قصت أجنحتنا لكننا ما زلنا نطير

الكلمات من قصيدة لشاعر المغرب «ناس حدهوم أحمد» تبعث على تحدِّي الأقدار في مختلف الأقطار، والطيران كما في الأحلام فوق الجبال والبحار.

أحيانًا، دون سبب، أجد نفسي عاجزة عن الطيران، أخطر الأشياء تُصيبنا دون سبب، منها الحزن والفرح أو اليأس والتحدي أو الاستسلام والمقاومة.

بعد أن تقع الإصابة نفكر في المرض، ونبحث عن طبيب ليكتب الدواء ويقبض الثمن.

هذا منطق الطب في السوق الحرة، لم أُومِن بالمهنة منذ تعلمتها.

لا نكتشف الخداع إلا بعد أن نعرفه.

لم أذهب لطبيب إلا وأعطاني الدواء الخطأ، وتزول أمراضي جميعًا حين أعود لطبيعتي الأولى قبل النظام التعليمي.

لا يقضي على عقولنا (منذ طفولتنا) إلا المدرسة، والنشيد في الطابور: «الله، الملك، الوطن»، هذا الثلاثي المقدَّس المترابط منذ نشوء العبودية: طبقة الأسياد في الدولة، والجنس الآخر الأدنى في العائلة.

قضيت الأمس بقلب ثقيل يحمل أحزاني الطفولية، لا يوجع القلب مثل أحزان الطفولة، فهي الأحزان الحقيقية، الكاشفة لخداع المدرِّسين والأساتذة والأطباء والأدباء والفلاسفة ورجال الدين وغيرهم من الأسياد.

لا يصعد إلى طبقة الأسياد إلا من يدُوس الأجساد ويمصُّ دم العبيد والنساء والأطفال.

أطرد الكون خارج بيتي حين أدخل، لا أردُّ على جرس الباب أو التليفون، اكتسبت مناعة ضد الأجهزة المتكلمة، منها التليفون «المحمول» فوق أجساد البشر لا يفارقهم في الفراش أو المرحاض، وأجهزة الإرسال والاتصال والبث والدش، ينتصبُون فوق الأسطح كرءوس نووية للتجسس، وجهاز التليفزيون العتيق منذ ١٩٦٠م، أصبح يرقد فوق رفٍّ بالمطبخ، مُغطًّى بحجاب كامرأة حزينة، والتليفون «الأرضي» يشاركه المصير الأليم، لكنه سافِرُ الوجه، تتهلَّل أساريره حين أرفع سماعته، لأطلب الفول السوداني من المقلة بمصر القديمة، أُقزقِز الحبات اللذيذة المحمَّصة بنار الفرن، مع الرشفات المعتقة الرقيقة كقلب الأم، والموسيقى تأتيني من بعيد قبل نشوء الكون، يسري اللحن صافيًا حنونًا كالدم في العروق، تفهمه الطيور والأفيال والخيول، دون حاجة إلى لغة أو دين أو هُويَّة.

شاعر المغرب «ناس حدهوم أحمد» يواصل الطيران، ويقول:

ما زلنا أحياءً ولكن بشكل آخر.
ما زلنا شبابًا ونحن شيوخ.
ما زلنا نُعبئ الريح لصالحنا.
قُصت أجنحتنا لكننا ما زلنا نطير،
ونبكي من شدة الفرح الحزين!
وما زالت مصر حاضرة من خلال طه حسين،
وما زلنا نحب خليل جبران.

***

وما زالت الكاتبة تحرك أحلامنا وخيالنا،
فنبدع بكل عفوية وتلقائية،
ونمرح في سماء الحلم والثورة.

تذكر الكاتبة مع طه حسين وخليل جبران، في زمن تختفي فيه أسماء الكاتبات تحت طبقات القشرة الأبوية.

أقلامنا كسروها، نعم أيها الشاعر، خصوصًا أقلام النساء، لكننا نُواصل الكتابة بلا أقلام، وصادروا الورق وقطعوا الكهرباء فأصبحنا نكتب بلا ورق ولا ضوء، وبترُوا أصابعنا فأصبحنا نكتب بأصابع تنمو بعد البتر، ونُحلق في الكون بأجنحة تولد من الأذرع المقطوعة.

للتحدي قوة خارقة للطبيعة، تهزم الحكومات من كل الأقطار، في حربهم ضد العقول المبدعة، وقصقصة الأجنحة، والخنق والشنق، والسجن والنفي وتشويه السمعة وقضايا الحسبة.

انهزمت أجهزة القمع القديمة والحديثة، في الماضي البعيد والقريب، وسوف تَنهزم في الحاضر والمستقبل، ولن تنجح في مطاردة الطيور المغرِّدة فوق البحار، أو القبض على الأفكار المحلقة فوق الجبال والأفلاك.

•••

عبارة «سُنَّة الحياة» تستخدم منذ نشوء العبودية لتبرير الظلم الواقع على النساء والعبيد، واعتباره قانون الطبيعة أو إرادة الإله، في مجال الاقتصاد والبورصة والتجارة بالبشر، كما في مجال الأدب والفن والشعر.

شاعر مصري اسمه «أشرف عويس» كلماته تنساب قطرات رقراقة تفلق الصخر وتشقُّ خضمَّ الظلمة كشمعة صغيرة وحيدة تقاوم القدر، قصيدته بجريدة أخبار الأدب (أول يونيو ٢٠١٤م) ينطق بالمسكوت عنه (اسم الأم)، كلماته سهلة ممتنعة، امتناع المطر في القيظ، أو نسمة هواء نقي حيث ينعدم الهواء والنقاء.

ويَتنافَس الطافون فوق سطح الأدب والشعر والسياسة والاقتصاد، الزاعقون في كل عهد، الصامتون عن الاستبداد والفساد في كل عصر، الحاصلون على الجوائز والمكافآت، الساخرون من المبدعين والمبدعات، الثائرين والثائرات، يصفونهم بالمراهقة الثورية أو الشطط أو الفوضى والبلطجة وعدم احترام القيم والهوية، لكن بعد نجاح الثورة يصبحون أكثر ثورية من الذين أُريقَت دماؤهم وأُزهقَت أرواحهم وفُقئت عيونهم ونُهشت سُمعتهم، يدورون كما تعوَّدوا حول الحكام الجدد، يتشمَّمون الكراسي والمناصب الشهية، يتكرَّرون في كل عصر كالظواهر الطبيعية، يلدُون الأبناء والبنات والحفداء والحفيدات، يحصلون من بلاد الكفرة على الشهادات، ثم يعودون يتاجرون بالعلم والإيمان، ويرثون المقاعد والرواتب في المجالس العليا والجامعات.

قصيدته اسمها «إشراقة» تقول:

هذا اسمها/ولأن معرفة أسماء النساء/عندنا عيب/كنا نتبارى في إخفاء أسمائهن/فلم يكن رفاقي يعرفونه/وكنت فيما بيننا/أناديها به مجردًا/وكان الأهل يُعاتبونني/كيف تناديها باسمها/أمامنا هكذا/ولا يدركون أن هذا/من فرط المحبة.

حين كتبت/في كل مرة يبتسم/كانت القصيدة لأبي/وحين كتبت قصيدة/عن نفسي/ذكرت أبي/وكأنني كنت أخجل/من كتابة قصيدة عنها/كما كنت أخجل/من ذكر اسمها علنًا/أو ربما لأنها/تتنحى جانبًا/في ركن المشهد/فلا ينتبه لها عامل الإضاءة/وينشغل المخرج عنها/فلا يعنيه روعة أدائها/وحين نُحرِّك مقاعدنا/وتتغير زاوية الرؤية/بعفوية/ندرك فجأة/أنها طوال الأفلام التي/صنعناها بالحياة/أو صنعتها الحياة لنا/كانت تؤدي البطولة.

إشراقة/هذا اسمها/نعم … اسم أمي/أصبحت الآن أكثر جرأة/على نطقه علانية/لكنها صارت بعيدة عني/بطول عمر كامل/تجلس هناك/على فراش قليل الحركة/وأنا/ما زلت أمارس دور البطولة/ولا أنتبه لامرأة/تتنحَّى جانبًا/في ركن المشهد/وتؤدي دورًا ثانويًّا/وكما تعودت …/أُوهِم روحي بالرضا/وأقول … هذه سنة الحياة/نعم … أليست هذه سنة الحياة؟

•••

ليست هي سنَّة الحياة أيها الشاعر، بل هي صنع البشر، منذ اغتصاب الرجل للأرض والنسب والشرف، وصنع عائلته «الفاميليا» وتعني (في اللغة) ما يملكُه من الماشية والنساء والأطفال والأجراء.

وبعد أن كانت «الأم» هي الإلهة أصبحت الشيطان، واسمها «عار» يجب أن يُدفن في التاريخ، ورأسها (عقلها) «عورة» يجب أن يختفي بالحجاب، وإن أهانوا شخصًا قالوا ابن أمه.

في تاريخنا المصري، إلهة الحكمة «إيزيس» وإلهة العدل «معات» وإلهة الطب «سخمت»، والأطفال حملوا «اسم الأم» رمز الشرف والعزة والكرامة.

أيها الشاعر انطق اسم أمك عاليًا بكل فخر.

•••

أضمُّ صوتي للأصوات القليلة أصحاب الضمائر الحية، الذين يطالبون بتعديل قانون التظاهر، والإفراج عن المعتقلين من شباب وشابات ثورة يناير ٢٠١١م، هؤلاء الأبرياء المخلصين للوطن، بأسمائهم المعروفة وغير المعروفة، الذين يعيشون الظلم والهوان داخل السجون، على حين يمرح الكثيرون والكثيرات من شِلَل المنتفعين والمنتفعات بخيرات النظم السابقة واللاحقة، الماسحين والماسحات للجوخ في كل العهود، المتزلِّفين والمتزلفات، الذين سخَّروا أقلامهم وأهدروا كرامتهم لخدمة السيد الرئيس والسيدة الهانم.

منذ مرافعة المحامي الخبير بثغرات القانون «في محاكمة القرن» وانقلابه أو قلبه للأوضاع والحقائق رأسًا على عقب، ليصبح شباب الثورة خونة مُتآمرين، ويُصبح أقطاب الفساد أبرياء مخلصين، بدأ بعض الكتاب والكاتبات، ممن كسبوا المجد والجاه خلال الأزمنة السابقة، في التسلُّل على استحياءٍ وذكاء، لتسريب كلمات مُتناثرة في مقالاتهم أو حواراتهم، عن وطنية الرئيس القديم وعظمة «الهانم» وجوائزها العالمية.

الجميع يُطالبون بالعدالة والمساواة ودولة القانون واسترداد الأموال المنهوبة وتحقيق مبادئ الثورة، لكن المشكلة أن القانون العادل أو الدستور العظيم، يظلُّ حبرًا على ورق، ما لم تُسانده وتنفذه قوًى شعبية اجتماعية سياسية اقتصادية ثقافية تعليمية وإعلامية.

العدالة (أو الديمقراطية) لا تتحقَّق بقانون أو قرار جمهوري أو برلماني، بل هي مسيرة الشعب اليومية (بجميع طبقاته ونسائه ورجاله) نحو الحرية والوعي والتنظيم الجماعي، في كل المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية والتعليمية.

العدالة (أو الديمقراطية) لا تتحقَّق إلا بعد أن تُصبح الحرية والمساواة «أسلوب حياة» في البيت والشارع والمدرسة والعمل والترفيه واللعب.

في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، تتفجَّر المظاهرات الشعبية (في ميزوري وغيرها من الولايات) ضد قيم العنصرية السائدة والتفرقة بين البيض والسود، رغم أن أوباما رئيس الدولة أسود البشرة، ورغم صدور قانون الحقوق المدنية الذي يُلغي التفرقة العنصرية منذ نصف قرن وأكثر.

وبالمثل لا تزول القيم الطبقية الأبوية الذكورية في أي بلد، لمجرَّد صعود امرأة لرئاسة الحكومة أو الدولة، في عهد السيدة أنجيلا ميركل، بألمانيا اليوم، تعاني النساء والفقراء من التَّفرقة الجنسية والاقتصادية، كذلك في عهد السيدة مارجريت تاتشر في بريطانيا، وغيرهما من نساء السلطة في العالم.

منذ أيام قليلة قرأت لكاتبة صحافية معروفة، نالت شهرتها ومناصبها العالية لقُربها من الهانم حرم الرئيس القديم، وقد استطاعت بذكائها الاجتماعي ونعومتها الأنثوية وشطارتها اللغوية، أن تحظى بإعجاب كثير من ذوي النفوذ، قبل الثورة وبعدها، وقيادات الأحزاب الورقية القديمة والجديدة، أصبحت هذه الكاتبة فجأةً من قيادات الثورة، المردِّدين لأهدافها ومبادئها: عيش، حرية، عدالة، كرامة، بعد أن كانت تكيل المديح للسيدة الهانم، والسيد الرئيس القديم.

منصبها الرفيع وكعبها العالي ومساحتها الكبيرة المملوكة لها في الإعلام والصحافة، بحكم الأقدمية والوراثة، أدَّت إلى طغيان صوتها على أصوات الثوار والثائرات، الذين دفعوا ثمن الثورة بحياتهم ودمائهم وعيونهم، وحريتهم، وسمعتهم، وتم إقصاؤهم أو حبسهم.

ارتفع صوتها يُجلجل اليوم، وأمثالها من الكتَّاب الصحافيين، طغى صوتهم بمنابرهم الصحافية والإعلامية الكبيرة الخاصة والعامة، لهم خبرة طويلة في الكياسة الاجتماعية وممارسة الكتابة الصحافية شبه الأدبية. واحتراف الضغط على مخارج الألفاظ للتأثير على العقول، يحاولون اليوم تحسين صورة السيد الرئيس القديم والسيدة حرمه (الهانم)، وتبرئتهما مما حدث في عهدهما من فساد واستبداد، فالمسئول (في نظرهم) عن هذا الفساد والاستبداد لم يكن الرئيس أو الهانم، بل شلة المنتفعين المنافقين من حولهما، كأنما لم يكونوا هم أنفسهم أقطاب هذه الشلة المنتفعة المنافقة. يحاولون إخراج أنفسهم من المسئولية بنعومة شديدة، كما تخرج الشعرة من العجين، وإعفاء الرئيس القديم والهانم من المسئولية أيضًا، باعتبار أن الشعب المصري طيب متسامح فاقد الوعي والذاكرة، ولكن هل ينسى الشعب الأسية، رغم أنه غارق في المآسي؟ يُعاني الثالوث المزمن، ويلهث ليل نهار لسد الرمق؟ قد يهمل الشعب أو يُمهل، لكنه لا ينسى.

قانون الحصانة في بلادنا معكوس يجب تغييره، كيف تزيد الحصانة كلَّما ارتفع منصب المسئول وزادت قوته وسلطته؟ مع أن العدل والمنطق يقتضيان محاسبة المسئول صاحب القرار الأعلى قبل محاسبة المرءوس الذي يتلقَّى الأوامر دون سلطة.

تتكرَّر في التاريخ عملية إجهاض الثورات الشعبية، تعود الملايين الثائرة الغاضبة إلى بيوتها تاركة أمر الحكم لممثلين عنهم، يتم انتخابهم بالقواعد الانتخابية السابقة، التي تُعيد إنتاج الشِّلَل القديمة، بوجوه وأسماء جديدة أو بالوجوه نفسها والأسماء نفسها، التي أدمنت النفاق والالتفاف حول الرئيس والهانم.

•••

أصبحت مدينة فرجسون بولاية ميزوري رمزًا لثورة الشعب الأمريكي في أغسطس ٢٠١٤م، مثل ميدان التحرير للثورة المصرية في يناير ٢٠١١م، وامتدت منها المظاهرات إلى مدن أخرى بالولايات المتحدة، أولها مدينة نيويورك، لتستعيد ذكرى حركة احتلُّوا وول ستريت ومظاهراتها عام ٢٠١١م، التي فرَّقها البوليس الأمريكي بالقوة، وفقد بعض الشباب أرواحهم وتم اعتقال بعضهم، رغم الشعارات المزمنة عن الديمقراطية الأمريكية وحرية التظاهر وحقوق الإنسان، وامتدَّت المظاهرات الشعبية مؤخرًا إلى مدينة لوس أنجلوس، وقعت فيها جريمة عنصرية تُشبه الجريمة في ميزوري، وهو مقتل إزيل فورد، شاب عمره ٢٥ سنة، أسود اللون من أصول أفريقية (قتل في ١١ أغسطس بعد يومَين فقط من جريمة ميزوري) على يد رجل بوليس أبيض البشرة.

ورفض قائد شرطة لوس أنجلوس (تشارلي بيك) عمل أي تحقيق أو كشف عن اسم الشرطي القاتل.

دامت المظاهرات في ولاية ميزوري لأكثر من أسبوعَين حتى اليوم، ضد النظام العنصري الطبقي، إثر مقتل الشاب، مايكل براون، في الثامنة عشرة من عمره برصاص رجل شرطي أبيض اللون، كانت جريمة الشاب أنه أسود البشرة.

اشتعلَت المظاهرات تطالب بالكشف عن اسم الشرطي القاتل وإجراء تحقيق معه.

وهذا أبسط حق في القانون؛ أن يتمَّ التحقيق لمعرفة الجاني وعقابه، لكن القانون الأمريكي يخضع للقوة، حسب النُّظم العنصرية الطبقية الأبوية؛ إذ يُطلق سراح الجاني لأنه الأقوى وتعاقب الضحية، الفقير الأسود والمرأة.

كنت أستاذة زائرة بجامعة ميزوري، أقوم بتدريس مادتي المختارة بعنوان الإبداع والتمرد، وقعت معي العقد (في أبريل ٢٠٠٧م) عميدة كلية الآداب والفنون، الدكتورة أديل نيو سان، وهي أستاذة الأدب الإنجليزي بالجامعة، إلى جانب منصب العميدة، امرأة سمراء من أصل أفريقي، طويلة القامة تعشق الأدب والفن، مثل أنجيلا ديفيس ومايا أنجلو وتوني موريسون وأليس ووكر. قرأت أديل نيو سان بعض رواياتي المترجمة للإنجليزية، وأصبحت تشجع طلاب وطالبات فصلها على قراءتها وعمل دراسات نقدية عنها، ودعَتْني لإلقاء محاضرة بالجامعة، امتلأت القاعة، ذلك اليوم، بمئات الطلبة والطالبات والأساتذة وعمداء الكليات المختلفة، احتلوا الصفوف الأولى، يتوسطهم رئيس جامعة ميزوري.

يُطلق على ولاية ميزوري اسم: «صرة حزام الإنجيل بالولايات المتحدة الأمريكية». تتمركز فيها عناصر قوية سياسيًّا واقتصاديًّا من الكتلة المسيحية اليهودية الأصولية، المتمسِّكة بتعاليم الإله «يهوه» ضد النساء وذوي البشرة السوداء (النيجرو) والبشرة الصفراء (اللاتينو) وغيرهم من الفقراء والمهاجرين، هذه الكتلة الدينية الأصولية كانت تدعم جورج بوش (الابن)، الذي كان في أوج قوته كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية ذلك العام ٢٠٠٧م.

في نهاية محاضرتي نهضت القاعة وقوفًا بالتصفيق لبضع دقائق، إلا الصف الأول من كبار الأساتذة يتوسَّطهم رئيس الجامعة، لم يقفوا ولم يصفقوا، وتقلَّصت ملامحهم علامة الضيق، أغلبهم من البيض المؤيدين للحزب الجمهوري.

كيف يمكن لأستاذة مصرية زائرة أن تنقد سياسة جورج بوش وأعوانه من التيارات اليهودية والمسيحية والإسلامية الأصولية؟

في اليوم التالي، قرَّر رئيس الجامعة فسخ العقد الذي وقعَتْه العميدة معي، إجراء غير قانوني اعترضَت عليه العميدة، ونصحتني برفع قضية ضد الجامعة، لكني كرهت البقاء في هذه الولاية العنصرية (الصرة لحزام الإنجيل)، تتحكَّم الأقلية البيضاء الثرية في الأغلبية السوداء الفقيرة، حزمت حقيبتي وغادرتها متنازلةً عن حقي القانوني. وبعد أيام عرفت من العميدة أنها قدمت استقالتها من جامعة ميزوري. وحصلت على منصب العميدة بجامعة أخرى، هذه الأستاذة أصبحت صديقتي، ما إن تقرأ رواية جيدة حتى ترسلها إليَّ. أهدَتْني رواية فيليت روث عام ٢٠٠١م بعنوان «وصمة البشر» عن القيم العنصرية المتغلغلة داخل الجامعات الأمريكية والمؤسسات السياسية والعسكرية والقانونية والثقافية.

لو كان باراك أوباما «امرأةً» سوداء من الطبقة الفقيرة، فهل كانت تصبح رئيسة الولايات المتحدة الأمريكية؟ بالطبع لا، صعد أوباما إلى منصبه (رغم بشرته وأصوله الأفريقية) لأنه حصل على تمويلٍ ضخمٍ «لحملته الانتخابية» من أثرياء وول ستريت وشركاتهم الكبرى. أصبح يمثل الطبقة الرأسمالية البيضاء في البيت الأبيض. يدافع عن مصالحهم التي تخدم مصالحه. لم يصبح أوباما رئيس الدولة لأن النظام الأمريكي أصبح ديمقراطيًّا بالمعنى الصحيح.

الديمقراطية بالمعنى الصحيح ليست الانتخابات، بل العدالة والمساواة بين المواطنين بصرف النظر عن الطبقة أو الجنس أو الدين أو العرق أو لون البشرة.

وهذا أمر لم يتحقَّق حتى اليوم في أي بلد في العالم بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، كشفت المظاهرات الشعبية بولاية ميزوري خلال أغسطس ٢٠١٤م أن القيم العنصرية الطبقية الأبوية تسود الدولة والمجتمع الأمريكي.

يمكن لقصة أو رواية واحدة أن تكشف عورات النظم الحاكمة عالميًّا ومحليًّا وعائليًّا، أكثر من مئات البحوث الأكاديمية والمقالات السياسية. العالم ينوء بجرائم التفرقة بين البشر، رواية «بقعة الإنسان» (ذا هيومان ستين) كتبها روائي أمريكي هو «فيليب روث» عام ٢٠٠٠م، تعتبر من أهم الأعمال الأدبية الكاشفة للقيم العنصرية المتغلغلة داخل المؤسسات الأمريكية، في الطبقات العليا والسفلى، في القضاء والتعليم والبوليس والجيش وأعمال الخدمة والجامعات الأكاديمية العليا.

بطل الرواية «كولن سيلك» تجاوز السبعين، احتل منصب العميد بالجامعة إلى جانب أستاذ الأدب الإغريقي، وُلد أبيض البشرة رغم جذوره الأفريقية، وتزوَّج من امرأة بيضاء، أنجبت له أولادًا بيض البشرة، هكذا استطاع أن يُخفي عن العالم جذوره الزنجية، من أجل صعود السلم الاجتماعي الأمريكي، والفوز بمزايا البشرة البيضاء.

إنه يجسد الفلسفة الأمريكية البراجماتية الذكورية، يكاد يُشبه «بيل كلينتون» في سلوكه الأخلاقي، يستغلُّ امرأة فقيرة صغيرة السن تكاد تكون نصف عمره.

استطاع بيل كلينتون أن ينجو لكونه رئيس الدولة، لكن بطل الرواية «كولن سيلك» يسقط سقوطًا مدويًا؛ بسبب خطأ بسيط في كلمة واحدة نطقها سهوًا أمام الطلاب في الفصل، فإذا به يُواجَه بتُهمة العنصرية، ويُضطر إلى تقديم استقالته من الجامعة، ويقيم علاقة جنسية مع «فونيا» خادمة كادحة صغيرة السن، نصف عمره، تمسح الأرض وتنظف المراحيض، وتحلب الأبقار بمزرعة، من أجل سد الرمق، وهي أيضًا زوجة لجندي عاد من حرب فيتنام بجروح نفسية أخطر من جروح الجسد، تصبح حياتها معه أشبه بالجحيم، يُنفس عن غضبه من النظام العسكري الأمريكي بضربها بماسورة حديدية، يراقبها هي وعشيقها الجامعي العجوز، يتتبَّعهما للانتقام منهما، حتى ينجح في قتلهما معًا، يُمارسان الحب في الطريق داخل السيارة.

فيليب روث، امتلك الصدق الفني والشجاعة الأدبية لتعرية النظام العنصري في بلده، الذي يحكم المؤسسات العسكرية والقضائية والتعليمية والأكاديمية والثقافية وغيرها، من خلال «قصة حب» تقوم على القهر والإحباط والاستغلال الطبقي الأبوي أكثر مما تقوم على الحب أو الجنس أو العاطفة.

يُعامل الروائي أبطاله وبطلاته بإنسانية ورِقَّة، فهو يصور كيف كان «كولن سيلك» نفسه ضحية التمييز العنصري، وهو شابٌّ صغير، مما دفعه إلى إخفاء جذوره الزنجية والابتعاد عن أفراد أسرته، حتى أمه «التي أحبها» اضطرَّ للقسوة عليها وإنكارها، وعشيقته «فونيا» عاشت الفقر والهوان بالعمل والبيت، فقدَت طفلَيها في حادث مؤلم، زوجها الجندي شهد جرائم حرب فيتنام، فخلعت من عقله وقلبه مشاعر الإنسان.

تُجسِّد الرواية مآسي البشر، السود منهم والبيض، الفقراء والأغنياء، المثقفين والجهلاء، الرجال والنساء، الضحايا والجناة في آنٍ واحد، لا نملك إلا الإشفاق عليهم، ولا نوجه الإدانة إلا لنظام الحكم.

•••

الباحثات النسائيات يُواصلْنَ تقديم نقد جذري للفكر الرأسمالي، منذ منتصف القرن العشرين، يربطْنَ فيه بين الظلم الاقتصادي العنصري الواقع على العمال والأجراء، والظلم الجنسي الاقتصادي الواقع على النساء.

ويشهد هذا القرن الواحد والعشرون تفاقُم الظلم، وانفجار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية العنيفة التي هزَّت عروش الرأسمالية في عقر دارها «وول ستريت»، واشتعلَت الثورات الشعبية في بلاد متعدِّدة شرقًا وغربًا، منها الثورة المصرية (يناير ٢٠١١م)، التي أسقطَت رأس النظام وفشلت في إسقاط النظام ذاته، والحركة الشعبية في نيويورك، احتلُّوا وول ستريت (أكتوبر ٢٠١١م) التي فشلت أيضًا في إسقاط النظام.

ولا تزال الإضرابات وحركات الاحتجاج مستمرة في العالم، منها الإضرابات التي اشتعلت (مايو ٢٠١٤م) في أكبر محلات الأكل السريع، بدأت في نيويورك وامتدَّت إلى نيوزيلندا ثم البرازيل وغيرها، أغلبهم نساء وشباب وسود وصفر مهاجرون، طالبوا بزيادة الأجور إلى ١٥ دولارًا أمريكيًّا في الساعة.

يكتسب النظام الرأسمالي قوته واستمراره من سلاح الأموال والشرطة والجيش والتعليم والثقافة والأديان والإعلانات، والإعلام، الذي يُروِّج لأفكار علماء الرأسمالية الذين يتظاهرون بالتعاطف مع الفقراء والنساء، والرغبة في القضاء على «اللامساواة»، وهي كلمة رقيقة نوعًا ما، يستخدمونها لإخفاء الاستغلال الشرس الواقع على النساء والأطفال والفقراء والمهاجرين.

وكان كارل ماركس من الرواد الناقدين للرأسمالية ونظامها الاقتصادي الطبقي المستغل لجهد العمال، إلا أن الاستغلال الاقتصادي والجنسي لعمل النساء ظل غائبًا عن الفكر الماركسي، حتى منتصف القرن العشرين، حين قدمت الباحثات النسائيات نقدًا جذريًّا جديدًا للرأسمالية، يربط بين الاستغلال الطبقي والجنسي والعنصري في آنٍ واحد.

منهن «بانداما شيفا» من الهند و«ماري مينز» من ألمانيا و«ميلاني كلين» من كندا، و«زيلا أيزنشتاين» من الولايات المتحدة الأمريكية، التي قدمت نقدًا لكتاب «توماس بيكيتي» الجديد «رأس المال في القرن الواحد والعشرين» الذي دأبت جيوش الإعلام الرأسمالي على الدعاية له، واعتباره «كارل ماركس» القرن الواحد والعشرين.

التقيت «زيلا أيزنشتاين» في القاهرة ونيويورك، وهي أستاذة بجامعة «إيثاكا» ولها عدة كتب ودراسات نقدية للإمبراطورية الأمريكية والنظام الرأسمالي.

وهي ترى أن «توماس بيكيتي» يهمل «الاستغلال» الواقع على النساء، وينظر إلى «العمل» كأرقام ومجرَّدات، وليس «جهدًا» بشريًّا تقوم به نساء وعمال وأطفال، ويعتبر الثراء «موروثًا» أكثر منه نتاجًا لجهود الكادحين والكادحات، ويحاول إثبات أن «اللامساواة» ظاهرة طبيعية أكثر منها ظاهرة مصنوعة بنظام سياسي اقتصادي غير عادل، كما يظن أن النظام الرأسمالي يمكنه تصحيح نفسه في ظل النظام ذاته.

ويهتمُّ بأسباب تزايد اللامساواة، وليس باللامساواة ذاتها وأسبابها الحقيقية في الماضي والحاضر، وكيفية القضاء عليها إن أردنا القضاء على الظلم وتحقيق العدالة.

ويبحث المؤلف عن وسائل قياس التزايد في اللامساواة، ولا يربط بين تزايد اللامساواة وتزايد رأس المال، رغم أنهما ظاهرتان مترابطتان.

ويقول: لا يوجد «حياد» في قياس اللامساواة، وأن طريقة جمع الثروات وتوزيعها يخلق الفروق الكبيرة بين الأغنياء والفقراء. كما يرى تأثير النمو السكاني على سوء توزيع الثروة، وإفقار الفقراء ذوي النسل الكبير، وإثراء الأثرياء قليلي النسل، ويعترف أن خبراء الاقتصاد عجزوا عن حل الصراعات العنيفة في العالم الناتجة عن اللامساواة.

لكنه يظل (رغم ذلك) متجاهلًا دور نصف المجتمع (النساء) في إنتاج العمل، وإعادة إنتاج الأيدي العاملة، وجهودهنَّ الكبيرة المتعددة، منها الحمل والولادة والرضاعة والتربية والخدمة المنزلية، وغيرها.

جمَع المؤلِّف الكثير من المعلومات والأرقام عن قيمة العمل النسائي المنزلي غير المدفوع الأجر، ليُوضح أن اللامساواة تنتج عن تقسيم العمل بالمنزل، لكن غابت عنه الفروق في قيمة العمل ذاته (داخل البيت وخارجه) حسب النوع والجنس، والتي كانت السبب في تفاقُم اللامساواة.

•••

في منتصف الليل نهبُّ من النوم لأسباب متعدِّدة مختلفة: المغص الكلوي الشديد؟ الألم المبرح من منظر الدماء المراقة؟ مسلسل القتل والغدر في الداخل والخارج؟ امرأة تتفحَّص الجثث وتصرُخ: ابني؟ رجل أعمال مُضارب بالأموال يفقد مليارًا ويصرخ في البورصة؟ الأب العائل الوحيد يموت، أو الأم المعيلة بائعة الجرجير تقتلها سيارة على الطريق؟ الأخ أو الأخت تسقط بالشلل المفاجئ أو ألزهايمر؟

بعض الناس تهبُّ في منتصف الليل بوجع آخر، يشبه ألم المخاض قبل خروج الجنين، لا تعرفه إلا الأمهات الوالدات أو الكاتبات أو الكتَّاب المبدعون.

كان الإبداع يحمل أسماءً مختلفة منها الهوس والهذيان والجنون، أو مرض منتصف الليل بلغة الأطباء المتخصصين في الأمراض العصبية والنفسية.

لم أدخل في حياتي مكتب وزير الثقافة منذ أُنشِئت وزارة للثقافة، لا أدري متى أنشئت ومن أنشأها ولماذا؟ فقط، بالبديهة أو ما يُسمى الحدس أو الحاسَّة السادسة أو بقُرون الاستشعار الخفية، أدركت أن الثقافة مثل الحب والإبداع والتمرد والثورة، كلها لا يمكن أن تخضع لتوجيهات السيد الوزير، أو السيد الرئيس، أو الجهات العليا في الدين والدولة والعائلة، فلا شيء يعلو على العقل الإنساني المبدع للأفكار الجديدة العظيمة التي تُغير عقول الناس وحياتهم وأخلاقهم وسلوكهم إلى الأفضل والأعدل والأكثر حريةً وجمالًا.

قد تكون هناك حاجة إلى وزارة للتجارة، من أجل التحكُّم في جشع التجار الغريزي وشهوتهم اللامحدودة للربح والمضاربات في البورصة، وبشرط أن يكون وزير التجارة والعاملون معه من غير التجار والمرابين، أو تكون هناك حاجة إلى وزارة للصحة من أجل التحكُّم في جشع الأطباء وتعطشهم للدم، وبشرط أن يكون وزير الصحة والعاملون معه من غير الأطباء أو الجزارين.

ولسوء حظي أصبحت طبيبة، واشتغلت ثلاثة عشر عامًا مع خمسة أو ستة من وزراء الصحة، انتهت باستقالة من سطر واحد قدمتها للوزير كالآتي:

«صحة الناس سوف تتحسَّن لو ألغيت وزارة الصحة.»

وقد أصابتني الأمراض النفسية الجسدية طوال وجودي بوزارة الصحة، حتى تركتها فاكتسبتُ الصحة والعافية والتفاؤل والسعادة.

الشعب المصري ليس الشعب الوحيد المنكوب بحكوماته ووزاراتها، وقد عشت في الشرق والغرب، ورأيت أن المشكلة عالمية، لها جذورها التاريخية القديمة في الحضارة الطبقية الأبوية العنصرية الدينية، التي بدأت بفكرة غريبة مُعادية للعقل والمنطق والعدل والحرية، هذه الفكرة تقول إن المعرفة إثم وخطيئة، وقد أُدينت المرأة (حواء) وعوقبت لأنها قطفت ثمرة المعرفة المحرَّمة من فوق الشجرة.

أي نوع من الحضارة أو الثقافة يمكن أن يقوم على هذه الفكرة المضللة المعكوسة؟ فالمعرفة تعني الفضيلة وليس الخطيئة!

ورثت وزارات الثقافة في مصر (وبلاد العالم) هذه الفكرة المدمرة للعقل المبدع. وهناك علاقة وثيقة بين المعرفة والإبداع، كلما تزوَّد العقل بالمعرفة ازداد إبداعًا.

وهناك علاقة وثيقة بين الإبداع والحرية والصدق، وهل يمكن لعصفورة مخنوقة بحبل أن تغرد؟ وهل يمكن لطفل مسجون مرعوب أن يعبِّر عن نفسه؟

لهذا السبب لم تطأ قدمي مكاتب وزارة الثقافة في حي الزمالك بالقاهرة، مع ذلك نالني كثير من الأذى من هذه المؤسسات، مع القمع والمنع والنفي، والحرمان من جوائز الدولة التقديرية، ومن المناصب الرفيعة والمجالس الثقافية العليا، وأهم من كل ذلك مصادرة أعمالي التي اتهموها بإثم المعرفة وعدم الخضوع للتوجيهات العليا.

في سنوات المنفى خارج مصر قمت بتدريس العلاقة بين الإبداع والمعرفة، وبين المعرفة والوعي والتمرد والثورة.

فالمرأة المقهورة لا تتمرَّد إلا بعد أن يدركها الوعي بأسباب القهر، وأن هذه الأسباب مصنوعة بالبشر وليست طبيعية أو إلهية، حينئذٍ تبدأ في التمرد الذي يقودها إلى الإبداع والثورة واقتلاع أسباب القهر.

لهذا السبب تعمل الحكومات ومؤسساتها الثقافية على إقصاء الكاتبات المبدعات والكتاب المبدعين عن المجالات ذات التأثير على عقول الجماهير، أولها أجهزة الإعلام والتعليم والتثقيف.

في مكتب وزير الثقافة ووزير الإعلام، توجد دائمًا قائمة بالأسماء الممنوعة أو غير المرضي عنها، وكان اسمي بالطبع ضمن هذه الأسماء في جميع العهود حتى اليوم، وبعد ثورتَيْ يناير ٢٠١١م ويونيو ٢٠١٣م.

وقد حاولتُ، دون جدوى، إقناع بعض المثقَّفين القريبين من الحكومة بإنشاء قسم لتدريس الإبداع والتمرد في كلية الآداب أو أي كلية أخرى.

كلمة تمرد ظلَّت سلبية حتى ظهرت حركة تمرد مؤخرًا، وهي حركة شبابية تظهر حينًا وتختفي أحيانًا، كما أنها سياسية انتخابية أكثر منها ثقافية إبداعية.

وفي رأيي أن الإبداع، خاصةً الكتابة المبدعة، يجب أن تنال العناية والتشجيع اللازمَين؛ فالكتابة أهم الإبداعات الإنسانية.

الوحيد في الكائنات الحية الذي يكتب هو الإنسان.

لا يوجد إنسان، امرأة أو رجل أو طفل، لم يرغب في الكتابة، لم يحلم أن يكون كاتبًا أو كاتبة.

أغلب الأطفال والتلميذات والتلاميذ يحتفظون بمفكرة يومية يسجلون فيها أفكارهم ومشاعرهم.

•••

في أوائل سبتمبر ١٩٨١م، في عصر السادات، وجدت نفسي في السجن؛ لأني تساءلت: كيف أصبحنا نعتمد على الشركات الأجنبية في كنس مطار القاهرة؟ ومقال آخر عن الانفتاح الاقتصادي والانغلاق العقلي، وجهان لسياسة الاستعمار الجديد، أنتجت مزيدًا من القهر الطبقي والجنسي الواقع على النساء والفقراء، ألم نشهد تزايد الفقر مع تزايد تحجيب النساء؟

أغلب البحوث العلمية كانت تفصل القهر الجنسي عن القهر الطبقي، وكان الربط بينهما يُهدد مستقبل الباحثة أو الباحث؛ لأنه يكشف الظلم المزدوج الذي تعيشه النساء في ظل الرأسمالية، لكن بعض الباحثات الشجاعات (في الشرق والغرب) استطعْنَ نقد الفكر الرأسمالي بطريقة جذرية، ومنهن «زيلا أيزنشتاين» الأستاذة بجامعة إيثاكا في نيويورك، التي قامت بدراسة نقدية لكتاب «رأس المال في القرن الواحد والعشرين» تأليف الاقتصادي الفرنسي «توماس بيكيتي» رأت أنه يناقض نفسه، فيصف علم الاقتصاد بالجمود داخل الأرقام ويظلُّ حبيس المنطق ذاته، ويركز على الاقتصاد الأوروبي والأمريكي في القرن الثامن عشر، الذي قام على تجارة العبيد، لكنه لا يَرصُد التغير في طرق التجارة والسوق، وتغير أنواع الاستغلال للنساء والفقراء والمهاجرين.

وهل تحرَّر العبيد؟ والأغلبية الساحقة من البشر أصبحوا عبيدًا لرأس المال، الذي ينمو كالورم السرطاني؟ تغيب قيمة الجهد الإنساني عن عقلية السوق الرأسمالية، يحكمها إله بلا عقل (رأس المال) يُسيطر على كل شيء إلا شهوته لإنتاج نفسه وإعادة إنتاجها.

لم يُدرك «كارل ماركس» قيمة عمل النساء البيولوجي الاقتصادي (إنتاج الأطفال وإعادة إنتاج الأيدي العاملة) كأهمِّ مصدر لأرباح الرأسمالية، ويقع «توماس بيكيتي» في الخطأ نفسه، لكنه يدرك استمرار اللامساواة العنصرية والجنسية حتى اليوم، وإن غاب عنه دورها في تراكم رأس المال، كما يُهمل أرباح التجارة بالجنس وأجساد النساء والأطفال وتجارة الرقيق الأبيض، لقد غاب عنه الاستغلال الجنسي الاقتصادي العنصري كالوجه الآخر لتراكم رأس المال.

ويعترف المؤلف أن اللامساواة زادت عن الحد، لكنه لا يرى أن زيادتها تعود إلى الزيادة في استغلال عمل النساء والفقراء والمهاجرين، وقد كشفت مأساة الهجرة عن بشاعة الرأسمالية في القرن الواحد والعشرين.

وتشتد الهوَّة بين البلاد الرأسمالية الاستعمارية (الغنية) والبلاد المنهوبة (الفقيرة) مع تطور تكنولوجيا الحرب والنهب والإعلام والإعلان، والمضاربات في البورصات وسرعة حركة رأس المال وتقدم آليات السوق، وقد تعرض الشعب العراقي لأبشع أنواع النهب الاقتصادي والتدمير العسكري والتقسيم الطائفي، تحت اسم الديمقراطية والانتخابات والسوق الحرة، ويتكرَّر الثالوث البشع حتى اليوم، في بلادٍ متعدِّدة منها ليبيا وسوريا ولبنان والسودان ونيجيريا وأفغانستان وغيرها.

تقوم اللامساواة على العنف والاستغلال، وإعلاء صوت الرأسماليين في أمريكا وأوروبا وأعوانهم في الفاتيكان والتيارات اليهودية والمسيحية والإسلامية، وجيوش الاحتلال والفضائيات ورجال الأعمال والبورصات والبنوك والشركات وغيرها من مؤسسات الرأسمالية.

وتتغيَّر أشكال العنف ضد النساء داخل البيت وخارجه، وتتضاعَف الأرباح الناتجة عن تجارة الجسد والجنس والسلاح والمخدِّرات وغسل الأموال وجراحات التجميل وأدوات الزينة والإغراء، وتعرية النساء وتغطيتهنَّ بالأحجبة، تصاحبها أنواع متجددة من اغتصاب عرق النساء ودمائهن.

أصبحت المرأة هي البروليتاريا العالمية، تُغذي الرأسمالية بأكبر الأرباح.

وتموت الآلاف من العاملات في صمت داخل البيوت وخارجها، وتُشجع الرأسمالية التيارات الدينية التي ترهب المرأة وتقهرها (في نيجيريا بوكو حرام ٢٧٧ فتاة مفقودات حتى اليوم)، وفي مصر تعاون الاستعمار الأمريكي مع حكومات السادات ومبارك ومرسي، في تشجيع وتمويل التيارات الدينية لضرب القوى الوطنية وتقسيم الشعب المصري، وتحجيب النساء، والانغلاق العقلي مع الانفتاح غير المشروط أمام البضائع الأجنبية، مما دمَّر الإنتاج المحلي، وأصبحت مصر تعتمد على المعونات الخارجية والشركات الأجنبية، حتى في كنس المطار.

•••

مسار الحضارة البشرية أصبح معوجًّا، يكفي أن نتأمَّل ما يحدث في العالم لنُدرك الاعوجاج فيما نُسميه الحضارة الغربية والشرقية، وهما حضارة واحدة تستمدُّ قيمها وثقافتها من تاريخ واحد، وعقلية غير سوية تم تشكيلها في طفولة البشرية منذ بضعة آلاف من السنين، غيرت مسار التطور الطبيعي لعقل الإنسان، وكان العقل في الحضارة المصرية القديمة أكثر استقامةً مما هو اليوم، يكفي أن نتأمل حياة المرأة حينئذٍ، المساوية للرجل في جميع المجالات العامة والخاصة، لندرك الهوَّة التي سقطت فيها الحضارة مع سقوط المرأة، لتصبح الأنثى الناقصة عقلًا وخلقًا، وكانت إلهة الحكمة والعدل، وأول من قطفت ثمرة العقل والمعرفة، هكذا أصبح تجهيل الشعوب وتحريم المعرفة ضروريًّا لاستمرار النظم الحاكمة.

لم أستمدَّ معرفتي بالحياة والناس من الكتب المدرسية، بل من تجاربي في حياتي، وقراءاتي خارج المقرر والتاريخ الرسمي؛ فالتاريخ كالقانون لا يكتبه إلا الأقوياء الغلاظ.

في ظلِّ حكم الولايات المتحدة حتى اليوم (عام ٢٠١٤م) يقع الظلم الاقتصادي والجنسي على الأغلبية الساحقة من الشعب الأمريكي، أغلبهم النساء الكادحات وأبناؤهن وبناتهن.

يكفي أن نتأمَّل الوجوه في المظاهرات الغاضبة في نيويورك وميزوري وأطلانطا وكاليفورنيا وغيرها، لنرى أن أغلبها نساء سوداوات وأولادهنَّ وبناتهن.

لم يُغير رئيس الدولة (الأسود البشرة) من مسار الحضارة العنصرية الطبقية الأبوية؛ فالرؤساء والملوك لا يغيرون مسار الحضارة أو القيم والثقافة، بل يدعمون النظام القائم على الحرب والاغتصاب والخداع، الذي أوصلهم للحكم.

يكفي أن نتابع السياسة اليوم، خاصةً الأمريكية الأوروبية الإسرائيلية لنُدرك فساد الحضارة.

لا يغير مسار الحضارة إلا الإنسانة أو الإنسان المبدع الصادق الذي يكتشف الجديد وينزع النقاب عن الفساد، كالطفل الذي رأى عورة الحاكم وصاح «الإمبراطور عريان»، رغم أن الكل يتغزَّل في ثيابه القشيبة، كالصبي ابن الحداد، الذي اكتشف الكهرباء، بعد أن تأمل حركة ذرات الحديد في دكان أبيه، كالإنسان المتأمِّل لثمرة تسقط من الشجرة إلى الأرض فاكتشف الجاذبية.

نعيش ونموت دون أن نتأمَّل بعيوننا أو نُفكر بعقولنا؟ نرى بعين السلطة الأعلى ونقلدها كالقرود، نتبع الأسلاف والتقاليد كالقطيع، لا نهتم إلا بالمناصب الرئاسية والمقاعد البرلمانية، لا نُدرك أن مسار الحضارة والثقافة والقيم لا يتغيَّر بالرؤساء أو البرلمانات.

تمرُّ بنا الأحداث الاجتماعية الخطيرة دون أن نهتم، نفصل بين السياسة وأحوال الملايين العادية، قرأنا عن الأم الصغيرة، التي ذبحت طفلتَيها، وفشلت في ذبح نفسها فلم نتوقَّف لنتأمل الحادث، نلهث وراء أخبار الأحزاب والانتخابات، كانت فتاة مقهورة، يضربها أبوها بغلظة ليفرض عليها زوجًا أكثر غلظة لا يكف عن ضربها كأبيها، يستغلها اقتصاديًّا كالعبدة، ويغتصبها جنسيًّا بطريقة مقزِّزة (كما وصفت الصحف) كانت تلجأ لأبيها فيضربها لتعود لزوجها، خمس سنوات عاشتها في الجحيم وأنجبَت بنتَين، لم يتوقف زوجها عن ضربهم الثلاثة (الطفلتان وأمهما) كان يريد ابنًا ذكرًا حسب الثقافة والتقاليد، فاض الكيل بها فانتحرَت مع طفلتيها.

قالت للمحقِّق إنها تأكدت من حدة نصل السكين؛ حتى لا تشعر طفلتاها بألم عند ذبحهما، وذبحت نفسها بالنصل نفسه، لم يفكر المحقق في إدانة الأب أو الزوج، بل أدان الأم، المقتولة آلاف المرات، وكانت هي المدانة منذ وُلدت بنتًا، ومنذ أنجبت البنتَين، إنها الحضارة والثقافة الطبقية الأبوية وقانونها السائد في جميع بلاد العالم، الضحية والأبرياء يحبسون لمجرد أنهم الضعفاء، ويطلق سراح الأقوياء أقطاب الاستبداد والفساد.

في «البرازيل» التي بدَت كالشمعة المضيئة أو الأمل في تغيير مسار الحضارة البشرية، سقط كبار مسئوليها في عمليات نهب الأموال مع شركة أمريكية للبترول، وأصبح احتمال تأجيل الانتخابات الرئاسية في البرازيل هو القضية الأولى التي تشغل العالم.

السرقة والنهب والقتل والفساد أمور عادية في الحضارة الحديثة، ما هو غير عادي وغير مقبول هو تأجيل الانتخابات (رئاسية أو برلمانية). أصبحت الانتخابات هي البقرة المقدسة في النظم الرأسمالية الديمقراطية المزيفة.

ونشهد في بلادنا اليوم حمى الاستعداد للانتخابات البرلمانية، الأحزاب السياسية القديمة والجديدة تدور حول نفسها، وأقطاب الفساد في العهد السابق والأسبق يتجمَّعون، والمناورات والتآمُرات وتجميع المليارات، وتأليف التحالفات بين أقصى اليسار الشيوعي وأقصى اليمين الرأسمالي والسلفي الديني، تشتعل حمى الانتخابات للقبض على المقاعد، ويتمُّ التضحية بحقوق النساء والأطفال والفقراء، من أجل التضامن مع الأقوياء ذوي الأموال والنفوذ.

أليس هو قانون الحضارة الطبقية الأبوية العالمية والمحلية؟

•••

قال الأطباء لدوستيوفسكي إنه مريض بالصرع، فقال لهم: «إذا استطاع الصرع أن ينتج هذا الأدب والجمال والإبداع والمتعة، فهو ليس مرضًا بل مزيد من الصحة المجهولة للأطباء.»

لم يبعث الأطباء أي بهجة في طفولتي، أصواتهم معدنية خالية من المشاعر، حركتهم ميكانيكية كالآلات، يعلقون في أعناقهم خراطيم، يدقون على الصدر بأصابع حديدية، يغرزون في الجسم الإبرة والمشرط، ثم يقبضون على المظروف المنتفِخ بالفلوس.

أما الموسيقى فكانت تغمرني بالبهجة، يقفز قلبي ويطير، أرقص مع البنات والأولاد، نُغني للقطن والقمح والبرتقال.

تحت وسادتي مُفكرتي، أكتب فيها مشاعري وأفكاري، لم أفصل بين شعوري وتفكيري إلا بعد دخولي المدرسة، زميلتي إيزيس أحبها، أغنِّي وألعب وآكل معها، يضربني المدرس على أصابعي بحافة المسطرة ويقول: سيحرقها الله في النار لأنها كافرة ويحرقني معها.

كان المنهج المدرسي يعلمنا كراهية الأديان والأجناس الأخرى، وتمييز الذكور عن البنات، واحتقار الخدم والبوابين ذوي البشرة السوداء.

لم أتخلَّص من هذه القيم العنصرية الطبقية الذكورية إلا بعد القراءة خارج المنهج الدراسي، بتشجيعٍ من أمي وأبي.

يبدأ الإبداع في الطفولة بالتفكير خارج المنهج المقرر، مما يحتاج إلى وعي الأم والأب (أو شخصية أخرى) بأهمية تحصيل المعرفة، يُولد الإنسان بعقل يشتهي المعرفة أكثر من الجنس، أغلب المدرسين (الفرويديِّين) يتصورون أن الجنس محرك التاريخ، ويتصور أغلب المدرسين (الماركسيِّين) أنه الاقتصاد وليس الجنس.

الدراسات الأحدث أوضحت أن «المعرفة» هي المحركة للتاريخ، لولا شهوة المعرفة ما عرفنا القطار والسيارة والطائرة والكمبيوتر، لولا شهوة المعرفة لما أكلت حواء الثمرة المحرمة، لولا كسر المحرمات لأغرقنا الطوفان والجهل والمرض والعبودية.

لم أدخل كلية الطب لأكون طبيبة، بل لأشرِّح المخ بالمشرط وأعرف كيف يعمل!

كيف يُمكن للمادة (المخ) أن تُفكر وتشعر؟

دراسة تشريح المخ وفصوصه وسوائله الكيميائية وموجاته الكهربية ضرورية لمعرفة كيف نُفكر، لكن التفكير لا يقوم فقط على الكيمياء والكهرباء، هناك عوامل أخرى غير ماديةٍ مثل الإرادة الشخصية والدوافع الاجتماعية وغيرها.

أغلب مناهج التعليم تفصل بين المادي واللامادي، أو بين الجسم والنفس والعقل والروح، وهكذا يتمُّ التجهيل بأهم وأجمل ما في الحياة وهو التفكير المبدع.

يقوم الإبداع على «المعرفة» الكلية للظواهر، والأفكار والأجزاء المترابطة في أي مجال علمي أو فني أو اجتماعي، لولا تطور المخ مع التغيرات الاجتماعية الدائمة لما شهدنا الطائرة والكمبيوتر والأقمار الصناعية وعلوم الفضاء.

تؤدي الشجاعة إلى صدق الشعور والتفكير، ويحتاج الصدق إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. بعض شخصياتٍ قليلةٍ تُضحي بحياتها وأمنها وسمعتها من أجل التفكير خارج المنهج والصندوق المغلق المفروض، هؤلاء المُبدعون من النساء والرجال تظلُّ شعلتهم مضيئةً لا تخبو، وإن وصموا بالجنون أو ماتوا بالسجون.

تتميَّز المناهج في الطب والعلوم التطبيقية الأخرى بالجمود والثبات على النظريات السابقة؛ لهذا كانت المحاضرات في كلية الطب مملَّة. أهرب منها إلى الأدب والموسيقى، لماذا تسعدنا الموسيقى؟

لأنها تخاطب (في آنٍ واحد) العقل والجسم والرُّوح والوجدان، لأنها تعيدنا إلى الأجزاء التي بُترت منا في الطفولة، تعيدنا إلى ما قبل عمليات ختان العقل والجسم، نعود إلى كياننا الكلي الذي كان ونحن أطفال، قبل أن تفسد المدرسة فطرتنا وذكاءنا الطبيعي، قبل أن تفصل المدرسة بين أجسامنا وعقولنا، بين المادي والروحي، بين الفردي والاجتماعي، بين الذكر والأنثى، بين الأنا والآخر، بين الماضي والمستقبل، بين الأرض والسماء، بين الزمان والمكان، بين الإله والإنسان، وغيرها من الثنائيات والتقسيمات الموروثة منذ تحريم المعرفة، في كلية الطب كان الأساتذة يملكون الشهرة والثروة والصلات الوثيقة بالسلطات الحاكمة، يحشون عقولنا بمعلوماتٍ تتسرب بعد الامتحان، سألني الأستاذ عن عمليات الختان في امتحان شفهي، قلت: «مُضاعفاتها خطيرة أحيانًا والأفضل منعها.» وكأنما نطقت كفرًا، وأعطاني صفرًا.

وتعرَّضت لشتى الضربات من زملائي الأطباء، بعد أن بدأت أكتب عن مضارِّ عمليات الختان التي أودَت بحياة بعض الأطفال الإناث والذكور.

كليات الطب المتقدِّمة بالعالم أضافت موادَّ جديدة لمناهج التعليم، منها الأدب والموسيقى لترقية الشعور والوجدان لدى الأطباء، وتعليمهم كيف يفكِّرون.

في بلادنا وجَد التعصب الديني الأصولي في نقابة الأطباء أرضًا خصبة.

لا تساعدنا مناهج التعليم على التفكير، بل تقدم معلومات جاهزة لنحفظها ونطبقها.

التعليم الجيد لا يعطينا السمكة بل يعلمنا كيف نصطادها من البحر.

•••

منذ أكثر من ستين عامًا، عُوقبتُ من الدولة أشد العقاب؛ لأني كشفت في كتابي «المرأة والجنس» عن حالات الاغتصاب الخفية التي تحدُث داخل البيوت والمدارس.

المدرِّس الذي اعتدى على ستٍّ من التلميذات ولم يعاقب، حرصًا على سمعة البنات وعائلاتهن، وتم نقله إلى مدارس البنين، والرجل صاحب المنصب الكبير في الدولة الذي اغتصب الخادمة الفقيرة وطردتها زوجته؛ حمايةً لزوجها وسمعة العائلة الكريمة، والخال الذي اغتصب ابنة أخته الصغيرة حتى ارتفع بطنها بالحمل فقتلها (وإخوتها الذكور) دفاعًا عن شرفهم، الرجل القاتل المدافع عن شرفه، يُخفِّف القاضي عنه العقاب تعاطفًا معه؛ لأن الشرف (العرض) عند الرجل أهم من حياته، والرجل الحق يفضل الموت دفاعًا عن شرفه؛ لهذا يشفق القانون على الرجل وإن كان قاتلًا.

فالشرف يملكه الرجل، أما المرأة فلا شرف لها، هي فقط الجسد أو المكان حيث يكون شرف الرجل.

يَلتصق العار بالفتاة المعتدى عليها، يُطلَق عليها اسم «الضحية»، ويتمُّ إخفاء وجهها واسمها كأنما هي المفضوحة، والمفروض أن تتحدَّى، وتكشف وجهها واسمها، وتعلن أن العار ليس عارها، بل عار المجتمع، وأنها ليست ضحية ولن تكون.

كيف يتعلَّق شرف الوطن أو شرف الأسرة بعذرية البنت أو جسد المرأة أكثر مما يتعلَّق بسلوك الرجال؟

وكيف يتعلق شرف الرجل بجسد المرأة وليس بجسده هو؟

ولماذا يتعلق الشرف بالجسد فقط ولا يتعلق بالعقل؟

الشرف الحقيقي هو الصدق والإخلاص والأمانة في الفكر والسلوك داخل البيت وخارجه، في المجالات العامة والخاصة، في الدولة والأسرة، في السياسة والاقتصاد وكل شيء، الرجل الشريف هو الصادق والمرأة الشريفة هي الصادقة.

المقاييس الأخلاقية لا بدَّ أن تسري على الجميع بصرف النظر عن النوع أو الجنس أو الدين أو الطبقة أو غيرها.

القيم والقوانين الأخلاقية في بلادنا مُزدوجة، تكيل بمكيالَين وأكثر، مما ينفي الأخلاق والشرف، ويسود قانون القوة (في بلادنا والعالم) القائم على العنف والاغتصاب وعقاب الأضعف وتبرئة الأقوى.

يتربَّى الولد في البيت على قِيَم أخلاقية تختلف عن القيم التي تتربَّى عليها البنت.

تحت اسم الرجولة يتربَّى الولد على أنه الأقوى المكلف بحماية شرف العائلة وعذرية البنات، ويتمتع بحريات وحقوق لا تحظى بها أخته أو زوجته.

وتتربَّى البنت لتقبل وضعها الأقل تحت حماية الرجل، وألا تركب الدراجة مثلًا (أو تمارس الرياضة) حمايةً لسلامة غشاء البكارة، وأن الطاعة والسكوت والضعف فضيلة، وليس القوة والشجاعة والتساؤل والنقاش والسعي للعلم والمعرفة.

تنشأ الفتاة المصرية لتكون «أنثى» تتعرَّى حسب إرشادات الموضة وأدوات الزينة في السوق الاستهلاكية الرأسمالية، أو تتغطَّى بالنقاب أو بالحجاب حسب إرشادات القوى الدينية السياسية، تتمزَّق الفتاة المصرية بين قيم الانحلال وقيم الانعزال، بين الانفتاح على البضائع الأمريكية وبين الانغلاق على الفتاوى الدينية.

المرأة الإنسانة العاملة بجدية وصدق وإخلاص، المفكِّرة بعمق وعقل مبدع مستقل، المرأة التي لا تتحجَّب ولا تتعرى ولا تتبع خطوط الموضة والماكياج، المرأة القوية الشجاعة التي ترفض هوان الأنوثة، وتحمي نفسها بنفسها، هذه المرأة يقولون عنها مُسترجلة وغير طبيعية.

والرجل الإنسان الذي يمارس عمله بصدق، ولا يخدع زوجته، ولا يخون الأمانة في البيت وخارجه، الرجل الذي يعتبر المرأة مساوية له في كل الحقوق والواجبات، سواء كانت زوجته أو زميلته في العمل أو أي امرأة أخرى، هذا الرجل يقولون عنه فاقد الرجولة (ليس دكرًا) أو ضعيف أو ليِّن العريكة.

الرجل الإنسان الصادق ذو الأخلاق الحقيقية يتمزَّق بين القيم المزدوجة المتناقضة، كما يحدث للمرأة الإنسانة الصادقة صاحبة الأخلاق الحقيقية.

جرائم الاغتصاب تتخفى وراء هذه القوانين والقيم المزدوجة في حياتنا العامة والخاصة، وسوف تستمر جرائم الاغتصاب بكل أنواعها في حياتنا الزوجية والجنسية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، ما لم نُغير القيم والمفاهيم والقوانين الطبقية الأبوية التي نتربَّى عليها منذ الطفولة في البيوت والمدارس.

•••

لم يأتِني ردٌّ من وزير الصحة والنائب العام عن مصير الملف رقم ١٤٤٣٩١ بموت الدكتور محمد فتوح يوم ١٣ أكتوبر ٢٠٠٨م. بعد أن تعرَّض للإهمال الخطير في مستشفى دار الفؤاد؟

أرسل الدكتور فتوح، قبل موته، تفويضًا رسميًّا للنائب العام للتحقيق فيما تعرض له. خلال ثلاثة أشهر وستة أيام. من العذاب والإهمال والآلام مع دفع الآلاف (موت وخراب ديار). لم يكن يملك إلا حب أسرته وتقدير أصدقائه. له أخت باعَت أساورها وكل ما لديها لتسدد فواتير المستشفى. وأخت ثانية دفعت مدَّخرات عمرها. وصديق عمره دفع ما عنده. ومساهمات أخرى ممَّن أحبوه لإبداعه النادر وأخلاقه الأكثر ندرة.

تقدَّمت أسرته وأصدقاؤه بشكاوى إلى المسئولين والنائب العام، دون نتيجة؛ فالدكتور فتوح لم تكن له وسايط في الدولة تُساعده للحصول على حقه. ومستشفى دار الفؤاد كانت محصنة ذات نفوذ؛ لأنها مملوكة للكبار، منهم وزير الصحة حينئذٍ د. حاتم الجبلي، الذي كان يقول إنه سيُحارب كل من يتاجر بصحة المواطنين. وكان مُستشفاه نفسه يتاجر بصحة الناس ويكسب الملايين. وأحد ضحاياه هو الدكتور محمد فتوح، الذي مات وهو في قمة الشباب والعطاء، وكان كاتبًا وموسيقيًّا وفنانًا، له عدد من الكتب والمؤلَّفات الرائدة، وعدد من الألحان الموسيقية والأغاني ذات الكلمات والمعاني الجديدة. كان يكتب ليفتح العقول ويُحارب ظلام الجهل والمرض والخوف. عاش حياته القصيرة يقرأ ويكتب. حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة. وضاعت حقوقه في الحياة والموت؛ لأنه كان بعيدًا عن الشِّلَل من حول وزير الثقافة أو وزير الصحة أو النائب العام.

حين مات كتب عنه من قرءوا له وعرفوا إبداعه. وأنا أيضًا كتبت مقالًا منذ ستة أعوام أطلُب التحقيق في موته، دون جدوى. لم يكن عندي وسايط لأيِّ مسئول.

تأثرت بأخلاق أبي الذي كان يُفضل الموت عن الاستجداء. ويقول: «الكرامة في الاستغناء.» لهذا ضاع حق أبي في حياته وموته، وضاعت حقوقي أنا أيضًا في سراديب الملفات والأوراق التي تدخل ولا تخرج من الأدراج.

لكني اليوم أكتب هذا المقال إلى وزير الصحة والنائب العام، على صفحات جريدة المصري اليوم، بعد أن سمعت عن انتهاء عهد الوسايط بعد الثورتَين، فهل انتهت الوسايط فعلًا؟ وهل يأتيني الرد عن مصير ملف الفقيد الدكتور محمد فتوح الذي يحمل رقم ١٤٤٢٩١ بمكتب النائب العام ومكتب وزير الصحة منذ ١٣ أكتوبر ٢٠٠٨م؟

وأريد أيضًا ردًّا من وزير الصحة والنائب العام عن موت طالب الطب «علاء عبد الهادي»، كان طالبًا بالسنة النهائية بكلية طب جامعة عين شمس، عمرُه اثنان وعشرون فقط، قتلَته رصاصة في أحداث مجلس الوزراء خلال ديسمبر ٢٠١١م، أثناء اشتراكه مع زملائه في ثورة يناير، التي حملت لقب الثورة المجيدة، لم تمرَّ عشرة أيام على موته حتى أعلنت كلية الطب عن نجاحه بامتياز في الامتحان النهائي الذي أداه قبل موتِه بأيام قليلة، كان شابًّا متفوقًا محبوبًا مميزًا، بكى زملاؤه عليه بكاءً هيستيريًّا، وقرَّر اتحاد طلاب الكلية إقامة نصب تذكاري له، جاءت أمه المكلومة من قريته بطنطا إلى القاهرة لتتسلَّم ملابسه، من غرفة كان يسكن فيها مع زملائه بمنطقة حدائق القُبة، رأيتها تحتضن البالطو الأبيض والسماعة الطبية الخاصة بابنها الميت، تضمُّ البالطو بذراعَيها وتنشج بدموع متجمِّدة، كأنما تضمُّ طفلها إلى صدرها، تحوَّل البالطو في حضن الأم إلى جسد ابنها ذاته ساخنًا حيًّا في حضنها.

هل تم التحقيق مع قتَلة علاء عبد الهادي وزملائه؟ ليستريح قلب هذه الأم الحزينة وغيرها من آلاف الأمهات اللائي قدَّمنَ أرواح أبنائهن للثورة؟

وهل صعد الحكام الجدد إلى الحكم إلا بفضل الثورة والأرواح التي زُهقت فيها؟

الجميع يتكلمون اليوم عن هيبة الدولة، فهل تكون للدولة هيبة دون تحقيق العدل؟

مادة جديدة اسمها «كيف نُفكر؟» أضيفت لمناهج المدارس الابتدائية والثانوية، ومادة جديدة عن حقوق المرأة والعلوم الإنسانية.

هذا ملخص خبر قرأناه في الصحف المصرية أول أغسطس ٢٠١٤م، وتفاءلت، هل تتغيَّر عقيدة «الشعب الجاهل وسهولة حكمه»؟ هل يصبح «التفكير» حقًّا لجميع المصريين والمصريات، وليس لقلَّة تحمل لقب «المفكرون» بمجلس خبراء مركز التفكير الاستراتيجي؟ هل تصبح حقوق المرأة حقًّا لأربعين مليون امرأة وليس لقلَّة بالمجلس القومي للمرأة؟ هل يصبح التفكير و«التخطيط» (وليس «العشوائية») أسلوبًا للعمل والإنتاج من العائلة إلى الدولة ورئاسة الجمهورية؟

كانوا يقولون «فلان عنده فكر» يعني «مجنون». وارتبط التخطيط بالقرارات الاشتراكية والخطة الخمسية والسد العالي وتأميم قناة السويس، وغيرها من المشروعات التي وصمت بالشيوعية، وفي تحقيقٍ معي (في عصر السادات) سألني المدعي العام مُستنكرًا: أتؤمنين بالتخطيط؟

الفكر «الاستراتيجي الأمريكي» اعتمد على التخطيط للاستيلاء على البترول منذ اكتشافه في ثلاثينيات القرن العشرين، كانت حرب فلسطين عام ١٩٤٨م وإنشاء دولة إسرائيل خطوة تبعتها خطوات، أخطرها حرب الخليج الثانية (١٩٩١م) قادتها الولايات المتحدة الأمريكية بجيوش ٣١ دولة أوروبية وعربية، منها السعودية وسوريا واليمن ومصر، التي أعطت غطاءً عربيًّا للحرب. وأعطت الأمم المتحدة غطاءً دوليًّا بإصدار قرارها (رقم ٦٧٨) باستخدام القوة، واحترقت بغداد وتم تدمير العراق بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ (٨٨٥٥٠ ألف طن) أكثر من سبعة أضعاف القنبلة الذرية الأمريكية، التي دمَّرت هيروشيما في نهاية الحرب العالمية الثانية.

الخطة الأمريكية قامت على تدمير العراق باسم تحرير الكويت، تمهيدًا لتدمير الوحدة العربية وإغراق المنطقة في حروب لانهائية، خطة الاستعمار «فرِّق تَسُد» في استخدام المذاهب الدينية سلاح لتفتيت شعوب تم تغييب عقولها بالولاء والعبودية لصاحب الجلالة الملك وفخامة الرئيس.

أدانت شعوب العالم جورج بوش المجرم الأكبر والمخطط الأذكى، وصدام حسين المجرم الأصغر العشوائي الأغبى.

سافرت وفود شعبية لبغداد وجنيف ونيويورك لمنع الحرب، كنتُ عضوًا بالوفد النسائي العالمي، أثناء وجودنا بنيويورك طلبنا من سكرتير عام الأمم المتحدة، تقديم استقالته من منصبه، لخرقه ميثاق الأمم المتحدة (بقرار ٦٧٨) والكيل بمكيالَين، وكانت دولة فلسطين ذات سيادة كالكويت، فلماذا لم يطرد منها الاحتلال الإسرائيلي بالقوة؟ ولماذا يسكت على عدوان إسرائيل المتكرِّر، وتجاهلها قرارات الأمم المتحدة؟ هل لأن فلسطين تخلو من النفط؟ أم أن الاحتلال الإسرائيلي ليس «عدوانًا» بل «عودة» شعب الله المختار إلى الأرض الموعودة بالكتاب المقدس؟

كتبتُ بيدي الخطاب الذي يطالب «دي كوييار» بالاستقالة، ونشر النص ضمن الوثائق بكتاب بعنوان: معركة جديدة في قضية المرأة.

تلقاني البوليس لحظة وصولي مطار القاهرة بالتفتيش والتحقيق، وبعد ساعاتٍ طويلةٍ مُرهقة لم يجدوا معي إلا ملابسي وحذائي الكاوتش، ونسخة من الخطاب بخطِّ يدي، قبض عليه رئيس البوليس بأصابعه الطويلة بالأظافر المشذَّبة، قامته ممشوقة، شعره أسود غزير، ملامحه مصرية وسيمة، يشبه أبي لولا نظرته العدائية، وصوته من أنفه يسألني بغلظة: ما علاقة قضية المرأة المصرية بحرب الخليج؟

لم أبخل بالإجابة رغم التعب والغضب: المرأة نصف المجتمع ولا يمكن تحريرها في بلاد غير محررة، كيف يخضع الرئيس «مبارك» لجورج بوش ويُعطي غطاءً عربيًّا للحرب؟ كيف يرسل الجنود المصريين ليُقتلوا بالعراق في الصفوف الأمامية قبل الجنود الأمريكيين والأوروبيين؟ سوف تدفع مصر، شعبًا وحكومةً رجالًا ونساءً، ثمنًا باهظًا مقابل هذه الجريمة.

وقال رجل البوليس: صدام حسين فتح الباب أمام الأمريكان.

قلت: صدام حسين ديكتاتور ومجرم يقتل الآلاف من شعبه فقط، لكن جورج بوش أشد ديكتاتورية وإجرامًا يقتل الملايين من شعوب العالم.

وهزَّ رجل البوليس رأسه بشعره الأسود ونظرته العدوانية وصاح: لا أوافقك.

الصدف الغريبة، أنني بعد ثلاثة وعشرين عامًا، ألتقي به منذ يومين فقط، الرجل البوليسي ذاته، يتمشَّى على شاطئ البحر، راحت الوسامة وتقوَّس ظهره، تلاشى شعر رأسه بالكامل في صلعة ضخمة، بدا متهدلًا مكتئبًا، لم أتعرف عليه، لكنه أقبل نحوي مبتسمًا وصافحني قائلًا: اليوم فقط أوافقك.

•••

كان يتكلَّم عن الحب والصداقة، وأسنانه تلمع، والصدق في عينَيه كالدموع يلمع، ذكرني بأول وآخر رجل يكذب قابلته في حياتي، وأكبر رئيس دولة يكذب على زوجته وعائلته والإمبراطورية الكبرى، يملأ خيال الملايين في العالم بنشاطه الجنسي، ويشغل الطب الشرعي بتحليل حامضه النووي فوق الفستان الأزرق للفتاة الصغيرة المتدرِّبة بالبيت الأبيض.

رئيس الدولة الأكبر في عام ١٩٩٨م، كان متهمًا بالتحرش الجنسي، والكذب في فراش الزوجية والتحقيقات الفيدرالية في وقت واحد، وانتهاك تعاليم المسيح ومبادئ الحضارة الأمريكية في وقت واحد، وفي وقت واحد أيضًا يؤمن بكتب الله الثلاثة، ويغدق الأموال والسلاح على التيارات الأصولية، التي تحجب رأس المرأة باعتباره عورة، وتقتل الشيوعيين باعتبارهم ملحدين، وقد خرج الرئيس دون عقاب من الكنيسة والمحكمة أيضًا؛ فالدستور الأمريكي لا يعاقب الرجل إلا لخيانة الوطن، أما الخيانة الزوجية فهي غريزة طبيعية عند جميع ذكور الحيوانات، بما فيهم بنو آدم وبنات حواء أيضًا، الخائنات بالطبيعة، إلا الزوجات الفُضليات بالطبع، مثل هيلاري، التي تقابل خيانة الزوج بالوفاء، لتُرضي ربها وتدخل الجنة.

كان يتكلم بالقاهرة، يوم ٢٢ يونيو ٢٠١٤م، عن الحب والصداقة، يبتسم بأسنان مصفوفة مسنونة، عاد خيالي إلى الوراء ستة عشر عامًا فتذكَّرت «بيل كلينتون»، لكن ملامحه أكثر مكرًا وسذاجةً لولا سذاجة «بيل» ما اصطادته «مونيكا» بمكرها وكيدها (إن كيدهنَّ عظيم) رغم أنها نصف عمره، ولا تزال تتدرَّب على إيقاع الرجال في شباكها خدمةً للوطن.

كان «جون كيري» يقول إن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لوحدة الشعب العراقي والليبي والسوري والمصري وكل شعوب المنطقة. ينطق الكلمات دون أن يطرف له رمش، أو يعتري صوته رعشة، ينطقها قوية رصينة مليئة بالثقة والزهو والطهر والعهر، كلمات هي جزء من الثقافة الرأسمالية الاستعمارية، جزء من التفاخر بالغباء والضحالة والإخلاص والحب والصداقة الأسوأ من الصفاقة، البراءة والسذاجة الأسوأ من الخيانة، الجشع والنهب المخبأ تحت المساعدات والمعونات، الكلمات الرقيقة عن التعاون والشراكة، تُخفي في طياتها القسوة والاستغلال. كلمات هي صلب الحضارة الطبقية الأبوية، المريضة بالانفصام منذ ستة آلاف عام، منذ خرج آدم بريئًا من الإثم والتصقت حواء وحدها بالخطيئة، وتمَّ من بعد اكتشاف النظرية النسبية، فأصبح الصدق المطلق غير موجود، والكذب المطلق غير موجود؛ لأن الشر والخير داخل الإنسان والتناقُض أصل الوجود.

لم يبلغ بيل كلينتون من الذكاء ليفهم «مونيكا ليونسكي» بعقلها الأنثوي الناقص، فكيف يَفهم صدام حسين أو السادات أو مبارك أو القذافي؟

كان فساد الدجاجة الصغيرة أكبر من فساد الذئب العجوز، فتغلَّبت عليه، وهو رئيس الدولة وهي طفلة تحبو وتتدرب، وهو ذكر مدرب زير نساء عتيق، وهي أنثى فقيرة مقهورة تشتهي الثمرة المحرمة بالغريزة وقلة الحيلة، أليست هي مشكلة الحضارة الرأسمالية الذكورية؟ لم يكتمل فسادها، جرائمها لا تزال منقوصة، لا تكفي لتُحقق لها النصر على أضعف أعدائها، حضارة التناقضات وإخفاء العورات بحجاب الفضيلة، والتغطية على الظلم واللامساواة بالمؤلفات العِلمية الرصينة، وبيانات حقوق الإنسان وحقوق المرأة والديمقراطية العظيمة.

انكشف الأمريكي الرقيق «جون كيري» أمام القاهرة والعالم، وكان مكشوفًا من قبل بالطبع، انهزمت رقة الكذب أكثر من قسوة الصدق، الجنتلمان المهذَّب يفضحه قُبح الحضارة المتجملة بالمساحيق والرموش الصناعية، وفجاجة الأمانة الأقبح من الخيانة، وصفاقة التعاون الأسوأ من التحرُّش، انكشفت قواعد اللعبة عن آخرها، لم تَعُد محكومة بقوانينها المعكوسة، بل بقوانين الشعوب المقهورة، وثوراتها المتفجِّرة الممدودة، من تونس إلى مصر، وكل شعوب العالم، بما فيها الشعب الأمريكي ذاته، الذي خرج إلى الشوارع ضد حكومته في حركة «احتلُّوا وول ستريت» في خريف ٢٠١١م، بضعة أشهر بعد ثورة يناير المصرية.

•••

شهدت جون كيري وزير الخارجية الأمريكي (على الشاشة) يتكلَّم في المؤتمر الصحافي بالقاهرة يوم الأحد ٢٢ يونيو ٢٠١٤م، ويقول إن الولايات المتحدة الأمريكية غير مسئولة عما يحدث في العراق أو ليبيا، وإنها بذلت الكثير من أجل «إنقاذ» الشعب من الديكتاتور، ثم تركت الشعب حرًّا ليجري الانتخابات الديمقراطية ويختار حكامه، واليوم تُحاول الولايات المتحدة «إنقاذ» الشعب العراقي وشعوب المنطقة من خطر الإرهاب الخطير الذي يمثله «داعش»، ولا يُهمها إلا أن ينجح الشعب العراقي في توحيد صفوفه ويتخلَّص من الإرهاب، ويختار حكومته ديمقراطيًّا التي تمثِّل الشعب العراقي كله، وأن يحدث ذلك لكل شعوب المنطقة.

صوت جون كيري كان يرن قويًّا يوحي لمن يسمعه أنه صادق ومخلص للشعب العراقي أكثر من الشعب العراقي نفسه، ومخلص للشعب الليبي والسوري والمصري وكل شعوب المنطقة أكثر من إخلاص الشعوب لنفسها، كان واقفًا بجسمه الطويل الممشوق وشعره اللامع الكثيف ونبرته الأمريكية القوية المتعالية، كأنما يَنطق الحقيقة الإلهية المطلقة.

لو أنه مُمثل من الدرجة الأولى في فيلم أمريكي حائز على الأوسكار لما أتقن دوره بهذا الشكل، ولما دوى صوته بهذه القوة والثقة المطلقة، رغم علمه أنه يكذب وجميع من يستمعون إليه في مصر والعالم أجمع يعلمون أنه يكذب، وأن الحرب الطائفية هي إحدى نتائج الاحتلال الأمريكي للعراق وأحد أهدافه الرئيسية؛ فالخطة الأمريكية الأصلية تشمل تقسيم شعوب المنطقة وليس توحيدها، وليس إنقاذها، بل إغراقها في وحل الفتن الدينية والحروب الأهلية.

هكذا يزيف الأقوياء الوعي والتاريخ.

وتحت اسم المساعدات يثبت الاستعمار الأمريكي أقدامه في البلاد، ويقول جون كيري: «تريد الولايات المتحدة الأمريكية ضمان أن الأموال التي تدفعها لمصر، والتي هي في الأساس أموال دافعي الضرائب، يتمُّ صرفها بصورة يرضى عنها الأمريكيون.»

معنى ذلك، أن الشعب الأمريكي يدفع لمصر مساعدات مالية من عرقه وتعبه، يدفعها من الضرائب التي يسدِّدها للحكومة الأمريكية سنويًّا، ومن حقه أن يعرف كيف يتم صرف هذه المساعدات، وهل يتم صرفها بصورة يرضى عنها الأمريكيون؟

لم يكن الاستعمار البريطاني القديم بهذا الوضوح والصراحة، كان يستعبد الشعب المصري ويسرق قوته وعرقه ودمه تحت اسم «الحماية»، وهي كلمة إنسانية رقيقة مزيفة، كانت تُستخدم في السياسة لطمس الهيمنة الاستعمارية المطلقة على الشعوب، وكانت تستخدم في العلاقات العاطفية والزوجية، لطمس السلطة الذكورية المطلقة على النساء، وقد تطورت اللغة السياسية والعاطفية والزوجية مع تطور تكنولوجيا الإعلام والخداع، وأصبحت «الحماية» هي «الإنقاذ» أو «الصداقة» أو «الشراكة» وغيرها من كلمات الحب الجميلة.

ويتم تزييف الوعي بتاريخ ثورات الشعوب ضد الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي؛ فالأقوياء أصحاب المال والسلاح والإعلام يكتبون التاريخ كما يشاءون، ويبطشون وينهبون كما يشاءون، ألم تغزُ الولايات المتحدة العراق وليبيا وتستولِ على مواردهما تحت اسم إنقاذ الشعب من الديكتاتور؟

وثورة الشعب المصري (عام ١٩١٩م) بكل طبقاته وفئاته المقهورة، ألم تُصبح في التاريخ ثورة البشوات أعضاء حزب الوفد على رأسهم سعد زغلول باشا، الذي صعد إلى الحكم على دماء الشعب وأرواح الشباب، فإذا به يحتكر الزعامة والقرار ويتَّهم الشباب الثائر بالرعونة وعدم النضج، بل انقلب ضد زملائه في حزب الوفد الذين خالفوه الرأي، لكنه كان يمتلك القوة والسلطة والتاريخ، ويقف تمثاله في قلب القاهرة يطلُّ على نهر النيل، رغم ما فعله لإجهاض الثورة وتشريد أبطالها وإعادة مصر للخضوع للاستعمار البريطاني والحكم الملكي المستبد الفاسد.

أما ثورة يوليو ١٩٥٢م، فقد مهَّدت لها دماء الشعب المصري من الشباب وطلبة الجامعات، الذين ثارُوا ضد الملك والاحتلال البريطاني، وامتدَّت مظاهراتهم على مدى السنوات منذ إلغاء المعاهدة مع الإنجليز عام ١٩٣٦م، أكبرها المظاهرة الشعبية الصامتة في نوفمبر ١٩٥١م، التي شارك فيها الشعب المصري بجميع طوائفه وفئاته نساءً ورجالًا وشبابًا وأطفالًا، وسافرت كتائب الفدائيِّين من الشباب إلى القنال في حرب العصابات ضد الإنجليز، وكادَت تنتصر عليهم لولا خيانة حكومة الملك فاروق وتعاونها مع الإنجليز في حريق القاهرة ٢٦ يناير ١٩٥٢م، وإجهاض العمل الفدائي وضرب الثورة الشعبية؟

ألم نشهد الانتفاضة الشعبية في يناير ١٩٧٧م التي تحوَّلت بأمر حكومة السادات إلى انتفاضة الحرامية؟ ثم تكرَّرت مأساة تزييف الوعي والتاريخ، حتى ثورة يناير ٢٠١١م، ألم يحدث لها ما حدث لغيرها في التاريخ المصري الحديث والقديم، منذ أول ثورة شعبية ضد الإقطاع منذ ستة آلاف عام، مرورًا بالثورات الشعبية المتكررة ضد الاستعباد الداخلي والخارجي؟

•••

القليل يكشفون عن جذور الإرهاب في التربة المصرية، فما بال من يُحاولون اقتلاعها، وتحرير العقل من الأفكار القائمة على التفرقة بين البشر التي نتربى عليها منذ الطفولة.

هناك علاقة وثيقة بين ثقافة التفرقة والسلوك العنيف؛ فالطفل المسلم الذي يتربى في البيت والمدرسة، على أنه أفضل من زميله القبطي، وأفضل من أخته أو زميلته الطفلة يُصبح رجلًا رافضًا لفكرة المساواة بينه وبين الأقباط والنساء، ويعبِّر عن رفضه بالعنف الصريح الواعي أو العنف المكبوت، فيضرب زوجته إن رفضت التفرقة بينها وبينه، أو يُؤنبها في صمت، ويكرهها في اللاوعي، حتى يتخلَّص منها بالطلاق غيابيًّا، أو الزواج بأخرى تقبل وضعها الأدنى، أما زميله القبطي فهو يُعنفه إن تعامل معه على قدم المساواة، ويصفه بالكافر، أو يكبت الكراهية له في صمت، حتى يأتي الوقت فينفجر فيه أو يشارك في حَرْق كنيسته.

ظاهرة العنف والإرهاب ليست قاصرةً على جماعاتٍ إسلاميةٍ معينة في هذا العصر، ولكنها ظاهرة تاريخية في جميع الأديان؛ إذ تذوب السلطة الدينية في السلطة السياسية بالدولة والعائلة.

تاريخ المسيحية واليهودية لا يقل دموية عن تاريخ الإسلام أو أي دين آخر.

تختلف الأديان من مجتمع إلى آخر، وتقلُّ حاجة البشر للأديان بازدياد معرفتهم لظواهر الكون، وتطور علومهم الطبيعية والإنسانية، منها التاريخ والفلسفة والطب، كانت الكنيسة في أوروبا العصور الوسطى، تحتكر وسائل علاج الأمراض الجسدية والنفسية، وتتَّهم كلَّ مَن يستخدم وسائل أخرى بالكفر وتأمر بحرقه.

الملايين من البشر في العالم ينقدون الفكر الديني، والملايين يؤمنون منذ الطفولة، وهناك ملايين تُنكر الأديان والآلهة، وهناك من يؤمنون بوجود خالق أول أو قوة غيبية تملك سر الوجود.

ينبع العنف والإرهاب بسبب التفرقة بين طقوس الأديان وتقاليدها وقوانينها وشرائعها التي يضعها عدد قليل منهم، ويعتبرُونها «مقدسة» من أجل السيطرة السياسية والاقتصادية على الأغلبية الساحقة، وتلقين دينهم الموروث لأطفالهم، بالتربية والتعليم والسمع والطاعة والتخويف والعقاب أو المكافأة، يُصبح الإيمان الديني جزءًا من القلب والوجدان والوعي واللاوعي، ومعه الخوف والعنف والتَّفرقة بين الناس باختلاف الدين والجنس والعرق والطبقة وغيرها.

يتشكَّل العقل منذ الطفولة على الإيمان الشعوري واللاشعوري، بكل ما يقوله رجال الدين وتفسيراتهم للكتب والأحاديث الدينية، حتى الفتاوى الخرافية المناقضة للبديهة، تُصبح مقدسة، يُطلقها الأئمة من المذاهب المختلفة لأغراض سياسية معينة.

ومن هنا صعوبة القضاء على العنف أو الإرهاب الديني السياسي، ما دامت تربية الأطفال وتعليمهم قائمَين على التَّفرقة الجنسية والدينية والعرقية.

ينص الدستور المصري على حرية العقيدة مع ذلك يظلُّ التعليم المصري كما كان منذ العصور الماضية، يتَّهم بالكفر كل من يفكر بعقله الحر، أو ينقد ثقافة التفرقة الدينية أو الجنسية الراسخة في المذاهب على اختلافها.

تعصف الأديان القائمة على التفرقة الجنسية والدينية بأي دستور ينص على المساواة والعدالة والمواطنة والحرية والكرامة للجميع، وحل الصراعات والخلافات بالحوار والعقل وليس بالعنف والإرهاب، ومن هنا تأتي الدعوات المستمرة لتجديد الخطاب الديني ليتماشى مع مبادئ الدستور أو مبادئ الثورة.

التحدِّي يواجهنا اليوم للقضاء على جذور التَّفرقة التي تُشكل الوعي واللاوعي لدى الرجال والنساء والمسلمين والأقباط والأغنياء والفقراء، العلاج السطحي بالمسكنات لن يجدي، نحن في حاجة إلى الشجاعة والصدق لتشخيص المرض، واقتلاع الأسباب العميقة الراسخة في صلب النظم التعليمية والتربوية والأخلاقية والثقافية.

بلاد مُتعددة في العالم، لم تنهض علميًّا وأخلاقيًّا إلا بتغيير القيم والمفاهيم التي تُلقَّن للأطفال تحت اسم الدين، وإبدالها بقيم إنسانية عُليا لا تفرق بين البشر لأي سبب يتعلق بالدين أو الجنس أو العرق أو الطبقة، تتجسَّد خطورة التعليم الديني للأطفال على ترسيخ التفرقة بين البشر، التي يمتزج فيها الديني بالسياسي بالثقافي بالاجتماعي بالجنسي بالاقتصادي بالدعاية بالرقابة بالترغيب والترهيب.

تخلَّصت كثير من البلاد من التعليم الديني التقليدي، الذي يُزيف الوعي ويرسخ فكرة التفرقة بين الناس؛ وبالتالي العنف والإرهاب.

المبادئ الإنسانية العُليا: الصدق، الحرية، العدالة، المساواة، الكرامة، الأمانة، هي جوهر الدين الصحيح، وهي تحقق الطمأنينة والسلام والتوازن النفسي والسعادة للإنسانية وللإنسان، في علاقتهما بنفسَيهما وبالآخرين.

بعد أن يكبر الأطفال ويبلغوا النضج، يمكنهم الاطلاع الحر، واختيار العقيدة التي تُلبي حاجاتهم النفسية أو أسئلتهم الوجودية.

إنَّ الدين الصحيح لا يفرض على البشر بالحكومات أو وزارات التعليم، ولا يورث عن الآباء والأجداد؛ فالإيمان بالوراثة باطل، والإيمان الصحيح ثمرة اختيار حر غير قابل للتسويق تعليميًّا أو سياسيًّا.

كيف نهضَت الصين في الأربعين عامًا الماضية، وتحولت من دولة نامية إلى دولة متقدمة، تناطح الولايات المتحدة، بل تقدم لها المعونة لتُنقذها من أزمتها المالية، كما ترفض، رفضًا باتًّا، تدخل الولايات المتحدة في شئونها الداخلية أو استغلال مظاهرات هونغ كونغ الأخيرة لضربها وعرقلة نهضتها تحت اسم الديمقراطية.

يوم ٢٥ سبتمبر (أيلول) ٢٠١٤م في جامعة بكين، دار الحوار بيني وبين الأساتذة والطلاب والطالبات، وكانت مظاهرات هونغ كونغ مشتعلة، ولا أحد في القاعة الجامعية يشكُّ في أن الشعب الصيني يعالج مشكلاته بنفسه، ولن تستطيع أمريكا أو غيرها أن تفرض إرادتها عليهم.

تخيَّلت بلادنا وقد ارتفعت رءوسنا بالكرامة والاستقلال، كما حدث حين طردنا الاستعمار البريطاني وتأميم قناة السويس عام ١٩٥٦م، وبداية النهضة الاقتصادية والثقافية، التي لم تصل إلى اقتلاع جذور التخلُّف والتبعية، وظلت الحركة الوطنية تعوم على السطح، لا تجرؤ على التغلغل إلى عمق القيم الموروثة السلبية، ومنها الخضوع للسلطة المطلقة في العائلة والدولة، والتبعية للاستعمار الخارجي، وتحقير المرأة والإنسان الفقير؛ لهذا سقطَت مصر في الهزيمة الكبرى عام ١٩٦٧م، وتوالت هزائمنا على مدى الأربعين عامًا الماضية، تضاعفت فيها السيطرة الخارجية والجماعات الدينية، تدهور الاقتصاد والتعليم والأخلاق، تم ضرب الإنتاج المصري واستشرى استهلاك البضائع المستوردة والفساد، ازداد الفقراء فقرًا والنساء قهرًا، والأطفال البنات فرض عليهنَّ النقاب والزواج بالعجائز مقابل المال، حتى قامت ثورة يناير ٢٠١١م وثورة يونيو ٢٠١٣م، وبدأنا نرفض الاستبداد السياسي والديني، والهيمنة الأمريكية ومعونتها الزائفة، لم تكفَّ القوى الاستعمارية عن تدعيمها للقوى الإرهابية المدمرة لنا، كدولة إسرائيل اليهودية النووية، وتنظيمات إسلامية عسكرية كالقاعدة وطالبان والإخوان وداعش وبوكو حرام وغيرها.

سألتُهم في الصين كيف نجحتم في تحقيق النهضة والاستقلال؟

قالوا: إنها الثورة الثقافية؛ لأنَّ الثورة السياسية والاقتصادية إن لم تدعمها ثورة لتغيير القيم الموروثة فإنها تفشل، وتصعد للحكم قوًى أكثر استبدادًا تقضي على الثورة والثوار. وأكدوا أن النظام الراسخ في التاريخ منذ العبودية، يقف ضد الثورات الشعبية إن لم تصاحبها ثورات ثقافية تعليمية تضرب جذور القيم الطبقية الذكورية.

في الصين نجحوا في تحرير تراثهم الديني والسياسي من القيم السلبية، التي قهرت الفقراء والنساء تحت اسم المقدَّس «كونفوشيوس» الذي وُلد قبل ولادة المسيح بخمسمائة وواحد وخمسين عامًا.

كان كونفوشيوس لأهل الصين كالمسيح والأنبياء في بلاد أخرى، لم يتخلَّص كونفوشيوس، كغيره من الزعماء، من القيم الطبقية الأبوية، وكان «كارل ماركس» نفسه «طبقيًّا ذكوريًّا» في أعماقه، وقد استغلَّ صديقه «فردريك إنجلز»، للتغطية على اغتصابه حقوق الخدم في بيته والنساء اللائي أقام معهنَّ علاقات سرية.

في ثورة الصين (٤ مايو ١٩١٩م) نزعت الثورة الثقافية عن «كونفوشيوس» الألوهية، وعن جميع الأباطرة والحكام المقدَّسين، وكان الرجل الصيني عبدًا، والمرأة عبدة العبد، والبنت تُقتل لأنها أنثى، وتُوضع قدماها منذ الطفولة في حذاء حديدي، لفرض الخضوع وقانون الطاعة، والسير بخطوات ضيقة متعثِّرة، تنكفئ بعدها المرأة فوق وجهها، ساجدة لسيدها الحاكم؛ الزوج أو الأب أو الإله.

لم أجد أحذية حديدية إلا بمتاحف الصين، تحرَّرت المرأة الصينية من العبودية، من الأنوثة المزيفة والجمال القبيح والفضيلة الأسوأ من الرذيلة، قضَت الثورة الثقافية على الازدواجية الأخلاقية، والاستعمار الأجنبي، أصبحت القوانين والقيم تحكم الرجال والنساء بالتساوي في الدولة والعائلة، لا يُمكن لرجل صيني، وإن كان رئيس الدولة، أن يهدم أسرته من أجل نزوة، لا يُمكن لامرأة صينية أن ترتديَ النقاب واعتبار وجهها عورة، لا يُمكن بناء دولة مستقلَّة ناهضة ونصفها جاهلات تابعات.

في بلادنا لا يزال التعليم والفكر خاضعًا لمفاهيم وقيم مُزدوجة، لا تزال المرأة منقَّبة وإن كشفت وجهها، لا تزال الدولة (بعد ثورتَين) تتخبَّط بين الاستقلال والتبعية، بين رفض المعونة الأمريكية وقبولها، بين تنقية التراث من السلبيات والإبقاء عليها.

لا يزال قطاع كبير من الفقهاء والسياسيين، يؤمنون بتقييد حرية الفكر والإبداع بحُجة منع الكفر والإلحاد، لم تتخلَّص الثقافة من تحقير المرأة، أكبر شتيمة للرجل أن يُقال له أنت امرأة، بل إن شاعرًا ثوريًّا (نجيب سرور مثلًا) لم يتخلَّص من ثقافته الذكورية، وفي إحدى قصائده المنشورة (بالأهرام ٩ أكتوبر ٢٠١٤م) يشبه العدو الإسرائيلي الجبان بالمرأة التي تحيض، النهضة لا تحدُث إلا بثورة ثقافية وأخلاقية.

رأيت سور الصين بعيني ولمسته بيدي، بعد أن رسمته في خيالي منذ قرأت عنه في طفولتي، وكنت أظن أنه بُني ليمنع دود القز من الهروب خارج الصين.

يستحق السور لقبَه العظيم، يُعتبر إحدى معجزات الإبداع الإنساني مثل الهرم الأكبر بالجيزة، بُني السور فوق الجبال قبل ألفَيْ عامٍ لمسافة ثلاثة آلاف كيلومتر ممدودًا من الشرق إلى الغرب، لحماية الصين من جيوش الأعداء، لكن بعد اكتشاف الطائرات الحربية أصبح السور يجذب ملايين السياح من العالم ويدرُّ دخلًا كبيرًا للصين.

لا يُمكن الوصول إليه إلا بعد صعود درجات سلالم بدَت لا نهائية بعد تجاوزي الثمانين عامًا، ثم ركوب «التليفريك» الذي يعلو بنا بين الجبال الشاهقة حتى نُلامس السور والسماء.

العاصمة «بكين» في الأسبوع الأخير (من سبتمبر ٢٠١٤م) تُغلفها سماء رمادية تُشبه سماء القاهرة، وأعداد هائلة من البشر، أغلبهم شباب وشابات لكنهم يسيرون بخطوة سريعة متوثبة، تتقافز فوق ظهورهم حقائبهم الخفيفة، يُسابقون الريح على أقدامهم أو فوق الدراجات، البنات والأولاد لا فرق، المرأة الصينية مساوية للرجل في الحياة العامة والخاصة، في قوانين الدولة والأسرة، لكن المساواة الحقيقية لم تُصبح واقعًا إلا بعد الثورة الثقافية الحقيقية، كما قال لي عميد كلية الدراسات العربية بالجامعة، الدكتور «شوي تشينج قوه»، لكنه يحمل اسمًا عربيًّا هو «بسام».

حسب تقاليد هذه الكلية، يحمل العميد والأساتذة والطلاب والطالبات أسماء عربية، رافقني الدكتور بسام في زيارتي للسور، والأستاذة «منغ بينغ جيون»، واسمها العربي زهراء، تتكلَّم العربية بطلاقة، مثل العميد وكل الأساتذة والأستاذات والطلبة والطالبات.

وسألت العميد بسام ماذا يقصد بالثورة الثقافية الحقيقية، فقال إنها ثورة الرابع من مايو ١٩١٩م، التي لعبَت دورًا في إعادة قراءة التراث الصيني، احتفظت بالإيجابيات وحذفت السلبيات، دعم فكر لوشيون وزملائه الثورة الثقافية الحقيقية، أما ثورة «ماو» فلم تكن حقيقية؛ لأنَّ الثورة الثقافية الحقيقية لا تحدث إلا بإعادة قراءة التراث والتخلُّص من جميع الفروق بين الناس، ونزع الألوهية عن كونفوشيوس وجميع الأباطرة والملوك والزعماء، تحرَّر الشعب الصيني من الآلهة والشياطين معًا، وتحرر من التبعية لأيِّ دولة أخرى، أصبح الشعب الصيني سيدًا لنفسه مستقلًّا في اقتصاده وإنتاجه وثقافته، وفكره الناتج عن عقله وإبداعه العلمي والفني، وأصبحت المرأة مساويةً للرجل في قانون الأسرة، وهذا هو أساس النهضة.

النهضة الحقيقية لا تحدث بسبب النهضة الاقتصادية والقانونية فقط، بل بالنهضة في جميع المجالات الاجتماعية والسياسية والتنظيمية والثقافية والفنية والتعليمية والأخلاقية، لا تستمدُّ الصين القيم الأخلاقية من دين مُعيَّن، بل من المبادئ الإنسانية العليا، كالصدق والحرية والأمانة والعدالة، والمساواة والشجاعة والإخلاص في العمل، والصداقة والحب والسلام.

في اجتماعٍ مع عددٍ من الكاتبات ونُقاد الأدب ومنهم الناقد المعروف «تانج شيادو» أدركت أنهم يعرفون عن الأدب العربي والمصري أكثر مما نتصوَّر، وقاموا بترجمة كثيرٍ من الروايات العربية والمصرية، رأيت الترجمة الصينية لأربعٍ من رواياتي منها «الأغنية الدائرية»، وعدد من قصصي القصيرة منها «ليس لها مكان في الجنة»، وتحدث الناقد «تانج شيادو» طويلًا عن «الأغنية الدائرية»، وقال إنه قرأها بمتعةٍ نادرةٍ وكأنه هو الذي كتبها في الحلم، وقام الأستاذ «بنعليغ» وزوجته «جانيي» بترجمة روايتي «امرأة عند نقطة الصفر» إلى الصينية عام ١٩٨٨م، أما الأستاذ «قاو شينغ» محرر مجلة الأدب العالمي، فقد نشر في عددها الأخير (٢٠١٤م)، بعض قصصي القصيرة ورواية «الأغنية الدائرية» بالكامل، ودراسات نقدية عن أعمالي الأدبية.

في هذه الزيارة الأولى للصين، اكتشفت أنني أحظى بتقدير كبير في الصين أكثر من الوطن، وأدركت كيف يُمكن للأنظمة الداخلية الاستبدادية أن تدفن أعمال المبدعين والمبدعات، وتؤلف الأمجاد للمُنافقين والمنافقات.

الطالبة الصينية اسمها «واحة» السبب الأول وراء زيارتي الأولى للصين، تكتب أطروحة بعنوان «القلم والمشرط» عن أعمالي الأدبية، لنيل درجة الدكتوراه بالجامعة، زارَتني «واحة» في بيتي بالقاهرة العام الماضي، كانت تقرأ لي منذ الثامنة عشرة من عمرها، وخلال عشر سنواتٍ فقط قرأت كل ما نشرته من كتب ومقالات، وكل ما نشر في العالم عن أعمالي، هذا الجهد الهائل لهذه الفتاة الصينية النحيفة جدًّا، الصلبة جدًّا كالحديد، في تمرُّدها وثورتها وإبداعها، أحاطَتْني بذراعيها قائلة: كان حلم حياتي أن أراك.

•••

هل تأمَّلَت القوى السياسية المصرية صورة البنات الخمس؟ تركتهن الأم في الشارع لعجزها عن تحمُّل عبء إطعامِهنَّ ورعايتِهنَّ؟

والأم التي عانت من بطش زوجها وأبيها، فذبحَت نفسها وطفلتَيها؟ والأم التي طلَّقها زوجها لأنها أنجبَت ثلاث بنات، ولم تنجب الذكر، فانتظرَت القطار وانتحرَت تحت عجلاته مع بناتها؟

أغلب الأمهات والنساء، يتعرَّضن للقهر الخماسي؛ الجنسي، الاقتصادي، الاجتماعي، الأخلاقي، الديني.

ومن يتولَّى الدفاع عن حقوق الملايين من هؤلاء البائسات، ضحايا القانون الظالم والعرف والشرع والثقافة الذكورية؟ كيف يَسمح القانون للرجل بتطليق زوجته لأنها لم تُنجِب ذكرًا؟ كيف تسكت القوى السياسية على هذا الظلم الواقع على ملايين النساء؟ لماذا لا تتحمَّس القوى السياسية (بما فيها مجلس المرأة القومي) لتغيير قانون الأسرة كما تتحمَّس لتغيير قانون الانتخابات وتوزيع مقاعد البرلمان؟

لماذا لا تتحمَّس «القوى الثقافية» لتغيير الثقافة الذكورية، كما تتحمَّس لإصلاح تمثال أبو الهول أو مقبرة آمون؟

الحركة النسائية المصرية تم ضربها منذ حكم السادات، في سبعينيات القرن الماضي، عن طريق تشجيعه التيارات الدينية الأصولية (بالتعاون مع رونالد ريجان) وكانت على رأسها جماعة الإخوان المسلمين والسلفيِّين والجماعات الأخرى، التي أدَّت إلى ما نراه اليوم من تنظيمات دينية سياسية مثل «داعش» التي تقتل البشر تحت اسم الهوية المذهبية، وتفرض الجماع الجنسي على النساء بالقوة المسلحة، تحت اسم الجهاد في سبيل الله والدين؟ أغلب رجال ونساء السياسة يهتمُّون بالمصلحة الآنية، كالانتخابات في اللحظة الحاضرة، وتوزيع المقاعد والمناصب، حتى أساتذة السياسة الأكاديميون تلقوا العلم بنظرة براجماتية انتهازية، تفصل بين الظواهر وأسبابها، تغيب عنهم النظرة الكلية، ولا يربطون بين السياسة ومصالح الملايين من البؤساء، خاصة النساء والبنات.

تعرَّضت رائدات الحركة النسائية المصرية، ورواد الحركة الشعبية الوطنية بصفة عامة، لبطش الأنظمة الاستبدادية المصرية التي تعاونت مع الاستعمار البريطاني ثم الأمريكي، فلا شيء يفزع الاستعمار الأجنبي (وأعوانه بالداخل) أكثر من تحرير «النساء» نصف المجتمع، وقيام ثورة شعبية لإسقاط النظام الطبقي الأبوي الذكوري.

ألا يدهشنا التناقض الصارخ بين الدستور والواقع الذي نعيشه؟ يؤكد الدستور المصري على تحريم قيام حزب سياسي على أساس ديني، مع ذلك نشهد النشاط السياسي لحزب النور السلفي، وتصريحاته اليومية عن تحالفاته السياسية لخوض الانتخابات البرلمانية القادمة.

نقرأ المانشيت في الصحف عن الانقسام داخل هذا الحزب السلفي بشأن ترشُّح المرأة، وأن هناك تيارًا داخل الدعوة والحزب يرفض ترشح المرأة، استنادًا إلى أنه «لا يُفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة» والفتاوى المسجلة لعددٍ كبير من شيوخهم تؤكِّد أن ترشيح المرأة يخالف الشريعة الإسلامية وأنه من المفاسد، وأن البرنامج الانتخابي الجديد لن يختلف كثيرًا عن برنامج الحزب في انتخابات ٢٠١١م، الذي شطب وجه المرأة واسمها واستبدلها برمز على شكل وردة؟

وإذا كانت الانتهازية والبراجماتية تجعل رجال السياسة يتحالفون مع الحزب السلفي والتضحية بحقوق المرأة، فكيف تتحالف أيضًا نساء السياسة ومجلسهن الموقر مع السلفيِّين في الانتخابات البرلمانية القادمة؟

زعيمة نسائية منهنَّ أشادت بالتوصية الصادرة عن لجنة حقوق الطفل بمنظمة الأمم المتحدة التي تقول: الدراسات عن الأحوال الأسرية في عدد من البلاد أكَّدت أن عبء رعاية الأطفال يقع على الأم وحدها، وأن القوانين في العالم لا تُشرك الرجل في تحمل هذا العبء؛ ولهذا يجب تغيير قوانين العمل بحيث يحصل الزوج على إجازة وضع، ليشارك الأم في رعاية الطفل.

سبقت «السويد» الأمم المتحدة (بأربعين عامًا) في منح الأب إجازة وضع، فهل أدَّى ذلك إلى تغيير الثقافة الذكورية بالسويد؟

تؤكد الحقائق أن العالم (بما فيه السويد) محكوم بثقافة ذكورية راسخة في التاريخ الطبقي الأبوي، منذ خمسة آلاف عام، مما يحتاج لثورات ثقافية تعليمية أخلاقية، تُصاحب تغيير القوانين والدستور ونظام الحكم.

هل تتعلَّم النساء المصريات الدرس؟

•••

البرد يزحف بطيئًا فوق الأسفلت، من تحت أجسادهم في المقبرة وفي السجن، أواخر نوفمبر ٢٠١٤م، البرد في نهاية الخريف يُشبه البرد في نهاية الشتاء، منذ أربع سنوات إلا بضعة أشهر، رأيتها في ميدان التحرير راقدة فوق الأسفلت، في فبراير (شباط) ٢٠١١م، سقوط مبارك واعتلاء المجلس العسكري برئاسة طنطاوي، اقتحمَت الفرق المسلحة الميدان فوق الأحصنة والجمال، الرصاص وكرات النار تطير مشتعلة، والدم يراق فوق الأسفلت، وهي ثابتة في مكانها.

ملامحها منحوتة في صخرة وسط الخضم، تضربها الأمواج من كل جانبٍ وهي شامخة لا تَنكسر، تتكسَّر الأمواج فوق هامتها المرفوعة لا تنحني، شعرها الأسود زحف إليه الشيب، رأسها فخرها تكشفه بكل ثقة واعتزاز، عيناها نفاذتان ممدودتان إلى ما وراء الأفق، يكسوهما بريق يخطف البصر والقلب، لا يطرف لها جفن لا يرتعش لها رمش، بشرتها سمراء محروقة بالشمس، يداها مشقَّقتان من طول ما اشتغلت وشقيت، شفتاها مزمومتان بغضب أقوى من غضب النمور الغاضبة، أقوى من غضب النساء والعبيد منذ نشوء العبودية، واقفة صامدة كالأسدة، خطفوا منها أشبالها، لا تتزحزَح من مكانها، من خلفها طابور الأمهات صامدات، بقوة الحزن والغضب، بقوة الأمومة لا تعلوها قوة، لا تغلبها القوى العظمى على الأرض والمجرات والكواكب، اغتالوا أولادها وبناتها غدرًا وخيانةً، لم يقترفوا جريمة أو جنحة، إلا تلبية نداء الثورة دفاعًا عن الوطن، وما هو الوطن؟ أليس هو حضن الأم؟ الأمان والحب والعدل والحرية والكرامة؟ كيف يقتل الوطن من يَفْدونه بالروح والدم؟ ثم يكافأ من يسرقونه وينهبونه ويهربون المليارات؟ كيف يقتل الوطن أبناءه وبناته، من أجل قلَّة تملك الأراضي والعقارات والأحزاب والأسلحة والقوانين والأديان والثقافة والتعليم والأخلاق والشرف، قلة قليلة يتاجرون في البورصات والأسواق الحرة بكل شيء، من الوطنية والثورية إلى الدين والأبوة؟

في الميدان واقفة كالصخرة، لا تصرُخ لا تبكي لا تُبلِّل عينيها دمعة، لا تنتفض بوجهها عضلة، يقولون لها أبناؤك وبناتك راحوا ضحية الثورة، ترمقهم بنظرتها المتحدية الكاسرة، أولادها وبناتها ليسوا ضحية، وإن أريقت دماؤهم لا يموتون، يعيشون رغم أنف التاريخ المكتوب، ومن يكتب التاريخ؟ أليست هي الطبقة ذاتها التي تملك الأوراق والأقلام والأراضي والقوانين والمحاكم والسجلات والأختام ودهاليز الحكم والسياسة والإعلام؟

يقبل الليل باردًا، الشتاء يزحف في فبراير ٢٠١١م، يهبط المطر فوق رأسها العاري لا تغطيه، رأسها هو شرفها وكبرياؤها كيف تخفيه؟ يخلو الميدان إلا من طفلة تمشي وحدها في الظلمة تحمل علمًا صغيرًا، جسمها نحيف داخل جلباب قديم، يغرق شبشبها البلاستيك الأصفر في ماء المطر والوحل، الهواء يضرب شعرها المربوط بشريط أسود، تمشي رافعة رأسها لا تهاب العسس وعربات البوكس، تبحث عن صورتها بين الصور المعلَّقة على الجدار.

لم تعثر على صورتها أو جثتها بالمشرحة، الجدار دهنوه بطلاء برَّاق، فوقه صور جديدة لامعة للمتنافسين على مقاعد البرلمان.

مرَّت ثلاث سنوات وتسعة أشهر، منذ انطلقت الرصاصات من العربة البوكس واخترقت صدره، قميصه الأبيض المغسول بيدَيها أصبح أحمر اللون، دماؤه تتدفَّق على الأسفلت، جمعتها بكفَّيها المشقَّقتين لتملأ بها صدره، يشحب وجهه ويخلو صدره من الدم ليمتلئ من جديد، يفتح عينَيه ويبتسم في وجهها، يتعرف عليها من بين الملايين، عيناها سوداوان بلون عينيه، وبريق الحب هو البريق، بشرتها سمراء بلون بشرته، أصابعها الطويلة النحيفة تشبه أصابعه، يلثمها بشفتَيه، كفَّاها مُشققتان من طول ما اشتغلت وشقيت، من طول ما غسلت الصحون والهدوم ودعكت السيراميك والمراحيض.

كانت تشقى الليل والنهار لتُنقذ أولادها وبناتها من الظلم والهوان، من أجل ألَّا تتشقَّق أيديهم بالصودا الكاوية والفنيك، ليُمسكوا القلم والريشة بدلًا من المكنسة والخيشة، ليصبحوا من البشر وليس من العبيد، ليُصبح العدل فوق القوة ويُصبح الشعب فوق الحكومة.

الصخب والهتافات باسم الديمقراطية والانتخابات، تطغى أخبار توزيع الدوائر والمقاعد، على أخبار الذين ماتوا فداء الوطن، الذين فقدوا عيونهم ودخلوا السجون، نسيَهم أصحاب المليارات وإعلامهم، لم تجرؤ الأرض على أن تشرب الدم، هذا الدم الذي أسقط الحكام القدامى ورفع الحكام الجدد.

يتبارى الكتَّاب والصحافيون والصحافيات على تدبيج المقالات، كعادتهم في كل عهد، يسبحون مع التيار باسم الوطن، لا يذكرون من قدموا دماءهم فداء الوطن، يُكرر التاريخ نفسه بغباء شديد.

وتظل الأم صامدةً كالصخرة، من خلفها طابور الأمهات، ينتظرْنَ اللحظة ليَنقضضْنَ كالنمور الكاسرة، على من أكلوا أولادهنَّ وبناتهن، إنه تاريخ الشعوب غير المكتوب.

•••

أثناء زيارتي للصين (سبتمبر ٢٠١٤م) سُئلت عن تعريفي للثورة الثقافية، قلت: لا أُومِن بالتعريفات، وأرى كطبيبة وكاتبة، أن الصحة مثلًا أو الرواية تبدأ من حيث تنتهي تعريفات الأطباء والنقَّاد، وبالمثل تبدأ الثورة الثقافية من حيث تنتهي تعريفات الزعماء والفلاسفة: كونفوشيوس وبوذا وكارل ماركس، وماو تسي تونج وغاندي ونهرو، وتيتو وعبد الناصر وغيرهم.

ومتى تبدأ الثورة الثقافية؟

قلت: حين تصحو من نومك ولا تطلب من زوجتك أن تجهز فطورك أو تكوي قميصك. وضجَّت القاعة بالضحك، فنهضت الشاعرة «لانلان» المعروفة في الصين، وقالت: من الصعب على الرجال إدراك الحقيقة وبالذات في حياتهم الخاصة، وإذا كانت زوجتك تشتغل مثلك خارج البيت، فلماذا لا تشتغل مثلها بالبيت؟ وإذا كنت تكذب عليها وتقول إنك في مؤتمر بينما أنت مع عشيقتك، فلماذا لا تتصوَّر أنها تفعل مثلك؟ الثورة الثقافية تبدأ بالوعي الذاتي للرجل والمرأة، تغيير مشاعرهما الموروثة في الذاكرة وخيالهما وتفكيرهما وسلوكهما المزدوج، أي ممارسة الأمانة والصدق داخل البيت وخارجه، فلا تكون لنا حياة في الخفاء وأخرى في العلن.

أعادَتني الشاعرة «لانلان» إلى تاريخ ثورات النساء والعبيد، وكتبي المنشورة لأكثر من خمسين عامًا، والمحاولات الفكرية النسائية في العالم لتفكيك النظام الطبقي الأبوي، وهو نظام سياسي اقتصادي اجتماعي ثقافي أخلاقي، لكن الطبقات الحاكمة بالدولة أوهمت الشعوب أنه نظام إلهي ثابت (وليس بشريًّا متغيرًا) وكم أريقت من دماء النساء والعبيد لتغيير هذا النظام دون نجاح إلا القليل.

أثناء وجودي في بكين، دار الحوار مع أدباء وأديبات وشاعرات وأساتذة وطالبات وطلاب بالجامعة، قالوا: الثورة عندنا لم تبدأ بماو تسي تونج، بل بثورة الفلاحين والفلاحات ضد العبودية والاستعمار البريطاني الفرنسي (حرب الأفيون عام ١٨٤٠م) هذه الثورة فتحت الطريق لثورة مايو ١٩١٩م، التي أعادت قراءة تراثنا وفق أفكار لوشيون، ومهدت لثورة ماو تسي تونج، التي طوَّرتها ثورة دنج شياو بينج عام ١٩٧٨م تحت شعار الإصلاح والانفتاح، وهو الذي قال: لا يهمُّ أن تكون القطة سوداء أو بيضاء، المهم أن تأكل الفئران. وبدأنا نهضتنا بالمبادئ الاشتراكية الصينية، وتشمل الاستقلال الوطني والتقدم السياسي الاقتصادي الاجتماعي الثقافي الأخلاقي، والتخلِّي عن سلبيات التراث، والإبقاء على الإيجابيات وتطويرها، واحترام المرأة ومساواتها الكاملة بالرجل في الدولة والأسرة. إن زوجة الرئيس «تشي جين بينج» مثلًا، تُزاول مهنة الغناء كمطربة معروفة، وتتميَّز الصين بأن ليس لها آلهة ولا دين، بل إن كونفوشيوس نفسه لم يدَّعِ الألوهية، وحين سألوه عن الآخرة، قال: أجهل الكثير من أمور الدنيا فكيف أعرف شيئًا عن الآخرة؟ استطاعت ثورتنا الثقافية أن تنزع القدسية عن الأباطرة والملوك، وتحوَّلت المعابد إلى متاحف، تخلصنا من القيود المفروضة على عقولنا بالسلطة الإلهية المُتخفية في سلطة الحاكم، فانطلق الرجل والمرأة، يُفكران بحرية وشجاعة، يكسران قيودهما، ويكشفان العبودية الراسخة في الشعور واللاشعور والخيال والضمير، قضينا على فكرة دونية المرأة والأجير، بدأنا نبني قيمًا جديدة تقوم على المبادئ الإنسانية، كالعدل والصدق والأمانة والحرية والمساواة والكرامة للجميع، بصرف النظر عن الاختلافات الجنسية والعقائدية والبيولوجية، لا يوجد عندنا مرجعية دينية، أصبح الدستور هو مرجعنا ويُمكننا تطويره مع تزايد الوعي. كانت الاشتراكية في عهد ماو تسي تونج محدودة بالنمو الاقتصادي، لكن الثورة الثقافية فتحت آفاقًا جديدة في كل نواحي الحياة، وأنهت عزلتنا عن العالم، شملت كل الطبقات والأجناس، لم نُهمل العدالة الاجتماعية في الدولة والأسرة لصالح السوق ورجال الأعمال، نجحنا في تحقيق تنمية بالمشاركة الشعبية بالريف والحضر في الإنتاج والاستهلاك، تنميتنا مستقلة تلبي حاجاتنا وليس طلبات البنك الدولي والعوالم الرأسمالية، حقَّقنا الاكتفاء الذاتي في الزراعة والصناعة والتكنولوجيا، ربطنا المشاريع العامة بالخاصة والاقتصاد بالثقافة والمجتمع والفن والأخلاق؛ فالنهضة الحقيقية مشروع حضاري متكامل العناصر والأبعاد، لا تتحقَّق بتغيير النظام السياسي أو بالمعونات من الخارج، بل بالاعتماد على الذات والتبادل المتساوي العادل مع الآخرين.

تذكَّرت الأوجاع التي نعيشها في مصر بعد ثورتَين، لم تتغيَّر عقولنا وخيالنا وشعورنا وقيمنا الأخلاقية، عدنا إلى الوراء في كل المجالات، واشتدَّت وطأة الهيمنة الخارجية والداخلية، تصاعدت القوى الطبقية الأبوية الدينية، تضاعف القهر الاقتصادي والجنسي، اتسعت الهوَّة بين الحياة الخاصة والعامة، اشتدَّ التناقض بين الظاهر والباطن، تضاعف الاستبداد في الأسرة تحت اسم الأبوة أو الرجولة، يطرد الرجل زوجته في غيابها تحت اسم الطلاق، يتزوج عليها مثنى وثلاث ورباع، رأس المرأة عورة تحت اسم شرع الله تُغطيه أغلبهن بالحجاب، وبعضهنَّ تغطيه بالنقاب تحت اسم الحرية الشخصية!

•••

لماذا ينجذب الشباب للانضمام لداعش، وهو يحتلُّ الأراضي ويقطع الرءوس ويَغتصب النساء، ويُروِّج لأفكار لا تدخل المخ، ويسعى لتقسيم المنطقة وَفق المشروع الأنجلو أمريكي الإسرائيلي.

لا يختلف التحالف الدولي تحت قيادة أوباما لمحاربة داعش، عن التحالف لمحاربة أسامة بن لادن بقيادة جورج بوش، لم تنتج هذه التحالفات إلا المزيد من التنظيمات الإرهابية، بالتعاون مع الحكومات المحلية، منذ تحالف «ريجان-السادات» في السبعينيات، وانقلب السحر على الساحر، فضرب أسامة بن لادن أباه الأمريكي، واغتال السادات الابن الذي ربَّاه.

ألم نتعلَّم الدرس رغم التكرار؟

لكل كائن حي «مخ» يتذكَّر الألم ويتعلم منه، ليحمي نفسه من مخاطر الجوع أو الفناء، تأمل سلوك البعوضة، كيف تخدعك؟ بالاختفاء وراء الدولاب، أو عند السقف أو تحت السرير، فلا تعثر عليها، حتى يغلبك النوم فتتسلَّل هي لتهبط فوق ساقك تمص دمك، وتهرب قبل أن تضربها.

نجحت البعوضات في التغلب على المبيدات الحشرية وأصبحت تتغذى بها، ونجحت الفيروسات في التغلب على المضادات الحيوية، بفضل «المخ» القادر على التذكر والتعلم من الخبرات السابقة المؤلمة أو القاتلة، ونحن ما زلنا نُشارك أعداءنا في إراقة دمائنا.

ونتملَّق مؤسسة الأزهر تحت اسم المرجعية الدينية، ونُكوِّن الأحزاب السلفية الجهادية، التي لا يختلف فكرها عن داعش، لتخرب العقول رغم مخالفتها الدستور؟

تفوَّق مخ الإنسان على جميع الكائنات بقدرته الأكبر على التذكر والتعلم، يعود انتصار الأوروبيِّين إلى التفوق العلمي، الذي حقق انتصاراته في القرن السابع عشر، أدانت الكنيسة «جاليليو» وأجهضت نهضة إيطاليا في القرن السادس عشر، لكنها فشلت في منع انتشار فكرة دوران الأرض ومركزية الشمس، واستخدام العلماء والمفكرين للأجهزة الجديدة مثل الميكروسكوب والتلسكوب، وما تبع ذلك من اكتشافات علمية في كل المجالات، مما أضعف رجال الدين في مواجهة قوة العقل المتصاعدة، حتى عجزت الكنيسة عن إيذاء العلماء أو تكفيرهم، فواصلوا الاكتشافات، استطاع «هارفي» اكتشاف دورة الدم، واكتشف «ليفنهوك» الحيوانات المنوية، والبكتيريا، والكائنات العضوية، ووحيدات الخلية، وأعلن «نابيير» اكتشافه اللوغاريتمات، واكتشف «نيوتن» حساب التفاضل والتكامُل ثم قانون الجاذبية الذي نقحه «آينشتاين» فيما بعد.

لم يكفَّ العلم في أوروبا عن التطور، وحظيَ المجال العسكري بالاهتمام الأكبر، تحت ضغط الدولة على العلماء، وتم اكتشاف الأسلحة المدمرة، من الديناميت إلى القنبلة الذرية والنووية والأسلحة الكيماوية والبيولوجية والقنابل الذكية والطائرات بدون طيارين، التي يظنُّ المؤمنون بالأرواح الخفية، حتى اليوم، أن العفاريت هي التي تقودها.

ساعَدَ التقدُّم العلمي في أوروبا على تطور العقل والخيال، والقضاء على السحر والخرافات، انتصرت قوة الدولة المدنية على الكنيسة، وانتصرت الرأسمالية على الإقطاع، لكن نظام الحكم لم يتغيَّر، في أساسه الطبقي الأبوي الاستعماري الاستبدادي، تعتمد فيه الدولة المدنية الحديثة (مثل الكنيسة القديمة) على السلاح والكتاب المقدَّس معًا.

نجح الاستعمار الأوروبي في غزو أفريقيا بأن أعطاها الإنجيل وأخذ منها الأرض، وأصبح العلم والدين معًا سلاحًا في يد الدولة الأوروبية للسيطرة على الشعب داخليًّا، وغزو العالم خارجيًّا، من أمريكا الشمالية والجنوبية إلى أفريقيا وآسيا وأستراليا.

أباد المستعمرون الأوروبيون الشعب الأمريكي الأصلي، أشاعوا أنه شعب همجي تبريرًا لإبادته، أقاموا دولة الولايات المتحدة الأمريكية بدماء الشعب الأصلي، مع دماء العبيد، الذين جلبوهم من أفريقيا مكبَّلين بالسلاسل ليحرثوا الأرض.

لم يختلف الاستعمار الأمريكي الهمجي الجديد عن الاستعمار الأوروبي القديم إلا في التقدُّم التكنولوجي الكبير، في مجال السلاح والإعلام والتواصُل الجماهيري، مما يساعده أكثر على التجسس والتآمر وعقد التحالفات السرية مع الجماعات الإرهابية، والمعاهدات العلَنية تحت اسم السلام والديمقراطية.

ونشهد اليوم تنظيمات داعش وبوكو حرام والقاعدة والطالبان والإخوان والجهادية السلفية وغيرها، التي تقتل وتغتصب وتفرض التَّفرقة الصارخة على أساس الدين والجنس والطبقة والهُويَّة، تدعمها القوى العالمية والمحلية، لإخضاع الفقراء والنساء، دون أن يتذكَّروا أن السحر ينقلب على الساحر، وأن الابن يقتل أباه، قبل أن يقتل الأب ابنه.

وأن البعوضة وفيروس سي والإيبولا، لها «مخ» يتطور ويفاجئ البشر بما لا يعلمون؛ فالصراع من أجل البقاء هو صراع «عقلي»، وإن استطاع وباء داعش أن يقتل مثل وباء الإيبولا مرحليًّا، فإن العقل الإنساني قادر على التفوُّق مهما طال الأمد، وسوف ينتصر العلماء والمفكرون على رجال الدين كما حدث في القرن السابع عشر.

•••

نجح النظام الطبقي الأبوي القديم والحديث، في استخدام «كلمة الله» إلى جانب السلاح العسكري، للعدوان على الآخَرين ونهب مواردهم، أخذ الاستعمار الأوروبي أرض أفريقيا وإعطاء أهلها الإنجيل، واحتلَّت إسرائيل أرض فلسطين بعهد الله في التوراة وبالسلاح، وتم نهب حقوق النساء والعبيد بكتب الله الثلاثة وبالرجم والجلد، وكان شعار جماعة الإخوان المسلمين «المصحف والسيف»، وتم استخدم الأديان لضرب الشيوعية الملحدة، والثورات الشعبية الاشتراكية.

تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) نشأ مع الاحتلال الأمريكي للعراق (وليس بعد رحيله)، وتم تفكيك الجيش العراقي وتأسيس فرق الموت الشيعية وإشعال الحرب الطائفية بين السنة والشيعة، تمهيدًا لتقسيم العراق، حسب المبدأ «فرِّق تَسُد»، وقد أصبح تنظيم داعش، وبوكو حرام، وبيت المقدس، وتنظيم القاعدة، والطالبان وأجناد الله والجهادية السلفية، والإخوان المسلمين، وغيرها من الأدوات الفعالة في يد الاستعمار الأمريكي الأوروبي الإسرائيلي، لضرب الثورات الشعبية التحريرية، وتتوالى الأحداث الدامية في مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن ونيجيريا وغيرها.

داعش أحد التنظيمات الإسلامية المسلحة، تولَّد من التنظيم الأب، الإخوان المسلمين، الذي نشأ في مصر عام ١٩٢٨م، برعاية الاستعمار البريطاني والحكومة المصرية، لضرب القوى الشعبية المناضلة ضد الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي، وأدَّى اكتشاف البترول في المنطقة إلى حروب استعمارية متعدِّدة، وإنشاء دولة إسرائيل، عام ١٩٤٨م، وإراقة دماء الشعب الفلسطيني وشعوب أخرى في حروب لا نهائية حتى اليوم، لعبت فيها الحكومات المحلية المتعاونة مع الاستعمار الجديد تحت القيادة الأمريكية، دورًا هامًّا، لتدعيم التيارات الدينية المسلحة، واتخذت من الإسلام سلاحًا ضد الثورات الشعبية تحت اسم مقاومة الإلحاد وعهر النساء، وكانت حكومة الرئيس المؤمن «السادات» في السبعينيات، رائدة في تدعيم هذه التيارات بالتعاون مع الحكومة الأمريكية بقيادة رونالد ريجان.

لم تكن هذه القوى الدينية الأصولية إسلامية فقط، بل كانت ظاهرة عالمية، شملت الأديان الأخرى كالمسيحية واليهودية والهندوكية والبوذية وغيرها، كان النظام الرأسمالي يواجه تحديات جديدة، مع تصاعد حركات التحرير الشعبية خاصة في المستعمرات القديمة، أو ما سُمي بالعالم الثالث، وتصاعد حركات التحرير النسائية عالميًّا ومحليًّا، ضد القهر الطبقي الأبوي، ولم تجد القلَّة الحاكمة، المتخمة بالثراء والجشع، سلاحًا أقوى من «كلمة الله» لضرب هذه الحركات المتمرِّدة ضد القهر والفقر واللامساواة المتزايدة.

إلا أن التاريخ الإنساني يُؤكد أن أي حركة ضد العقل والحرية والعدل، مصيرها إلى الزوال، وإن حملت كتاب الله والروح القدس.

تتعلَّم الشعوب من النضال والألم كما يتعلَّم الإنسان الفرد، الرجل أو المرأة، يؤدي النضال ضد القهر والظلم للمزيد من المعرفة والوعي الجماعي والفردي، اكتسب الشعب الكردي، نساءً ورجالًا، درجة عالية من الوعي بسبب نضاله الطويل ضد الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي.

سافرت في خريف ٢٠١٤م إلى كردستان، جاءتني دعوة النادي الثقافي بمدينة السليمانية، والنساء المقاتلات في جبل قنديل والجبال شمال العراق. قبل السفر بيوم واحد، قرأت مانشيت بصحف القاهرة يقول إن «داعش» هاجمت محافظة أربيل، ونصحني الأهل والأصدقاء أن أبتعد عن الخطر، إلا أنني قررت السفر، فهي رحلتي الأولى إلى كردستان، وهناك شيء يجذبني لما يحدث للمرة الأولى في حياتي، وإن كان هو الموت، وكم أشرفت على الموت لمجرَّد الكشف عن ذلك المجهول، تتغلب رغبتي في المعرفة والاكتشاف على المخاطر والمخاوف، وكم سافرت إلى جبهات القتال ضد الظلم والقهر في الوطن وخارجه، وجدت نفسي في خنادق الفدائيين المصريِّين بمنطقة قناة السويس ضد الاحتلال البريطاني والحكومات المتعاونة معه، وكهوف الفدائيِّين الفلسطينيين في السلط والأغوار وشاطئ نهر الأردن، ضد الاحتلال الإسرائيلي الأمريكي والأوروبي، والنظم المتعاونة معه.

قرأت في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، عن النساء الكرديات المقاتلات إلى جانب الرجال في صفوف البيشمركة، ضد القهر المزدوج، الداخلي والخارجي، واستعباد النساء والفقراء، قابلت بعضهن في هذه الرحلة لكردستان، منهنَّ الشاعرة الكاتبة «مهاباد قره داغي»، أهدتني مذكراتها عن تجربتها في سجن صدام حسين عام ١٩٨٠م، كتبتها بقلم رصاص قصير على مناديل ورق كلينكس، تذكرت تجربتي في سجن السادات عام ١٩٨١م، حين كتبت مذكراتي على ورق تواليت بقلم حواجب قصير، هرَّبته لي إحدى السجينات المتهمات بالدعارة.

كتبت «مهاباد» مذكراتها باللغة الكردية، ترجمها للعربية «جلال زنكابادي»، ونشر الكتاب عام ٢٠١٠م تحت عنوان «سنة في الجحيم»، عن طفلة في الرابعة عشرة من عمرها، تعرضت لأبشع أنواع التعذيب البدني والنفسي داخل السجن.

اليوم تقاتل النساء الكرديات ضد جنود الدولة الإسلامية «داعش» بقوة وجسارة، انتشرت أخبار انتصاراتهن في كوباني خلال خريف عام ٢٠١٤م.

التقيت بالكثيرات منهنَّ خلال زيارتي لكردستان شمال العراق، بعضهن من مقاتلات البيشمركة القديمات، وبعضهن فتيات شابات، طالبات وفلاحات وعاملات في مختلف الوظائف والمجالات، تلقين تدريبًا ثقافيًّا فكريًّا قبل التدريب العسكري؛ فالعقل هو الذي يُحدد الهدف في أي معركة، تتلقَّى المقاتلات ما يُعرف بالتدريب الثقافي الفكري، يشمل قراءة الكتب ومناقشتها، منها بعض كتبي الأدبية والفكرية، إلى جانب كتب أخرى للمُفكرين والمفكرات من مختلف البلاد.

أدهشتني حفاوة الشعب الكردي نساءً ورجالًا وتقديرهم لأعمالي، قرءوا كتبي باللغة العربية أو ترجماتها الكردية، الشعب الكردي يقرأ بمثل ما يُناضل، شعب تقدم فكريًّا وثقافيًّا عن كثير من الشعوب، صقله النضال ضد الظلم ودفعه الألم إلى كسر جدران سجن المحرمات والموروثات الدينية والسياسية والاجتماعية.

شعب يعيش الثورة كل يوم في المدن والجبال، أريقت دماؤه في عهود الاستبداد والاستعمار، دفع ثمن ثوراتِه بالدم وما زال يدفع حتى اليوم: هيلالة رافع، وأمل جلال محمد، وغيرهن ممن ناضلن لتحرير أنفسهن ووطنهن، ودفعن ثمن الحرية باهظًا، منه السجن والنفي والغربة والطلاق من الزوج، وتشتُّت الأسرة والأبناء والبنات في أنحاء العالم.

شهدت مظاهرة النساء بالسليمانية يوم ٢٥ نوفمبر ٢٠١٤م، وهو اليوم العالمي ضد العنف الموجه ضد النساء، حملت الفتيات صور المقاتلات البطلات في الجبال، وصور الفدائيات المقتولات بأسلحة «داعش»، والمغتصبات اللائي تحوَّلن إلى سلعة تُباع وتُشترى كالرقيق تحت اسم «جهادي نكاح»، (لاقه كردني زنان) باللغة الكردية، رفعت «مجموعة النساء في جنوب كردستان» شعار: لا لمعاملة المرأة كسلعة، نحن نُحارب في كوباني في غرب كردستان، وعلى طول ١٥٠٠ كيلومتر في جنوب كردستان ضد القوى الظلامية، نحن النساء نعيش تحت حكم دولة الخلافة، تُباع في سوريا السبايا وتُحدَّد أسعارنا حسب ديانتنا وأعمارنا، وتُغتصَب الإيزيديات والمسيحيات يوميًّا على أيدي أمراء دولة الخلافة، نحن نطالب بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة الخاصة بجرائم الحرب والاغتصاب (١٨٢٠، ١٨٨٦، ١٨٨٨، ١٩٦٠) وإيقاف الجرائم تحت اسم الهوية الدينية والقومية والجنسية.

دعتني السيدة «هيرو» للغداء في بيتها، كانت من المناضِلات من أجل الحرية والعدالة لنفسها ووطنها، رفضَت أن تحمل اسم زوجها «جلال طالباني» وكان رئيسًا للدولة، وظلَّت تحمل اسم أبيها «إبراهيم أحمد»، وأمها الكاتبة «كلاويز صالح فتاح»، أهدتني مؤلَّفاتها المترجمة للعربية ومنها سيرتها الذاتية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤