التنوع الميكروبي
تُهيمن الكائنات الحية الدقيقة على سائر الأرض. قد يكون من الصعب علينا تقديرُ هذه الحقيقة؛ وذلك لأن أشكال الحياة هذه لا تُرى بالعين المجرَّدة. نحن نرى النباتات والحيوانات ونتفاعل معها بطريقةٍ محدَّدة ومدروسة، وخلال القسم الأكبر من التاريخ البشري لم يكن لدينا أي دليل على وجود أي كائنات أصغرَ من الحشرات. اقترب الفيلسوف الروماني لوكريتيوس من هذه الحقيقة بتكهُّنه بوجود «كائنات دقيقة معينة … تدخل الجسم عن طريق الفم والأنف، وتُسبب أمراضًا خطيرة». بدأت تأملاتُ لوكريتيوس تبدو منطقيةً بعد اختراع المجهر في القرن السابع عشر. كانت أعداد الميكروبات مذهلةً للغاية. فعشَرات الملايين من البكتيريا تعيش في حَفنةٍ صغيرة من التربة، وقطرة واحدة من الماء المالح تحتوي على ٥٠٠ ألف من البكتيريا وعشَرات الملايين من الفيروسات، والهواء مليء بالجراثيم الفطرية المجهريَّة، بالإضافة إلى مائة تريليون من البكتيريا تحتشدُ داخل أمعاء الإنسان. جميع الكائنات الحية التي تُرى بالعين المجردة وجميع الأسطح غير الحية مغطَّاة بالميكروبات؛ فالميكروبات تنمو حول فوهات البراكين والمنفسات المائية الحرارية؛ وتعيش في كُتَل جليد البحار، وفي أعمق أعماق المحيطات، وتنمو في الرواسب القديمة الموجودة في قاع البحر. علم الأحياء الدقيقة هو العلم الذي يختصُّ بدراسة هذه الأشكال متناهيةِ الصِّغر من الحياة. وهو يهتم بدراسةِ كل ما يتعلق بحياة البكتيريا والعتائق والفطريات، وتنوُّع مذهل من الكائنات الحية وحيدةِ الخلية تُسمَّى الطلائعيات. أيضًا يدرس علماءُ الأحياء الدقيقة الفيروسات، التي يكون تركيبها أبسطَ من أي نوع من أنواع الخلايا.
الغالبية العظمى من الكائنات التي يمكن رؤيتها بالعين المجرَّدة تعتمد على الطاقة المستمَدَّة من الشمس عن طريق عملية البناء الضوئي؛ ويشمل ذلك كلًّا من النباتات، والكائنات الحية التي تتغذَّى على النباتات، أو الكائنات التي تتغذَّى على الحيوانات والتي بدَورها تتغذَّى على النباتات. في المقابل، تستخدم الكائنات الحية الدقيقة نطاقًا أوسعَ من عمليات الأيض. فالأنواع الأكثر شيوعًا تؤدي دورَ كائنات مُحلِّلة؛ إذ تعيد تدوير الموادِّ الميتة سواءٌ أكانت لنباتات أم لحيوانات. وبعض الميكروبات ضوئية التغذية. وهذه الميكروبات تشمل البكتيريا الزرقاء وأنواعًا مختلفة من الطلائعيات التي نُطلق عليها اسم الطحالب. وبالإضافة إلى الكائنات المُحلِّلة والميكروبات ضوئية التغذية، تحصل العديدُ من البكتيريا والعتائق على الطاقة من خلال عمليات أيض تقوم على غاز الهيدروجين والكبريت وبعض الجزيئات البسيطة بما في ذلك الأمونيا والميثان. هذه المسارات الكيميائية تُمكِّن الكائنات الحية الدقيقة من دعم أنظمة بيئية كاملة في أماكنَ يَعُمُّ فيها ظلامٌ دائم. وقد شجَّعَت هذه العمليات الكيميائية الحيوية التي تتفرَّد بها البكتيريا والعتائق على الأرض علماءَ الأحياء الفلكية على التنبُّؤ بوجود حياة ميكروبية في محيط موجود تحت سطح القمر يوروبا، أحد أقمار المشتري، ونظام بيئي يعتمد على الميثان مصدرًا للطاقة على سطح القمر تيتان، أحد أقمار زحل.
مكَّنَت التجارب التي أُجرِيَت في البصريات في بداية القرن السابع عشر العلماءَ الأوروبيين، وفيهم جاليليو، من تطوير أول مِجهَر بعد اختراع التليسكوبات بمدة قصيرة. أُجرِيت أولى الملاحظات المجهرية على الحشرات، ونُشِرَت أول الرسوم التوضيحية عام ١٦٦٥ بواسطة روبرت هوك، الذي وصف التراكيب المنتِجة للجراثيم في الفطريات. مضى أنطوني فان ليفينهوك، الذي عاصر روبرت هوك، بملاحظاته حول عالم الميكروبات إلى أبعدَ من ذلك؛ لكونه أول مَن وصف البكتيريا، وفي ذلك البكتيريا الكبيرة هلالية الشكل التي كشَطَها من أسنانه، والعديد من الطلائعيات والخميرة التي حصل عليها من الجِعَة. وعلى الرغم من الدراسات المجهرية المهمة التي اضطَلع بها القليل من العلماء المهَرة في القرن الثامن عشر، لم يُحرَز سوى تقدم طفيف في علم الأحياء الدقيقة، إلى أن حلَّ القرن الذي يليه عندما أوضح لويس باستور أن الحساء المعقَّم يظل معقمًا ما دام بمعزل عن الميكروبات التي تنتقل عبر الهواء. وقد دحض العمل التجريبي الدقيق الذي أُجري في ستينيَّات القرن التاسع عشر الأفكارَ الكلاسيكية حول التولُّد الذاتي للكائنات الحية. فيما بعد، طوَّر باستور لقاحًا للوقاية من داء الجمرة الخبيثة (الذي تُسببه بكتيريا العصَوية الشمعية) وداء الكلب (الذي يُسببه أحد الفيروسات). باستخدام الفئران في التجارِب، تمكن روبرت كوخ من التعرُّف على البكتيريا المسبِّبة لداء الجمرة الخبيثة في سبعينيَّات القرن التاسع عشر، وصمَّم طريقةً منهجيةً للتعرف على سببِ أي مرض مُعدٍ. هذه الطريقة، التي يُطلق عليها فرضيات كوخ، تتطلب من الباحث تحديدَ الكائن الحي المسبِّب للمرض في حيوان مصاب، وزراعة هذا «الميكروب» في مزرعة نقية، واستخدام هذه المزرعة لإصابة حيوان سليم بالعدوى، ثم عزل الكائن الحي نفسه عن العائل الذي تُجرى عليه التجرِبة.
استُخدِمت الخصائص التركيبية والوظيفية مثل شكل الخلية والنشاط الأيضيِّ لتمييز بعض مجموعات البكتيريا منذ زمنِ باستور. على سبيل المثال، خلايا البكتيريا المسبِّبة لمرض الزُّهْريِّ (اللولبية الشاحبة أو تريبونيما باليديم) ملتفَّةٌ مثل اللولب. وكان شكلها غيرُ المعتاد جَليًّا في عينات من النسيج المصاب مأخوذة من مَرْضى الزُّهْري وهو سِمَة مُميِّزة للبكتيريا التي نُصنِّفها على أنها بكتيريا لولبية. تُعد مثلُ هذه السِّمات التركيبية دليلًا أقلَّ موثوقيةً لتمييز البكتيريا في حالات أخرى؛ فالبكتيريا والعتائق عصَويةُ الشكل تبدو متماثلةً تحت المجهر. تُعد طريقةُ صِبغة جرام، التي ابتُكِرَت في القرن التاسع عشر، دليلًا استرشاديًّا آخَر للتمييز بين البكتيريا. وتوصف بأنها صبغة مُفرِّقة لأنها تُلوِّن البكتيريا التي لها جدرانٌ سميكة (الموجبة) باللون البنفسجي، والبكتيريا التي لها جدران رقيقة (السالبة) باللون الوردي. وتُعَد تفاعلات التصبيغ أداةَ تشخيصٍ مفيدة؛ إذ تسمح لفنيِّي المعمل بتضييق نطاق أنواع البكتيريا التي يُحتمل وجودُها في مسحة حَلْق لتحديد البكتيريا المسبِّبة للعدوى. لكن صبغة جرام دليلٌ استرشادي ضعيف لتحديد الصلة بين الأنواع. لهذا السبب، حلَّت التقنيات الوراثية بقدرٍ كبير محلَّ الوسائل المجهرية لتطوير مخططات تصنيف حديثة تعكس صلة القرابة التطورية.
وضع المختصون بدراسة تصنيف البكتيريا قائمةً بأكثرَ من ١١ ألف نوع من البكتيريا. كانت هذه القائمة متحيزةً للبكتيريا التي لها أهميةٌ طبِّية وتلك التي يمكن أن تنموَ في مزرعةٍ بسهولة. وتُظهِر التجارِبُ التي حُددت فيها تتابعات الجينات البكتيرية دون زراعة خلايا في المعمل أن ملعقة صغيرة من التربة يمكن أن تحتويَ على آلاف الأنواع غير المعروفة. تُعد أجسامنا موطنًا لمجموعةٍ هائلة من الكائنات الحية الدقيقة، فقد كشف تحليلٌ جزيئي عن ٢٣٦٨ «نوعًا» من البكتيريا التي تعيش في سُرة الإنسان! وقد شجَّعَت هذه النتائجُ الباحثين على القول باحتمالية وجود عشرات أو مئات الملايين من أنواع البكتيريا. وبالفعل يُعَد إحصاءُ عدد من البكتيريا والكائنات الحية الدقيقة بأقلَّ من العدد الموجود من الموضوعات المهمة في إطار التحديات المعاصرة لتطوير مقاييسَ موضوعية للتنوع الحيوي.
بوضعِ هذه الحالات من عدم التيقُّن في الحسبان، وضع علماء الأحياء الدقيقة تسميةً لثمانين أو أكثرَ من المجموعات الفرعية، أو شُعب البكتيريا. تُشكِّل البكتيريا البروتينية الشعبة البكتيرية الأكبر، وتضم العديد من أشكال الخلايا وآليات إنتاج الطاقة. تتضمن البكتيريا البروتينية كلًّا من «الإيشيرشيا كولاي»، وهي بكتيريا مِعويَّة درَسها علماء الوراثة بوصفها كائنًا تجريبيًّا نموذجيًّا منذ أربعينيَّات القرن العشرين، والبكتيريا المسببة لمرض التيفويد (السالمونيلا المعوية) والكوليرا (ضمة الكوليرا)، والبكتيريا المثبتة للنيتروجين، والبكتيريا البنفسجية ضوئية التغذية، والبكتيريا ذات الزوائد الخَلوية، والبكتيريا المخاطية التي تُكوِّن أجسامًا ثمرية جميلة متعددةَ الخلايا. البكتيريا البروتينية هي بكتيريا سالبةُ الجرام تُحاط خلاياها بغشاءين دُهنيَّين يُطلق عليهما الغشاء الداخلي والخارجي، ويفصل بينهما جدارٌ خَلوي رقيق نسبيًّا. تتكون الجدران البكتيرية من بوليمر يُسمى الببتيدوجلايكان. يتكون الببتيدوجلايكان من سلاسلَ من أزواجٍ متبادَلة من كلٍّ من جزيئات السكر الأميني إن-أسيتيل جلوكوز أمين وجزيئات حمض أستيل الميوراميك، وتربط بين هذه الأزواج وصلاتٌ مستعرضة من الببتيدات. الليزوزيم هو إنزيم مضاد للبكتيريا، يوجد في الدموع، والحليب البشري، والمخاط، يقتل البكتيريا من خلال فصل الروابط بين السكريات الأمينية في جدار الببتيدوجلايكان. يستهدف البنسلين أيضًا الجدارَ البكتيري، ويعمل على تثبيط عملية تخليق الببتيدوجلايكان.
يكون جدار الببتيدوجلايكان في البكتيريا البروتينية والمجموعات الأخرى سالبة الجرام؛ أرقَّ بكثيرٍ من جدران خلايا البكتيريا موجَبةِ الجرام، بما في ذلك مجموعة تُسمى متينات الجدار. وتُعد كلٌّ من البكتيريا المِطَثِّية والبكتيريا العَصَوية من متينات الجدار التي تُنتج جدرانًا سميكة تُسمى الجراثيم الداخلية. تفتقر البكتيريا موجبةُ الجرام للغشاء الخارجي الذي تتميز به الأنواعُ سالبة الجرام. أما البكتيريا التي في الشعبة الثالثة، وهي الرخصيات، فلا تحتوي على جدار الببتيدوجلايكان. وهي تُعرَف أكثرَ باسم المفطورات، والعديد منها يسبب أمراضًا للثدييات. ونظرًا إلى أنَّها لا تحتوي على جدران خلوية، فإنها تُقاوم إنزيم الليزوزيم والمضادات الحيوية التي تستهدف بوليمر الببتيدوجلايكان. ويبلغ قُطر الخلية في بعض المفطورات ٠٫٢ ميكرومتر. هذا بالمقارنة مع متوسط طولِ قُطر البكتيريا ذات الجدران البالغ ١ ميكرومتر. يوجد عددٌ قليل من الأمثلة على البكتيريا العملاقة، مثل بكتيريا مؤكسدة للكبريت، هي لؤلؤة الكبريت الناميبية، التي يتراوح قطر خلاياها إلى ٧٥٠ ميكرومتر أو ٠٫٧٥ مليمتر (مم).
يمكن للبكتيريا أن تُدفَع بواسطة سوطٍ واحد (التنظيم القطبي)، أو من خلال تجمُّع خصلات الأسواط عند أحد طرَفَي الخلية أو كِليهما (كما في البكتيريا سَوطية الطرَف والبكتيريا ذات السَّوطَين المتقابلَين)، أو من خلال العديد من الأسواط المتمركزة عند نقاطٍ عديدة على السطح (كما في البكتيريا محيطية السِّياط). البكتيريا صغيرة الحجم جدًّا لدرجة أن لزوجة البيئة المحيطة تتحكم في حركتها؛ وذلك لأن قُصورها الذاتيَّ يساوي صفرًا. تُدفع الخلايا للأمام أو تُسحب للخلف في الماء بواسطة الأسواط الضاربة، وتتوقف عن الحركة تمامًا لحظةَ توقُّف مُحركات الأسواط. تبلغ السرعة النمطية لسباحتها ٢٥ ميكرومترًا في الثانية، وهذه السرعة تُقارَن بسرعة الفهد، قياسًا على حجم الكائن الحي. لا تملك البكتيريا الزرقاء خيطيةُ الشكل والبكتيريا المخاطية أسواطًا، وتستخدم آليات انزلاق بما في ذلك إطلاق مادةٍ لزجة أو مدُّ بروتينات سطحية للتحرك على الأسطح أو بالانزلاق واحدةً تِلو الأخرى.
تحتوي البكتيريا والعتائق على جينوم أصغرَ بكثيرٍ من الجينوم في حقيقيات النواة. ويحتوي الكروموسوم الدائريُّ لبكتيريا الإيشيرشيا كولاي (السلالة كيه-١٢) على ٤٢٨٨ جينًا يحمل شفرة البروتينات. تضمُّ البكتيريا المخاطية أكبرَ جينوم بكتيري، وهو يحمل شفرةَ أكثرَ من تسعةِ آلاف جين. يرتبط هذا التعقيد الجيني بدورات حياة البكتيريا المخاطية التي تشمل تكوينَ الأجسام الثمرية متعددةِ الخلايا. يوجد أصغرُ الجينومات البكتيرية في الأنواع المتكافلة التي تعيش داخل خلايا الحشرات. تحتوي جينومات العتائق على ٤٣٠٠ جين. لمقارنة ذلك، فَكِّر في أن أزواج الكروموسومات البالغِ عددُها ٢٣ زوجًا تحمل شفرة أكثرَ من ٢٠ ألف جين.
تُعد الدياتومات أمثلةً على طحالب السترامينوبيلس ضوئيةِ التغذية. تعمل الدياتومات البحرية، جنبًا إلى جنبٍ مع البكتيريا الزرقاء العوالق، على امتصاصِ قدرٍ من ثاني أكسيد الكربون يُعادل القدْرَ الذي تمتصُّه جميع النباتات الموجودة على اليابسة، وتُنتج نصفَ الأكسجين الموجود في غِلافنا الجوِّي. الفطريات المائية هي نوعٌ ثانٍ من طحالب السترامينوبيلس. وهي تُنتج خلايا عائمةً تُسمى الأبواغ السوطية، وتُشبه الفطريات في أنها تُكوِّن مستعمرات من خلايا خيطية الشكل تخترق مصادرَ الغذاء. المسبِّب الفطري فيتوفثورا إنفستنس هو نوعٌ يتسبَّب في وباء اللفحة المتأخرة في البطاطس الذي عصَف بسكان أيرلندا في أربعينيَّات القرن التاسع عشر. تُعد طحالبُ الكيلب العملاقة، التي يمكن لأوراقها السرخسية أن تستطيلَ لتبلغ ارتفاع ٥٠ مترًا، الأكبر بين طحالب سترامينوبيلس. تُعد الطلائعيات السناخية والطلائعيات الجذرية دون غيرِها من وحيدات الخلية. تتضمَّن الطلائعيات السناخية كلًّا من السوطيات الدوارة ضوئية التغذية وغير ضوئية التغذية وهي تُعد من الميكروبات العوالق الشائعة للغاية في المياه العذبة والبيئات البحرية، والشعاعيات والمثقبات (الفورامينيفرا) مجموعتان تندرجان ضمنَ الطلائعيات الجذرية.
يُعتبَر الكثيرُ من الطحالب الخضراء من الكائنات الحية الدقيقة وترتبط بالنباتات التي تندرج معها ضِمن مجموعة «الصانعات العريقة» الرئيسية. تتضمَّن الطحالب الخضراء المجهرية كراتٍ طافيةً صغيرة؛ أي طحالب كلاميدوموناس، وخلايا أخرى تُشكِّل خلايا سوطيَّة، وطحالب الدسميد نَجْمية الشكل رائعة الجمال، ومستعمرات طحالب فولفوكس متعددة الخلايا. تتضمَّن الطلائعيات الكهفية طحالبَ اليوجلينات والطفيليات المعوية جيارديا التي تنتشر عن طريق الماء الملوَّث.
خلفيات السوط هي المجموعة الرئيسية الثامنة من حقيقيات النواة التي تشمل الفطرياتِ والحيوانات. لا يمكن لأحدٍ إنكارُ أوجه التشابه الوراثية بين أشكال الحياة المتفاوتة ظاهريًّا هذه، ونشترك نحن البشر معها في العلامة الممَيِّزة الشائعة المتمثلة في الخلايا السوطية. تسبح الأبواغ السوطية القادرةُ على الحركة في الفطريات البحرية باستخدام سوطٍ واحد، في حين تُنتج الحيواناتُ أنواعًا عديدة من الخلايا السوطية (توصَف الخلايا بأنها مهدبة عندما تحتوي على العديد من الأسواط). مُيِّز أكثرُ من ٧٠ ألفَ نوع من الفطريات وقد يتجاوز عددُها الإجمالي المليون. بالإضافة إلى الأنواع البحرية القادرة على الحركة، تنمو الفطريات في صورة خمائرَ وحيدة الخلية تتكاثر عن طريق التبرعُم، أو في صورةِ مستعمَرات من خلايا خيطية يمكنها الانتشارُ على مساحات واسعة من الأراضي. يُعيد إنماء فطر عيش الغراب، بواسطة الفطريات الدِّعامية، توزيع الكتلة الجوفية الحيوية، التي تتراكم خلال مرحلةِ تغذية المستعمرة، في هيئة أجسام ثمرية فوق سطح الأرض بغرضِ تكوين الأبواغ ونشرها. لا تُنتج الغالبيةُ العظمى من الفطريات أيَّ تراكيبَ تُرى بالعين المجردة وتُكوِّن الأبواغَ على سطح مستعمراتها مباشرةً.
على عكس آليَّة الأيض التي تقوم بها حقيقياتُ النواة، يتنوَّع تركيب حقيقيات النواة تنوُّعًا كبيرًا. بدءًا من سطح الخلية، تُكوِّن بعض الأميبيات أصدافًا واقيةً عن طريق ترتيب الجسيمات المعدِنية والبقايا الأخرى الموجودة على سطحها، وتُفرز الدياتومات جُدرانًا زجاجيةً جميلةً من السليكا تُسمَّى محارات دياتومية، وتُقوَّى الجدران الخلوية للفطريات باستخدام ليفياتٍ دقيقة من الكيتين. وتحتوي الخلية حقيقيةُ النواة في داخلها على النواة، وجهاز إفرازي مركَّب يُسمى جهاز الغشاء الداخلي، والميتوكوندريا، والفجوات العُصارية والعضيات الأخرى المحاطة بأغشية. أسواط حقيقيات النواة أكثرُ تعقيدًا من الأسواط في البكتيريا والعتائق. فهي تَبرز من الخلية مغلَّفةً بطبقةِ غشاء خَلوي، وتحتوي على سلسلةٍ من الخيوط الطويلة التي يُطلَق عليها الأنيبيبات الدقيقة التي تنزلق لأعلى ولأسفل مثل المكبس مُسببةً انحناءَ السوط. وحركة الأنيبيبات الدقيقة مدفوعةٌ ببروتين محرِّك يُسمى داينين. الأنيبيبات السوطية متجذرةٌ داخل الخلية حيث تتصل بهيكلٍ خلوي أكبرَ من الأنيبيبات، وشبَكةٍ من خيوط الأكتين الدقيقة. يشترك هذا الهيكلُ الخلوي الداخلي في عملية النمو والتطور، ويتحكم في حركة الكروموسومات وانقسام الخلية، ويُشكِّل نظامَ توجيهٍ للمواد التي تنتقل من سطح الخلية وإليها.
في العموم، الخلايا حقيقية النواة أكبرُ حجمًا من خلايا البكتيريا والعتائق؛ إذ تتراوح بين ١٠ و١٠٠ ميكرومتر (أو ٠٫١مم). يمكن دراسة الخلايا حقيقيَّةِ النواة بتكبيراتٍ منخفضة باستخدام المجهر الضوئي. في المقابل، تبدو البكتيريا كأنها تَشويش في الخلفية عند مثلِ هذه الدرجات من التكبير. لهذا السبب، يستخدم علماءُ الأحياء الدقيقةِ غالبًا عدسةً شيئيَّة بقوةِ تكبير تُعادل ١٠٠ ضِعف، بالإضافة إلى عدسةٍ عينية بقوةِ تكبير مقدارها ١٠ أضعاف؛ لإحصاء البكتيريا ورصدِ حركتها وتسجيلِ نتائج عملية صبغة جرام. وحتى عند مقدار التكبير الإجمالي الذي يُعادل ١٠٠٠ ضِعف تكون التراكيبُ داخل البكتيريا غيرَ مرئية، لكن التباينات في شكل الخلية تكون واضحة. يكون المجهر الضوئيُّ العادي على وشك التعرُّف على أصغرِ الخلايا التي تُنتجها المفطورات (٠٫٢ ميكرومتر أو ٢٠٠ نانومتر). وذلك لأنها أصغرُ من نصف الطول الموجيِّ للضوء المرئي، ولا تُنتج أنماطًا منفصلة من الضوء المتفرق تُمكِّننا من رؤية أجسام منفصلة (يبلغ أقصرُ طولٍ موجي مرئي عند الطرَف البنفسجي من الطيف ٣٩٠ نانومتر). يتراوح حجم الفيروسات بين ٢٠ و٦٠٠ نانومتر، وهو ما يجعل معظمَها غير مرئي تحت المجهر الضوئي. والطول الموجي الأقصر بكثير لحُزمة الإلكترونات المستخدَمة في المجاهر الإلكترونية يعطي قوةَ تكبير مقدارها مليون ضِعف، موضحًا تراكيبَ يبلغ قُطرها ٠٫١ نانومتر ويكشف عن تفاصيلِ التركيب الفيروسي.
تَنتج بعض حالات العدوى الفيروسية عن اندماجِ جينات فيروسية في جينوم العائل. يُطلَق على هذا النمط الكامنِ للفيروس اسمُ كمون طليعة الفيروس. يمكن للفيروسات أن تحمل المعلوماتِ الوراثيةَ من عائلٍ لآخَر، وبذلك تعمل على النقل الأفقيِّ للجينات.
هذه العمليات مفيدة للغاية للتطور؛ فهي تُغيِّر الصفات الوراثية للكائنات الحية، وتُتيح للعوائل المصابة بالعدوى أن تنقل جيناتٍ ذاتَ أصل فيروسي عن طريق آليات التكاثر الخاصة بها. على سبيل المثال، قد يحتوي الحمضُ النووي البشري على ١٠٠ ألف جزء لجينات من فيروسات راجعة داخلية، تُمثل ٨ بالمائة من الجينوم البشري. تلعب الفيروسات أيضًا دورًا مِحوريًّا في النظام البيئي العالمي. إذ يحتوي مليمتر واحدٌ من ماء المحيط الأطلنطي على ١٥ مليونًا من البكتيريوفاج التي تُدمر ما يُقَدَّر بنحو ٤٠ بالمائة من البكتيريا الزرقاء العالقة كلَّ يوم. توجد الفيروسات في كل مكان كما أنها تحمل بداخلها قدرًا كبيرًا من التنوع الجيني الموجود في المحيط الحيوي.