دكتور جيكل خالي البال
بعد مرور أسبوعين أقام دكتور جيكل حفل عشاء لمجموعة صغيرة من الأصدقاء القدامى والأعزاء. كان مستر أترسون من بين المدعوين بالطبع، وكان ضيفًا محبوبًا على أي حفل عشاء، وكان موضع ترحيب على نحو خاص في نهاية الأمسية؛ فقد كان يستمتع الضيوف بمزاحه اللاذع وحصافته. كان المحامي يوفر للحاضرين استراحة هادئة بعد حفل عشاء مليء بالأحاديث، وفي هذه الليلة بالأخص حرص أترسون على أن يمكث ريثما يرحل الجميع، لذا وقف بجوار المدفأة إلى أن غادر كل الحضور.
جلس دكتور جيكل على مقعد مقابل أترسون. وقد كان رجلًا في الخمسين من عمره ضخم البنية يتمتع بوافر الصحة وبوجه عذب. وقد اعتاد أن يدير الحوارات والمناقشات بطريقة مثيرة. غير أنه في الآونة الأخيرة آثر أن ينصت إلى الآخرين في هدوء. وطيلة العام السابق أو نحو ذلك، ازداد جيكل جفاءً؛ إذ صار أكثر فتورًا وانعزالًا. ظن البعض أنه بدا أكثر نزوعًا إلى إدانة الآخرين، وانتقدوه كلما غاب عن إحدى المناسبات الاجتماعية أو حفلات العشاء. وعليه ازداد جيكل انعزالًا. وعادة ما علق أصدقاؤه على أنهم نادرًا ما يرونه. في وقت من الأوقات كانوا يرونه مرة كل أسبوع، لكن الآن عادة ما تمر الشهور العديدة دون أن يُرى. غير أنه في تلك الليلة بدا جيكل كسابق عهده؛ إذ ارتسمت على شفتيه ابتسامته العذبة فيما كان يتحدث إلى أترسون. جلسا يحتسيان الشاي إلى جانب المدفأة.
استهل أترسون الحديث قائلًا: «كنت أرغب في التحدث إليك يا جيكل بشأن الوصية.»
أجاب جيكل: «عزيزي أترسون المسكين، لم أر قط شخصًا منزعجًا قدر انزعاجك عندما رأيت هذه الوصية، خلا صديقنا العزيز لانيون عندما اعترض على نظرياتي المبنية على أسس غير علمية. ولا أود أن أقول لك ما نعت به نظرياتي غير العلمية. إنه زميل رائع، لكنني لم يخب أملي في أي إنسان أكثر مما خاب أملي فيه.»
استأنف أترسون كلامه إذ قرر أن يتجاهل مناورة جيكل من أجل تغيير الموضوع: «أنت تعرف أنني لم أوافق قط على هذه الوصية.»
رد جيكل بنبرة بها شيء من الحدة: «وصيتي؟ أجل بالطبع، أدرك هذا. لقد أخبرتني بذلك.» وقد اندهش أترسون لدى ردة فعل جيكل الغاضبة.
قال أترسون: «حسنًا، ولسوف أخبرك بهذا من جديد.» كان أترسون مصممًا على أن يناقش هذا الموضوع مع جيكل. فهو موضوع في غاية الأهمية، فقال: «لقد علمت بأحد الأمور عن مستر هايد.»
شحب وجه جيكل الكبير الوسيم وقال: «لا أبالي بسماع المزيد. أظن أننا اتفقنا على ألا نتطرق إلى هذا الموضوع.»
قال أترسون: «ما سمعته كان رهيبًا.» وشعر أترسون بالانزعاج لتدخله في شئون جيكل، فهذا ليس من عادته. فقد كان أترسون محاميًا ذائع الصيت بين أعضاء بعينهم في المجتمع لِما عُرف عنه بأنه لا يطرح الكثير من الأسئلة، فهو يتابع عمله دون أن يتعمق في حياة موكليه أو أفعالهم. غير أن جيكل كان أكثر من مجرد موكل، لقد كان أقدم وأعز صديق لأترسون. وأدرك أترسون أنه لا بد من أن يتابع موضوع هايد وإلا لن يسامح نفسه أبدًا.
أجاب الطبيب: «لن أعدل عن رأيي، أنت لا تعي موقفي. إنه موقف غاية في الغرابة، غاية في الغرابة حقًّا.»
قال أترسون: «جيكل، أنت تعرفني، أنا رجل جدير بالثقة. ضع حدًّا لهذا الموضوع وأخبرني بكل شيء.»
قال جيكل: «عزيزي أترسون، هذا لطف منك، ولا يسعني سوى أن أشكرك على كرم أخلاقك. أنا أثق بك أكثر من أي إنسان على وجه الأرض — بل أكثر من نفسي — لكن ما بيدي حيلة في هذا الموضوع. لكن لكي يطمئن قلبك، بمقدوري أن أتخلص من هايد متى شئت.» واعتدل جيكل في جلسته، ونظر إلى صديقه في عينيه. وبدت نظرته العنيفة مألوفة لأترسون فأخذ يتساءل تُرى أين رأى هذه النظرة من قبل.
مال أترسون إلى الأمام في مقعده وقال: «إذا كنت تستطيع أن تتخلص من هايد في أي لحظة، إذن أتوسل إليك أن تفعل هذا الآن.» وحاول أن يظل صوته هادئًا لكن كان من العسير عليه أن يخفي مخاوفه: «أرجوك يا جيكل، لا مفر من أن تقطع علاقتك بهايد.»
قال جيكل: «أشكرك على مخاوفك، لكن تذكر أن هذه مسألة خاصة. من فضلك دعك من هذا الأمر.»
حول أترسون عينيه إلى المدفأة، وفكر هنيهة ثم قال أخيرًا: «ليس لدي أي شك في أنك على حق تمامًا.» وخلص أترسون إلى أنه ما بيده حيلة، وعليه أن يثق في صديقه في هذه المسألة، فنهض كي يرحل.
أضاف جيكل: «ثمة أمر واحد أتمنى أن تتفهمه، أنا مهتم للغاية بأمر هايد، مهتم بأمره إلى حد بعيد. لقد أخبرني أنكما التقيتما بالقرب من باب المختبر قبل أسبوعين، أخشى أنه كان وقحًا معك، أتأسف لك بشدة عن هذا. أعرف أنه رجل صعب المراس، لكنني أريدك أن تعدني بأنك سوف تلتزم بشروط الوصية. إذا مت — أو اختفيت — من فضلك تأكد من أن يستلم هايد ما هو حقه شرعًا. سيهنأ بالي إن قطعت لي وعدًا.»
أجاب أترسون: «لا يمكنني التظاهر أنه سوف يروق لي أبدًا.» وتساءل أترسون هل بمقدوره أن يسترد صديقه، وتساءل أيضًا هل استسلم جيكل لهايد تمامًا الآن.
قال جيكل مترجيًا: «لا أطلب منك هذا، كل ما أطلبه هو العدل. أسألك فقط أن تساعده من أجلي، عندما أختفي.»
تنهد أترسون تنهيدة عميقة وقال: «أعدك.»