صباح السبت ٩ أغسطس ٢٠١٤م

أصحو من النوم، كعادتي منذ الطفولة، أبتسم في سعادة للكون، رغم كآبة الكون، يغسل النوم الكآبات، يمسَح من ذاكرتي الأكوان (جمع كون)، تم اكتشاف أكوان أخرى مُتعددة غير هذا الكون الواحد، الذي تصوَّرنا أنه الوحيد في الوجود، وأننا فيه العبيد المستعبدون إلى الأبد، والشمس ليست واحدة بل كثيرات ومجموعات من الشموس، والقمر ليس واحدًا بل كواكب وأقمار.

رأيت في النوم أنني أتمشَّى على سطح القمر مع بطلة الفضاء الأولى «فالانتينا»، في الستينيات من القرن الماضي، ركبت معها السفينة، مع مائتَي امرأة من كل الأجناس، السفينة اسمها «ترجنيف» باسم الكاتب الروسي، والنهر هو الفولجا، يُسمُّونه نهر الثورة والحب والموسيقى، كان الأطفال عند كل شاطئ يستقبلوننا بالورود والموسيقى.

أصحو من النوم سعيدة مغسولة مولودة من جديد، الشمس طازجة جديدة، الهواء منعش جديد، نزلت إلى البحر لأسبح في رياضتي اليومية، تذكرت كلمات سقراط «نحن لا ننزل إلى البحر مرتين»، يعني البحر يتجدَّد على الدوام، ونحن أيضًا نتجدد، هذا الصباح أنا إنسانة جديدة.

وأقول لها: كلمة «جديدة» بديعة، أليس كذلك؟

لم أسمعها تردُّ كأنما لم تسمعني.

كانت جالسة على الشاطئ تكتب، غير بعيدة عني، انشغلت بالكتابة ونسيَت وجودي، يمضي النهار وهي تكتب، تنسى الأكل والنوم والحب وكل شيء، إن شعرت بالتعب ترقُد على الشاطئ ساهمة شاردة فيما وراء الأفق، رموشها تنبض بحركة خفية، كأنما تكتب من تحت الجفون المغلقة، تتركني وحدي أكلم نفسي، آكل نفسي، أقتل ساعات الصبح بقراءة الصحف، أتجرع السم اليومي، الداء المزمن، أداوي نفسي بالتي هي الداءُ.

كان مسلسل «محاكمة القرن» يقترب من نهايته، في قيظ وغيظ أوائل هذا الأغسطس، بدَت التمثيلية أكثر إثارة من المسلسلات الرمضانية ومباريات كرة القدم، قرأت عنها ولم أشهدها على شاشة التليفزيون، فالجهاز معطَّل منذ نصف قرن، وضعَت عليه الكاتبة غطاءً أسود وأعطته لقب المرحوم، وإن طلبت منها إصلاحه تمط شفتها السفلى باشمئناط وتقول: تُضيِّعين وقتك في التوافه كالمعوَّقين وزوجات الأثرياء العاطلين؟

أرد عليها بغضب: أنا أعيش داخل الحياة الحيَّة وأنتِ تعيشين داخل الورق الميت.

تمط شفتها وتهملني.

كنت في أعماقي أحقد عليها وأحسدها: كيف تكتب؟ ما القوة التي تدفعها للكتابة؟ لماذا لا أكتب مثلها مهما حاولت؟ لماذا أقرأ بعض كلماتها فيقفز قلبي وأحلق في كون آخر؟ أصعد للشمس وأمشي فوق القمر؟ من أين تأتيها هذه الموسيقى الخفية التي يُسمونها الإلهام؟ كيف تنسى كل شيء من أجل الكتابة؟ كيف يمكنها الاستغناء عن كل ما لا يمكننا الاستغناء عنه، كالصحف والفضائيات ومحاكمة القرن؟ أي قرن وأي محاكمة؟

– ألا تؤمنين بوجود القانون والعدالة؟

– العدالة لا تتحقق بالقانون.

– وبماذا تتحقَّق العدالة؟

– تُكرِّرين أسئلتك المُملة يا حمارة.

خلال ثلاثة أعوام ونصف تشرح لي دون أن أفهم، أتابع المحاكمة كمسرحية مُسلية، لكن المشاهد الأخيرة جعلَتها كوميديا فارص، يتناوب الممثلون الأدوار ويتشقلبون، ينقلب الثعلب ذئبًا، والذئب ثعلبًا، يُصبح البريء مجرمًا، والقاتل يُصبح بطلًا، يزهو الثعلب بدهائه، يمصمص الذئب عظام الضحايا، تصرفه الشهوة عن رؤية الشمس، ولا الملايين الذين خرجوا إلى الشوارع والميادين في ثورة يناير ٢٠١١م يهتفون يسقط النظام، يرى الشعب المصري عميلًا للخارج؟ والآلاف الذين ثقب الرصاص رءوسهم وصدورهم، والذين فقئت عيونهم وكسرت أنوفهم، وآلاف الأمهات الثكالى المكلومات، أصبحوا كلهم عملاء للأعداء؟

أصحاب الملايين والبلايين صفقوا للذئب القدير الخبير بالقانون وو …

أكلِّم نفسي وهي مُستغرقة في الكتابة.

لو كنت فتى أحلامها لهربت منها إلى الأبد.

•••

البحر هائج، يلفظ إلى الرمال البيضاء أعشابه السوداء كالأمعاء، وأقرِّر النزول إليه، أحب منازلة الأقوياء الأشداء، تضربني الأمواج فأنقلب وأشرب الماء بالملح وأغطس حتى القاع، تعلن الراية السوداء عن موت نسمة من خمسين مليون نسمة يتأرجحون على خط الفقر، من تسعين مليون يتكاثرون ويزحمون الأرض، واحدة فقط من الملايين الزائدة عن الحد.

يمر موتي مر الكرام وفي قاع البحر أبتلع الهوان.

أهم حدثٍ في حياتي (وهو موتي) لا يهمُّ أحدًا؟ هل يظل الكون موجودًا بعد موتي؟

الكاتبة رفيقة العمر، تجلس على الشاطئ كعادتها مُستغرقة في الكتابة، لا تعبأ بموتي، وأبي الشرعي، الذي ولدتُ من صلبه، وحملت اسمه واسم جدوده فوق كاهلي بأوزارهم، يشرب قهوته ويقرأ صحف الصباح كعادته، وزوجي الشرعي، الذي تزوَّجته على سُنة الله ورسوله، يرش العطر تحت إبطيه مبتهجًا ويذهب إلى ملك يمينه، وجارتي التي زارت قبر النبي تتسلَّل إلى قبري وتسرق كفني، وزميلتي المنادية بتحرير النسوة تنقض على دولابي ترتدي ثيابي.

الكاتبة رفيقة العمر تلقي كلمتها في حفل تأبيني وتقول: لأنها لم تحفر في حياتها حرفًا تموت دون أثر كالبغال.

كلماتها تشقُّ رأسي نصفَين وتملؤني بالغضب، لا شيء يبعث على التحدي مثل الغضب، أقبض بيديَّ الاثنتَين على القاع الصلب، أتنفَّس من خياشيم عقلي مثل جنيات البحر، ورثت بعض جينات الجن عن جدتي، كأن لها سبع أرواح وأكثر، وأمي تعلمت التنفُّس تحت الماء منذ ولدت، لم تعثر الداية العجوز على العضو البارز المحفوظ، سقطَت عينها في الشق الأفطس المتعوس، فملأت الطشت بالماء وتركتها تغرق.

كنت أزهو بأمي أمامها وهي مستغرقة في الكتابة، أمي كانت تركب البحر لا تهاب الغرق، أمها كانت تعيش في الظل، تحت الحماية الزوجية، غارقة في الحرير والعرق، تفزعها نسمة هواء أو البلل بقطرات ماء.

أبحث في حياتي عن شيء يملؤني بالزهو أمامها، أعوض عن إحساسي بالنقص في وجودها، أتباهى بالجمال والأنوثة والأبهة والأناقة، أنشر (أمام عينَيها) صور أولادي وأحفادي، تمطُّ شفتها السفلى وتقول: الأرانب والحمير قادرة على الولادة والإنجاب.

كل شيء في الحياة يندرج (في نظرها) تحت «البيولوجيا» إلا الكتابة، لا شيء يكسر سجن الجسد إلا الكتابة.

وأشد شعري من الغيظ وأزعق: ملايين الكتب تملأ المكتبات والشوارع والأرصفة والمخازن، لم يعُد أحدٌ يقرأ، خمسون مليون نسمة لا يملكون ثمن الكتب، الملايين الأخرى مشغولة باﻟ «يوتيوب» و«الفيسبوك» و«التويتر».

– وهل أنت الوحيدة التي تكتب؟ كل الناس أصبحت تكتب.

صوتي يعلو ويزعق، كلما ارتفع زعيقي أدركتُ أنني أكذب، ليس كل الناس تكتب، وإن كتبوا فإن كتابتهم ليست هي الكتابة، ما الفرق بين كتابة وكتابة؟ ما هذا الشيء الذي اسمه كتابة؟

– ومن أين تأتي الكتابة؟

– من المعرفة.

– ومن أين تأتي المعرفة؟

– من الحب.

– ومن أين يأتي الحب؟

– من الحرية.

– ومن أين تأتي الحرية؟

– من الكرامة.

– ومن أين تأتي الكرامة؟

– من العدالة.

– ومن أين تأتي العدالة؟

– من الصدق.

– ومن أين يأتي الصدق؟

– من الشجاعة.

كنت أتفوق عليها في الأنوثة والجمال والأبهة والأناقة، شعرها نافر كأسلاك الكهرباء، ملابسها بالية بأزرارها المتهالكة، بالثقب في حذائها القديم، ليس لها هيئة الكاتبات ذوات الكعوب العالية والثقافة الرفيعة. أتفادى السير إلى جوارها في الشارع، أخشى أن يقبض عليها البوليس بتهمة التشرد، وتسوء سمعتي باعتبارها رفيقتي.

لكن في أعماقي أدرك أنها تملك ما لا أملكه، تواجه المقصلة وتكتب، تناطح الأقدار وتكتب، تتحدى السماء والأرض وتكتب.

وأزعق أكثر وأكثر: من أين تأتي الشجاعة؟

تمطُّ شفتها في وجهي، وتعود للكتابة.

•••

البحر أكثر هدوءًا مع مجيء سبتمبر، الشمس والهواء أكثر رقة، كل شيء في الخريف أجمل، حتى خريف العمر والتقدم في السن، يكره الجهلاء التقدم في العمر وفي الفكر أو الشعور، يمتد عمري وجسمي فوق الشاطئ تحت أشعة الصبح، أرشف قهوتي على مهل، لم يَعُد شيء في العالم يؤرقني، حتى عمليات ذبح البشر، على الطريقة الداعشية الشرعية، الرأس المقطوع يضعونه فوق بطن الإنسان المذبوح. الصور في الأيام الأخيرة من أغسطس ٢٠١٤م أصابت البشر بانهيارات عصبية، امتلأت العيادات بالمرضى والمريضات، وامتلأت جيوب الأطباء بالبنكنوت، أبي كان يقول دائمًا «مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد.» لم ينقطع رنين التليفون في عيادتي، طلبت من المسئول بالسنترال شطب رقمي واسمي من سجل الأطباء، علاج المرضى عرفناه فكيف نُعالج الأصحاء؟ لم أدخل كلية الطب لأمارس مهنة، وإنما لأمسك المخ بيدي، وأشرِّحه بالمشرط لأعرف كيف يُفكر؟ كيف لكتلة من اللحم أن تنتج ما وراء المحسوسات؟

كانت العلاقة بين جسمي وعقلي بديهية في طفولتي، ثم أصبحت عصية على الفهم بعد أن درست الطب والفلسفة والدين.

جفوني نصف مُغلفة في استرخاء شديد، الكافايين في القهوة له خدر لذيذ، يَمشي في جسدي كأرجل النمل الدقيقة الناعمة، أدمنت خلايا عقلي مذاق البن البرازيلي المحوج، النكهة وحدها تبعث السعادة في جسمي، كاللحن الهادئ يحمله الهواء من نافذة الكوخ القريبة، تعود طفولتي البعيدة كاملة، لأصبح هذه الطفلة التي ترتدي المايوه الأزرق بحمالتَين رفيعتَين فوق كتفَيها، وتجري ما بين الشاطئ والبحر، في يدها جردل صغير لونه أزرق، تملؤه بالماء، تبني بيتًا كبيرًا من الرمل يُشبه الهرم، ثم تهزُّه بيدها وتهدمه لتبني غيره، لا تكفُّ عن الحركة، كما تفعل الخلية الحية في الجسم، أراقبها بدهشة، كيف أدركت أن الحركة أصل الكون؟ يتحرك الجسم (الكتلة) نحو الأجسام الأخرى بقوة الجاذبية، لكن من أين جاءت الكتلة الأولى (الصفر) في الفراغ؟

تلتقي عيناها بعينَي وتثبتان، لا تتحرَّكان متَّسعتَين بالدهشة، وأنا أيضًا أندهش، كأنما أرى نفسي فيها، ثم تهرب عيناها بعيدًا، بعيدًا، إلى عالم غامض وراء المرئيات والمحسوسات، لتعود بعد لحظة تُحملق في أعماق عيني، أخيرًا ترمي الجردل فوق الرمل، تدكُّ بقدمَيها الصغيرتَين بيوتها الرملية المهدومة، وتجري لتلعب مع الأمواج، ساعة أو ساعتَين، حتى تناديها أمها من تحت الشمسية، من ثقبَين في نقاب أسود غارق في العرق، كانت الكاتبة جالسةً غير بعيدةٍ عني، مُستغرقةً كعادتها في الكتابة، تبدو أقل شرودًا وأكثر حضورًا ومرحًا، هل يأتي فتى أحلامها الليلة؟

لا يشغلها بعد الكتابة إلا الحب، أو الجاذبية بين الأجسام والجُسيمات، وفي كلتا الحالتَين «الكتابة والحب» تبدو موجودة وغير موجودة في اللحظة ذاتها، كالآلهة والشياطين والأرواح الطيبة والشريرة، ربما ليس لها جسم «كتلة» وأنا صنعتها بخيالي، أو أنها «فكرة» تمشي في خلايا عقلي؟ تمتدُّ ذراعي عن آخرها لألمسها بيدي، أحاول التأكد من وجودها، تنتفض حين ألمسها كأنما تصحو من النوم، وتصيح: فيه إيه؟

أدركت من لغتها الدارجة (فيه إيه؟) أنها موجودة فعلًا وليست من بنات أفكاري، تتحدَّث الشخصيات من بنات الأفكار باللغة الفصحى عادةً، لا أعرف الحقيقة من الخيال إلا عن طريق اللغة، يتحدَّث الأشخاص «الحقيقيون» بالعامية ويشهقون، وتتحدث الشخصيات «المصنوعة» دون شهقةٍ أو قشعريرة.

– ألا يقشعر جسمك؟

– من إيه؟

– عملية الذبح.

– كلهم يذبحون.

– الإنسان؟

– والحيوان.

– هل الحيوان كالإنسان؟

– فصيلة الثدييات يا حمارة.

حين تقول «يا حمارة» أعرف أنها سعيدة، وفتى أحلامها سيأتي الليلة.

•••

ليلة حارَّة من يوليو، الساعة تدقُّ ثلاث دقات قبل الفجر، الزمن يمضي أسرع مما كان، نصف قرن مضى في غمضة عين، وجهها في المرآة يفاجئها، ليس وجهها الذي كان؟ ليست هي التي كانت تطلُّ من مرآتها؟ الضوء المدهش في عينَيها والبريق الذي كان؟ وجسمها الممشوق تطير به خفيفًا، ليس له وزن، لا تلمس قدماها الأرض؟

أصبح لجسمها وزن وهيبة، تمشي الهوينى بخطوة بطيئة كرؤساء الدول والجمهوريات، لأول مرة تدرك أنها ليست خالدة كما تصورت، ويُمكن أن تموت غدًا، فكرة موتها تفاجئها، أن يبقى لها يوم واحد أو أربع وعشرون ساعة في هذه الدنيا؟ رغم الفزع وجدتها فكرة مدهشة مثيرة للإبداع، وقالت لنفسها: كل الأفكار المبدعة مفزعة.

ستموت بعد ساعات تعدُّها على أصابعها، إذن لن تضيع دقيقة واحدة من الثمين الباقي من عمرها، كانت تضيع في النوم ثماني ساعات كل ليلة، مع أن نصف هذا الزمن يكفي لتجديد خلايا المخ، التي تتجدَّد تلقائيًّا، دون نوم، حسب علوم الطب.

وكانت تضيع ساعة كل صباح في قراءة الصحف ومتابعة السياسة، وهي عادة ضارة مثل قرض الأظافر، أو الإدمان على مضادات الاكتئاب، التي يحفظها أطباء النفس عن ظهر قلب، وأغلبهم مصابون بالاكتئاب ويتعاطونها بالطبع.

حين يقول الناس إنها طبيبة نفسية تشعر بالغربة عن نفسها، فاللقب غامض مثل: رجل أعمال، رجل سياسة، رئيس حزب، رئيس مؤسسة أو دولة أو جمهورية.

لقب «رئيس» كان يُمنح لرجل لا عمل له، إلا الجلوس في مقعد ضخم لمراقبة عمل الآخرين، وفي نهاية الموسم، يأخذ العائد المادي من العمل، ويوزعه على أقاربه من الدرجة الأولى والأعوان من الكوادر العليا، منهم طبيبه النفسي ومُطربه المفضل وشاعره الكبير، وغيرهم من النخب المثقفة، ثم الأشخاص من الكوادر الأقل، منهم طباخ القصر والحلاق الخاص ومربي الخيول، الذين يحظون بالحد الأعلى للأجور، أما الآخرون من الشعب العادي فإن نصيب الفرد من العائد المادي ينخفض، حسب القانون الديمقراطي، بازدياد ساعات عمله وجهده، وتأخذ المرأة نصف ما يأخذه زميلها من هذه الماديات، حسب القانون الإلهي والديمقراطي معًا، أما نصيبها من الروحانيات فيزيد ثلاثة أضعاف؛ إذ تحظى بالجنة وحب الله والوطن.

أصبحت فكرة موتها تتسلل إلى عقلها من وراء ظهرها، فتطردها بيدها كما تهشُّ ذبابة، وتهمس لنفسها: «أن أموت أنا بالذات مستحيل، أما موت الآخرين فهو طبيعي، يحدث كل يوم دون أن يتوقَّف الزمن أو ينتهي الكون.» نجحت في إقناع نفسها أنها ستعيش إلى الأبد، كالإله خوفو أو خفرع أو منقرع على الأقل.

منذ ربع قرن كانت تعدُّ كتب الله على أصابعها، وتقول لنفسها: ربنا عنده ثلاثة كتب فقط وأنا عندي ثلاثون كتابًا!

فكرة الخلود أسعدتها كما أسعدت الإله رع وآمون وإخناتون، كان هرم خوفو مجرد استراحة مؤقَّتة يعود الإله بعدها للحكم؛ لهذا وضع الفراعنة في مقابرهم إلى جوار رءوسهم الميتة، جواهرهم وحريرهم وحريمهم وحرائرهم وكل ما تشتهي الأنفس من طعام وخمر.

الساعة تدق أربع دقات.

مضَت ستون دقيقة، لم يبقَ من الزمن إلا ثلاث وعشرون ساعة.

هل تضيع آخر الساعات من عمرها في الكتابة؟

وماذا أخذت منها إلا وجع القلب والدماغ وقضايا الحسبة والغربة والنفي والسجن وتشويه السمعة؟ ضيعت فيها طفولتها وشبابها ومتع الدنيا والآخرة، وكل ما تشتهي الأنفس بما فيها الجنس؟

ألا يكفيها كل هذا الثمن الباهظ؟ هذي التي اسمها الكتابة؟

وفجأة همس صوت عجيب، له في أذنَيها رنين مُدهش، قالت لنفسها: «يبدأ الإبداع بالدهشة، ولا يقتل الموت إلا الكتابة، ألهذا حرصت الآلهة على تأليف الكتب؟»

•••

كانوا ينجذبون إليها بشدة، كالفراشات والدبابير تنجذب للشهرة والأضواء، ذوو الطموح الشديد من الرجال يخدعهم البريق الجامح في عينَيها، يتصوَّرون أنها مشتعلة بالأنوثة والشبق الجارف للحب والأمومة، لم تكن امرأة تشغلها هذه الأشياء، أما أنا فأكثر خبرة بالرجال، يزداد كلامهم عن التضحية من أجل الوطن بازدياد شبقهم للامتلاك والحكم، وتزداد شكوكي في إخلاصهم للمرأة بازدياد تشدُّقهم بالحب.

فتى أحلامها الأول راح إلى الحرب ضد الإنجليز، كان يُغني بمدرسة الأطفال «بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي»، انضم في المراهقة إلى كتيبة فدائية، عاد من الحرب مصابًا بتهتُّك الغشاوة والبراءة، طعنه الوطن في ظهره وبطنه وكل مكان من جسده وعقله.

خيانات الحكام محذوفة من كتب التاريخ لتغييب الوعي، الماء والطعام والهواء والتربة ملوَّثة بالأناشيد الحماسية وديدان البلهارسية والمبيدات السرطانية وذرات الرصاص. يستورد الحكام ملابسهم وطعامهم ومياههم الرائقة. يحصل أولادهم على التعليم في جامعات العالم الراقية، يعيشون في منتجعاتهم المحصنة بالأسوار تحوطها الحدائق والأشجار، بعيدًا عن دخان مصانعهم وعوادم سياراتهم ومقالب قمامتهم ومجاري مصارفهم وضوضاء ميكروفوناتهم فوق جوامعهم.

فتى أحلامها الثاني راح إلى الحرب ضد إسرائيل، أصبح أسيرًا في سجن مجهول ولم يَعُد. فتى أحلامها الثالث كان أكثر وعيًا، رأى أن تحرير الوطن يبدأ من الداخل، انضمَّ لمنظمة سياسية لإسقاط آخر ملوك الأسرة العلوية، قضى في السجن سنوات شبابه ثم خرج صامتًا فاقد القدرة على الابتسام، فاقد الذاكرة إلا خيانة الوطن والرفاق، أعادت إليه البسمة والقدرة على الضحك، تمَّ شفاؤه بالكامل على يدَيها، أراد أن يقطع يدَيها بأمل منعها من الكتابة وامتلاكها، لم يعرف أنها لا تكتب بيدَيها ولا يمكن أن تكون مملوكة لمخلوق.

فتى أحلامها الثالث كان يناضل من أجل العدالة الاجتماعية أو الاشتراكية الديمقراطية، دخل السجن بتهمة الشيوعية والإلحاد، ولم يخرج إلا محمولًا في صندوق. فتى أحلامها الرابع كان يناضل ضد التجارة بالله في السياسة والحكم. اتُّهم بإنكار المعلوم من الدين ونقد الذات الإلهية، هرب من الوطن إلى المنفى حيث اختفى. أما فتى أحلامها الخامس فقد اشترك في الثورة المجيدة ضد النظام الأسبق، أصاب القناص عينه وفقأها، سحلته الأحذية وكعوب البنادق حتى لفظ نفَسه الأخير. أما فتى أحلامها السادس …

أتوقف لألتقط أنفاسي وأنا أعدُّ على أصابعي رجالًا مروا بحياتها، حوَّموا كأطياف الخيال أو أسراب النحل من حولها، وهي مستغرقة في الكتابة، يُحاولون شدها إلى حتفها المكتوب، وقفت الكتابة بينها وبينهم كالسد المنيع، تصد عنها مصيرها المسجل باللوح المحفوظ، تفرد ذراعَيها عن آخرهما تحتضن الشمس والبحر والهواء وتقول: كلهم واحد.

– وفتى أحلامك الجديد؟

– يحب الموسيقى.

– ألا يُضحي من أجل الوطن؟

– يحب الموسيقى.

– أليس شجاعًا كالآخرين؟

– أشجع منهم.

شرحت لي مرارًا كيف تقتضي الموسيقى شجاعة أكثر من القتال في الحروب، وكيف يمكن للموسيقى إسقاط الأنظمة والحكام وتحويل الحيوان إلى إنسان.

لم أعُد أنام الليل، أرهف السمع من وراء بابها لألتقط اللحن، كان يعزف شيئًا بعد أن جاء مُتخفيًا في الليل.

ولماذا يتخفى؟ أكان متهمًا بقلب النظام؟ لم يكن يحمل في يده سلاحًا أو منشورًا ثوريًّا، فقط قيثارته الصغيرة في صدره كالأم تخبئ طفلها، ملامحه الحقيقية لم تكن معروفة إلا لها، يأتي متنكرًا قبل الفجر، يطرق بابها طرقة واحدة خفيفة، تلتقطها أذني وأنا غارقة في النوم، أمشي حافية على أطراف أصابعي لأنظر من وراء النافذة، لألتقط البريق في عينَيه من كثافات الظلمة، لم يكن البريق يظهر إلا لها وحدها، لماذا هي، لا أنا؟ مع أنها نحيفة سمراء جدباء بلا أثداء ولا أنوثة ولا أمومة، ولا شيء يستغرقها إلا الكتابة، ولم يَقربها رجل إلا وناله منها الألم والتعاسة.

ألا يحب الرجال إلا مَن تؤلمهم؟

•••

رأيتها لأول مرة منذ زمن بعيد، كان هناك كثيرون، نساء ورجال يتحدَّثون، وجوههم إلى جوارها تبهت وتتلاشى، في عينَيها ضوء شديد السواد غائر العمق إلى حد الزرقة، لم تتحرَّك عيني بعيدًا عنها، وإن تحرَّكَت تَعود، حضورها يطغى على الوجود، كانت صامتة وسط الصخب، صمتها أشد وقعًا من الكلام، يمتدُّ بصرها إلى ما وراء البصر، يهتك الحجب والمحرمات، تحوطها هالة غير مرئية، جاذبية مجهولة المصدر، ملامح وجهها منحوتة، الخدان بارزان بدقَّة، الأنف مرفوع بحدَّة تقترب من الغضب، الشفتان ممتلئتان بثقة وكبرياء، سمراء كالطمي المحترق، شاحبة قليلًا، ربما أنيميا خفيفة عابرة، أو حزن من الطفولة قديم، أو فكرة طارئة كالجنون، يبتسمُون في وجهها يمدحون، من وراء ظهرها يتهامسون، لم تكن تنظر خلفها لتسمع ما يقولون، وإن سمعت شيئًا تمط شفتها السُّفلى كعادتها وتقول: يخافون من خيالهم.

– ألا تخافين؟

– من خيالي؟

وتطلق ضحكتها الطلقة كالهواء الطلق، لم أسمع في حياتي ضحكة مثل ضحكتها، كالأطفال تضحك، تسحبني من يدي كالطفلة إلى ما وراء العقل، وتقول: الكتابة هي الوجود، تمتدُّ الكتابة إلى ما وراء الجسد، الجنس وظيفة لحفظ النوع وإعادة إنتاج الجينات والبصمة النووية، يتسابق الرجال لاقتناص النساء، تنتهي الشهوة بعد الاغتصاب والإخصاب، الثنائية الإلهية الموروثة، الذكر والأنثى، القاهر والمقهورة، المنتصر والمهزومة، منذ إدانة حواء وتحريم المعرفة.

يرتجُّ كيانها بالضحك، تفرد ذراعَيها عن آخرهما تحتضن البحر والشمس والهواء والقمر والنجوم، وتواصل الكلام.

الكتابة هي الانتصار على الطبيعة وما وراء الطبيعة، هي الانطلاق خارج السجن المؤبد، هي الاستمتاع بالمتع الممنوعة ومنها الكتابة، تتعفَّف الكتابة عن المتع المباحة، لا يعقب الفرح المباح إلا الحزن، لا يعطي الرجل متعة للمرأة إلا بالألم والدم، تتأجَّج الشهوة وتنطفئ بالإشباع، الذروة تنتهي بالهبوط في القاع، السعادة هي بداية التعاسة، تفقد المرأة قيمتها بعد امتلاكها، كما يضيع بريق الجائزة عند استلامها.

– ويضيع بريق القمة بعد الوصول إليها.

– أي قمة؟

– الحكم.

تعدُّهم على أصابعها النحيلة الطويلة، أظافرها مقصوصة شاحبة اللون نظيفة بيضاء، لم تلوِّثها السوائل الأنثوية الحمراء أو الزرقاء والسوداء، صوتها يسري في الليل مثل الموجات الناعمة تُلامس الشاطئ وتذوب في البحر النائم، وتقول: حاول محمد علي قَتْل ابنه إبراهيم بسبب عشق الحكم، وفشل الابن في قتل أبيه، الخديوي إسماعيل صارع إخوته الذكور، استدان الأموال ليمنح ابنه توفيق الحكم. سقط إسماعيل تحت ثقل الديون، وصعد ابنه توفيق ليُرسل أباه للمنفى، صعد الخديوي عباس للحكم، ثم سقط بأمر الإنجليز، وعاش بالمنفى حتى مات، وبأمر الإنجليز صعد عمه حسين كامل للحكم بلقب السلطان، ثم سقط، وصعد فؤاد الأول ملكًا على عرش مصر، أصابته رصاصة لم تقتله، ثم مات مقهورًا ليصعد ابنه فاروق للحكم، سقط الملك فاروق بأمر من ضباط الجيش، ركب البحر ومات في المنفى، صعد للحكم محمد نجيب، انقلب عليه الجيش ومات في منفًى داخل مصر، صعد إلى الحكم جمال عبد الناصر الذي انكسَر بهزيمة ساحقة، مات بعدها مكلومًا، صعد أنور السادات ليطلق الجيش عليه وابلًا من الرصاص ويسقط قتيلًا، صعد إلى الحكم حسني مبارك لتسقطه ثورة شعبية عارمة، وصعد محمد مرسي لتسقطه ثورة الشعب والجيش.

– وماذا عن الحب؟

– الحب مثل الحكم، لا يصل للقمة إلا من يسقط، كلهم إذن يسقطون إلا من يزهد في القمة.

لم أفهم تمامًا كيف يُمكن لكاتبة أو كاتب طموح أن يزهد في الوصول إلى القمة، ولماذا تكتب هي؟

– ألا تشتهين الصعود للقمة؟

– أي قمة؟

– امتلاك القوة والسيطرة على النفس؟ والآخرين؟

– لا قمَّة إلا لذة الكتابة.

•••

كان السبت ١٣ سبتمبر ٢٠١٤م، أقرأ الصحف وأنتفِض بالغضب، أرمقها وهي جالسة على الشاطئ مستغرقة في الكتابة، تغرقها شمس الصباح الناعمة ونسمة الخريف القادمة من البحر النائم، يتمطَّى البحر يصحو على مهل، طبول الحرب العالمية الجديدة تدقُّ تحت القيادة الأمريكية، جون كيري بالقاهرة بعد جدة، في زياراته المكوكية لتحريرنا من الداعشيِّين محور الشر الجديد، الأب جورج بوش، منذ ثلاثة وعشرين عامًا، جاء للقاهرة وجدة يجمع الأحلاف لتحرير الكويت من الشيطان.

توقَّفت عند مقال عن جهاد النكاح والمرأة حفيدة حواء الشريرة.

– ألا تهتمين بتحرير النساء؟

مطَّت بوزها في وجهي: يكفي أنت؟

– دمك بارد كالإنجليز؟

لم ندرس في علم الطب، المأخوذ من الإنجليز، التاريخ السياسي للأمراض الجسمية والنفسية، خصوصًا للنساء والأطفال، يُلبي علم الطب حاجات الأقوياء من الطبقات الأعلى والجنس الذكوري، كعلوم القانون والفلسفة والاقتصاد والتاريخ والسياسة والأحزاب والأديان.

لم أكفَّ منذ دراستي للطب، في منتصف القرن العشرين، عن نقده علميًّا وأدبيًّا، خصوصًا الطب النفسي، الذي لم يتطور منذ القرن التاسع عشر إلا قليلًا، ونظرية سيجموند فرويد عن صحة المرأة النفسية، التي تتلخَّص في سعيها الأبدي للحصول على طفل، تعويضًا عن فقدانها الأبدي لعضو الذكر.

كاتب المقال ربما يقرأ الطب من كتب فرويد، أصبح مرجعًا لصحة النساء النفسية، يسألونه عما يحدث من مآسٍ، يقدم الفتاوى النفسية الطبية كالفتاوى السلفية الدينية، سألوه مؤخرًا عن ظاهرة جهاد النكاح، فقال إنها ليسَت ظاهرة طارئة تفرضها القوى الإسلامية الإرهابية «داعش» على نساء العراق وسوريا، بل هي ظاهرة كونية تاريخية قبل ظهور الأديان السماوية، قبل فرض قانون العفة والزواج الأحادي بالقوة الجبرية على النساء، وكانت الديانات الوثنية تبيح التعددية الجنسية، حتى داخل المعبد ذاته، باعتبار «البغاء» عملًا مقدسًا، وقد ورثت الحفيدات من جداتهن «بغايا المعبد» غريزة التعدد الجنسي؛ ولهذا يُقبلن على «جهاد النكاح» بشبق قديم محفور في اللاوعي، وليس صحيحًا ما تقوله الجاهلات «الفيمينيست»، عن أن المرأة تُمارس البغاء لأسباب قهرية اقتصادية، كالفقر مثلًا، لتطعم أطفالها؛ فالمرأة الحرة تجوع ولا تأكُل بثديَيها، أو لأسباب قهرية عسكرية، بأوامر «داعش» مثلًا، وما يُسمى جهاد النكاح، أو الاغتصاب بالقوة في حالات التحرُّش المُتزايدة في مصر والعالم، فالمرأة وإن ضَعُفت عضليًّا لا يُمكن اغتصابها جنسيًّا إلا بإرادتها؛ فهي تشتهي الجنس في كل الأوقات ومع كل الرجال، يُراودها الحلم بالاغتصاب منذ طفولتها؛ بسبب الجينات الموروثة من الجدات الباغيات.

لا يختلف عقل هذا الرجل العلَّامة، الخبير بدخائل النساء، عن العقول المتجمِّدة لبعض رجال الدين وأطباء النفس، الذين ورثوا فكرة أن حوَّاء الآثمة هي السبب في طرد آدم البريء من الجنة، وأن الإثم كان بسبب شهوة الجنس وليس حب المعرفة.

كنت أنتفِض غضبًا مما يُروجه الإعلام من أكاذيب عن النساء، تحت اسم الطب والعلم، وهي تجلس كعادتها غير بعيدة عني مستغرقة في الكتابة.

– ماذا تكتبين؟

– قصة حب.

– في هذه الأيام العصيبة؟

- كل الأيام عصيبة.

ليس مثل اليوم، تحشد أمريكا اليوم الأحلاف لتضرب ابنها الأصغر «داعش»، كما حشدت الأحلاف لتضرب أخاه الأكبر «بن لادن»، وتدفع الدول النفطية ثمن الحرب نقدًا بالدولارات والدينارات، وتدفع الدول الفقيرة دماء جنودها أولاد الفلَّاحين والمعدومين، ولا تخسر أمريكا قطرة دم، ربما طائرة واحدة من دون طيار.

– ماذا تفيد قصة حب زمن الحرب؟

تمطُّ شفتها السفلى، وتقول: ألا يتم الاغتصاب باسم الحب والزوج والأطفال والأسرة المقدسة؟ ألا يُفرض جهاد النكاح على النساء باسم التضحية في سبيل الله والوطن؟

– لا أفهم.

– لأنك حمارة.

وعرفت عن يقين أنها غارقة في الحب.

•••

كنتُ أسألها دائمًا عن سر هذا العشق الأبدي للكتابة، هذا التفاني في حبها والاستغناء عن مُتع الدنيا والآخرة من أجل الاستمتاع بها.

ما هي متعة الكتابة التي تفوق مُتعة الأكل والجنس وكل الشهوات؟

كيف تستغرقها الكتابة فلا تشعر بالعالم من حولها؟ وإن سقطَت السماء على الأرض أو اشتعلت الحرب العالمية فهي تظل غائبة في غيبوبة الكتابة.

بدأت أقرأ عن أسرار الكتابة، ما هي؟ وما الفرق بين الكتابة والكلام؟

أغلب الناس يُفضلون الكلام مع الناس عن الكتابة.

لا يطيق الناس العزلة مع الكتابة وهي تعشقها.

كلنا نتعلَّم الكلام منذ الطفولة من الأم؛ لهذا يُسمونها لغة الأم.

نشأت لغة الأم أو اللغة الشفهية منذ مائة ألف عام، أما الكتابة فهي حديثة نسبيًّا؛ إذ نشأت الكتابة منذ خمسة آلاف عام فقط، في أكثر البلاد تعلمًا فإن ١٠٪ من الناس على الأقل لا يعرفون الكتابة، ومع تزايد الاعتماد على الصورة المرئية والكلمة المسموعة يتزايَد عدد مَن لا يقرءون. فما بال مَن يكتبون؟

•••

القيادات النسائية في بلادنا غاضبة لأن الحكومات تجاهلت حقوق المرأة، رغم ما قدمته النساء للثورة من جهد وعرق ودم، لم تدرك هذه القيادات أن المقهورين لا يُحررهم إلا أنفسهم (نساءً أو فقراء)؛ فالحرية والعدل والكرامة لا تمنحُها حكومة، بل يتمُّ انتزاعها بالقوة الشعبية المنظَّمة الواعية، لكن أغلب هذه القيادات النسائية لم تملك الوعي بضرورة تنظيم النساء وتوحيدهنَّ، بل شاركن السلطات المستبدة في تمزيق الحركة النسائية المصرية، وضرب أي تنظيم نسائي شعبي مستقل عن الحكومة.

لماذا تسقط النساء في الانتخابات، رغم أن طوابير النساء أمام الصناديق أكثر طولًا من طوابير الرجال؟

ولماذا يسقط الفقراء رغم أن طوابير الفقراء أكثر طولًا من طوابير الأغنياء؟

ولماذا لا يموت في الثورات والحروب إلا الفقراء والنساء والأطفال، وتظل النخبة من الرجال والنساء مع أولادهم في قلاعهم يحصدون مكاسب الثورة والحرب والسلم؟

وفي الدستور يكتبون أن المرأة تتساوى مع الرجل، لكن القانون المدني والديني يُعطي الرجل الحق في ضرب زوجته ليؤدبها متى شاء، ويطلِّقها متى شاء ليتزوَّج أربع نساء.

يُورث الثراء والفقر عن الآباء، ويُفرِّق القانون بين الأغنياء والفقراء، وكل شيء يُشترى بالمال منها الصحة والكرامة والعدالة والشرف.

يمنع القانون تكوين الأحزاب على أساس الدين أو الجنس، لكن الأحزاب الدينية السلفية في كل أنحاء البلاد، أما الأحزاب النسائية فهي وحدها الممنوعة.

هذه التناقُضات الصارخة لا تراها أغلبية النساء والفقراء، تشكلت عقولهن منذ الطفولة لقبول الظلم باعتباره القضاء والقدر، أو قانون الطبيعة، أو أمر ربنا، وأن الله يوزع الرزق لمن يشاء بغير حساب، وأن النساء بنات حواء الآثمة التي أخرجت البشرية من الجنة.

تفرض الحكومات هذه الأفكار في المدارس والبيوت والكنائس والجوامع والأحزاب والمنظمات، تتعلَّم الطفلة أنها أقل من الولد عقلًا ودينًا، ومصيرها الخدمة بالبيت.

قد يدخل أولاد الفقراء المدارس المجانية، ويشتغلون بالحكومة أو بالمهن الحرة، وينتقلون إلى طبقةٍ وسطى، لكن السلطة المستبدة تظل تحكمهم في الدولة، وقد تعمل المرأة خارج البيت بأجرٍ كبيرٍ وتنفق على البيت، لكنها تظلُّ محكومةً بسلطة زوجها المطلقة في البيت.

إحدى الوزيرات طلَّقها زوجها لسفرها دون إذنه لمؤتمر علمي، وأستاذ جامعي طلَّق زوجته الأستاذة العميدة ليتزوج سكرتيرة من عمر أحفاده، ورئيس حزب طلق زوجته لأنها اختارت في الانتخابات شخصًا لا يؤيده، والدكتورة الأم التي تربي ابنها ليُسيطِر على أخواته ويراقب سلوكهنَّ ليكون رجلًا، والأستاذة التي اتهمت الشباب بفقدان الثورة والرجولة؛ فالثورة في نظرها هي طاعة الزعيم المُلهَم، والرجولة هي الرأس المحلوق والتدرُّب على السلاح ليصبح «دكرًا»، انتشرت كلمة «دكر» في لغة السوق، مع تصاعُد الأحزاب السلفية والنعرات الذكورية وامتهان «الأنثى»، وإن قامت ثورة شعبية، فإنها تجهض قبل أن تمتد إلى القيم والقوانين الظالمة للنساء والفقراء.

اجتماعات متعدِّدة تمَّت مع المنظمات النسائية الحكومية وغير الحكومية، نُوقشت فيها جميع القضايا، ما عدا قضية المرأة، لم تكن واردة، وتمَّ تعبئة النساء مثل أكياس البطاطس في طوابير الانتخابات، صفوف متراصَّة من الأجساد الحافظة للأوامر، نصف المجتمع، الأغلبية العددية التصويتية، يتنافس عليها الجميع، كتل من الأصوات، ليس لها «صوت» في الواقع والحقيقة، الصراع الحقيقي بين القوى والأحزاب السياسية، مائة حزب، ليس من بينها حزب واحد يتبنَّى قضايا النساء، وإن أصبحت المرأة رئيسة دولة أو حزب أو حكومة، فإن ثقافتها الطبقية الأبوية تحكمها، فقدت النساء حقوقهن في عهد مارجريت تاتشر وأنجيلا ميركل، بمثل ما فقد الفقراء والسود حقوقهم في عهد باراك أوباما.

لن تتغيَّر علاقة الحاكم بالمحكومين في الدولة ما لم تتغيَّر علاقة الرجل بالمرأة في الأسرة والقانون والثقافة والتعليم، ولن تتحقَّق الديمقراطية في البرلمان إذا ظلَّت الديكتاتورية في البيت، يمتد مفهوم الاستبداد من «الأب» في الأسرة، إلى «رب العائلة» في الدولة، فتذوب السلطة الإلهية في السلطة الأبوية والطبقية.

أصبح علم المرأة، منذ مُنتصف القرن الماضي، أحد فروع العلم الحديث، يقوم بتدريسه أساتذة وأستاذات في أكبر جامعات العالم، هذا العلم يرفع الوعي بقضية المرأة، ويكشف أسباب نشوء النظام الطبقي الأبوي في التاريخ، ويربط بين القهر البيولوجي والاقتصادي، والسياسي والاجتماعي، والجنسي والنفسي، والديني والفلسفي، والتعليمي والثقافي والفني.

منذ أيام، سألت عميدة كبيرة: لماذا لا يُوجد قسم لعلم المرأة بالجامعة المصرية؟ فسألتني باندهاش: وهل للمرأة علم؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤