الفصل الثاني
آلية عمل الميكروبات
في هذا الفصل سنتناول الآلياتِ التي تُعين الكائنات الحية الدقيقة
بدائيةَ النواة وحقيقيةَ النواة على البقاء. لا بد من إمداد جميع
الخلايا الحية بالماء ومصدرٍ للطاقة. يُعد امتصاصُ الماء ضرورةً حتمية،
حتى في الموائل شديدةِ الجفاف أو المالحة؛ وذلك لأن الإنزيمات التي
تُحفِّز التفاعلات الكيميائية الحيوية لا تكون فعالةً إلا عندما تحصل
على الماء. تعتمد الميكروبات ضوئيةُ التغذية على ضوء الشمس لإتمام
عملية الأيض، وتحصل بعضُ الميكروبات الأخرى على الطاقة الكيميائية من
العناصر الأرضية الوفيرة. على الرغم من أن درجات الحرارة ودرجات
الحموضة المتطرفة والمتغيرات البيئية الأخرى، تفرض قيودًا إضافية على
الحياة الميكروبية؛ فإن الكائنات الحيةَ الدقيقة من البكتيريا والعتائق
وحقيقيات النواة تستطيع النجاةَ في معظم الأماكن التي يتوفر فيها ماءٌ
سائل.
لذا فإن وضع مسألة توفُّر الماء في الاعتبار ضروريٌّ لفهم آلية عمل
الميكروبات. عندما تتعرَّض الخلية البكتيرية للهواء الجاف، فإنها تفقد
الماءَ عن طريق البخر. ويحدث هذا لأن جزيئات الهواء تنتقل من الخلية
التي تتركَّز فيها جزيئات الماء إلى الهواء الذي يقلُّ فيه تركيز
جزيئات الماء؛ وذلك وَفقًا للحتمية الديناميكية الحرارية التي تدعم
تحوُّلَ النظام إلى الفوضى أو تزايُد الإنتروبيا. في المقابل، عند غمر
خليةٍ بكتيرية في الماء، ينعكس تدفقُ جزيئات الماء؛ فتركيز الجزيئات
الحيوية والأيونات المذابة في سيتوبلازم الخلية البكتيرية (يُطلَق
عليها جميعًا اسم المذاب) يدعم امتصاصَ الماء عبر الغشاء الخلوي. يُعد
هذا مثالًا على الخاصية الأُسموزية. يتحدد اكتساب الخلية للماء أو
فَقْدُها له بِناءً على الفرق بين تركيز المذاب في السيتوبلازم
وتركيزِه في البيئة الخارجية. ما دامت الخلية ذاتَ تركيز أعلى من
الأملاح أو السكريات من الوسط المحيط بها، فإنها تظلُّ تمتص الماء.
وينطبق هذا على الفطريات المائية التي تنمو في الماء البارد للأنهار
الجبلية والبكتيريا الموجودة في القولون وتجمعات العتائق التي تعيش في
البُحيرات المتكوِّنة في أعماق البحار والمتشبِّعة بالأملاح.
عندما تمتصُّ الخلايا الماءَ، فإنها تتمدَّد ويُخفف تركيز
السيتوبلازم الموجود فيها. يكون التمدُّد محدودًا في معظم الكائنات
الحية الدقيقة بفعلِ نشوء ضغطٍ هيدروستاتيكي أو «ضغط انتفاخي»؛ إذ
يتعرض الغشاء الخلويُّ للضغط على السطح الداخلي للجدار الخلوي. يقلُّ
الضغط الانتفاخي أو ينعدم في حالةِ العتائق التي تعيش في البحيرات
المتكوِّنة في أعماق البحار لأن درجة مُلوحتها أعلى بقليلٍ من درجة
الملوحة في البيئة المحيطة. يبلغ متوسطُ الضغط في الميكروبات الأخرى ١
– ٥ ضغط جوي (ما يصل إلى ٥٠٠ كيلوباسكال). يؤثر الضغط الانتفاخي على
شكل الخلية كما تستخدمه الفطريات لاختراق المواد الصُّلبة بحثًا عن
الطعام. ويُعد النمو الاجتياجي بمساعدة الضغط من آليات العدوى المهمة
التي تستخدمها الطفيليات الفطرية لغزو النباتات.
يُعد الغشاء الخلوي (الغشاء الداخلي للبكتيريا سالبةِ الجرام) حاجزًا
شبهَ منفذ يسمح بتدفُّق الماء للداخل، وفي الوقت نفسِه يحتفظ بالمواد
المذابة في السيتوبلازم. ويتكون الغشاءُ الخلوي من جزيئات دهنية،
منظَّمة في طبقتَين، وبروتينات غشائية تؤدي العديدَ من الوظائف. ينتشر
بعضُ الماء عن طريق الدهون التي تُمثل جزءًا من الغشاء، أما النقل
الأسرع للماء فيحدث عن طريق بروتينات تُسمى الأكوابورينات. يتحرك بعضُ
المواد المذابة في الماء من خلال أنواعٍ أخرى من البروتينات العابرة
للغشاء التي تلِجُ من أحد طرَفَي الغشاء إلى الطرف الآخر (شكل رقم
٢-١). تُتيح البروتينات العابرة للغشاء التي تُعرَف
بالقنوات تدفُّقَ الأيونات إلى داخلِ الخلية أو خارجِها وَفقًا لاتجاه
تدرُّج التركيز. على سبيل المثال، تتدفَّق أيونات البوتاسيوم
(
K+) إلى
قنواتٍ مخصصة لأيونات البوتاسيوم. يُشار إلى انتقال الأيونات عبر
القنوات بالانتشار الميسَّر. تنتقل الموادُّ المذابة أيضًا عكس تدرُّجِ
تركيزها عن طريق مِضخَّات البروتين التي تستمدُّ طاقتها من الطاقة
الكيميائية أو ضوء الشمس. تنقل بروتيناتٌ ناقلة أخرى الموادَّ المذابةَ
عكس اتجاه تدرجِ تركيزها؛ عن طريق ربط الانتقال النشط بالانتقال السلبي
لمادةٍ مذابة أخرى لأسفل في اتجاه تركيزها. الجمع بين مسامية الغشاء
والعمليات التي تقوم بها البروتينات الناقلة يُمكِّن الخلية من الحفاظ
على الاتصال بين العمليات الكيميائية في البيئة المحيطة ونشاطها
الأيضي.
تحصل خلايا الكائنات وحيدة الخلية والكائنات متعددة الخلايا على
الطاقة عن طريق تفاعلات الأكسدة والاختزال لكلٍّ من المركَّبات العضوية
والمركبات غير العضوية. تفاعلات الأكسدة هي تفاعلاتٌ تُفقَد فيها
إلكترونات من الذرات أو الأيونات أو الجزيئات، وتفاعلات الاختزال هي
تفاعلاتٌ تُكتسَب فيها إلكترونات. في السياق البيولوجي، تُطلَق
الإلكترونات المنشَّطة بعمليةِ الأكسدة وتُستخدَم لتقليل ثاني أكسيد
الكربون أو تثبيتِه؛ لإنتاج السكَّريات والمركبات العضوية الأخرى. هذه
الحلقة من تفاعلات الأكسدة والاختزال تحدث في نوعين من الكائنات الحية
الدقيقة: كائنات ضوئية وجمادية التغذية، وكائنات كيميائية وجمادية
التغذية (شكل رقم
٢-٢). تُسمى الكائنات في
المجموعتين كِلتَيهما كائناتٍ ذاتيةَ التغذية؛ لأنها تصنع غذاءها
بنفسها. تَستخدم البكتيريا الضوئية والجمادية التغذية (ضوئية التغذية)
والطحالب حقيقية النواة؛ ضوءَ الشمس لتنشيط الإلكترونات التي حصَلَت
عليها من الماء أو كبريتيد الهيدروجين، وتُستخدم هذه الطاقة المختزلة
لامتصاص ثاني أكسيد الكربون، وتكوينِ السكريات والجزيئات الحيوية
الأخرى. ويُعد مصطلح «كائنات تعمل بالطاقة الشمسية» لهذه الفئة من
عمليات الأيض أبسطَ من مصطلح كائنات ضوئية وجمادية التغذية. تحصل
البكتيريا والعتائقُ الكيميائية والجمادية التغذية على طاقة الاختزال،
باجتذاب الإلكترونات من الكبريت
(
S0)،
والحديدوز
(
Fe+2)،
والمركبات غير العضوية بما في ذلك الهيدروجين
(
H2)، وكبريتيد
الهيدروجين
(
H2S)،
والأمونيا (
NH3
التي تتحلل إلى أيونات أمونيوم
NH4+)،
والنيتريت
(
NO2−).
الكائنات الكيميائية والجمادية التغذية هي كائنات «تعمل بالمعادن»
باستثناء الأنواع التي تستخدم الميثان (الأحياء المتغذِّية على
الميثان) والمركبات العضوية البسيطة الأخرى بدلًا من مصادر الإلكترونات
غيرِ العضوية.
تعتمد جميعُ أشكال الحياة الأخرى على الكائنات التي تستمدُّ الطاقة
من ضوء الشمس، والكائنات التي تستمدُّ الطاقةَ من المعادن؛ وذلك لأنها
إما تتغذَّى على المركبات العضوية التي تُنتجها الكائنات ذاتيةُ
التغذية أو تُؤكِسدها. هذه الكائنات تُعَد كائناتٍ كيميائيةً عُضوية
التغذية، وتُعرف أيضًا بالكائنات غيرِ ذاتية التغذية. وهي تتضمَّن
الفطريات والبكتيريا التي تُحلل (تؤكسد) الموادَّ العضوية وتستهلك
(تختزل) الأكسجين، والبكتيريا النازعة للنيتروجين التي تؤكسد المركبات
العضوية في غياب الأكسجين وتُختزَل النترات
(NO3−)
لتُكوِّن غاز النيتروجين (N2). تحدث
تفاعلات مشابهة عن طريق العديد من البكتيريا والعتائق غيرِ ذاتية
التغذية التي تختزل الكبريتات
(SO4−2)،
والحديديك
(Fe+3)،
والمنجنيز (في صورة أكسيد المنجنيز
MnO2). (نحن
أيضًا من الكائنات غيرِ ذاتية التغذية، إذ نُؤكسد السكريات ونختزل
الأكسجين في تفاعلات التنفُّس).
ثَمة نُسخ معدَّلة من استراتيجيات الأيض هذه، موزَّعةٌ بين البكتيريا
والعتائق والفطريات. ويشمل ذلك الكائناتِ الضوئيةَ غيرَ ذاتية التغذية
التي تمتصُّ الضوء وتتغلَّب على عدم قدرتها على تثبيت الكربون من خلال
استخدام موادَّ عضويةٍ من البيئة مصدرًا للكربون، والكائنات متنوعة
التغذية التي تجمع بين آلياتِ تغذية مختلفة للاستفادة من الظروف
البيئية المتغيرة. يمكن القول إن جميع الطرق المتبَعة للنجاة وُجِدَت
بين الكائنات الحية الدقيقة أولًا.
وقد أوضَح الفحصُ الدقيق لهذه الفئات من عمليات الأيض كيفيةَ استفادة
الكائنات الحية الدقيقة من تفاعلات الأكسدة والاختزال الكيميائية
للحصول على الطاقة لأنشطتها. يبدأ إنتاجُ الطاقة عن طريق البكتيريا
الزرقاء ضوئيةِ التغذية بامتصاص الضوء عن طريق الكلوروفيل والجزيئات
الصبغية الأخرى المدمَجة في أغشيةٍ تُسمى ثايلاكويدات. تُنظَّم
الثايلاكويدات في صورةِ صفائحَ متراصَّة بعضها فوق بعض داخل الخلية
(شكل رقم
٢-٣). تُنَظَّم جزيئات الكلوروفيل في
نُسخٍ عديدة من نوعين من التجمعات، يُطلق عليهما النظامان الضوئيان،
التي تعمل على زيادة مستوى طاقة الإلكترونات عند امتصاص ضوء الشمس.
يعمل أحد النظامَين الضوئيَّين على تفكيك جزيئات الماء وإطلاق الأكسجين
ونقلِ الإلكترونات المنشطة عبر سلسلةٍ من الجزيئات الناقلة التي تقع في
الأغشية. تُشكِّل الجزيئات الناقلة سلسلةَ نقلِ الإلكترونات (شكل رقم
٢-٤). عندما تصل الإلكترونات إلى النظام الضوئي
الثاني، فإن امتصاص ضوء الشمس يَزيد مستوى طاقتها مرةً أخرى، ثم تُنقل
الإلكترونات المعادُ تنشيطها إلى جُزيءٍ يُسمى
NADPH. يؤدي جزيء
NADPH دورَ مصدرٍ محمول للطاقة،
يُستخدَم لتثبيت الكربون لإنتاج الجزيئات الحيوية التي تُشكِّل تركيب
الخلية.
تُطلق الطاقة من الإلكترونات أثناء نقلها عبر سلسلة نقل الإلكترونات
بين النظامين الضوئيَّين، وتُستخدم في ضخ البروتونات
(H+) عبر
غشاء الثايلاكويد.
يُعد فصلُ الشحنات على جانبَي الأغشية وسيلةً محورية لتوليد طاقةٍ في
جميع الكائنات الحية. في حالة البكتيريا الزرقاء ضوئيةِ التغذية،
يُستخدم تدرُّجُ تركيز البروتونات الناتج لإنتاج الأدينوسين الثلاثي
الفوسفات (ATP). يكون جزيء إيه تي بي
مصدرًا للطاقة للتفاعلات الكيميائية الحيوية.
أيضًا تُجري النباتات والكائنات الحية الدقيقة حقيقية النواة
المتنوعة عمليةَ البناء الضوئي الأكسجيني، الذي يُطلِق الأكسجين من
تفاعلِ تفكيك جزيئات الماء، بما في ذلك المساترات والطحالب ثنائية
الأسواط والدياتومات واليوجلينات والطحالب الحمراء والخضراء
والبُنِّية. هذه المجموعات من الطحالب ضوئية التغذية متخصِّصة في
امتصاص أشعَّة الضوء التي لها أطوالٌ مَوجية مختلفة، ودرجاتُ شدةٍ
مختلفة. يعيش نوعٌ مذهل من الطحالب الحمراء في ظلام على عمق ٢٦٨ مترًا
في جزُر البهاما من خلال امتصاص الضوء الأزرق الضعيفِ جدًّا. في جميع
حقيقيات النواة ضوئية التغذية، تقعُ أغشية الثايلاكويد التي تحمل
الأنظمة الضوئية داخل البلاستيدات الخضراء. كما رأينا في الفصل الأول،
أُخِذَت البلاستيدات الخضراء، عبر المعايشة الداخلية، من البكتيريا
الزرقاء أو من حقيقيات النواة ضوئيةِ التغذية التي ابتلع أسلافُها
البكتيريا الزرقاء.
تَستخدم البكتيريا الكبريتية الأرجوانية والخضراء كبريتيدَ
الهيدروجين
(H2S) مصدرًا
للإلكترونات بدلًا من الماء؛ حيث تحصل على
CO2 دون إطلاقِ
الأكسجين (يُسمى هذا بالبناء الضوئي غيرِ الأكسجيني). الصبغات الماصة
للضوء في البكتيريا الكبريتية مرتَّبةٌ فوق طبقاتٍ متراصَّة من أغشيةٍ
داخلية متصلة بالغشاء الخلوي، وفي كُتلٍ مستديرة تُسمى الأجسام الخضراء
أو الكلوروسومات. وعلى عكس البكتيريا الزرقاء، تَستخدم البكتيريا
الكبريتيةُ نوعًا واحدًا من الأنظمة الضوئية. فعندما تمتصُّ الضوء،
تُنقل الإلكترونات المنشطة إلى سلسلةِ نقلٍ للإلكترونات تُنتج تدرجًا
بروتونيًّا وتُعيد الإلكتروناتِ الناضبةَ إلى النوع نفسِه من الأنظمة
الضوئية. يختلف هذا التدفقُ الحلقي للإلكترونات في البناء الضوئي غير
الأكسجيني عن التدفق غيرِ الحلقي ما بين نوعَين من الأنظمة الضوئية في
البناء الضوئي الأكسجيني. يحدث البناءُ الضوئي غير الأكسجيني أيضًا في
البكتيريا الحلزونية والبكتيريا الكبريتية الأرجوانية والخضراء. استطاع
نوعٌ من البكتيريا الكبريتية الخضراء تحقيقَ إنجازٍ مذهل بإجراء عملية
البناء الضوئي في إحدى فتحات المياه الحرارية المظلِمة الضبابية على
عمقٍ يَزيد عن كيلومترين تحت سطح المحيط. وقد تَمكَّن من فعلِ هذا من
خلال امتصاص الفوتونات من وميضِ الضوء الحراري الأرضي.
تَستخدم البكتيريا، والعتائقُ الكيميائية والجمادية التغذية أو التي
تعمل بالمعادن، الإنزيماتِ لأكسدة وَقودها غيرِ العضوي، ونقلِ
الإلكترونات الناتجةِ عبر قنواتِ نقل الإلكترونات التي تعمل مثل سلاسل
الجزيئات الناقلة المستخدَمة في عملية البناء الضوئي. تقع قنواتُ نقل
الإلكترونات في الكائنات الكيميائية والجمادية التغذية في الغشاء
الخلوي، ويُستخدَم تدفُّق الإلكترونات لضخ البروتونات
(H+)
وتكوين جزيئات ATP. في نهاية سلسلة نقل
الإلكترونات، تتحول الإلكترونات المستنفدة الطاقة إلى أكسجين أو مستقبل
بديل للإلكترونات. يُستخدَم تدفقُ الإلكترونات هذا أيضًا لإنتاج مصدرٍ
محمول لطاقة الاختزال في صورة NADH.
وكما هو الحال في NADPH الذي يُنتَج في
عملية البناء الضوئي، يُستخدم NADH
لاختزال CO2
لإنتاج الجزيئات الحيوية التي تُكوِّن تركيب الخلية. يمكن لبعض
الكائنات الكيميائية والجمادية التغذية العمل بوصفِها كائناتٍ غيرَ
ذاتية التغذية عندما تتوفَّر السكريات والمركبات العضوية الأخرى في
بيئتها. وتُعد هذه المرونة الفسيولوجية مثالًا على التغذية
المتنوعة.
مواقع النشاط البركانيِّ والبيئات الملوثة بفعل أنشطةِ التعدين
والأنشطة الزراعية؛ بيئاتٌ ملائمةٌ بخاصةٍ لنموِّ الكائنات الكيميائية
والجمادية التغذية؛ لأنها تكون غنيةً بالموادِّ غير العضوية. تَشغَل
البكتيريا والعتائقُ المؤكسِدة للهيدروجين الينابيعَ الحارَّة
والمنفسات المائية الحرارية في قاع المحيطات، كما تزدهر البكتيريا
المؤكسِدة للكبريت موائلَ بيئية مماثلة، كما أن البكتيريا المؤكسِدة
للحديد متوفرةٌ في المياه الحمضية التي تتدفَّق من مَناجم الفحم
المهجورة وغيرها من مواقع المخلفات السامة. بأكسدة الأمونيا إلى
النيتريت وبأكسدة النيتريت إلى النترات
(NO3−)، تكون
بكتيريا النترتة بمنزلة مخصِّبات زراعية في التُّربة والبحيرات، فتدعم
نموَّ النباتات والميكروبات ضوئيةِ التغذية. وكما هو الحال في الكائنات
الكيميائية والجمادية التغذية، تصنع بكتيريا النترتة جُزَيئاتها
الحيوية عن طريق تثبيت ثاني أكسيد الكربون. في البيئات البحرية، تُنتِج
البكتيريا المؤكسِدة للأمونيا النيتريت كما تؤكسد بكتيريا «الأناموكس»
الأمونيا في ظل ظروف خالية من الهواء وتُطلق غاز النيتروجين
(N2).
يُعتبَر تثبيت النيتروجين عن طريق بدائيات النواة عمليةً أيضيَّةً
أخرى، ضروريةً لأداء النظام الحيوي لوظائفه. يُعَد النيتروجين
(N2) الغاز
الرئيسي المكوِّن للغلاف الجوي، ويُعد العنصرُ جزءًا من تركيب
البروتينات والنيوكليوتيدات والكلوروفيل والجزيئات الأساسية الأخرى.
ليس للنيتروجين الجويِّ فائدةٌ للنباتات، ولا يمكن لأغلبية الكائنات
تثبيتُه أو استيعابه. لهذا السبب تُعد البكتيريا والعتائق المثبتة
للنيتروجين مهمة للغاية. فهي تُغذي التربة والموائل البيئية المائية
بتحويل النيتروجين إلى الأمونيا
(NH3). تعمل
بدائيات النواة المستقلة وبدائيات النواة المتكافلة على تثبيت
النيتروجين باستخدام إنزيمٍ يُسمَّى نيتروجينيز. هذه عملية «مكلفة» من
الناحية الأيضية؛ لأن جزيئات النيتروجين في
N2 مرتبطةٌ
برابطة ثلاثية قوية لا بد من تكسيرها لاختزال الجزيء. تحصل البكتيريا
الزرقاء المستقلَّة على الطاقة اللازمة لتثبيت النيتروجين من نشاط
البناء الضوئي، في حين أن البكتيريا غيرُ ضوئية التغذية، التي تُثبِّت
النيتروجين داخل العُقد الجذرية للنفل وفول الصويا وغيرها من
البقوليات، تستمدُّ الطاقة من النبات العائل لها.
تستهلك الكائنات الكيميائية والعضوية التغذية الجزيئات الحيوية التي
تُنتجها الكائنات التي تعمل بضوء الشمس والتي تعمل بالمعادن. تُطلَق
الطاقة من هذه المركبات عن طريق تفاعلات التخمُّر والتنفس. تمدُّ
تفاعلات التخمر الخلية بجزيئات ATP
(مصدر الطاقة) وNADH (طاقة اختزال) في
حالة عدم توفُّر الأكسجين. أحد أنواع التخمر بواسطة البكتيريا والخمائر
تُولِّد ATP
وNADH من خلال تحويل السكريات إلى
الإيثانول وثاني أكسيد الكربون؛ ويُعد حمض اللاكتيك ناتجًا بديلًا
لتخمُّر السكريات. تَجني تفاعلات التنفُّس طاقةً من السكريات أكبرَ من
التي تَجنيها تفاعلات التخمُّر عن طريق استخدام سلاسل نقل الإلكترونات
كالتي تُنتج ATP وطاقة الاختزال في
الكائنات ذاتية التغذية. يمكن أن يكون التنفس هوائيًّا أو غيرَ هوائي.
يُستخدم الأكسجين في التنفُّس الهوائي لاستقبال الإلكترونات في نهاية
سلسلة نقل الإلكترونات. في التنفُّس اللاهوائي، تستخدم الكائنات الحية
مستقبِلات بديلة للإلكترونات تشمل البروتونات وثاني أكسيد الكربون
والكبريتات. وينتج عن اختزال البروتينات
(H+) غاز
الهيدروجين
(H2)؛ كما أن
اختزال ثاني أكسيد الكربون
(CO2) عن طريق
البكتيريا المولدة للأسيتات ينتج عنه الأسيتات
(CH3COOH)، كما
أن اختزال الكبريتات
(SO4−2)
يولِّد كبريتيد الهيدروجين
(H2S). تعكس
تفاعلات التخمر والتنفُّس التفاعلات التي تستخدمها الكائنات الذاتية
التغذية لتكوين الجزيئات الحيوية.
تقع قنوات نقل الإلكترونات، التي تتضمَّنُها عملية التنفس، في
الأغشية الخلوية للبكتيريا والعتائق. في حقيقيات النواة، تقع قنواتُ
نقل الإلكترونات، المستخدمة في عملية التنفُّس، في غشاءٍ مطويٍّ داخل
الميتوكندريون. هذا يبدو منطقيًّا تمامًا في ضوء الأصل التكافلي
للميتوكوندريون الذي يرجع إلى سلفٍ بدائيِّ النواة. تستطيع معظم
بدائيات النواة أن تُمارس التنفس الهوائي الذي ينتج عنه أكبر قدر من
الطاقة الناتجة عن أكسدة السكريات. وكانت الأشكال المعدَّلة من
الميتوكوندريا التي يُطلق عليها هيدروجينومات وميتسومات قد تطورت ضِمن
حقيقيات النواة غير الهوائية.
يمكن مباشرةً أكسدةُ السكريات والمركبات البسيطة، التي تستهلكها
الكائنات الكيميائية والعضوية التغذية، بتفاعلات التخمُّر أو التنفس.
ولا بد من تفكيك الجزيئات الأكثر تعقيدًا مثل متعددات السكريات
والبروتينات والدهون إلى جزيئاتٍ أصغر قبل امتصاصها في الخلية. تُطلِق
إنزيمات الهضم، التي تفرزها الكائنات الحية الدقيقة، السكريات والأحماض
الأمينية والأحماض الدهنية والجزيئات الصغرى الأخرى القابلة للذوبان من
هذه الجزيئات الكبيرة. تمتصُّ البكتيريا والفطريات هذه الجزيئاتِ
باستخدام البروتينات الناقلة في أغشيتها الخلوية وتخزنها لاستخدامها في
المستقبل، أو تؤكسَد بفعل تفاعلات التخمُّر والتنفس. تستخدم الكائنات
الحية الدقيقة آليات الهضم هذه للنموِّ على الأسطح أو في السوائل، أو
عندما تخترق موادَّ صلبة.
تتضمَّن مصادر الغذاء الطبيعية، للكائنات الكيميائية والعضوية
التغذية، الكربوهيدرات الموجودة في الفاكهة. على سبيل المثال، تحتوي
التفاحة التي سقطَت من شجرة على الفركتوز والجلوكوز والسكروز. الفركتوز
والجلوكوز سكريات أحادية يمكن أن تتخمَّر مباشرةً لتكوين الكحول وثاني
أكسيد الكربون، أو تُؤكسَد لإطلاق مزيدٍ من الطاقة من خلال التنفس
الهوائي واللاهوائي. تعمل البكتيريا والخمائرُ على تخمير هذه السكريات
في ظلِّ ظروف منخفضة الأكسجين. السكروز هو سكر ثنائيٌّ مكوَّن من
الفركتوز والجلوكوز. لتخمير السكروز، تفرز الخمائر إنزيم الإنفرتيز،
وهو إنزيم يُفكك الرابطة الجليكوسيدية في جزيء السكَروز، مطلقًا
الجلوكوز والفركتوز. يُعد هذا مثالًا على عملية الهضم التي تحدث قبل
التخمُّر والتنفس. التفاح أيضًا غني بالسليولوز، أو الألياف، وهي
عبارةٌ عن بوليمر من المئات أو الآلاف من جزيئات الجلوكوز الطبيعي،
مرتبطة في سلاسل ومتجمعة جنبًا إلى جنب في صورة لُيَيفاتٍ دقيقةٍ
تُكوِّن الجدران الخلوية للنباتات. والسليولوز هو البوليمر العضوي
الأكثرُ وفرةً على الأرض، ويوجد في النباتات القائمة، والأشجار التي
سقَطَت وبقايا النباتات في التربة. يتحلل السليلوز بواسطة العديد من
أنواع إنزيمات السليلوز التي تُفرزها البكتيريا والفطريات. تُزيل
إنزيمات سليوليز الطرفية جزيئاتِ الجلوكوز من نهايات سلاسل السليلوز في
حين أن إنزيمات السليوليز الداخلية تَقتطِعها من منتصف السلاسل. بقايا
الجلوكوز التي تُطلقها إنزيمات السليوليز تُحفز عملية التنفُّس التي
تقوم بها الكائنات الحية الدقيقة التي تعيش في التربة والتي تتحكم في
إعادة تدوير الكربون في الأنظمة البيئية الأرضية. كما تفعل المتكافلات
مع الحيوانات، تُحلل البكتيريا والفطريات السليولوز في أمعاء المجترات
والنمل الأبيض.
تحتوي الجدران الخلوية للنباتات على العديد من متعددات السكريات
الأخرى، بالإضافة إلى بوليمر اللجنين الفينولي والبروتينات. تعمل
الإنزيمات البكتيرية والفطرية على هضمِ كل هذه المواد. تنشأ البكتيريا
والعتائق والفطريات في مثلِ هذه المجموعة من الظروف البيئية، وتُنتج
مجموعةً واسعة من الإنزيمات المفرزة بحيث إن عددًا قليلًا جدًّا من
الموادِّ الطبيعية والمواد المخلَّقة يمكنه مقاومةُ هضم الميكروبات
للأبد. تُستخدم إنزيمات الهضم بطريقةٍ أخرى بواسطة الخلايا الأميبية
لحقيقيات النواة. تتغذَّى هذه الخلايا عن طريق البلعَمة، فتُحيط
بالبكتيريا والميكروبات الأخرى بأقدامها الكاذبة، وتبتلعُها داخل
الفجوات الغذائية في السيتوبلازم. تهضم الإنزيمات، التي تُفرز في
الفجوات الغذائية، ضحيتها المتمثِّلة في الأميبا وتمتصُّ الخلية
السكريات والجزيئات الصغيرة الأخرى من أجل التنفُّس الهوائي أو
اللاهوائي.
تزدهر الكائنات الحية الدقيقة في المجتمعات التي يتكامل أفرادُها من
خلال استخدام مصادرَ مختلفةٍ للطاقة، وخلقِ ظروفٍ بيئية محلية توفِّر
الدعم المتبادَل فيما بينها. الحصائر الميكروبية هي تجمُّعاتٌ كثيفة من
الكائنات الحية الدقيقة التي تتشكَّل في البيئات المائية. تدعم أحواضُ
المياه المالحة الضَّحلة العديدَ من الحصائر الميكروبية. تمتصُّ
البكتيريا الزرقاء ضوئيةُ التغذية ضوءَ الشمس وتنتج الأكسجين على سطح
هذه التجمُّعات. وهي أيضًا تستهلك الأكسجين من خلال التنفُّس الهوائي،
مستنفدةً الأكسجين الموجود في الطبقات الأعمق في الحصيرة الميكروبية،
وهو ما يشجع نموَّ الأنواع غيرِ الهوائية. ويشمل ذلك الكائنات
الكيميائية والجمادية التغذية المؤكسِدة لكبريتيد الهيدروجين، وبكتيريا
الكبريت الخضراء التي تستفيد من شدة الضوء المختلفة داخل الحصيرة،
والكائنات الكيميائية والعضوية التغذية، والبكتيريا الأرجوانية. تُغطي
الدياتومات والكائنات الحية الدقيقة حقيقيةُ النواة الأخرى سطحَ
الحصيرة الميكروبية وتخترق الداخل. تشمل الكائنات الحية القادرة على
الحركة، التي تعيش في الحصيرة الميكروبية، البكتيريا الزرقاء التي
تُهاجر من السطح عندما تزداد شدةُ ضوء الشمس ويمكنها التحولُ إلى عملية
البناء الضوئي غير الأكسجيني بدلًا من البناء الضوئي الأكسجيني عند
انخفاض مستوى الأكسجين. رواسب الستروماتوليت البحرية هي شكلٌ من أشكال
الحصائر الميكروبية التي تُشكل دعامة مَعدِنية حيث تُدفَن الطبقات
الأدنى من التجمعات الميكروبية داخل الرواسب المتراكمة. ونجد أقدمَ
خلايا متحجِّرة محفوظة في رواسب ستروماتوليت عمرها ٣٫٥ مليار سنة غرب
أستراليا (الفصل السادس).
تُعد رواسبُ الستروماتوليت من أمثلة الأغشية الحيويَّة الرقيقة.
تتكوَّن الأغشية الحيوية الرقيقة الأقلُّ وضوحًا حيثما تلزم البكتيريا
والعتائق وحقيقيَّات النواة الأسطح وتُنتِج مستعمَرات. تُغطي الأغشية
الحيوية الرقيقة أسطُحَ النباتات، وتكوِّن طبقة فوق الصخور في الموائل
المائية، وتنمو على أسناننا؛ وفي البيئات الاصطناعية، تُكوِّن الأغشية
الحيوية الرقيقة طبقةً دهنية لامعة على هياكل القوارب، وستائر أحواض
الاستحمام، والأجزاء الداخلية من الأنابيب. تمرُّ القنوات بين الخلايا
في الغشاء الحيوي الرقيق، متيحةً مساراتٍ لنقل الغازات والعناصر
الغذائية التي تُغذِّي التجمُّعات ولإطلاق مخلَّفاتها. تتباين الظروف
البيئية داخل الغِشاء الحيوي، بناءً على تغيُّر مستويات الغذاء عن طريق
الكائنات التي تسكن الغشاءَ بالإضافة إلى انخفاض توافر الأكسجين في
المواقع الأعمق مشجعًا على نموِّ بدائيات النواة اللاهوائية. تتبادل
البكتيريا الإشارات فيما بينها أثناء تنافسها على المساحة والعناصر
الغذائية وإقامة هيكلٍ منظم للمستعمرة في الغشاء الحيوي. هذا التواصل
الجزيئي هو أحدُ أشكال استشعار النِّصَاب التي تستخدمها الكائناتُ
الحية الدقيقة لتنظيم التعبير الجيني وفقًا للكثافة السكانية.
بحصول البكتيريا والعتائق والكائنات الحية الدقيقة على الطاقة عن
طريق عمليات الأيض التي لُخِّصَت في هذا الفصل، فإنها تنمو وتتكاثر
وتملأ المحيط الحيويَّ بالخلايا المشتتة والأغشية الحيوية الرقيقة
والكائنات المتكافلة مع أشكال الحياة الأخرى. انقسام الخلايا في
بدائيات النواة هو عمليةُ تكاثر لا جنسي تزيد حجم السكان. يُطلق على
الزمن المنقضي بين كل دورة من دورات انقسام الخلية اسمُ زمن التوالد.
يتباين زمنُ التوالد تباينًا كبيرًا بين البكتيريا والعتائق. فتنقسم
بكتيريا الإيشيرشيا كولاي الموجودة في أمعائنا كلَّ عشرين دقيقة، وهي
بذلك تتناقض تناقضًا كبيرًا مع العتائق المولدة للميثان في بحيرات
القطب المتجمِّد التي تتضاعف مرةً كلَّ شهر. (قد تُظهر بدائيات النواة
المدفونة في الرواسب الموجودة في قاع البحر نشاطًا أقل، فربما تتضاعف
خلال مدةٍ زمنية مقدارها سنوات، وتستحقُّ لقب «حياة الحركة
البطيئة».)
تنمو تجمعات البكتيريا نموًّا أسِّيًّا وهو ما يترتب عليه إنتاج
أعداد كبيرة من الخلايا عند توفر كميات كبيرة من المغذيات. يتجلى ذلك
في الانتشار السريع للعدوى البكتيرية وتلفِ الطعام عند توقف الثلاجة عن
العمل. يتوقف النمو الأسِّي عند نضوب الموارد وتراكُم المخلفات السامة
الناتجة عن تجمعات الخلايا المستفحِلة. تتبع زيادة تجمع من البكتيريا
المزروعة نمطًا يمكن التنبُّؤ به؛ يبدأ بطور الركود، عندما يبدأ تجمع
الخلايا الأولي في تجميع المواد اللازمة لدعم النموِّ والانقسام
السريع، يليه طَوْر النموِّ الأسي، يليه طور السكون (طور الثبات) حيث
يتباطأ النمو، وأخيرًا طور الموت (شكل رقم
٢-٥).
يُتَحَكَّم في المدة الزمنية التي تستغرقها كلُّ مرحلة من هذه المراحل
في تطبيقات التكنولوجيا الحيوية لزيادة عائد المنتجات المصنَّعة. عندما
تنضب العناصر الغذائية، تُنتج مجموعاتٌ صغيرة من البكتيريا أبواغًا
داخل خلاياها (أبواغ داخلية)، أو في سلاسل، أو مجمَّعة أعلى الأجسام
الثمرية ذات السيقان. تُمكِّن هذه الاستراتيجيات التكاثرية أنواعَ
البكتيريا المِطَثِّيَّة والبكتيريا العصوية والبكتيريا المتسلسلة
(البكتيريا الشعاوية) والبكتيريا المخاطية (المتقلبات) للصمود في
الظروف غير المواتية.
تستطيل الخلايا بدائية النواة قضيبية الشكل إلى أن تنقسم بالانشطار
الثنائي (شكل رقم
٢-٦). بعد التضاعف الكروموسومي،
يُنظَّم انقسام الخلية إلى نصفَين متساويَين من خلال تكوين حلقةٍ من
بروتين يُسمى
FtsZ تحت الغشاء الخلوي.
يؤدي انقباض «الحلقة
Z»، المصحوب
بتخليق جدار خلويٍّ جديد، إلى فصل الخلايا البنوية. يُنتَج البروتين
FtsZ في البكتيريا والعتائق وأيضًا
يشترك في انقسام الميتوكوندريا والبلاستيدات الخضراء في الخلايا حقيقية
النواة. يُثبَّط تكوين الحلقة
Z إلى أن
يكتمل التضاعفُ الكروموسومي وتنفصل النسختان. يُوَجَّه تحديد موقع
الحلقة
Z في الخطوة التالية بواسطة
البروتينات التي تعمل على تحديد موقع منتصف الخلية. يُشار إلى البروتين
FtsZ والبروتينات بمعقد الانقسام. قد
تكون مكونات عملية الانقسام موادَّ مستهدَفة لمضادات حيوية
جديدة.
يرتبط الانقسام الخلوي بالانقسام الميتوزي في الكائنات الحية الدقيقة
حقيقية النواة، لكن آليات العملية تختلف كثيرًا بِناءً على تركيب
الخلية. يتضمَّن انقسام الخلايا الأميبية (والخلايا الحيوانية) انقباض
حلقة بروتينية تتكون عند خطِّ استواء الخلية وتقسمها إلى نصفين (شكل
رقم
٢-٦). ويتحدد موقع هذه الحلقة عن طريق مغزل
الانقسام الميتوزي الذي يُوجِّه انقسام الكروموسومات إلى الخلايا
البِنوية. ثَمة آليات مختلفة للانقسام الخلوي في الفطريات، منها تكوين
البراعم، والانشطار في الخمائر، وتكوين أقسام الخلية بطول الخيوط
الفطرية من خلال نموِّ الحواجز (الجدران العرضية). تُظهِر الدياتومات
واحدةً من أغرب آليات الانقسام الخلوي التي يصبح فيها حجم الخلية
العادي في تجمُّعٍ من الطحالب ضوئية التغذية أصغر فأصغر في دورات
الانقسام المتعاقبة. يحدث هذا بسبب التركيب الصلب للجدران الخلوية في
الدياتومات، الشبيه بصندوق ذي غِطاء. الجدار مصنوعٌ من زجاج السيليكا
ويتبع الانقسامَ الميتوزي تكوينُ الخلايا البنوية داخل جدار الخلية
الأم. تستعيد الخليةُ حجمها عندما تخضع الدياتومات للتكاثر الجنسي
وتُكَوِّن نصفَي الصدَفة الجديدة.
تتوسع تجمعات الخمائر بطريقة مشابهة للبكتيريا، لكن الوضع يكون أكثرَ
تعقيدًا في الفطريات الخيطية؛ حيث تنقسم الخيوط الموجودة داخل موقع نمو
الفطر وتغذيته داخليًّا بفعل تَكَوُّن الحواجز وتتفرع الخلايا
لتُكَوِّن شبكةً من الخلايا. لا توجد طريقةٌ واضحةٌ لإيجادِ رابطٍ بين
زمنِ تضاعف مستعمرة للخمائر ونموِّ مستعمرة للفطريات بها أقسامٌ خلوية
مختلفة الطول تحتوي على أعدادٍ متباينة من الأنوية. لأسباب عملية، من
المرجح أن يكون قياس مقدار الزيادة في الكتلة الحيوية للفطريات الخيطية
أجدى من عدِّ أقسامها الخلوية.
تكوين الجراثيم استجابة لمحدودية العناصر الغذائية هو أيضًا من
السِّمات المميزة للفطريات. تتكيَّف بعض الأبواغ عند تفريقها عن
المستعمرة الأم ووضعها في مكان تكون فيه البيئةُ مناسبةً للنمو. والبعض
الآخر يُعد بمنزلة كبسولات النجاة التي تُمكِّن الفرد من تحمُّل الظروف
البيئية غير المواتية إلى أن تعمل الظروف المستقبلية على تعزيز
الإنبات. تتكيَّف الأبواغ عند تفريقها في الهواء أو في الماء. تتباين
الأبواغ تباينًا كبيرًا في الشكل والحجم وقد استخدم علماء الفطريات هذه
الخواصَّ المجهرية باعتبارها سمةً تشخيصية للتعرف على أنواع الفطريات
(شكل رقم
٢-٧).
تنتج الفطريات الأبواغ جنسيًّا ولا جنسيًّا. وتنمو سلاسلُ أو
مستعمراتُ الأبواغ غير الجنسية، أو الغبائر، فوق الدعامات أو السيقان
التي تنمو فوق موقع نموِّ الفطر. الأنوية الموجودة في الغبائر ناتجةٌ
عن انقسامٍ ميتوزي وهو ما يعني أن كل بوغ عبارةٌ عن نسخة طبق الأصل من
المستعمرة الأم، وتحمل نسخةً مطابِقة من جيناتها. تُنتَج أنواعٌ مختلفة
من الأبواغ عقب إعادة الاتحاد الجيني في التكاثر الجنسي في الفطريات.
وتتكون اللاقِحات الجرثومية في الجراثيم الجنسية عن طريق الفطريات
الزيجية. وتنتج الأبواغ الكيسية عن التزاوج بين الفطريات الزقية أو
الكيسية، وتنتج الأبواغ الدعامية عن التزاوج بين الدعاميات.
معظم مجموعات الكائنات الحية الدقيقة حقيقية النواة لا تُنتج الأبواغ
التي تنتشر عبر الهواء؛ لأن دورات حياتها مائية. وعادةً ما تنتشر هذه
الكائنات عن طريق الحركة السلبية مع الماء المحيط. تعمل الأبواغ، أو
الأكياس الساكنة، بمنزلة تراكيبَ مقاوِمةٍ تُتيح للميكروبات الهوائية
أن تكون في حالة كُمونٍ خلال أشهر الشتاء، وأن تصمد حتى تعود الظروفُ
البيئية المناسبة. ما يُعرَف عن دورات حياة الفطريات يفوق ما هو معروفٌ
عن الكائنات الحية الدقيقة حقيقيةِ النواة الأخرى؛ لأنه يمكن
استنباتُها ولعقود اعتُبِرت كائناتٍ تجريبيةً نموذجية. ينطبق الأمر
نفسُه على البكتيريا، التي أمكن استنباتها على عكس أغلبية العتائق التي
يستعصي إنماؤها في المختبَر. ما لدينا من نقص في المعرفة يفوق بكثيرٍ
ما كانت عليه تقديراتُنا حتى وقتٍ قريب، عندما بدأت التحليلاتُ
الوراثية للعيِّنات البيئية تُبين أعداد الكائنات الحية الدقيقة التي
أُهمِلَت بسبب فشل استنمائها في المختبر. ويُعد استكشافُ وظيفة الأيض
لأشكالِ الحياة الغامضة هذه، وعملياتها الحيوية الخلوية، وسلوكها من
التحديات الأكثرِ إثارةً في علم الأحياء الدقيقة المعاصر.