علم البيئة الميكروبي والتطور
جميع الأحياء كانت مجردَ كائنات حية دقيقة طَوال ٢٫٦ مليون سنة، قبل أن تتطوَّر الكائنات الحية متعددةُ الخلايا. ظل العديد من الأنظمة البيئية ميكروبيةً بالكامل، وما زالت الكائنات الحية الدقيقة تُسيطر على بيئاتٍ تبدو خاضعةً للنباتات والحيوانات. فالأرض كوكبٌ ميكروبي إلى أبعدِ حد. وإذا تطورَت الحياة في أي مكان في الكون، فمن المؤكَّد أن الميكروبات، وليس الكائناتِ الحيةَ الأكبر، ستكون أكثرَ السكان عددًا. ينبع السبب الذي يدعو إلى الثقة في هذا التأكيد من أخذِ تدفُّق الطاقة في غلافنا الحيوي في الاعتبار.
تُقدم لنا أنشطةُ الكائنات الحية الدقيقة الأساسَ الكيميائي الحيوي اللازم لحياة النباتات والحيوانات. قد لا يكون هذا واضحًا للوهلة الأولى؛ لأننا نعلم أن الطاقة الشمسية تدعم أغلبَ أشكال الحياة من خلال عملية البناء الضوئي، كما أن النباتات هي الكائنات المنتِجة الرئيسية على الأرض. تُهيمن النباتات على المناطق المنتجة من الأراضي، وتفوق الحيوانات بمعامل مقداره ١٠٠٠، لكن كُتلتها الحيوية تعادل على الأرجح بدائيات النواة. علاوةً على ذلك تُمثِّل بدائيات النواة نسبةً أكبرَ بكثير من الكتلة الحيوية؛ وذلك لأن معظم الكربون في النباتات محتجَز داخل البوليمرات المكوِّنة لجدران الخلايا التي يتألَّف منها الخشب.
وعلى الرغم من أن نمط حياة النباتات معتمِدٌ على التغذية الذاتية، فإنها ليست كائناتٍ مكتفيةً ذاتيًّا. فهي تعتمد على تفاعلاتِ الأكسدة والاختزال المعقَّدة التي تقوم بها الميكروباتُ والتي تُخصب التربة عن طريق تثبيت النيتروجين، وتحويل النيتريت إلى نترات، وتعزيز توافر الفسفور والعناصر النزرة، وإعادة تدوير المواد العُضوية (انظر الفصل الثاني). تتَّسم الكائناتُ الحية الدقيقة حقيقية النواة بالوفرة أيضًا، وتُعد ضروريةً لتغذية النباتات والحيوانات وبقائها. تمدُّ الفطرياتُ الجذرية النباتات بالمغذِّيات والماء وتُحسِّن من بِنْية التربة. أما الفطريات الرمية والأميبا والطلائعيات المهدبة فتتنافس من أجل الموارد وتُحرِّك دورتَي الكربون والنيتروجين، بالاشتراك مع بدائيات النواة الأكثر عددًا. تعتمد النباتات والحيوانات التي تتناول هذه المغذِّياتِ على الكائنات الحية الدقيقة الموجودة في التربة.
أهمية الكائنات الحية الدقيقة في تدفُّق الطاقة أكثرُ تجليًا في المحيطات؛ حيث لا توجد نباتات. البكتيريا الزرقاء والطحالب حقيقيَّة النواة وحيدةُ الخلية هي أنشطُ الكائنات ضوئيةِ التغذية في ماء البحر. والميكروبات ضوئيةُ التغذية والميكروبات غيرُ ضوئيةِ التغذية هي الكائنات المسيطرة على البيئة البحرية؛ إذ تُسخِّر الطاقةَ اللازمة لدعم التفاعلات البيئية المعقَّدة بين الحيوانات المائية. تُمثِّل البكتيريا والعتائق ٩٠ بالمائة من الكتلة الحيوية للمحيط، وتمتلئ الأسطحُ المائية بالطحالب حقيقية النواة. تمتصُّ الطحالب الزرقاء البحرية من ثاني أكسيد الكربون ما يُعادل المقدارَ الذي تمتصُّه جميعُ الغابات الاستوائية المطيرة، كما تحتجز الدياتومات العالقة المقدارَ نفسَه من الكربون. بهذين معًا، يُعادل نشاطُ الكائنات الحية الدقيقة ضوئيةِ التغذية في البحار الأنشطةَ المرتبطةَ بعملية البناء الضوئي التي تقوم بها النباتاتُ على اليابسة. تُعد الفيروسات، لا سيما البكتيريوفاج، أكثرَ الكيانات التي تحتوي على المادة الوراثية وفرةً في المحيطات. وتشير التقديرات التقريبية إلى أن انحلال الخلايا بواسطة الفيروسات البحرية يقضي على ٢٠ إلى ٤٠ بالمائة من إجمالي البكتيريا كلَّ يوم. هذا التحوُّل المذهل الذي تُحدِثه الفيروسات في الميكروبات العالقة يُخَصِّب الماء أسفل سطح البحر المضاء بنور الشمس.
تدعم الكائناتُ الحية الدقيقة كيميائيةُ التغذية ازدهارَ الأنظمة البيئية الموجودة حول المُنَفِّسات المائية الحرارية والمرتشحات الباردة فوق سطح البحار، والتجمُّعات القديمة من بدائيات النواة والفطريات التي تنمو في الرواسب السحيقة على أعماقٍ تبلغ مئات الأمتار. قد تَستعمِر البكتيريا القشرةَ الأرضية إلى أعماقٍ تبلغ بضعةَ كيلومترات، قبل أن تُمحى بفعل الحرارة الصادرة من طبقة الوشاح. مقدارُ الكتلة الحيوية لهذا الميكروبيوم المخفي، الذي يُسمى «المحيط الحيوي العميق»، غير معلوم، لكنه من الممكن تصورُ احتمال أنه يفوق جميعَ الكائنات الحية على السطح عددًا. هذه الفكرة المثيرة للجدل تُوضِّح القدر الكبير الذي لا يزال ينبغي علينا تعلُّمه حول علم البيئة الميكروبي. كما أنها تُوسع من نطاق الظروف التي تجعل الحياةَ صالحة على كوكبٍ ما، وتَزيد من احتمالية أن تكون الكائنات الحية الدقيقة قد تطوَّرَت في مكانٍ آخر في نظامنا الشمسي وفي مناطقَ أبعدَ من الكون.
تُمَثِّل التربةُ للكائنات الحية الدقيقة موئلًا أكثر تعقيدًا من الأنظمة البيئية البحرية؛ لأن لها بِنْيةً ثلاثيةَ الأبعاد وكيمياء تتباينُ حسَب المسافات التي تتراوح بين تراكيبَ مِجهريةٍ وجغرافية. تتحدد البنية المادية للتربة وَفقًا لنِسَب كلٍّ من حبَّات الرمل والشظايا الدقيقة من الطَّمْي، وجُسيمات الطين التي تُعد أصغرَ حتى من البكتيريا. عادةً ما تكون التربة الرملية جيدةَ التهوية، لكنها أقلُّ خصوبةً من أنواع التربة التي تحتوي على نِسَب أكبرَ من الطمي والطين. للطين بنيةٌ بِلَّورية تجذب الأيونات من الماء المتخلِّل عبر التربة، ويمكنه أن يتبادلَها مع جذور النباتات. ونظرًا إلى أن جُسيمات الطين صغيرةٌ جدًّا، فإنها تُوفر مساحةً سطحية هائلة لهذه التفاعلات الكيميائية؛ إذ يحتوي المتر المكعَّب من الطين على مساحةٍ سطحية مقدارها ستةُ مَلايين متر مكعَّب. تُخَصَّب التربة بتجزئةِ الأنسجة النباتية والحيوانية وتُحللها بواسطة اللافقاريات والكائنات الحية الدقيقة. بعضُ هذه المواد العضوية تكون غيرَ قابلة للذوبان بدرجةٍ كبيرة وتُكوِّن الدُّبَال الذي يقاوم المزيدَ من التحلل لمئات الآلاف من السنوات. يؤثر هذا الدُّبَال على بنية التربة والمحتوى الرطوبيِّ والاحتفاظ بالمغذِّيات.
يظهر مستوًى آخَرُ من التعقيد عندما نعتبر أن كلَّ نوع من بكتيريا التربة له تجرِبةٌ حياتية فريدة تُشكلها التقلبات في توافر الأيونات المذابة، والتغيرات في درجات الحرارة، والاتصال بالبكتيريا الأخرى، ومهاجمة الفيروسات. يمكن للبكتيريا التحكمُ في مصائرها. فالتعبير الجينيُّ الموجود داخل الخلايا الدقيقة يُعدَّل باستمرارٍ للحفاظ على إنتاج الطاقة وتعظيم فُرَص انقسام الخلايا. كما تنتقل الخلايا المتحرِّكة التي تحتوي على أسواطٍ مغزليَّة عبر أغشيةٍ من المياه المحيطة بجسيمات التربة، استجابةً لتدرُّجات الأكسجين المذاب والمغذيات العضوية، بالإضافة إلى الشوائب المحلية من نواتج الأيض التي تُفرزها الكائنات الأخرى. أما البكتيريا غيرُ المتحركة، فتبقى في المواقع التي استوطنَتها النُّسخ «الأصلية» ما لم تُنقَل إلى مكانٍ آخَر مع ترشيح الماء، أو تنتقل برفقة أحد الديدان الخيطية.
كل حفنة من التربة عبارةٌ عن خليطٍ متنوع من الميكروبات. الأوصاف الشاملة لتأثيرات الكائنات الحية الدقيقة على كيمياء التربة لم تبدأ بعدُ في تناول التعقيد البيئيِّ لهذا الموئل. تنطبق هذه الفجوةُ الموجودة بين التأثيرات الإجمالية للتجمعات الميكروبية على البيئة المحيطة، وتفاصيل التأثيرات الكيميائية على المستوى المجهري، على كلٍّ من المحيطات وجميع الموائل البيئيَّة الأخرى. فنحن لم نتعوَّد على التفكير في النطاق المكانيِّ الذي تَشغله الخلايا المنفردةُ من البيئة، لكن هذا أمرٌ من المهم النظرُ فيه في علم البيئة الميكروبية.
يحتوي جرامٌ واحد من تربةِ غابة خِصبة على ما يُقدَّر بمائة مليون من بدائيات النواة، وقد كشَفَت الدراساتُ الميتاجينومية عن آلافِ الأنواع المختلفة من البكتيريا في العيِّنات المأخوذة من مواقعَ منفردة. من المغري أن نُطلق على هذه الكائنات المتنوعة من الناحية الوراثية وصْفَ نوع، لكننا لا نعلم إلا القليلَ جدًّا عن هذه البكتيريا، لدرجة أننا نستخدم المصطلحَين «نمط التشابه الظاهري» و«وحدة تصنيفية عاملة». يشير المصطلحان إلى التتابُعات الجينية التي تُظهِر تبايناتٍ كافيةً حتى إن هذه البكتيريا تبدو كأنها نشَأَت من تجمُّعاتٍ من كائنات حية دقيقة قد تُمثل أنواعًا مختلفة. ينبع جزءٌ من عدم اليقين من صعوبات تحديد أنواع الكائنات الحية الدقيقة. يلجأ علماءُ الأحياء إلى الاختلافات في طرق التكاثر للتمييز بين الأنواع الحيوانية، لكن «القواعد» المستخدمة في علم الحيوان وعلم النبات غيرُ مُجدية في حالة بدائيات النواة التي لا تتكاثر جنسيًّا، وأيضًا في حالة معظم الميكروبات من حقيقيات النواة. ما يَزيد طبيعةَ الأنواع الميكروبية تعقيدًا هو أن الغالبية العُظمى من ميكروبات التربة التي يمكن التعرفُ عليها باستخدام التقنيات الجزيئية لا يمكن استزراعُها. وهذا يعني عدمَ معرفة أيِّ معلومات تقريبًا عن خواصها الحيوية. ومع ذلك، فإن التنوُّع في ميكروبات التربة لافتٌ للنظر، ويُظهِر تبايُناتٍ ضخمةً بين أنواع التربة الموجودة في المواقع المختلفة التي لها خواصُّ مختلفة.
تطغى وَفْرة فيروسات التربة على عدد الكائنات الحية الدقيقة الخلوية، كما أن فيروسات البكتيريوفاج تُظهر تنوعًا وراثيًّا غيرَ محدود. ومن المقدَّر أن كل نوعٍ من البكتيريا، في التربة أو في أي موئلٍ آخر، يُعد فريسةً لعشَرة أنواع أو أكثرَ من البكتيريوفاج. وإذا كان هذا التقدير صحيحًا، فقد يدعم عشرةُ ملايينِ نوعٍ من البكتيريا مائةَ مليون نوع من العاثيات. يُمثل تطبيق مصطلح «نوع» على الفيروسات إشكاليةً أكبرَ من تطبيقه على البكتيريا، ونعتمد على تدابيرَ اعتباطية غير محسوبة تفرضها الحداثة الجينية عندما نُشير إلى أنواع مختلفة من البكتيريوفاج. تُظهِر دراساتُ تحديد التتابعات تبايُناتٍ وراثيةً هائلة بين الفيروسات التي تُصيب البكتيريا وتدلُّ السهولة التي تُحَدَّد بها الجيناتُ الفيروسية «الجديدة» على وجود مليارات الأنواع الأخرى في انتظار استكشافنا لها. تُمثل الفيروسات التي تُصيب العتائق أيضًا مستودَعاتٍ ضخمةً للمعلومات الوراثية.
لا تُظهر فطرياتُ التربة أيًّا من التنوعات الأيضية لبدائيات النواة؛ فجميعها كائناتٌ كيميائية التغذية تستهلك الموادَّ العضوية التي تنتجها كائناتٌ أخرى. ومع ذلك فمصادر الغذاء هذه متنوعة جدًّا، حيث تُحلِّل الفطرياتُ المفترسة للبكتيريا والديدان الخيطية والنباتات، وغيرُها من الكائنات التي تعيش في التربة، أنسجةَ النباتاتِ العشبية والخشبية، وتحصل على دعمٍ تَغْذَوي من النباتات التي تُنشئ معها علاقةَ تكافلٍ فطري. يتراوح التنوعُ التركيبي لفطريات التربة بين كائناتٍ حية بسيطة وحيدةِ الخلية تَسبح خلاياها في التربة الرطبة، وفطريات خيطية تُحلل بقايا المواد العضوية، وفِطْر عيش الغراب الذي يُكوِّن مستعمراتٍ هائلةً تمتد على مساحةِ آلاف الهكتارات من أراضي الغابات.
يشارك كلُّ حيوان في علاقات تكافل مع كائناتٍ حية دقيقة. تستضيف الحشراتُ البكتيريا والكائنات الحية الدقيقة حقيقيةَ النواة في أمعائها، وتحمل الميكروبات غير الضارة على هيكلها الخارجي، كما تُشكل فريسةً لمسببات الأمراض الفطرية والبكتيرية والفيروسية. يشار إلى كلِّ هذه التفاعلات بعلاقات التكافل، بالمعنى الأشمل للمصطلح. لكن في الاستخدام العامي، يقتصر مصطلحُ التكافل على علاقات التآزُر أو تبادل المنفعة.
يُعد تكافل النمل الأبيض والنمل مع هذه الكائنات الحية الدقيقة من الأمثلة المذهِلة على علاقاتِ تبادل المنفعة، إلا أن العلاقات المعقَّدة بالدرجة نفسِها ضروريةٌ لجميع الحشرات. كما هو الحال في النمل الأبيض، تُئوي الصراصيرُ الآكلة للخشب الطلائعياتِ اللاهوائيةَ التي تحتوي على البكتيريا التي تساعد في عملية هضم السليلوز. تنمو مجموعةٌ من الفطريات تُسمى الفطريات الشعرية في أمعاء الحشرات والقشريات وعديدات الأرجُل (ألفية الأرجل ومئوية الأرجل). لا يُعرَف سوى القليلِ بشأن طبيعة هذه العلاقات التكافلية، لكن انتشار هذه الفطريات يُشير إلى أنها من الأعضاء المؤثِّرين في ميكروبيوم الأمعاء الخاص بالكائنات العائلة لها. بإبراز حالاتٍ قليلة تقليدية من علاقات تبادُل المنفعة، من السهل إغفالُ حقيقة أن جميع الكائنات عديدةِ الخلايا تدخل في علاقات تكافل مع الكائنات الحية الدقيقة. فلا يوجد كائنٌ يمكنه أن يعيش منفردًا.
يخضع المزجُ بين الكائنات الحية العالقة وإنتاجيتها لتوفُّر الأكسجين ودرجات الحرارة. عندما تسخن البحيراتُ في المناطق المعتدلة، تقلُّ كثافة الماء وينفصل الجزء العُلوي من عمود الماء عن الجزء السفلي من الماء الأبرد والأكثر كثافةً بفاصلٍ يُسمى طبقة الانحدار الحراري. إذا كان الماء غيرَ مضطرب، تهبط مستوياتُ الأكسجين أسفلَ طبقة الانحدار الحراري، وهو ما يدعم تضاعُفَ البكتيريا والعتائق اللاهوائية. في وقتٍ متأخر من العام، تختلط الطبقتان عندما يبرد سطحُ الماء وينتشر الأكسجين في المنطقة الفقيرة بالأكسجين، كما يضطرب ترتيبُ طبقة الميكروبات الهوائية الموجودة بالأعلى والميكروبات اللاهوائية الموجودة بالأسفل لبضعة أشهر. تتضمَّن دورةُ النيتروجين في الأنهار والبحيرات العديد من العمليات الميكروبية الوارد وصفُها في سياق الحديث عن التربة بما في ذلك تثبيتُ النيتروجين عن طريق البكتيريا الزرقاء، وما يلي ذلك من تكوينٍ للنيتريت والنترات بواسطة بكتيريا النترتة. تشترك البكتيريا النازعة للنيتروجين في التفاعلات العكسية؛ إذ تختزل النترات المذابة إلى نيتروجين. بالإضافة إلى هذا النمط التقليديِّ من انتزاع النيتروجين، يُطلق غاز النيتروجين عن طريق البكتيريا اللاهوائية التي تؤكسد الأمونيا. تكون هذه البكتيريا اللاهوائية «المؤكسِدة للأمونيا» نشطةً في بيئات التربة والماء العذب والبحار.
تُدوَّر العناصر الأخرى، بما في ذلك السيليكا والكالسيوم، عن طريق الكائنات الحية الدقيقة دون تغيير حالة الأكسدة أو الاختزال الخاصة بها. تُشكل السيليكا الغطاء الخارجي أو الهيكل الخارجي للدياتومات والشعاعيات وميكروبات عالقة أخرى. تسقط بقايا هذه الكائنات في الماء باعتبارها أحدَ مكوِّنات «الثلج البحري»، وتذوب أو تتراكم فوق سطح البحر في صورةِ رواسبَ من السيليكا. تُعد الرواسبُ الجيولوجية، التي يُطلق عليها الرواسب الدياتومية، دليلًا على وَفْرة الدياتومات في البحيرات القديمة والأنظمة البيئية البحرية.
تُعد بِرَك القَطِران المنصهِر الطبيعية من الموائل الغريبة التي تدعم البكتيريا والعتائق. في بُحيرة الزفت أو بحيرة القَطِران في ترينيداد، يُجبَر النفط الموجودُ في الرواسب العميقة على الصعود إلى السطح مُكونًا قطرانًا لزجًا يُصدِر فقاعات من الميثان. تُعادِل كثافةُ بدائيات النواة في بحيرة الأسفلت السائل هذه مَثيلتَها في تربة الغابات، وهو أمرٌ غير ملائم؛ نظرًا إلى وجودِ ماءٍ شحيح في حالة الأسفلت. من المرجَّح أن البكتيريا والعتائق تقطن الجيوبَ المملوءة بالمحلول الملحيِّ في القطران، شأنها شأن الميكروبات التي تعيش في الثلج البحري.
عُزِلَت العتائق من الينابيع الحرارية الأرضية التي لها مستوياتُ حموضةٍ تُعادل بطاريات السيارات ومن بُحيرات الصودا المشبعة بالأملاح التي تُعادل قلويتُها الأمونيا المستخدَمةَ في المنازل. حسَّنَت الخلايا المقاوِمةُ للأحماض آلياتٍ لطردِ البروتونات من السيتوبلازم الخاصِّ بها. تعمل كيمياءُ الغشاء للكائنات المحبة للقلوية بطريقةٍ عكسية؛ إذ تعمل على جلب البروتونات من الموئل الذي يفتقر إلى البروتونات. تعيق البحيراتُ المالحة والصخور العارية الكائنات الحية الدقيقة بطريقةٍ مماثلة من خلال التسبُّب في تجفيف السيتوبلازم. تتضمَّن آليات التكيُّف بين محبات الملوحة ومحبات الجفاف؛ زيادةَ سُمك الجدار الخلوي لمقاومة فقدان الماء، وتراكم الأملاح والسكَّريات لإفساد الجفاف الأسموزي والتغيرات في شكل الخلية لزيادة المساحة السطحية؛ لتبادل الأيونات وامتصاصِ الماء. تتحمَّل البكتيريا المقاوِمة للإشعاع مستوياتٍ من أشعَّة جاما تفوق الجرعاتِ المميتةَ للبشر بألف مرة. ويعود الفضلُ في نجاتها إلى تخليق العديد من النُّسخ من الكروموسوم نفسِه في خليةٍ مفردة، واستخدام التتابعات التي لم تتلف قوالبَ لإصلاح الجينات التالفة.
تأتي أكثرُ الأفكار جاذبية حول مَنشأ الخلايا من دراسة كيمياء المنفسات المائية الحرارية والكائنات الحية الدقيقة بها. يندفع الماءُ المسخَّن من المنفسات الموجودةِ في قاع البحر حيث تتصدَّع القشرةُ الأرضية بانفصال الألواح التكتونية على طولِ حيد المحيط الأطلنطي والهادي. تتكون المداخن فوق بعض المنفسات الحرارية، حيث تترسَّب المعادن المذابة في الماء الساخن عندما تختلطُ بماء البحر البارد. تُطلِق المنفسات، التي تُسمَّى فوهات الدخان الأسود، مركباتِ الكبريتيد الذائبة، وتُطلق فوهاتُ الدخان الأبيض ماءً أبردَ قليلًا غنيًّا بالكالسيوم والباريوم والسيليكون. في غياب ضوء الشمس، تدعم كيمياءُ الفوهة بدائيات النواة كيميائية التغذية التي تُخلِّق السكريات عن طريقِ أكسدة كبريتيد الهيدروجين وأنواع الوقود الجوفي الأخرى بما في ذلك الهيدروجين والميثان والأمونيا والحديدوز والمنجنيز. (هذا يُماثل الحصولَ على ثاني أكسيد الكربون خلال عملية البناء الضوئيِّ عن طريق الإلكترونات التي يتم الحصول عليها من الماء، وتُنشَّط عن طريق امتصاص الضوء.) وفقًا لأحد النماذج، سببُ انتشار الماء القلوي من مكانٍ لآخر، عبر المداخن المسامية لفُوهات الدخان الأبيض، حدوث تدرُّجٍ للأسِّ الهيدروجيني في المحيطات القديمة التي كانت تُعتبر أساسًا لمنشأ الخلايا. تتمثَّل الفكرة في أن المنفسات كوَّنَت نسخةً طبيعية من تدرُّج البروتونات على جانبَي الغشاء الخلوي، وأن الأغشية الخلوية تجمَّعَت في هذه البيئة المواتية.
ارتبطَت نشأةُ حقيقيَّات النواة بحدثِ الأكسدة الكبير، لكن يصعب تحديد تاريخ ظهور الخلايا التي تحتوي على نواة، ويوجد العديد من الأفكار المتنافسة حول الآلية التي أنتجت هذه الخلايا. أثبتت العديد من الأدلة الدامغة الأصلَ البكتيري للميتوكوندريا والبلاستيدات الخضراء في الخلايا الحقيقية النواة. فكِلتا العُضَيتَين تحتوي على الكروموسومات المفردة المميِّزة للبكتيريا، وتحتوي على أغشيةٍ تُشبه الأغشية الخلوية للبكتيريا، وتؤدي بعضَ التفاعلات الكيميائية الحيوية المماثلة، كما أن الريبوسومات التي تُجري عمليةَ تخليق البروتينات داخل الميتوكوندريا والبلاستيدات الخضراء تُشبه ريبوسومات الكائنات بدائية النواة. دعمَت هذه الملاحظاتُ نموذجَ المعايشة الداخلية لتطور حقيقيات النواة، وهو أحدُ المحرِّكات الأساسية لعلم الأحياء الحديث.