الفصل الثالث
علم الوراثة الميكروبية وعلم الأحياء الدقيقة الجزيئي
تُحدد التراكيبُ الخلوية وعمليات الأيض التي ورَد ذِكرُها في
الفصلَين الأول والثاني عن طريق الجينات. واكتُشِفت أنماطُ وراثة هذه
الجينات بإجراء التجارِب على النباتات والحيوانات، لكن دراسة الوراثة
على مستوى الجزيئات ركَّزَت على البكتيريا والفطريات أكثرَ من ستِّين
عامًا. وقد سهَّل هذا العملَ كلٌّ من الجينومات الدقيقة للكائنات الحية
التي تنتمي إلى الأنواع متعددة الخلايا، وزمن التوالد السريع
للميكروبات المزروعة، وسهولة مُزاوجة بعض الفطريات لدراسة إعادة
الاتحاد الجيني من خلال التزاوج الجنسي.
تُشفَّر جينومات البكتيريا والعتائق والكائنات الحية الدقيقة حقيقية
النواة في صورة شرائط لولبية مزدوجة من الحمض النووي (الدي إن إيه).
تُشفر الجينومات الفيروسية في صورةِ جزيئات الحمض النووي والحمض النووي
الريبوزي (وآر إن إيه) مفردة الشريط ومزدوجة الشريط. يحدث التعبير
الجيني الفيروسي داخل الخلايا المصابة باستخدام الآليات الجزيئية
للعائل. سيُعرَض علم الوراثة الفيروسية في الفصل الرابع. الدي إن إيه
والآر إن إيه هما حمضان نوويَّان يتكونان من سلاسلَ من النيوكليوتيدات.
كل نيوكليوتيدة تحتوي على جزيءِ سكر، ومجموعة فوسفات تربط جزيء السكر
في إحدى النيوكليوتيدات بالنيوكليوتيدة التي تليها، وقاعدة نيتروجينية.
(القاعدة الكيميائية هي مركَّب يتفاعل مع حمضٍ لتكوين ملح زائد ماء.)
يحمل تتابعُ القواعد في سلسلة النيوكليوتيدات المعلومات الوراثية.
تضمَّنَت أولُ جينومات فيروسية، دُرست تتابعاتُها في سبعينيَّات القرن
العشرين، بضعةَ آلاف من النيوكليوتيدات. دُرس تتابع جينوم أول كائن حي
متعدد الخلايا، وهو بكتيريا المستديمة النزلية، عام ١٩٩٥، واتضح أنه
يحتوي على ١٫٨ مليون من أزواج القواعد. (نحن نشير إلى أزواج القواعد
نظرًا إلى وجود سلسلتَين من النيوكليوتيدات المتكاملة على جزيء دي إن
إيه المزدوج الشريط.) حجم جينوم Methanocaldococcus
jannaschii، وهي عتائقُ محبةٌ للحرارة تُنتج الميثان،
يُماثل حجم جينوم المستديمة النزلية. نُشِر هذا عام ١٩٩٦، وتبعه تحديدُ
أول تتابعٍ لكائن حقيقي النواة، وهو خميرة الجِعَة
Saccharomyces cerevisia، الذي يتضمن
١٢ مليونًا من أزواج القواعد.
أتاح التقدمُ المحرَز في تقنيات تحديد التتابعات وتطوُّر الطُّرق
الآلية لتحديد التتابع للعلماء؛ تحديدَ التتابع لجينومات ٤٠٠٠ نوع من
البكتيريا و٢٠٠ نوع من العتائق و٢٠٠ نوع من حقيقيات النواة. تتباينُ
أحجام الجينومات تباينًا كبيرًا داخل كلِّ فئة من فئات الأحياء الدقيقة
ويتداخل حجمُ أكبر جينومات لبدائيات النواة مع أصغرِ الجينومات
لحقيقيات النواة (شكل رقم
٣-١).
لطالما كانت الطرقُ الآلية لتحديد التتابع بالتشظية
shotgun sequencing ذاتَ فعالية عالية
لتحديد تتابعِ الدي إن إيه للكائنات الحية. تتضمن هذه الطرقُ تقسيم
الجينوم إلى شظايا أو أجزاء، وعمل نُسَخ من كلِّ جزء (الاستنساخ)،
وتحديد التتابع لكل جزء، وتجميع الجينوم عن طريق تحديد التتابعات
المتداخلة. يوضح التجميعُ المكتمل الترتيبَ الصحيح للقواعد داخل
الكروموسومات غير المقسَّمة. وقد نتج عن التطور السريع في طرق تحديد
التتابع قراءاتٍ أسرعَ بتكلفةٍ أقل. يبدأ تحليل المعلومات في الجينوم
بالبحث عن التتابعات التي يمكن أن تُترجَم إلى بروتينات. هذه التتابعات
تُسمى «أطُر القراءة المفتوحة». تُحدَّد أطُر القراءة المفتوحة
باستخدام إحدى خوارزميات الكمبيوتر التي توجِد تتابعات دي إن إيه
المحددة المرتبطة بالتعبير عن الجينات.
يتضمن التعبيرُ الجيني آلياتٍ تشترك فيها جميعُ الكائنات الحية،
بالإضافة إلى بعض العمليات التي تختصُّ بها البكتيريا والعتائق
وحقيقيات النواة (شكل رقم
٣-٢). تُنسخ المعلومات
المشفرة في جزيء دي إن إيه إلى جزيئات آر إن إيه عن طريق إنزيم بَلْمرة
الحمض النووي الريبوزي. يرتبط الحمض النووي الريبوزي الناتج عن عملية
النسخ، والذي يُطلق عليه الحمض النووي الريبوزي الرسول (إم آر إن إيه)،
بالريبوسومات ويتحول إلى بروتينات. أطلق فرانسيس كريك على تدفُّق
المعلومات الوراثية من دي إن إيه لآر إن إيه للبروتين مصطلح «الدوجما
المركزية» عام ١٩٥٧ وبدأت تتكشَّف تفاصيلُ هذه الآلية الحيوية
الكيميائية المعقَّدة من خلال التجارِب على بكتيريا الإيشيرشيا كولاي
المعوية في ستينيَّات القرن العشرين.
إنزيم البلمرة البكتيري هو بروتينٌ ضخم يتضمَّن خمس وحدات فرعية.
ويرتبط بمواقع على طول جزيئات الدي إن إيه تُسمى محفِّزات، وتقع في
مقدمة الجينات. لتمكين النَّسْخ، لا بد أن يُفكَّ التفاف اللولب
المزدوج لدي إن إيه لكشف قواعد النيوكليوتيدات التي تُحدد ترتيب
الأحماض الأمينية، التي تتجمَّع بدَورها لتكوين بروتينات. يفعل إنزيمُ
بَلْمرة الحمض النووي الريبوزي هذا من خلال الاقتراب من الجين وفكِّ
التفاف اللولب المزدوج لتكوين «فقاعة النَّسخ»، ويُعاد التفافُه من
جديد بعد الفقاعة. يَستخدِم إنزيم البلمرة أحدَ الشريطين اللذين فُكَّ
التفافهما باعتباره الشريطَ القالب لتخليق جزيء آر إن إيه الذي تكون
قواعد النيوكليوتيدات الموجودة عليه مكملةً لقواعد النيوكليوتيدات
الموجودة على شريط دي إن إيه. جزيء الدي إن إيه هو عبارة عن بوليمر من
النيوكليوتيدات الريبوزية المنقوصة الأكسجين التي تحتوي على أربعة
أنواع من القواعد النيتروجينية: الأدنين والجوانين والثايمين
والسيتوزين (إيه، جي، تي، سي). وجزيء الآر إن إيه هو بوليمر من
النيوكليوتيدات الريبوزية وقواعدها هي: الأدنين والجوانين واليوراسيل
(بدلًا من الثايمين) والسيتوزين (إيه، جي، يو، سي). تنتمي القاعدتان
إيه وجيه إلى نوعٍ من القواعد يُسمى البيورينات، بينما تنتمي القواعد
تي وسي ويو إلى البيريميدينات. في جزيء دي إن إيه، ترتبط قواعد الأدنين
بقواعد الثايمين في الشريطَين المتكاملين عن طريق الروابط
الهيدروجينية، وترتبط قواعد الجوانين بالسيتوزين. ينسخ إنزيم بلمرة
الحمض النووي الريبوزي تتابع دي إن إيه على شريط مفرد من الآر إن إيه
من خلال توصيل قواعد الأدنين باليوراسيل والثايمين بالأدنين والجوانين
بالسيتوزين والسيتوزين بالجوانين وإنتاج تتابعٍ من النيوكليوتيدات
الريبوزية التي ترتبط بروابطَ تساهمية. يُطلَق إنزيم بلمرة الحمض
النووي الريبوزي عندما يلتقي الإنزيم بتتابعٍ يُسمى «مُنهي
النسخ».
معظم الجينات تُحدد البروتينات، لكن الحمض النووي الريبوزي
الريبوسومي (آر آر إن إيه) والحمض النووي الريبوزي الناقل (تي آر إن
إيه) يتكوَّنان من خلال عملية النسخ ولا يُترجَمان. تتَّحد ثلاثة أنواع
من الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي مع العديد من البروتينات لتكوين
هيكل الريبوسومات البكتيرية. يلعب ستُّون نوعًا من تي آر إن إيه دورًا
في آلية الترجمة يتمثل في إضافة الأحماض الأمينية إلى سلاسل عديدات
الببتيد المتزايدة التي تكوِّن البروتينات. تُنسخ الجينات التي تُشفِّر
أنواعًا مختلفة من آر آر إن إيه وتي آر إن إيه كوحدات مفردة في
البكتيريا وتُجزَّأ إلى جزيئات آر إن إيه مختلفة بعد النسخ.
توصف هذه الجينات (تُسمى أيضًا المقرونات) بأنها متعددةُ المقرونات.
يمكن لمجموعةٍ من هذه الجينات، المنسوخة بالتزامن معًا والتي يتحكم
فيها محفِّزٌ واحد، أن تُكوِّن منطقةً فعالة. يتَّسم معظم الحمض النووي
الريبوزي الرسول الناتج عن عملية النسخ في العتائق بأنه متعددُ مقرونات
أيضًا.
تحدث ترجمة إم آر إن إيه إلى بروتينات عند ارتباط إم آر إن إيه
بالريبوسومات. يُحدد تتابعُ الإم آر إن إيه الإضافةَ المتتابعة للأحماض
الأمينية التي تُكوِّن البروتينات. تُشفَّر الأحماض الأمينية المختلفة
في صورة مجموعاتٍ ثلاثية من قواعد النيوكليوتيدات في تتابع إم آر إن
إيه تُسمَّى الكودونات. بالإضافة إلى كونِ هذه التتابعات الثلاثية تحمل
شفرةَ الأحماض الأمينية، فإنها تُحدد مواضعَ بَدْء الترجمة (كودونات
البدء) والمواضع التي تنتهي عندها الترجمةُ (كودونات الوقف). تُحمَل
شفرةُ كلِّ حمض أميني من الأحماض الأمينية الاثنين والعشرين بواسطة
كودون أو أكثرَ وفقًا للشفرة الوراثية. تكون الشفرة عامة غالبًا،
باستثناءِ بعض الاختلافات لدى بعض الكائنات الحية التي تستخدم كودونات
الوقف لتشفير الأحماض الأمينية. تتكامل الكودونات مع مضادَّات
الكودونات التي تحملها تتابعاتُ أنواع مختلفة من جزيئات تي آر إن إيه،
الشبيهة بشكلِ أوراق البرسيم، والتي تحمل في طرَفِها الآخَر الأحماض
الأمينية إلى الريبوسوم. يتكامل تتابع تي آر إن إيه الذي يحمل مضادَّ
الكودون إيه يو إيه ويحمل حمض التيروزين الأميني مع الكودون يو إيه يو
الموجود على تتابع إم آر إن إيه. يضمن التوافقُ بين مضادِّ الكودون
الذي يحمله تتابع تي آر إن إيه والحمض الأميني الذي يحمله تجميعُ سلاسل
عديدات الببتيد وفقًا لترتيب الكودونات في تتابع إم آر إن إيه.
تُنَظَّم عملية النَّسخ عن طريق البروتينات التي ترتبط بتتابعات دي
إن إيه. يلتفُّ الحمض النووي لحقيقيات النواة والكثير من العتائق حول
بروتينات تُسمى الهستونات مما يُتيح تكثيفَ الحمض النووي داخل مساحةٍ
صغيرة نسبيًّا. يتَّحد الحمض النووي مع المركَّبات المعقَّدة لأنواعٍ
مختلفة من الهستونات لتكوين النيوكليوسومات، التي تبدو مثل عِقْد من
الخَرَز، ويتكثَّف هذا التركيب ويلتفُّ مرةً أخرى لتكوين أليافٍ أكثرَ
كثافة. ينتج عن تكثيفِ هذه الألياف أكثرَ فأكثر العديدُ من
الكروموسومات مختلفةِ الشكل في الخلايا حقيقية النواة، عندما تخضع
للانقسام الخلوي. في هذه الحالة من التفاف اللولب المزدوج، يكون إنزيم
بلمرة الحمض النووي الريبوزي غيرَ قادر على نَسْخ تتابُع دي إن إيه إلى
إم آر إن إيه. يعتمد التعبير الجيني على فكِّ الالتفاف، وهذا يُحفَّز
عن طريق الإنزيمات التي تعكس عملية الالتفاف. يُبسط عدم وجود هستونات
في البكتيريا هذه العمليات.
ترتبط معظم البروتينات التي تشترك في عملية التنظيم الجيني بتتابعات
دي إن إيه محددة، وتؤثر على نسخ جينات مفردة أو منطقة فعالة من جينات
منسوخة آنيًّا في الموقع نفسِه على الكروموسوم. تُنسَخ بعض الجينات
طَوال الوقت، وهو ما يُوفِّر إمدادًا ثابتًا من إم آر إن إيه الذي
يُترجَم إلى بروتين. ويُسمى هذا بالتعبير البنيوي أو التكويني. بعض
الجينات تعمل وتتوقف عن العمل استجابةً لمتطلبات الخلية والتغيُّر في
الظروف البيئية.
الرسم التوضيحيُّ الكلاسيكي للتنظيم الجيني في البكتيريا هو الآلية
التي تتحكَّم في مستويات الإنزيمات الثلاث التي تدخل في استخدام
اللاكتوز: lacZ, lacY, lacA. اللاكتوز
سكر ثنائي يوجد في الحليب. تتجاور الجينات التي تحمل شفرة الإنزيمات
على الكروموسوم البكتيري وتُشكِّل منطقة فعالة يتحكم فيها تتابُعان
أماميَّان يُطلَق عليهما المحفِّز والمشغِّل. عندما يرتبط إنزيم بلمرة
الحمض النووي الريبوزي بالمحفِّز تُنسَخ إنزيمات اللاكتوز الثلاثة
بالتزامن معًا لتكوين جُزيء إم آر إن إيه مفردٍ متعدِّد المقرونات. في
غياب اللاكتوز، تعمل الخلية البكتيرية على حفظ الطاقة من خلال الحدِّ
من نسخ المنطقة الفعالة. ويتحقق ذلك من خلال ربط بروتين مُثَبِّط
بالتتابع المشغل الذي يلي المحفِّز، وهو ما يعيق ارتباطَ إنزيم بلمرة
الحمض النووي الريبوزي بالمحفِّز. أما في حالة توفر اللاكتوز، فيرتبط
ناتجُ تفكُّك السكر بالمثَبِّط ويمنعُه من الارتباط بالمشغل. وهو ما
يُتيح لإنزيم بلمرة الحمض النووي الريبوزي الوصولَ إلى المنطقة
الفعَّالة ونسخها دون عوائق. بحثَت الدراسات تنظيمَ منطقة اللاكتوز
الفعَّالة في ستينيَّات القرن العشرين، مستعينةً بطفرات من بكتيريا
الإيشيرشيا كولاي، وقد أوضحَت العقَبات التي يتضمَّنها أيضُ اللاكتوز.
يُنشَّط نسخ العديد من الجينات الأخرى بدلًا من أن يُثبَّط. تتضمن
آليات التحكم الموجبة بروتينات منشطة تحفِّز ارتباط إنزيم بلمرة الحمض
النووي الريبوزي بالدي إن إيه.
يخضع التعبير الجيني أيضًا لآليات مُنَظِّمة أكثرَ تعقيدًا تتضمن
البروتينات الحسية sensory proteins
التي ترصد الإشارات البيئية، والبروتينات منظِّمة الاستجابة
response regulator proteins التي
تتحكم في النسخ. تُشكِّل هذه البروتينات آليةً تنظيمية مكوَّنة من
عنصرَين. البروتين الحسي هو نوع من الإنزيمات، يُسمى هستيدين كاينيز
histidine kinase، يقع في الغشاء
الخلوي. عندما يرصد إنزيم الكاينيز الإشارة المناسبة فإنه يُرسل مجموعة
فوسفات إلى الهستدين المتبقي (الحمض الأميني) داخل مركز بنيته، ثم ينقل
مجموعة الفوسفات هذه إلى البروتين المنظِّم للاستجابة في السيتوبلازم.
هذا التفاعل يُسبب تغيرًا في شكل البروتين المنظِّم للاستجابة الذي
يحفِّز نسخ الجينات المستهدفة أو يُثبطها.
تمتلك بعضُ البكتيريا ما يَزيد عن مائة آلية لنقل الإشارات، وهو ما
يُمكِّنها من الاستجابة للتغيرات في درجة الملوحة والحموضة ودرجات
الحرارة وتوفُّر المغذيات، وأي تحديات بيئية أخرى. تخضع الحركة
البكتيرية، نحو الجاذبات الكيميائية وبعيدًا عن الطاردات، لآلية
تنظيمية مكونة من عنصرَين تؤثر على دوار السوط. يُنشِّط رصدُ هذه
المواد الكيميائية في السائل المحيط بالخلية إنزيمَ كاينيز الحسِّي.
يُحفز هذا الإنزيم البروتين المنظِّم للاستجابة الذي يتحكم في اتجاه
دوران دوار السوط. فدوران الدوار عكسَ اتجاه عقارب الساعة يُحرِّك
الخلية في خطٍّ مستقيم؛ أما الدوران في اتجاهِ عقارب الساعة فيجعل
الخليةَ تنقلب ثم تُغير اتجاهها قبل أن تسبح بعيدًا في الجهة المقابلة.
هذه الآلية، التي يُشار إليها بالانجذاب الكيميائي
chemotaxis، هي توضيحٌ بسيط نِسبيًّا
للعلاقة المعقَّدة بين البروتينات الفردية التي تُحمل شفرتها في
الجينوم الميكروبي وسلوك الخلية. تُعد الآليات المنظمة المكونة من
عنصرين والتي تتضمن إنزيمات الهستدين كاينيز غيرَ شائعة في حقيقيات
النواة، لكن أمكن التعرفُ عليها في الفطريات والميكروبات حقيقيةِ
النواة الأخرى.
تقدم الاستجابة للصدمة الحرارية مثالًا آخر على التحكم الجيني في
نشاط الخلية. تُنتج جميع الكائنات الحية بروتينات الصدمة الحرارية
Heat shock proteins عندما تتعرض للضغط
بالحرارة والعوامل الأخرى التي تعيق أنشطتها الحيوية. تؤدي بروتينات
الصدمة الحرارية دور المرافقات، فتحافظ على الطي الصحيح (الهيئة)
للبروتينات وتمنع تجمع البروتينات. يُنَظَّم نسخ الجينات التي تحمل
شفرة بروتينات الصدمة الحرارية في البكتيريا والعتائق عن طريق بروتينات
صغيرة (عوامل سيجما) التي تستجيب مستوياتها مباشرة لدرجة الحرارة.
تُمكِّن بروتينات الصدمة الحرارية بدائيات النواة من الصمود في ظل
درجات الحرارة المرتفعة والمعالجات الكيميائية التي، لولا وجودُ
بروتينات الصدمة الحرارية، كانت ستعمل بدورها على تثبيط البروتينات.
وتُعد بروتينات الصدمة الحرارية المتماثلة عند البشر مهمةً في الحفاظ
على صحة القلب والأوعية الدموية، وتلعب أدوارًا محوريةً في جهاز
المناعة.
يُنظَّم جينوم البكتيريا والعتائق في صورة جزيء دائري من الدي إن
إيه. يبدأ نسخ هذا الكروموسوم عند موقعٍ واحد، يُسمى مَنْشأ النسخ،
ويستمر في كِلا الاتجاهَين حول الحلقة. يُحفَّز نسخ جزيء الدي إن إيه
عن طريق إنزيمات بلمرة الحمض النووي التي تكوِّن شرائطَ جديدة من
النيوكليوتيدات على كِلا شريطَي اللولب المزدوج للدي إن إيه؛ لتكوين
زوجَين من الكروموسومات الكاملة. يكتمل النسخ في الإيشيرشيا كولاي في
نحو أربعين دقيقة تُضيف خلالها إنزيمات البلمرة ١٠٠٠ نيوكليوتيدة في
الثانية. تعمل إنزيماتٌ أخرى تشترك في عملية التضاعف على فك التفاف
اللولب المزدوج قبل عمل إنزيمات البلمرة (إنزيم اللولب)، وسدِّ الفجوة
في بداية الشريط الجديد عند اكتمال التخليق (إنزيم الربط). وتُعد
الأخطاء التي تحدث في عملية النسخ مصدرًا للطفرات، وتكون مميتةً
للخلية. يُحَافِظ على دقة التضاعف نظامُ تصحيحٍ نشطٌ تستجيب فيه
إنزيماتُ البلمرة للتشوهات التي تحدث في لولب الدي إن إيه، نتيجةً
لاندماج نيوكليوتيدة خاطئة مع نيوكليوتيدة تحمل القاعدة الصحيحة، وذلك
بعد أن تحُلَّ محَلَّ نيوكليوتيدة ضلَّت طريقها.
يعود النسخ في العتائق لمنشأي نسخ أو أكثر على كروموسوم مفرَد. ويُعد
هذا من الفروق العديدة بين علم الوراثة الجزيئية للبكتيريا والعتائق.
تتضمَّن سمات العتائق، الأشبه بحقيقيات النواة من البكتيريا، التماثل
بين نوع إنزيم بَلْمرة الحمض النووي الريبوزي الوحيد في العتائق وأحد
إنزيمات بلمرة الحمض النووي الريبوزي المستخدَمة بواسطة حقيقيات
النواة، وتتابعات المحفِّز في العتائق وحقيقيات النواة، وآليات
الترجمة.
ومع ذلك، ثمة العديد من الاختلافات بين الأنظمة الوراثية للعتائق
وحقيقيات النواة، بدءًا من عزل العديد من الكروموسومات الخطية داخل
نواة حقيقيات النواة. تصنع النواة فارقًا كبيرًا في الخلية لأنها تَفصل
بين آليات تخليق الحمض النووي الريبوزي الرسول (خلال النسخ) وتخليق
البروتينات (الترجمة). لا بد أن ينتقل الحمض النوويُّ الريبوزي الرسول
عبر المسام الموجودة في الغلاف النووي؛ وذلك كي يُترجَم عن طريق
الريبوسومات الموجودة في السيتوبلازم (شكل رقم
٣-٢). وهذا يُتيح للخلية حقيقية النواة سيطرةً أكبر على تخليق
البروتينات. تُنظَّم جينات حقيقيات النواة بطريقةٍ مختلفة عن تنظيم
الجينات في بدائيات النواة. وتُعد المناطق الفعالة غيرَ شائعة في
حقيقيات النواة. إذ ينتج عن وجود مناطق غير مشفِّرة للدي إن إيه
(الإنترونات) بين المناطق المشفِّرة (الإكسونات) في جينات الكائنات
حقيقية النواة؛ تكوينُ جزيئات الحمض النووي الريبوزي الرسول، التي
تتضمَّن تتابعاتٍ من الإنترونات والإكسونات. تُزال الإنترونات من الإم
آر إن إيه المخلَّق حديثًا، وتُربط الإكسونات معًا، وينتقل شريط الحمض
النووي الريبوزي الرسول المشذَّب من النواة إلى السيتوبلازم حيث يُترجم
إلى بروتين. تُنفذ وظيفة تقطيع أجزاء من الحمض النووي الريبوزي وربط
أجزاء عن طريقِ مركبٍ من الآر إن إيه والبروتينات يُسمى جُسيمَ الوصل
spliceosome. وتُعد الإنترونات نادرة
جدًّا في البكتيريا والعتائق. يُعدَّل الإم آر إن إيه لحقيقيات النواة
أيضًا من خلال إضافة «قبعة» في طرف الجزيء الذي تبدأ عنده الترجمة
(يُعرف بالطرف ٥’)، وتخليق «ذيل» من بقايا نيوكليوتيدات الأدينيلات
(إيه) يبلغ طوله ١٠٠–٢٠٠ عند الطرَف الآخر (الطرف ٣’). تُعد إضافةُ
القبَّعة والذيل عديد الأدنين ضروريةً لانتقال الإم آر إن إيه من
النواة، لبدء الترجمة وغيرها من الأغراض. تُضاف الذيول عديدةُ الأدنين
القصيرة أيضًا إلى الإم آر إن إيه في بدائيات النواة وفي الميتوكوندريا
والبلاستيدات الخضراء في حقيقيات النواة.
يشير علماء الأحياء إلى المظهر الماديِّ للجينات بالنمط الظاهري
ومجموعة الجينات بالكامل بالنمط الجيني. يمكن استيعاب الروابط الآلية
بين النمط الظاهري والنمط الجيني في الكائنات الحية الدقيقة وحيدة
الخلية بشكلٍ أفضل من استيعابها في الأنواع متعددةِ الخلايا. يمكن
دراسة التعبير الجيني باستخدام رقائق الحمض النووي الدقيقة المكوَّنة
من قِطع من الجينات، مثبَّتةٍ على رُقاقة صُلبة مصنوعةٍ من الزجاج أو
البلاستيك أو السيليكون. توضع ملايينُ النُّسخ من كل تتابعٍ من تتابعات
الدي إن إيه في الفتحات الدائرية الموجودة على الرقاقة في نمطٍ محدد
ثنائي الأبعاد، ويمكن للباحث دراسةُ الجينات التي تخضع لعملية النسخ في
ظل مجموعة محددة من الظروف؛ من خلال إضافةِ محلول موسوم من الحمض
النووي الريبوزي الرسول، المأخوذ من تجمُّعٍ من الخلايا. يوسَم الإم آر
إن إيه بصِبغة فسفورية، وبعد السماح لهذه العينة بالتفاعل مع الرقاقة
الدقيقة، يُتعرَّف على جزيئات الإم آر إن إيه المرتبط بقِطع الجينات من
مواقع الجينات المكملةِ لها على الرُّقاقة. تُعد هذه اللقطة من النَّسخ
أحدَ مصادر المعلومات المستخدمة في دراسة الشريط المكمل للحمض النووي
الريبوزي بالكامل. يُسمى هذا بالترنسكريبتوم
transcriptome. يُستخدم مطياف الكتلة
لدراسة البروتينات الناتجة عن ترجمةِ الحمض النووي الريبوزي الرسول
(المحتوى البروتيني أو البورتيوم
proteome)، بالإضافة إلى نواتج الأيض
الناتجة عن نشاط البورتيوم (المجموع الأيضي أو الميتابولوم
metabolome). تُسفِر هذه التقنيات
القوية عن مجموعاتٍ ضخمةٍ ومعقَّدة من البيانات التي يستلزم لتحليلها
خبراءُ كمبيوتر متخصِّصون في مجال المعلوماتية الأحيائية متعددِ
التخصصات. تسير الدراسات المتعلقة بالترنسكريبتوم والبورتيوم
والميتابولوم جنبًا إلى جنب مع التحليل الجينومي، مقدِّمة معلومات حول
استخدام الجينوم عند خضوع الكائن الحي لتغيراتٍ تطورية ومواجهة الظروف
البيئية المختلفة.
يحمل أكثرُ من ٩٠ بالمائة من جينومات البكتيريا والعتائق شفراتِ
البروتينات. وتمتلك الكائناتُ بدائية النواة التي تعيش داخل خلايا
حقيقيات النواة بصفتها طفيليات مدمِّرة، والكائنات الداعمة المتعايشة
داخليًّا، أصغر جينومات الكائنات الخلوية. تحتوي البكتيريا المخاطية
على أكبرِ جينومات بدائيات النواة. يتباين عددُ الجينات المشفرة
للبروتينات في جينومات الكائنات بدائية النواة من ١٦٩ في حشرة
Hodgkinia cicadicola المتعايشة
داخليًّا إلى ١١٥٩٩ في أحد أنواع البكتيريا المخاطية يُسمى سورانجيوم
سيلولوزيوم Sorangium cellulosum الذي
يعيش في التربة. ويُعد الفقد الجيني الهائل من الخصائص المميزة
للكائنات بدائية النواة المتعايشة داخليًّا. وينعكس ذلك في الجينومات
الصغيرة الموجودة في الميتوكوندريا والبلاستيدات الخضراء لكائنات
حقيقية النواة، التي تطوَّرَت من بكتيريا مستقلَّة. تتوقع التجارِبُ
التي تتضمن اضطرابَ الجينات داخل جينوم المفطورة التناسلية الصغير
بالفعل؛ أنه يلزم وجودُ ما لا يقلُّ عن ٢٥٠-٣٠٠ جين من أجل استمرارِ
هذا النوع من البكتيريا.
تحتوي جينومات حقيقيات النواة على نِسَب أعلى من التتابعات غيرِ
المشفِّرة، وهو ما يجعل من المستحيل تقديرَ عدد الجينات الوظيفية من
عدد أزواج قواعد الدي إن إيه. يُعد جينوم الخميرة مُكثَّفًا نسبيًّا
لكائن حقيقي النواة، إذ تَشغل تتابعاتٌ غيرُ مشفِّرة ثُلثَ الدي إن إيه
الخاص به. وهو منظَّم في صورة ١٦ كروموسومًا ويحمل شفرة ٦ آلاف جين
وظيفي. يتماثل ثلاثون بالمائة من جينات الخميرة مع جينات الإنسان، وهو
ما يعني وجودَ جينات لها تتابعات متماثلة في الكائنَين، ويبدو أنَّ
كِلَيهما ينحدر من السلفِ القديم نفسِه. يبلغ حجمُ جينوم الأميبا
الاجتماعية ديسكويستيليوم ديسكوديوم
Dictyostelium discoideum ثلاثةَ أضعاف
الخميرة، ويحمل شفرة ضِعف عدد البروتينات، ونحو ٤٠ بالمائة من الدي إن
إيه به غيرُ مشفِّر. لبعض الكائنات الحية الدقيقة الأخرى جينوماتٌ
مبعثَرة بشكل عشوائي أكبر. الجينوم العملاق لأميبا بروتوس
Amoeba proteus معبَّأ في صورة
٥٠٠–١٠٠٠ كروموسوم، ووفقًا للتقديرات، يفوق حجمُ جينوم قريبتها،
بوليكاس دوبيوم Polychaos dubium، حجمَ
جينوم الإنسان بمائتَي مرة. ويُفترض أن معظم جينوم أميبا بوليكاس
دوبيوم غيرُ مشفِّر. الفرضية البديلة هي أنها تحصل على صفات وراثية
تجعل منها أميبا أكثرَ بكثير من الصفات الوراثية التي تجعل منها
إنسانًا.
تُنسَخ بعضُ تتابعات الدي إن إيه التي لا تحمل شفرةَ بروتينات إلى
أشكال وظيفية من الآر إن إيه الذي يشترك في تخليق البروتينات (الحمض
النووي الريبوزي الريبوسومي والحمض النووي الريبوزي الناقل) وجزيئات آر
إن إيه التي تُنظم التعبيرَ عن الجينات المشفِّرة للبروتينات. توضع
التتابعات الأخرى غير المشفِّرة التي يُطلَق عليها الإنترونات داخل
جيناتٍ وظيفية. ويُشار إلى تتابعات الدي إن إيه التي لا يبدو أنها
تُشفِّر بروتينات أو تُنسَخ إلى جزيئات آر إن إيه وظيفيةٍ بتَسْمية
«الدي إن إيه غير الوظيفي». قد تكون بعضُ هذه التتابعات عبارةً عن نُسخ
متكررة من الجينات (جينات كاذبة)، لكنها ثُبِّطَت خلال التاريخ التطوري
لجينوم الكائن الحي، أو أدخَلَتها فيروسات وأصبحَت لا تؤدي وظيفةً
فعالة في الوقت الحاضر. تُعد هذه من المجالات البحثية النشطة. ويُعد
تحليل الجينوم الكامل إحدى المهام الرئيسية لعلم الأحياء الدقيقة
الحديث. تُقدم الأبحاث في مجال الجينوم معلوماتٍ حول الآليات المسبِّبة
للأمراض، والأنشطة البيئية للميكروبات، والإمكانيات التكنولوجية
الحيوية للأنواع المختلفة، والتاريخ التطوري.
كل أنواع المادة الوراثية معرَّضة لحدوث طفرات. وتلعب الطفراتُ
الطبيعية في الكائنات الحية الدقيقة دورًا رئيسيًّا في التطور. وتؤثِّر
الطفرات النقطية ما بين التتابُعات المشفِّرة على أزواج القواعد
المفرَدة. وتتسبَّب تباديلُ أزواج القواعد هذه في مجموعةٍ من التأثيرات
بالتدخل في عملية النسخ أو الترجمة، ويمكن أن ينتج عنها بروتيناتٌ غيرُ
وظيفية. إذا نتج عن الطفرة تتابعٌ ثلاثي يقابله الحمض الأميني نفسُه
الذي يقابل التتابُعَ الأصلي، فلن يكون للطفرة تأثيرٌ على تخليق
البروتين. وهذه الطفرات صامتة. وغالبًا ما تكون إضافةُ أزواج قواعد إلى
مناطق التشفير من الجينوم أو حذفها، أو حذف التتابعات، مدمِّرةً جدًّا.
وذلك لأن تأثيراتها على التعبير الجيني لا يمكن عكسُها بطفرةٍ عكسية
بسيطة تستعيد التتابع الأصلي لأزواج القواعد. كانت الطفراتُ الاصطناعية
التي تحدث للكائنات الحية الدقيقة بفعل استخدام الموادِّ الكيميائية
المسبِّبة للطفرات والأشعة فوق البنفسجية والإشعاع المؤيَّن من
الممارسات البحثية واسعةِ الانتشار لعقود. هذه الطرق تُدمر الجينوم
بطريقةٍ عشوائية، وتُستخدم لتكوين مجموعة من الجينات المسببة للطفرات.
أصبحَت الطفراتُ الموجهة لجينات محدَّدة، التي تُعرف بالتطفير الموجه
لموقع معيَّن، من الطرقِ الأكثر شيوعًا في علم الوراثة الجزيئية
والهندسة الوراثية.
تطوَّرَت الآليات الطبيعية للتعديل الجيني بين البكتيريا والعتائق
والميكروبات حقيقية النواة. يحدث التحولُ عند دمج أجزاء الحمض النووي
المأخوذة من خليةٍ مانحة داخل خلية متلقِّية. يحدث دمج الحمض النووي في
كروموسوم الخلية المتلقية بواسطة البروتين آر إيي سي إيه. لا يحدث
التحول في الطبيعة على نحوٍ متكرر، بل يمكن أن يُحفَّز في ظل ظروفٍ
تجريبية. التنبيغ هو الآليةُ الثانية للتعديل الجيني التي يُنقل خلالها
فيروس الحمض النووي من خليةٍ لأخرى. ويُعتقد أن هذه الآليةَ تُعد آليةً
أكثرَ أهمية بوصفها آليةً طبيعية. يُتيح تزاوجُ البكتيريا انتقالَ
الحمض النووي بين الخلايا عبر تركيبٍ أنبوبي يُسمى خيطًا شعريًّا
جنسيًّا. يُطلق على عملية التبادُل الجيني، التي تتضمن الاتصالَ
الماديَّ بين الخلايا، تسميةُ الاقتران. يتكون الخيط الشعري من العديد
من الوحدات الفرعية البروتينية. تُسحب الخليَّتان المتزاوجتان معًا عن
طريق تفكُّك الوحدات الفرعية للخيط الشعري وتُكوِّن ثقبًا عند موقع
الاتصال الذي يُنقل عبره الحمض النووي.
تنتقل البلازميدات غالبًا أثناء عملية الاقتران. البلازميدات هي
جزيئات صغيرة دائرية من الحمض النووي تحمل شفراتِ جيناتٍ ثانوية غير
موجودة في الكروموسوم. يمكن أن تحتويَ الخلية الواحدة على أكثرَ من
مائة نسخة من نوعٍ واحد من البلازميد. تحمل الجينات الموجودة على
البلازميدات المقاوِمة شفراتِ البروتينات التي تحمي الخليةَ من
المضادَّات الحيوية. تؤثر الأنواع الأخرى من البلازميد على شدةِ انتشار
سلالةٍ بكتيرية من خلال تعزيز قدرتها على الاستيطان في عائل محدَّد
وإلحاق الضرر به.
ويُطلَق على تتابعات الحمض النووي التي يمكنها الانتقالُ من موقع
داخل جينوم إلى آخَر الجيناتُ القابلة للانتقال أو الجينات القافزة.
وهي موجودةٌ في جميع الكائنات الحية وهي من العوامل المهمة التي تشترك
في تطوُّر الجينوم. في الكائنات الحية بدائية النواة، يمكن للجينات
القافزة الانتقالُ من البلازميدات متسببةً في إدماج مقاومة لمضادات
حيوية في الكروموسوم. إذا لم يُنسَخ الجين القافز قبل تبديل موقعِه
(بآلية القص واللصق)، فإن التتابع يُفقَد من موقعه الأصلي؛ أما إذا
نُسخ الجين القافز قبل انتقاله (بآلية القص واللصق)، فإن التتابع
الأصلي يبقى في موقع الخلية المانحة. معظم الجينات القافزة لا تُسبب
أيَّ تلفٍ للخلية، لكن عندما تستقرُّ في داخل جينات فعالة فمن المحتمل
أن تُثبط عملها.
دائمًا ما يكون التكاثر في الكائنات بدائية النواة لا جنسيًّا. يؤدي
الاقترانُ وآليات أخرى إلى مبادلة الجينات بين الخلايا، لكن البكتيريا
والعتائق لا تشترك في اقتران الجينومات وإعادة اتحادها الذي يحدث في
التكاثر الجنسي في حقيقيات النواة. التكاثر الجنسي شائعٌ بين
الميكروبات. وتحتوي خلايا خميرةِ الجِعَة على مجموعةٍ مفردة من
الكروموسومات. تنقسم نواةُ كلِّ خلية انقسامًا ميتوزيًّا وتنتقل نواة
بنوية إلى البرعم (شكل رقم
٣-٣). قد تُنتِج كلُّ
خلية مجموعةً من البراعم التي تترك ندبات على سطح الخلية الأمِّ عند
انفصالها عنها. يوجد نوعان تزاوجيَّان في الخميرة، يشار إليهما بألفا
وإيه. تندمج الخلايا التي لها نوعٌ معاكس من التزاوج لإنتاج خليةٍ
واحدة تحتوي على مجموعتَين من الكروموسومات (خلية ثنائية الصيغة
الصبغية)، ويُنتج الانقسام الميوزي أربعة أبواغ لها مجموعةٌ واحدة من
الكروموسومات. الانقسام الميوزي هو نوعٌ من الانقسام الخلوي الذي يَنتج
عنه حيواناتٌ منَوية وبويضات في الحيوانات. الخميرة هي أحد الفطريات
الكيسية، ويُطلق على أبواغها الجنسية تسميةُ الأبواغ الكيسية.
ينتج عن إنبات الأبواغ الكيسية إطلاق خلية جديدة من الخميرة تنمو
وتنقسم عن طريق تكوين البراعم. وتُعد دوراتُ الحياة الأكثر تعقيدًا
شائعةً بين الفطريات الخيطية. تُنتِج الفطريات الزيجية مستعمراتٍ من
الخيوط وتُنتج أبواغًا جنسية تُسمى اللاقحات الجرثومية عن طريقِ اقتران
مستعمرات بها نوعان تزاوجيَّان مختلفان (شكل رقم
٣-٤). ثمة عددٌ من الخطوات في هذه العملية يُتحكَّم فيها عن طريق
الفيرمونات المتطايرة. تندمج المستعمرات المتوافقة من الفطريات
الدعامية المكونة للقبعة الفطرية لإنتاج الخيوط الفطرية المقسمة إلى
خلايا، وتحتوي كلُّ خلية على زوجَين من الأنْوِية من كلِّ نوعٍ تزاوجي.
تظل الأنوية منفصلةً إلى أن تُكوِّن المستعمرةُ القبعةَ الفطرية، ويحدث
الاندماج في الخلايا الموجودة على سطح الخياشيم. يأتي الانقسام الميوزي
بعد الاندماج وتُعبَّأ الأنويةُ الأربعة الوليدة داخل الأبواغ التي
تنهمر من الخياشيم.
تناوَلَت الدراساتُ آليات التكاثر الجنسي في الكائنات الحية الدقيقة
حقيقية النواة، التي تنتمي إلى جميع المجموعات الرئيسية التي تناولناها
في الفصل الأول. للأميبا الاجتماعية ديكتيوستيليوم
Dictyostelium دورةُ تكاثر جنسي، تندمج
فيها خليَّتا النوعَين التزاوجيَّين المتقابلين، ثم تلتهم الخلية
الناتجة عن الاندماج الخلايا الأخرى في المجموعة لدعم تكوينِ كيس
يُطلَق منه الجيل التالي من الخلايا التي أُعيدَ اتحادُها. غياب الدليل
على إعادة الاتحاد في الأنواع الأخرى ليس دليلًا على انعدامه؛ فقد يحدث
التكاثر الجنسي في الأميبا، التي تبدو ظاهريًّا أنها لا تتكاثر
جنسيًّا، في ظل ظروفٍ موجودة في الطبيعة ولم تتكرَّر في المختبر. يمكن
للتحليل الجينومي الكشفُ عن هذه الدورات الجنسية الغامضة. يتضمَّن
جينوم الأميبا المتحوِّلة الحالَّة للنُّسُج Entamoeba
histolytica، وهي من الطفيليات المعوية، جيناتٍ للانقسام
الميوزي وهو ما يُشير إلى أن لديها آليةً للاندماج الخلوي.
وبالإضافة إلى الأبحاث الجينومية على نوعٍ واحد من الكائنات، طوَّر
علماءُ الأحياء الدقيقة طرقًا لاكتشاف تنوُّع الكائنات الحية الدقيقة
في البيئات المختلفة. وقد كشَفَت هذه الأبحاثُ الميتاجينومية عن وجود
وفرةٍ غير متوقَّعة من الكائنات الحية التي تعيش في البيئات المائية
والتربة والجهاز الهضمي للإنسان. ويمضي هذا العملُ قُدُمًا دون النظر
إلى عيِّنات بالمجهر أو زراعةِ ميكروبات في المعمل. وباستخدام طرق
تحديد التتابع بالتشظية، وتُقَدِّم الأبحاث الميتاجينومية معلوماتٍ حول
التتابعات مستقاةً من إجماليِّ الحمض النووي في عيِّنة. حدَّدت هذه
التجارِبُ أعدادًا كبيرة من الجينات التي تُظهر تشابهًا ضئيلًا مع
الجينات المعروفة، أو لا تظهر تشابهًا معها على الإطلاق، وتكشف عن وجود
كائنات جديدة على العلم.