، متظاهرًا أنه شغوف بالطعام.
كنت على دراية بأنني لن أكون قادرًا على الاستمرار في حياتي المزدوجة التي كنت أفقد السيطرة عليها، فيما تزيد سطوة هايد عليها الآن. وظننت أنه ازداد قوة بالفعل، إذ كنت أتحول من جيكل إلى هايد دون أن أتناول الدواء. وكان عقلي — أو جسدي، لم أكن أعرف أيًّا منهما — يتحول وحده. عندئذ بدأ الدواء يفقد مفعوله بالفعل، فكنت أضطر أن أتناول ضعف الجرعة المعتادة ثلاث مرات كي أتحول ما بين الشخصيتين. في بداية هذه التجربة كان من الصعب أن أتخلى عن شخصية دكتور جيكل، والآن العكس صحيح تمامًا؛ فقد أكدت أحداث تلك الصبيحة أن فقد مستر هايد صار أكثر صعوبة. كان من الجليّ أنني أفقد التحكم في ذاتي الأصلية الأفضل؛ فشخصيتي الشريرة الوحشية أخذت تتقوى.
علمت أنني مضطر أن أختار بينهما. كان جيكل قلقًا ومهتمًّا بشأن أفعال هايد وعيشه الكريم، أما هايد فلم يكن مباليًا بشأن جيكل بالمرة. كان فقدان هايد بالنسبة لي فقدان بعض الشرور التي صرت أستمتع بها، أما التخلي عن جيكل فقد عنى أنني سأصير بلا أصدقاء ومكروهًا من الجميع. علمت أنني لا أستطيع تحمل العيش بهذه النتيجة.
لذا تخليت عن هايد، لكنني كنت لا أزال محتفظًا بالشقة الكائنة في حي سوهو، وملابس هايد مُعلقة في دولاب مختبري، لكنني لم أستخدم الدواء. وعلى مدار شهرين حييت حياة هادئة وحذرة. وقد سعدت بهذه الحياة بعض الوقت؛ إذ كان ضميري صافيًا، غير أن الرغبات والغرائز لم تفارقني، لكنها كانت مستكنة فحسب. مرة أخرى وجدت نفسي أعد جرعة الدواء وأتجرعها.
وظل شيطاني حبيسًا زمنًا طويلًا، وجاء هايد مزمجرًا وهائجًا على نحو لم أتوقعه. وفيما كنت أتجرع الدواء علمت أن هذه المرة ستكون مختلفة. كنت على دراية بأن هايد يبتغي أن يعوض الوقت الضائع. وحدث أنه في هذه الحالة قابل هايد مصادفةً سير دانفرز في ممر الحديقة. لا أذكر كثيرًا عن الحادث، لكن هايد كان غاضبًا غضبًا أعمى، ووقع الأمر برمته سريعًا.
أنا الملام على كل هذا، لأن هايد هو من ارتكب الفعل الشنيع، لكن صدقني ما كان جيكل ليفكر في الأمر من الأساس. علمت أن حياتي انتهت عند هذه اللحظة أيضًا. هرب هايد أو أنا من موقع الجريمة، وهرعت إلى شقة سوهو، وأحرقت كل أوراقي كي أطمث أي أدلة. وعندئذ بدأت أجول في شوارع لندن. وفكر هايد في جرائم القتل الأخرى التي يحب أن يرتكبها. والآن وبعد أن تذوق طعم الدماء خشيت ألا يتوقف.
وما إن تحولت إلى جيكل مرة أخرى، ركعت على ركبتي وتوسلت الرحمة من الله، وتأكدت أنه لن يكون هناك هايد مرة أخرى. وشعرت بأن اتخاذ هذا القرار النهائي هو الحرية. ولم أدرك إلى أي مدى كان هذا سجنًا. ولكي أتأكد أنني لن أتعرض للإغواء مرة أخرى، وأن هايد لن يستطيع الدخول من الباب الخلفي، كسرت القفل، وعندئذ سحقت مفتاح البوابة تحت قدميّ.
علمت في اليوم التالي أن خادمتي شهدت جريمة القتل. وارتعت لدى سماع اسم هايد قاتلًا. بل لم أكن أدرك أن من التقيته في الممر كان سير دانفرز. كان غضب هايد شديدًا حتى إنه ابتلع شخصية جيكل تمامًا. كان للجانب الشرير من شخصيتي — مستر هايد — اليد العليا على جسدي وعقلي.
عقدت العزم على أن أحيا حياة إنسان تائب، فبدأت أوالي الأعمال الخيرية، وواظبت على حضور الطقوس الكنسية وأحييت الصداقات القديمة. رجعت من العزلة بكامل قوتي، أصبحت إنسانًا وُلد من جديد. شعرت أنها معجزة أن أحظى بفرصة ثانية، ولم يكن لدي أدنى فكرة أن هذا لن يدوم.
وفي يوم من أيام الربيع الأولى، وفيما كنت أستمتع وحدي بقضاء بعض الوقت على مقعد في إحدى الحدائق، وأنصت إلى العصافير تزقزق على الأشجار وأشاهد الأطفال تلهو، إذ بموجة من الإعياء تجتاحني ورجفة عنيفة تهزني. ثم توقفتا تاركتين إياي فاقدًا الوعي. شعرت بأن درجة حرارتي ترتفع. أغمضت عينيّ متمنيًا أن يزول هذا الشعور أيضًا. ومع ذلك شعرت بأن شيئًا ليس على ما يرام، فإذ بجيشان مفاجئ من الطاقة يجتاحني. وشعرت بغضب يتملكني بسرعة. فتحت عينيّ مرة أخرى لأجد ملابسي بدت فضفاضة للغاية على حين غرة، ويديّ نحيفة وشاحبة. مرة أخرى أصبحت إدوارد هايد.
أدركت أنه لا يصح لي أن أجلس في الهواء الطلق هكذا، فهايد رجل مطلوب للعدالة. أدركت أيضًا أنني لا بد أن أحصل على الدواء. لم أستطع أن أتجه إلى الباب الأمامي ذلك لأن بول سيستدعي الشرطة حالما يراني، ولم أستطع الدخول من الباب الخلفي لأنني هشمت القفل والمفتاح. أدركت أنني سأحتاج إلى مساعدة أحدهم عندما خطر دكتور لانيون ببالي. فكتبت خطابًا إلى لانيون أطلب منه أن يحضر لي الدواء. كنت متأكدًا أنه سيفعل. لا بد أن تعرف أحداث تلك الأمسية الآن. ذكر لانيون أنه سيكتب إليك، لذا لن أكرر عليك القصة هنا. ومع ذلك عليك أن تتفهم أنني صُدمت من ردة فعل لانيون. توقعت أن يحمى غضبه، لا أن يرتعد. ستلازمني ما حييت حقيقة أن هذه الصدمة هي التي أودت بحياته.
بدأ نوع جديد من الخوف يستحوذ عليّ؛ لم أعد خائفًا من الشرطة وحدها، وإنما صرت مرعوبًا من أنني قد أضطر أن أعيش بشخصية هايد. تمنيت لو كنت قد رأيت نهايته. لكن في اليوم التالي، وفيما كنت أسير عبر الفناء، اعترتني نوبات الألم المعتادة. تناولت جرعتين من الدواء ثم عدت إلى جسدي كدكتور جيكل. ثم بعدها بست ساعات، وفيما كانت أقرأ بجانب المدفأة، انتابني الخوف مرة أخرى، لذا تجرعت المزيد من الدواء. إذا غلبني النوم — ولو حتى كإغفاءة — أستيقظ دائمًا مستر هايد. كنت مرعوبًا، وقد استنزفني هذا الرعب. وفيما ازداد جيكل وهنًا، ازداد هايد قوةً. واستهلكت أنا جيكل كل طاقتي في إجبار هايد على تناول الدواء. وخشيت ألا يصلح هذا لفترة أطول. ولم أعوض قط ما نقص من الملح المستخدم في الدواء. في أثناء تلك الآونة كنت أستخدم نفس المورد. بدأت أبحث عن المزيد. وكنت قد افترضت أن الكمية الأصلية التي كانت بحوزتي هي شكل نقي من أشكال الملح. من ثم بدأت أطلب من الصيادلة أنقى كمية لديهم. ومع ذلك لم تأت المادة المطلوبة قط، لذا كنت أرجعها جميعها إليهم. وعندئذ أدركت أن الكمية الأصلية التي كانت بحوزتي لم تكن مادة نقية أغلب الظن؛ قطعًا كانت ممزوجة بمادة غير معروفة. إنها تلك المادة الغامضة، أو مزيجها بالملح، التي تحدث الأثر المطلوب.
مرّ قرابة الأسبوع منذ أن بدأت في كتابة هذا الخطاب، وأنا أعمل تحت تأثير آخر جرعة من الدواء. من المحتمل أن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي يُسمح فيها لهنري جيكل أن يتكلم أو يُسمع. أنا مضطر أن أنهي هذا الخطاب الآن، خشية أن يسيطر عليّ هايد قبل أن أحظى بالفرصة لغلق الخطاب، فإذا رآه فسيمزقه قطعًا. هذه هي ساعة موتي الحقيقية. بإنزالي قلمي وغلق خطاب اعترافاتي، سأكون قد أنهيت حياة هنري جيكل التعيس.
أسأل الله أن يرحمني.