علم الأحياء الدقيقة وعلاقته بالصحة والمرض لدى الإنسان
هيمَنَت الدراسات حول الكائنات المسبِّبة للأمراض على البحث في مجال علم الأحياء الدقيقة منذ أن قدَّم لويس باستور وغيرُه من روَّاد القرن التاسع عشر إسهاماتٍ في مجال الطب. كان التقدمُ الملحوظ المحرَز في فَهم الأمراض المعدية وعلاجها نتاجًا لأحد أنجحِ المساعي البشرية في التاريخ. ويُعد انتصارًا للثقافة العلمية في العالم الغربي الصناعي. تتمثَّل إحدى النتائج غيرِ المقصودة لهذه الدراسات المبكرة في وجودِ مَيلٍ عام إلى اعتبار جميع الكائنات الحية الدقيقة من المكونات الضارة للحياة. بدَأَت هذه الصورة في التغيُّر. إذ تشير الأبحاث الحديثة إلى أن تجمعات الميكروبات التي تعيش في قنواتنا الهضمية والتناسلية والتنفسية توازي في أهميتها لصحتنا وسلامتنا الوقايةَ من العدوى والعلاجَ منها. هذا التحليل الجزيئي للميكروبيوم البشري قد يشجع على حدوث ثورة مستقبلية في الطب.
يتكوَّن الإنسان العادي من ٤٠ تريليون خلية حقيقية النواة يصاحبها ميكروبيوم مكوَّن من ١٠٠ تريليون بكتيريا، أغلبها في الأمعاء، ومليون تريليون فيروس. حتى إننا، من حيث أعداد الخلايا الخام، نُعتبر ميكروباتٍ أكثرَ من كوننا ثديَّيات. بالإضافة إلى البكتيريا والفيروسات، يحتوي الميكروبيوم على العتائق والفطريات وغيرها من الكائنات الحية الدقيقة حقيقية النواة. الغالبية العظمى من هذه الميكروبات مفيدة، وقليلٌ منها له القدرة على التسبُّب في الأمراض. يبدو تعرُّضُ الأجنَّة للكائنات الحية الدقيقة محدودًا، إلا أن بعض الدراسات تشير إلى أن الجنين قد يبتلع القليلَ من البكتيريا من السائل الرهلي قبل مولده. وأثناء الولادة، يُغلَّف الجنين بالبكتيريا المِهبَلية، وهو ما يُعد نقطةَ الانطلاق لعملية التكافل الغنيَّة بالميكروبات في أجسامنا. وغالبًا ما يُغلَّف الأطفال الذين يولدون بعملية قيصرية بميكروباتٍ من جلد الأم والبالغين الآخَرين الذين يتعاملون مع الطفل حديثِ الولادة. هذه الكائنات بذرة الميكروبيوم في أمعاء الطفل. يضمُّ المستعمرون الأوائل من الكائنات الحية الدقيقة البكتيريا العصَوية اللبَنية وغيرها من متينات الجدار (الفصل الأول)، التي تتحمل الظروفَ الحمضية، وتحلُّ محلَّ هذه البكتيريا أنواعٌ من البكتيريا العصوانية التي تُحلل الكربوهيدرات النباتيةَ عندما يبدأ الطفل نظامًا غذائيًّا يعتمد على الأطعمة الصلبة.
يعكس انتشارُ أنواعٍ مختلفة من البكتيريا العصوانية التوازُنَ بين الكربوهيدرات النباتية التي تطغى على الأنظمة الغذائية في البلدان النامية، والبروتينات الحيوانية والدهون المشبعة التي غالبًا ما تكون أكثرَ شيوعًا في الأنظمة الغذائية الغربية. نحن نعتمد على الكائنات الحية الدقيقة لهضم الكربوهيدرات المعقَّدة التي تُشكل الجدران الخلوية لأنسجة النباتات؛ لأن جينومنا يحمل شفرة القليل من الإنزيمات اللازمة لذلك. تُنتج البكتيريا التي تُعالِج هذه البوليمرات مركَّباتٍ منخفضةَ الوزن الجزيئيِّ بما في ذلك الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة. يُطلِق انفجارُ الخلايا البكتيرية، الناتج عن الشيخوخة الطبيعية الخلية أو انفجارها نتيجةً لعدوى فيروسية، الأحماض الدهنية والمواد الكيميائية الأخرى إلى الطبقة الطلائية بالأمعاء حيث تخضع لعملية الأيض. تتَّضح أهميةُ هذا المصدر التكافلي للطاقة في التجارِب التي تُربَّى فيها فئرانٌ خالية من الجراثيم بدون ميكروبيوم. تحتاج هذه الفئران «التي تعيش في بيئةٍ مُتحَكَّم فيها من ناحية الكائنات الحية الدقيقة» إلى نظام غذائي أغنى من النظام العادي؛ ليحلَّ محل السُّعرات الحرارية التي يُقدمها الميكروبيوم.
بالإضافة إلى القيمة الغذائية لنواتج الأيض الثانوية التي يُنتجها الميكروبيوم، فإنها تمنح مزايا أخرى من بينها تنظيم امتصاص الماء والأملاح من الأمعاء، وتثبيط الميكروبات المسبِّبة للأمراض، والحفاظ على مستوياتٍ صحية من الدهون والجلوكوز في مجرى الدم. تخليق الفيتامينات عن طريق بكتيريا الأمعاء من السِّمات الأخرى الضرورية لبقاء الإنسان.
تُهيمن البكتيريا على أمعاء الإنسان وتتعايش مع التجمعات الصغيرة من العتائق والكائنات حقيقية النواة وحيدة الخلية. على الرغم من أن أعداد العتائق منخفضةٌ نسبيًّا مقارنةً بالبكتيريا — إذ تُقابل مائة مليون خلية من العتائق في جرام من البراز أربعين مليار من البكتيريا — فإنها تلعب دورًا محوريًّا في عمليات الهضم. تؤدي العتائق اللاهوائية دور البدائيات المولدة للميثان؛ إذ تستهلك غازَ الهيدروجين وتُنتج الميثان. يبدو أن هذه الكائنات الحية الدقيقة تنمو بالقرب من جدار القولون وتتعاون مع البكتيريا من أجل التخمر الفعال للسكريات. وتشير بعض الدراسات إلى أن التجمعات الكبيرة من البدائيات المنتجة للميثان مرتبطةٌ بالسِّمنة وتصبح أكثرَ وفرةً لدى مرضى فقدان الشهية. يمكن تفسيرُ هذا التناقض الظاهري من خلال العلاقة بين كفاءة الجهاز الهضمي وزيادة الوزن في حالة السمنة، وقدرة الميكروبيوم على العمل جاهدًا لتوصيل سعراتٍ حرارية كافية في ظل تجويع الجسم في حالة فقدان الشهية. تُشكِّك بعضُ الدراسات الأخرى في العلاقة بين البدائيات المولدة للميثان وزيادة الوزن، لكن تؤكد كلُّها على مدى تعقيد التكافل. تتضمن حقيقيات النواة في الأمعاء السليمة كُلًّا من الفطريات والسترامينوبيلس، التي يُعد تأثيرُها على صحة الإنسان غيرَ واضح، والمسببات المعروفة للأمراض التي لا تُسبب حالاتِ عدوى نشطة. وتُظهِر التجارِبُ على الحيوانات أن الفطريات، لا سيَّما الخمائر، تتضاعف استجابةً لالتهاب الأمعاء ويمكن ربطُ هذا التغير في البيئة بالتهاب القولون.
لاستخدام المضادات الحيوية لعلاج حالات العدوى البكتيرية تأثيرات مهمة وطويلة المدى على ميكروبيوم الأمعاء. فدورةٌ واحدة من المضادات الحيوية تُقلل من تنوع بكتيريا الأمعاء والجينات التي تجعل القدرة على مقاومة المضاد الحيوي تنتشر كالنار في الهشيم بين الخلايا الناجية. وتُظهِر التجاربُ أن هذه التأثيرات قد تستمرُّ سنتَين على الأقل. هذا الكشف مقلقٌ نظرًا إلى الكمِّ المتزايد من الأبحاث التي تربط بين تكوين ميكروبيوم الأمعاء وعدد الأمراض. ارتبطت الاستجابات الالتهابية لميكروبات الأمعاء بالتهاب القولون التقرُّحي والتهاب المفاصل الروماتزمي والتصلُّب المتعدد ومرض السكري والتهاب الجلد والربو. الأدلة على وجود آليةٍ سببية تربط بين التغير في الميكروبيوم ونشوء هذه الحالات محدودة، إلا أن هذا المجال من الأبحاث السريرية يتطور بسرعةٍ كبيرة. وقد أدى الاهتمام واسعُ النطاق بتحسين الصحة، من خلال تغيير ميكروبيوم الأمعاء، إلى خلقِ سوقٍ واسعة للأطعمة التي تحتوي على مزارعَ حية من الكائنات الحية الدقيقة. لكن الأدلة على كفاءة هذه الكائنات الحية المفيدة محدود. واستخدام عمليات نقل جراثيم البراز لإنعاش ميكروبيوم الأمعاء للمرضى الذين يُعانون من العديد من الحالات؛ هو طريقةٌ أخرى من طرق العلاج الناجمةِ عن الاهتمام بالعلاقة بين الكائنات الحية الدقيقة في أمعائنا وصحتنا.
قد يكون اختلال الميكروبيوم البشري في أعضاء الجسم الأخرى خطيرًا أيضًا. إذ تستوطن آلافُ الأنواعُ البكتيرية، بالإضافة إلى العتائق والخمائر، المخاطَ في الفم. وطبقةُ بلاك الأسنان عبارةٌ عن غشاءٍ حيوي رقيق يحتوي على مئات الأنواع من الميكروبات المغروسة داخل حشوة متعددةِ السكريات. تنوُّع الكائنات الموجودة في الغشاء الحيوي الرقيق لطبقة البلاك وتعقيدها التركيبي أمرٌ مذهل. تُغطَّى طبقةٌ من البكتيريا قضيبيةِ الشكل الملتصقة بمينا الأسنان بخلايا مغزليَّة الشكل والغشاء الحيوي الرقيق مغطًّى بخليطٍ من خلايا خيطية وقضيبية ومكورة. وتُشكِّل مجموعةٌ متنوعةٌ من البكتيريا، تشمل البكتيريا اللولبية والخمائر، تجمعًا سائبًا يوجد فوق التجمعات المُحكَمة من الخلايا في الغشاء الحيوي الرقيق. وتستوعب ممرَّاتُ الأنف والرئتَين أخلاطًا متنوعةً من البكتيريا كما أن الجلد غنيٌّ بالخمائر.
من بين التشكيلة الغنيَّة المتنوعة من الكائنات الحية الدقيقة التي تَشْغَل الميكروبيوم البشري، تُعد قِلةٌ قليلة فقط من العوامل المسبِّبة للمرض. يشير علماء الأحياء الدقيقة إلى قدرةِ الميكروب على التسبُّب في المرض بقدرته على الإمراض. وعادةً ما يُستخدم مصطلح حدة الجرثوم بالتبادل مع مصطلح القدرة على الإمراض، لكنه أحيانًا يُحدد شِدة الإمراض. ففيروسات إيبولا، على سبيل المثال، تُعد شديدةَ الحِدة، إذ تصل معدلاتُ الوَفَيَات إلى ٩٠ بالمائة في بعض موجات تفشِّي الحُمى النزفية. بعض الميكروبات من المسبِّبات الإجبارية للمرض؛ فتطوُّرها مرتبطٌ دائمًا بالمرض. يمكن أن تكون مسبباتُ المرض الانتهازيةُ من مكوناتِ الميكروبيوم الصحي، ولا تُسبب المرض إلا عندما تضعف الآلياتُ الدفاعية لدى العائل بشكلٍ ما. تُعد الفطريات من مسببات المرض الانتهازية التي تُسبب حالاتِ عدوى تُهدد حياة المرضى الذين تَضعُف أجهزتهم المناعية.
تبدأ العدوى بالتصاق الكائنات الدقيقة بأغشيتنا المخاطية. الأغشية المخاطية هي طبقاتٌ من الخلايا الطلائية التي تُغلف الأعضاء الداخلية وتُشكل حاجزًا بينها وبين البيئة الخارجية. تفرز هذه الأغشيةُ المخاطَ في بعض المواقع. الكائنات الحية الدقيقة التي تصبح حبيسةً في هذا السائل اللزج تُلقى إلى خارج السطح الطلائي. تتجنب مسبباتُ المرض الإزالةَ عن طريق مستقبلات التعرُّف البروتينية الموجودة على الخلايا الطلائية، وتلتصق بسطح خليةِ العائل. يمنح الالتصاق الميكروبات فرصةً لغزو الأنسجة الموجودة بالأسفل. فتدخل الميكروبات المسبِّبة للمرض إلى الجسم عن طريق الاستنشاق، والاتصال بعائلٍ مصاب، ولدغات مفصليات الأرجل والنواقل الحيوانية الأخرى، وتناول الأطعمة ومياه الشرب الملوَّثة، والتعرض للكائنات الحية الدقيقة المسببة للعدوى في التربة.
يدفع العطسُ والسعال قطراتٍ صغيرةً جدًّا من المخاط المحمَّل بالبكتيريا والفيروسات إلى الهواء. إخراج الهواء أثناء عملية العطس من الآليات الفعالة جدًّا في نقل الميكروبات؛ إذ تُطلق عشَرات الآلاف من القطرات الصغيرة بسرعات تصل إلى ١٠٠ متر في الثانية، ويُنشَر الرَّذاذ المحمَّل بالكائنات الحية الدقيقة في البيئة. حتى عملية الكلام ينتج عنها إطلاقُ موادَّ من الميكروبيوم الموجود في الأنف والفم. يُعد نقل الميكروبات داخل المخاطِ من الأهمية بمكان؛ لأن التجفيف بالهواء يقضي على معظم البكتيريا والفيروسات. وتتضمَّن الاستثناءات من هذه القاعدة البكتيريا التي تنتج أغطيةً خلوية واقية تحميها من التجفيف. وعمومًا، البكتيريا موجبةُ الجرام التي لها جُدران سميكة أكثرُ مقاومةً للتجفيف من الأنواع سالبة الجرام. ينتج أكثرُ نمط مميت من مرض الجمرة الخبيثة عن استنشاق الجراثيم الداخلية سميكة الجدار من العصوية الجمرية التي تصمد أمام الحرارة والتجفيف.
تتضمَّن الأمراض الشائعة التي تنتقل عبر البكتيريا التي تنتشر عبر الهواء العديد من الأمراض التي تُسببها أنواع البكتيريا المتسلسلة بما في ذلك الخناق والسُّعال الديكي، والسُّل، ومرض المكورات السحائية. ينتج التهابُ الحلق العقدي، أو التهاب البلعوم بالعقديات، عن البكتيريا العقدية المقيحة التي تعيش باعتبارها عضوًا حميدًا في الميكروبيوم في الجزء العُلوي من القناة التنفسية. وهي تلعب دورًا مسببًا انتهازيًّا للمرض عندما تضعف الآليات الدفاعية المناعية لدى العائل. بالإضافة إلى التهاب الحلق والأعراض المصاحبة لهذا المرض الشائع، تُسبب هذه البكتيريا إصاباتٍ في الأذن الوسطى، والتهابَ نسيجِ الثدي (التهاب الضرع)، وأمراضًا جلدية. التهاب اللفافة الناخر هو حالةٌ خطرة تنتج عن البكتيريا العقدية المقيحة تُكوِّن فيها البكتيريا عدوى عميقةً تحت جُرحٍ ما، وتُسبب انتشارًا سريعًا لتلف الأنسجة الذي يمكن أن يؤدِّيَ إلى الوفاة. ويُطلق على هذا المرض النادر في التقارير الإخبارية اسمُ «البكتيريا آكلة اللحم».
يُعد مرض السُّل، الذي تُسببه المتفطرة السُّلِّية، مرضًا شديدَ العدوى ينتشر من شخصٍ لآخر عن طريق الهواء. لا تظهر على الغالبية العظمى من الأشخاص الذين يتعرضون لهذه البكتيريا أعراض للمرض، لكن ١٠ بالمائة من هذه الحالات من العدوى التي ليس لها أعراضٌ ظاهرة تتطور إلى مرضٍ نشط. تحدث معظم حالات السُّل في البلدان النامية ويموت أكثرُ من مليون شخص من المرض كل عام. من بين العوامل الممرضة الأخرى، وحده فيروس نقص المناعة البشري هو الذي يقتل عددًا أكبر من الأشخاص. في حالة العدوى النشطة، تُدمر البكتيريا نسيج الرئة، لكنها تنتشر إلى أعضاء أخرى في نسبةٍ صغيرة من الحالات. تلف جهاز المناعة الذي يُسببه فيروس نقص المناعة البشري من عوامل الخطر الرئيسية المؤدية للإصابة بمرض السل. ويسبب نوعٌ آخر من البكتيريا المتفطرة، وهو المتفطرة الجذامية، مرض هانسن أو الجذام.
الإنفلونزا هي عدوى تنتشر عن طريق الهواء، تُسببها فيروساتُ آر إن إيه. تحدث الإنفلونزا الموسمية في الأشهُر الأكثرِ برودةً كلَّ سنة، مع وصول أعداد الحالات لذروتها في الولايات المتحدة في شهر فبراير، وفي أستراليا في شهر أغسطس. سببُ ارتباط العدوى بمواسمَ محددةٍ غيرُ معروف، لكن توجد بعض الأدلة على أن انتقال الفيروس في رذاذ المخاط يكون مُرَجَّحًا في الهواء البارد والجاف. تُعد الطيور البرية مستودَعًا للإنفلونزا أ التي تُسبب تفشِّيَ المرض بين الدجاج الداجن وينتج عنه جوائحُ الإنفلونزا لدى البشر. يُغطي نوعان من الجليكوبروتينات سطح هذا الفيروس: يرتبط الهيماجلوتينين (إتش) بسطح الخلايا الطلائية في الحلق والرئتَين، ويُطلِق الجليكوبروتين الثاني، نورامينيداز (إن)، الفيروس المتضاعف من الخلايا المصابة. تُحدَد الأنواع الفرعية المختلفة من الإنفلونزا أ وفقًا للجليكوبروتينات التي تحتوي عليها: على سبيل المثال، إتش ١ إن ١، الذي تسبب في وباء الإنفلونزا الإسبانية في المدةِ من ١٩١٨ إلى ١٩٢٠ وإنفلونزا الخنازير عام ٢٠٠٩، وإتش ٣ إن ٢ الذي تسبب في إنفلونزا هونج كونج في ستينيَّات القرن العشرين. السبب في أن فيروس إتش ١ إن ١ تسبَّب في ٥٠ مليون حالة وفاة أو ما يزيد عن ذلك عند تفشي وباء الإنفلونزا الإسبانية غيرُ واضح، لكن يبدو أنه استحثَّ عاصفةً من السيتوكين المسبِّب للالتهاب شبيهة بتلك التي تتضمنُها متلازمةُ الصدمة التسممية. تُسبب الفيروسات الأخرى المنقولة بالهواء الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية، وجدري الماء والهربس النطاقي ونزلات البرد العادية.
تنتشر أبواغ الفطريات المسبِّبة للأمراض عن طريق الهواء أيضًا. داء الرشاشيات الفطريُّ هو عدوى تُصيب الرئة عن طريقِ نوعٍ من الفطريات الكيسيَّة يُسمى الفِطر الرشاش. نستنشق جميعنا أبواغ الفطريات الرشاشة، لكن جهاز المناعة المتَّسم بالكفاءة يُمكنه التصدي لنموِّ هذه الكائنات الحية الدقيقة. تثبيطُ عمل جهاز المناعة، عن طريق الإصابة بفيروس نقص المناعة البشري أو كعرَضٍ جانبي نتيجةً لعلاج السرطان، أو نتيجةً لتلف الرئة الناتجِ عن السُّل، يمنح الفطريات الرشاشة الفرصة كي تتطورَ أكثر. ينمو الفطر النشط في أنسجةِ الرئة، ويمكن أن يُكوِّن عائقًا يُسمى ورمَ الرشاشيات، أو الكرة الفطرية، من الخيوط المضغوطة ونسيج الرئة الميت. في حالاتٍ نادرة، يمكن لخيوط الفطريات الرشاشة غزوُ أنسجةٍ موجودة خارج الرئة مسببةً نمطًا فتاكًا من داء الرشاشيات. ونظرًا إلى أن داء الرشاشيات يتطور استجابةً لضعف جهاز المناعة أو تلف الأنسجة، فإنه يُصنَّف باعتباره عدوى انتهازية.
وبخلاف الكثير من أنواع العدوى التي تسببها البكتيريا والفيروسات، لا تُعد أيٌّ من الإصابات الانتهازية التي تسببها الفطريات معدية. الفطريات الجلدية هي فطريات مسببة للمرض تنمو على الجلد والشعر والأظافر مُسببة القوباء الحلقية وسعفة القدم. لا تُعد هذه الفطريات انتهازيةً، ومن الممكن أن تكون مُعدية، إذ تنتشر عن طريق ملامسة المريض والاستعمال المشترك للمناشف والملابس الملوثة بالجراثيم. الفطريات الجلدية هي فطرياتٌ كيسية خيطية، تتضمن أنواعًا من الفطريات شعرية الأبواغ والبويغاء التي تتغذى على الكيراتين. في معظم الحالات، لا تحتلُّ هذه الفطريات سوى مساحاتٍ محدودة من النسيج، لكن في بعض الحالات، يمكن أن تنتشر الفطريات الجلدية، وتُسبب أمراضًا أكثر خطورة. تُعد الأنواع الملاسيزية جزءًا من الميكروبيوم الطبيعي لفروة الرأس. تتغذَّى هذه الخمائر على الدهون التي يفرزها الجلد وتُسمى الزهم. يمكن أن تنتشر الملاسيزية الكروية التي تُسبب قشرة الشعر، وتتسبَّب في عدوى التهابية تُسمى التهاب الجلد الدهني.
يتطلَّب انتقالُ الكثير من مُسببات المرض البكتيرية والفيروسية بين الأفراد مخالطةً مباشرة مع الشخص المصاب أو الدم الملوث. تُعد المكورات العنقودية الذهبية من مكونات الميكروبيوم الطبيعي، والسلالات الأكثر حِدَّة من البكتيريا تُسبب أمراض الجلد والالتهاب الرِّئوي ومرض المكورات السحائية وغيرها من الأمراض. قد يكون الأشخاص الأصحاء حاملين للبكتيريا، وثَمة الكثير من المخاوف من أن تنتشر في المستشفيات سُلالات مقاوِمة للميثيسيلين لا تستجيب للعلاج بالمضادَّات الحيوية التقليدية. ينتقل التهابُ الكبد الوبائي (أ) عن طريق الماء والطعام الملوثين بالبراز، وينتقل التهاب الكبد الوبائي (ب) عبر الدم الملوث بالفيروس النشط. يُعد السيلان والزهري والمتدثرة من الأمراض المنقولة جنسيًّا التي تُسببها البكتيريا؛ في حينِ يُعد الإيدز والهربس وفيروس الورم الحليمي البشري من الأمراض المنقولة جنسيًّا التي تُسببها عدوى فيروسية.
تَنتج أعراض الأمراض المعدية عن تلف الأنسجة، وإنتاج بعض السموم عن طريق بعض البكتيريا، واستجابة الالتهابية للجهاز المناعي. يُعد فيروس نقص المناعة البشري أحد الإصابات الأكثر تعقيدًا التي ترجع آثارها الموهِنة للميكروبات الانتهازية التي يزدهر نموُّها عن طريق تدمير الفيروس للخلايا البلعمية الكبيرة والخلايا التائية في جهاز المناعة. تتضمن الإصابات الثانوية الشائعة كلًّا من الالتهاب الرئوي الفطري الذي تتسبَّب فيه المتكيسة الرئوية الجؤجؤية، وآفات الدماغ التي يتسبَّب فيها فطرُ المستخفية المورمة، وداء المبيضات المنتثر الذي تتسبَّب فيه الفطريات المبيضة. كذلك يُعزِّز إضعافُ جهاز المناعة، الناتج عن تضاعف فيروس نقص المناعة البشري، الإصابة بالأمراض التي تُسببها الطلائعيات الطفيلية بما في ذلك داء المستخفيات (الإسهال الشديد) وداء المقوسات (التهاب الدماغ). يُعد هذان الطفيليان، أي خفية الأبواغ والمقوسة، من الطلائعيات السناخية (انظر الفصل الأول). من الأمراض الأخرى المصاحبة للإيدز ساركومة كابوزي، وهو ورمٌ يُسببه فيروس هربس، يُسمى فيروس هربس ٨.
تتضمَّن مُسببات الأمراض التي تنتشر عن طريق الحيوانات فيروس داء الكلب الناتج عن عضَّات الحيوانات، ومجموعة من الحميات النزفية بما في ذلك الإصابات بفيروس هانتا، الناتجة عن الوجود في مبانٍ تعجُّ بالقوارض، وبفيروس إيبولا التي قد تنتج عن لحوم حيواناتٍ لأدغال (بالإضافة إلى النسيج البشري المصاب). تؤدي النواقلُ من مفصليات الأرجل إلى انتشار الطاعون (البراغيث/بكتيريا اليرسنية الطاعونية)، وحمَّى غرب النيل (البعوض/فيروس غرب النيل)، وداء لايم (القراد/بكتيريا البورلية البورج دورفيرية)، والملاريا (البعوض/أحد الطلائعيات السناخية يُسمَّى المتصورة أو البلازموديوم)، والتيفوس (القمل/والبكتيريا الريكتسية). حجم المعاناة الذي تُسببه هذه الأمراض مذهلٌ للغاية. إذ قَتل الطاعون، وهو السببُ المفترَض للموت الأسود، من ٧٥ إلى ٢٠٠ مليون شخص في القرن الرابع عشر، وأهلك التيفوس مجموعاتٍ من السجناء في معسكرات الاعتقال، كما أهلك اللاجئين خلال الحرب العالمية الثانية، وتستمر الملاريا في القضاء على نصف مليون شخص كل عام.
الماء والأطعمة الملوَّثة بالكائنات الحية الدقيقة البرازية مصدرٌ آخَر للأمراض الميكروبية. الكوليرا (بكتيريا ضمة الكوليرا)، والتيفويد (السالمونيلا المعوية) والفيروسات، وداء الأميبات (الأميبا الحالة للنسج) من الأمراض الأساسية المنقولة عبر الماء، وتتسبَّب سمومٌ بكتيرية تُنتجها المكورات العنقودية الذهبي، والإيشيرشيا كولاي، والسالمونيلا (داء السالمونيلات) في التسمُّم الغذائي. يُعتبر سمُّ البوتولينوم من السموم العصبية المميتة التي تُنتَج في الأطعمة المعالَجة عندما تنبت الجراثيم الداخلية لجرثومة المطثية الوشيقية، وتنمو في ظروفٍ لا هوائية. يُعد التسمُّم الوشيقي المنقول عبر الغذاء نادرًا جدًّا في وقتنا هذا. تنتشر البكتيريا ذاتُ الصلة المسبِّبة للتيتانوس، وهي المطثِّية الكزازية، في الجروح التي تُقدم بيئةً لا هوائية. وتُنتج سُمًّا يُسمى تيتانوسبازمين يتداخل مع السيال العصبي، مسببًا تشنُّجات عضلية يمكن أن تؤدِّيَ إلى قصورٍ تنفُّسي.
على عكس الانطباع الذي قد تتركُه هذه القائمة الطويلة من الأمراض المعدية، فإن كائناتٍ قليلةً نسبيًّا ضمن التنوُّع الميكروبي الكبير تُسبب الأمراضَ للبشر. تُعد البكتيريا والفيروسات أهم العوامل الممرضة، لكن معظمها لا يُضِر بالبشر. قد تكون الإصابات بالفيروسات الانتهازية مميتة، لكن قلة قليلة من عشرات الآلاف من الأنواع الموصوفة من الفطريات هي التي تُسبب معظم المشكلات. وتُعد قلةٌ قليلة مماثلة من الطلائعيات وحيدات الخلية، أكثرها يقع ضمن المجموعة الرئيسية للطلائعيات السناخية، من مُسببات الأمراض. لا توجد أمثلة على أمراضٍ تُسببها العتائق وحدها. تشير بعض الدراسات إلى أن العتائق قد تُسهِم في تلَف الأنسجة الذي تُسببه تجمعاتٌ من بدائيات النواة. يُعد تسوس الأسنان من الأمثلة على هذا النوع من العدوى الميكروبية المتعددة.
تُظهِر كائناتٌ حية دقيقة تُسبب العدوى الانتهازية ضعفًا في القدرة على التكيُّف على النمو في جسم العائل الحيواني؛ إذ يُمكنها النموُّ في درجات الحرارة المرتفعة التي يستجيب بها الجسمُ كما تُلبي احتياجاتها من الطاقة عن طريق هضمِ الأنسجة، لكنها تقع تحت رحمة دفاعات جهاز المناعة التي غالبًا ما تطردُها من جسم الحيوان. تمنح العوائل، التي لديها آلياتٌ دفاعية ضعيفة، مصدرًا جيدًا للغذاء للكائنات الانتهازية، إلا أن المستويات المنخفِضة من الحديد والمغذيات الدقيقة الأخرى في سوائل الجسم تُمثل عقَبات لا تتزعزع في وجه النموِّ الميكروبي. لكن الرأي القائل بأن الحيوان العائل هو «طريق مسدود» لمسببِ المرض؛ غيرُ صحيح لأن الكائنات الانتهازية بطبيعتها تُعاد إلى الطبيعة عند تَحلُّل الجسم، ويمكنها بعد ذلك أن تعين مواضع مصادر الغذاء التي تدعمها خارج جسم العائل.
عندما تعجز آلياتنا الدفاعية المناعية عن مقاومة العدوى البكتيرية، يمكن معالجتها بالمضادَّات الحيوية. تعمل هذه المركبات على تثبيطِ تخليق الجدران الخلوية، أو تستهدف آليات خلوية أخرى تشمل نَسْخ الحمض النووي إلى الحمض النووي الريبوزي الرسول، وترجمةَ الحمض النووي الريبوزي الرسول إلى بروتين. تكون بعض المضادات الحيوية فعالة مع البكتيريا سالبة الجرام والبكتيريا موجبة الجرام، في حين تكون مضادات حيوية أخرى ذات نطاق فعالية أضيق. يُعد البنسلين، الذي يُفرزه نوعٌ من الفطريات الكيسية يُسمى المكنسية المعينة أو البنيسيليوم، من العوامل القوية المضادة للبكتيريا التي تستهدف البكتيريا موجبة الجرام. ويُعد البنسلين من مجموعة المضادات الحيوية التي تشترك في تركيبٍ رئيسي يُسمى حلقة بيتا-لاكتام. اكتشف العالم ألكسندر فلمنج تخليق البنسلين جي (البنسلين القياسي الذهبي أو بنزيل بنسلين) بواسطة فطر المكنسية المعينة عام ١٩٢٨ وطُوِّر من أجل الاستخدام السريري على يدِ فريقٍ بحثي من علماء جامعة أكسفورد تحت إشراف هاورد فلوري. بدأت الأبحاثُ لزيادة إنتاج المضادات الحيوية عام ١٩٣٨، واختُبِر الدواء على أول مريض عام ١٩٤١. أنتَجَت سلالةٌ أخرى من المكنسية المعينة، المعزولة من شمام متعفِّن، مقدارًا أكبرَ من المضاد الحيوي، وأصبح هذا الفطرُ عصبَ الإنتاج الصناعي. يعمل البنسلين والمضادات الحيوية الأخرى من مركبات بيتا-لاكتام على تدمير الخلايا البكتيرية من خلال إعاقة تكوين روابطَ عرضية داخل جدار الخلية الببتيدوجلايكان. يُضعِف تثبيطُ هذه الإنزيمات جدارَ الخلية ويؤدي إلى انفجارها.
تنتج المقاومة البكتيرية للبنسلين عن تطور سلالات تُنتِج إنزيمات تُسمى بيتا-لاكتاماز تُثبط عمل المضاد الحيوي بفتح حلقة البيتا-لاكتام. أصبحت المقاومةُ البكتيرية مشكَّلةً خلال العَقد الأول من استخدام البنسلين. أُحرِز تقدمٌ مهم باكتشاف البِنْية الأساسية للبنسلين، وهو جزيء يُسمى حمض الأمينوبنسيلانيك-٦، الذي يُنتجه فطرُ المكنسية المعينة. يفتقر هذا الجزيء إلى فعالية المضادِّ الحيوي، لكن يمكن استخدامه بوصفه مادةً أوَّلية لإنتاج مضادَّات حيوية شبه اصطناعية بإضافة مجموعةٍ متنوعة من السلاسل الجانبية. ويُعد الميثيسيلِّين (ميتيسللين) والأمبيسيلين أمثلةً على هذه المركَّبات. على عكس البنسلين، يُعد الأمبيسيلين مضادًّا حيويًّا واسعَ الطيف، وهو فعَّال ضد البكتيريا سالبة الجرام والبكتيريا موجبة الجرام.