بالذكاء الفطري يكتشف الأطفال «التناقض» فيما يقوله الكبار

في مفكرتي السرية بالمدرسة الابتدائية تساءلتُ: كيف يكون عقل المدرسين أصغر من عقل الأطفال؟

كان المدرس يقول: العقل من صفات الذكورة والأنثى ناقصة العقل، لكن أمي كانت تقول: الإلهة الأنثى «إيزيس» كانت إلهة الحكمة، حواء كانت إلهة المعرفة لأنها أول من قطف ثمرة المعرفة.

في مفكرتي الطفولية تساءلت: هل العقل صفة ذكورية والحكمة والمعرفة صفة أنثوية؟

ثم كبرتُ وأدركت زيف الثنائيات: ذكورة/أنوثة، عقل/جسد، سماء/أرض، ملاك/شيطان، مادي/روحي، أبيض/أسود، حاكم/محكوم، سيد/عبد.

لا تكف الثنائيات المتناقضة عن الانتشار في جميع المجالات، سياسية، ثقافية، دينية، أدبية، فنية، فهي ضرورية للحفاظ على النظام الحاكم في جميع بلاد العالم.

التلاعب بالثنائيات: ثورة/إصلاح، تغيير/تسيير، براءة/إجرام، إيمان/إلحاد، تحضير أرواح/عفاريت، تقسيم دوائر/مقاعد، تحليل استراتيجي/عمليات نصب وخداع.

الخداع أشد أنواع العنف لأنه غير مرئي، لا أحد يُتقن الخداع كالمتخصِّصين في مهنة الكلام والكتابة والسياسة والصحافة ونقاد الأدب.

وجوههم مكررة وأسماؤهم مُقرَّرة في وزارات الثقافة والإعلام، الدائرة الصغيرة المغلقة على أنفسهم وأولادهم وأحفادهم، يتشكَّلون كالعجين، يؤمنون بالفرد الواحد كالإله الأوحد، في السياسة والثورة سعد زغلول، وفي الفلسفة والفكر زكي نجيب محمود، وفي الأدب والإبداع نجيب محفوظ، وفي الصحافة والإعلام محمد حسنين هيكل، وفي تحرير المرأة قاسم أمين.

حول رئيس الدولة يتسابقون في كل عهد، لا تختلف ملامح الابن عن الأب ولا الحفيد عن الجد، تنفجر الثورة وراء الثورة ويدخل الثوار والثائرات السجون أو يقتلون جسديًّا أو أدبيًّا إلا هؤلاء، لا يعرفون التعذيب أو المنفى أو الموت. كالآلهة باقون في كل العهود تتناسَخ أرواحهم ولا يموتون.

تتميَّز الثقافة الرأسمالية الأبوية الحديثة بالتقدُّم في وسائل الخداع الثقافي والإعلامي، والزوغان المُتقن من مواجهة الحقائق والبديهيات.

الاختلاف بين كلمة الثورة والإصلاح كالاختلاف بين القضاء على جرثومة المرض وإعطاء المسكنات والمراهم، كالاختلاف بين الجمال الطبيعي ومساحيق التجميل.

الثقافة والتعليم والعلم والدين والقوانين واللغة، جميعها ترفع صفة «الذكورة» وتعتبرها مقياس الحقيقة والشرف، في اللغة الإنجليزية نشأت كلمة امرأة (وومان) من كلمة رجل (مان)، على غرار نشوء حواء من ضلع آدم، وفي اللغة العربية يتم مخاطبة أي عدد من النساء (ألف امرأة أو أكثر) بجمع المذكر إن كان بينهنَّ ذكر واحد وإن كان طفلًا، القاعدة الأساسية في اللغة أن الذكر يشمل نفسه والأنثى معًا، أما الأنثى فلا تشمل إلا نفسها.

بعض كلمات تفلت من سيطرة الذكر، مثل كلمة «السماء»، وهي أنثوية مثل كلمة «الشمس»، وكانت الإلهة المصرية «إيزيس» تحمل قرص الشمس على رأسها، وأمها الإلهة «نوت» كانت إلهة السماء، وزوجها «جيب» إله الأرض، إلى أن تغيَّرت الأوضاع السياسية الاقتصادية، وتمَّ سيطرة الإله الذكر بالقوة والسلاح والاستبداد والتجهيل، وأصبحت المرأة ترمز للشيطان، والمعرفة أصبحت خطيئة.

كلمة «الثورة» أنثوية وتشمل الشعب بكل فئاته، وتُنادي الثورة بالحرية والعدالة والمساواة للجميع، بصرف النظر عن الجنس أو الدين أو الطبقة أو غيرها.

كلمة «عبقرية» مؤنَّثة، وكلمة «عقل» مذكرة؛ لأن العبقرية تكسر قيود العقل الظاهر والباطن، وتكسر المحرمات والشرائع والقوانين الذكورية المفروضة بالقوة منذ نشوء العبودية.

تحرير اللغة جزء من تحرير العقل، يؤدي الوعي بالإيجابيات في تاريخنا القديم إلى الثقة بأنفسنا وتراثنا الإنساني، المساواة بين الرجل والمرأة واحترامها جزء لا يتجزأ من حضارتنا المصرية، وليست فكرة أجنبية مستوردة.

منذ عام ٢٠١١م، انتشرت الثورات من تونس ومصر إلى أمريكا وكندا وأوروبا وآسيا وأفريقيا وأستراليا، انفجرت الشعوب المنهوبة المخدوعة بالسوق الحرة والديمقراطية والانتخابات الحرة المزيفة، ارتفع الشعار: ثورة اﻟ٩٩٪ ضد جشع اﻟ١٪ من التجار والطبقة المدعمة لهم في الحكم والإعلام والثقافة.

تواجَه الثورة دائمًا بالثورة المضادة تحت اسم الاستقرار والإصلاح والسلام والحب والصداقة والشراكة والتسامح، كلمات جميلة ظاهريًّا تخفي الخداع والعنف في الباطن، كالرجل الإنجليزي الجنتلمان الذي ينهَب ويكذب بإتقان شديد، ويتكلم بصوت مُنخفض رقيق ثم يطعن بخنجره في الظهر.

الآلة الاستعمارية الرأسمالية الأبوية الحديثة بأخلاقها المهذبة المزيفة، وفلسفتها المزدوجة المتناقضة، تدعو للديمقراطية والوسطية والاعتدال والتوازن، وفي باطنها تمارس العنف والتطرُّف والاستبداد والاغتصاب.

الوسطية هي الوقوف في مُنتصَف الطريق حفاظًا على مصالح الطبقة الحاكمة المستقرة في ظل القانون القائم، القانون هو الغطاء الشرعي للظلم والطغيان والفساد الموروث عبر العصور، الثورة هي إسقاط النظام وقوانينه وبناء نظام جديد وقوانين عادلة، وهذا لا يتحقَّق إلا بالاستمرار في النضال وعدم اليأس، الثورة لها ثمن باهظ، الموت بالرصاص أو بالغاز، نار الجحيم بعد الموت، التعليق في القبر من القدمَين أو شعر الرأس، النفخ في السجن، أو الإيهام بالغرق إلى حد الموت (أحدث تطوُّر أمريكي للتعذيب يُصدرونه إلينا)، وقد يكون العقاب خفيفًا كالفصل من العمل أو النفي خارج الوطن أو تشويه السمعة، أو تلفيق التهم والقضايا، والتفريق بين الأزواج وتشتيت الأولاد والبنات، لكن مهما ارتفع ثمن الثورة والحرية فإن ثمن العبودية أفدح.

ينال الرجل الفقير عقابًا أشد بسبب الفقر والمرض والجهل، وتنال المرأة العقاب مضاعفًا بسبب جنسها الأدنى.

تموت المرأة الثائرة سرًّا ويموت الرجل الثائر بطلًا، كلمة شهيد مثل كلمة رئيس ليس لها تأنيث.

تنتحر المرأة المُبدعة وتموت أو تُدفن وهي حية، ويظل الرجل المبدع حيًّا وإن مات، هل نذكر الكاتبة المبدعة أروى صالح التي انتحرت وهي شابة؟ هل نذكر الكاتبة الرائدة زينب فواز التي سبقت قاسم أمين في تحرير المرأة المصرية؟

أصبح العنف والإرهاب حدثًا وحديثًا يوميًّا يجري على كل لسان، رجالًا ونساءً وشبابًا وأطفالًا، حكومةً وشعبًا، أصحاب البلايين والكادحين المعدمين، مثقَّفين وغير مثقفين، مع ذلك لم يكشف (إلا القليل جدًّا) عن أسباب وجذور العنف في الثقافة والحضارة والتاريخ والفلسفة وعلم النفس والأدب والفن والأديان والأخلاق.

وكيف نقضي على العنف والإرهاب، سياسيًّا وعسكريًّا وبوليسيًّا، ثم ندعمه يوميًّا ونُغذيه فكريًّا وثقافيًّا وتعليميًّا وأخلاقيًّا من المهد إلى اللحد؟

كيف نقضي على العنف دون أن نقضي على أسبابه الحقيقية العميقة المتجذرة في التاريخ والفكر الطبقي الأبوي الرأسمالي الذكوري في الغرب والشرق؟

التقارير الأخيرة في ديسمبر عام ٢٠١٤م، التي نشرتها لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ بواشنطن، تكشف عن تطور وسائل العنف والتعذيب النفسي والجسدي بالولايات المتحدة، أصبح العنف في الثقافة الأمريكية الحديثة أكثر وحشية من عنف الوحوش بالغابة البدائية، وقد شهدنا أيضًا في هذا الشهر، عنف البوليس الأمريكي في مواجهة المظاهرات الشعبية السلمية التي انفجرت، في كثير من المدن بالولايات المتحدة، ضد الظلم والعنف الطبقي الأبوي المسيحي اليهودي العنصري.

أصبح من التمويه السياسي والجهل التاريخي أن نفصل بين العنف في العالم الأول أو الثاني أو الثالث، أو بين الحضارة الغربية والحضارات الأخرى في الشرق أو الجنوب، فنحن نعيش في عالم واحد، في ظل حضارة رأسمالية أبوية واحدة، وثقافة ذكورية طبقية قائمة على العنف والقوة والاغتصاب والإرهاب، رغم شعارات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والسلام.

وكم من ثورات شعبية انفجرت في كل بلاد العالم، منها بلادنا، ضد العنف والقهر الطبقي الأبوي، وكم أُجهضت هذه الثورات، وتمَّ إخضاع الشعوب، نساءً ورجالًا وشبابًا وأطفالًا، بوسائل قمع جديدة، نتجت عن تطور التكنولوجيا الخطير في القرن الواحد والعشرين.

بسبب القيم الطبقية الأبوية يتعلَّم الطفل في البيت والمدرسة مفهوم الرجولة، القائم على القوة والسيطرة والكرامة والعزة والعقل والذكورة، وتتعلَّم الطفلة البنت مفهوم الأنوثة القائم على نقيض الرجولة، أي الخضوع والاستسلام وتقبل الهوان، والنظر إلى نفسها كجسدٍ لإمتاع الرجل دون عقل.

منذ طفولتي شعرت أن جميع القيم والمفاهيم في البيت والمدرسة والشارع والراديو والإعلام، تسلبني كرامتي كإنسانة، وتفقدني الثقة في عقلي وذكائي إن رفضت الخضوع والطاعة والمهانة، على حين تتلقَّى أختي المطيعة المنكسرة كل المدح والثناء، واعتبارها الأنثى المثالية.

تحدُث التطورات السلبية منذ الطفولة في شخصية الأولاد والبنات، خوفًا من الاتهام بالشذوذ أو عدم الرجولة أو نقص الأنوثة، يتعود الولد على الغطرسة، وتتعوَّد البنت على الخنوع وقبول الهوان، يومًا وراء يوم، لحظة بعد لحظة، تتراكم الإهانات تدريجيًّا داخل عقل البنت الواعي وغير الواعي، تترسَّب فيما يُسمى الوجدان والشعور واللاشعور، حتى إنها لا تشعر بالإهانة أو الاعتراض إن ضرَبها أخوها أو زوجها، أما الطفل الذكر فيتلقَّى التعليمات بأن يكون رجلًا وليس أنثى، أن يُصبح مثل أبيه قويًّا مسيطرًا «دكرًا» من حقه أن يشخط أو يضرب أخته أو زوجته أو ابنته، حتى تخضع وتطيع أوامره، يتعود الأخ أن ينظر إلى أخته وأمه وغيرهما من الجنس الآخر باستخفافٍ دون احترام، وتدعم القوانين والأديان والأخلاق والفنون هذه القيم التي تولد العنف في الأسرة والدولة.

قد يرفض الحزب الثوري، أو الرجل الفنان، العنف الطبقي أو السياسي للحاكم المستبد، أو «الأخ الكبير» بتعبير «جورج أورويل» أو العنف الوحشي للملك شهريار وقتله النساء جميعًا انتقامًا من زوجته الخائنة، إلا أن «شهريار» لا يعاقب على جرائمه وعنفه، بل يُكافأ بزوجة ظريفة مسلية (شهرزاد) تحكي له الحكايات كل ليلة قبل أن ينام، ثم تلد له ثلاثة أبناء من الذكور.

أما صالون «مي زيادة» الأدبي فكان يشمَل الرجال فقط، وإن كانوا من أعداء المرأة مثل «عباس محمود العقاد»، ولم يشمل امرأة واحدة، أديبة أو غير أديبة، مع ذلك لم يحتمل المجتمع الذكوري كاتبة مبدعة مثل «مي زيادة» ولم يتركها إلا حطامًا فوق سرير بالمستشفى النفسي.

هذا هو المسكوت عنه في جرائم العنف والإرهاب.

حينما كنت طفلة كانت لي مفكرة سرية.

هي صديقتي الوحيدة أحتضنها في الليل.

حين ينام الكون.

أكتب فيها ما لا يُرضي الله ومدرس الدين.

وكان المدرس يتكلم باسم الله ويقول: العقل صفة الذكر والأنثى ناقصة العقل.

لكن أمي قالت: الإلهة المصرية القديمة إيزيس كانت ربة الحكمة، وحواء كانت أول من قطف ثمرة المعرفة فأصبحت إلهة المعرفة.

في مفكرتي الطفولية تساءلتُ كيف يكون العقل صفة الذكر، أما الحكمة والمعرفة فهما من صفات الأنثى؟ هل هذا معقول؟

لكن أغلب ما كنت أسمعه كان غير معقول ومتناقضًا، كانت جدتي الريفية التي لم تقرأ أي كتاب ولا القرآن، كانت تقول إن الله هو العدل عرفناه بالعقل، ومع ذلك فقد وجدت أن الله يظلمني كل لحظة ويُميِّز أخي في كل شيء، رغم أنه هو الذي خلقني بنتًا وخلق أخي ذكرًا، وكتبت في مُفكرتي السرية «الله ظالم» ثم مسحتها بسرعة خوفًا من الحرق في نار جهنم، وبدأت حيرتي بين أمرَين؛ الأول: أن الله عادل لكن عقلي ناقص لا يدرك حكمة الله، والثاني: أن الله ظالم وعقلي سليم، لكن العبارة الأخيرة أغضبت جميع الناس مني، بما فيهم جدتي وأمي وأبي وكل المدرسين والمدرسات، وكان التعليم والثقافة والإذاعة في الراديو والقانون والدين والأخلاق وكل شيء من حولي، قائمًا على اليقين الكامل والإيمان المطلق بعدالة الله، هكذا أصبحت أشك في نفسي وعقلي لأُومِن بعدالة الله.

كان يمكن أن أفقد الثقة تمامًا في نفسي وعقلي، وينتهي بي الأمر إلى أن أعيش في قاع المجتمع كأغلب البنات من جيلي، لولا أن أمي احتفظت بشيء من تمرُّدها الطفولي القديم، وأرادت لي حياة أفضل من حياتها، فهمست في أذني وقالت «ما فيش نار جهنم» هكذا حرَّرتني أمي من الخوف الأزلي، كما شجعتني على الكتابة، التي عاقبني عليها المدرس، وساندتني في مراحل عمري المختلفة، أنقذتني من الزواج المبكِّر وأنا في العاشرة من عمري، أصرَّت على مواصلتي التعليم الجامعي بكلية الطب، ورفضت أن أبقى بالبيت لأساعدها في المطبخ كما نصحها أبي، تحمَّلت أمي التعب والتهبت أصابعها من غسيل الصحون لتسعة من الأطفال وأبيهم، من أجل أن أواصل تعليمي العالي.

استعدتُ الثقة في نفسي وسلامة عقلي بسبب مساندة أمي، ثم مساندة أبي بعد أن تفوَّقت عن أخي في الدراسة والتعليم.

ثم تجاوزت ثقافة أبي وأمي والمجتمع الطبقي الأبوي الذكوري، بعد أن خُضت تجارب أليمة في الحب والزواج والطلاق والأمومة، وبسبب قراءاتي المتعددة خارج المناهج المقررة علينا بالسلطة الحكومية المستبدة في المجتمع كله، وليس المدارس فقط.

كبرت أكثر وأدركت زيف الثنائيات: ذكورة/أنوثة، عقل/جسد، سماء/أرض، إله/شيطان، مادي/روحي، أبيض/أسود، حاكم/محكوم، سيد/عبد، وتطور عقلي وازدادت ثقتي بنفسي من خلال مزيد من التمرُّد والاحتجاج الفردي والجماعي على الظلم في العائلة والدولة والمجتمع، ومواصلة القراءة والكتابة المحطمة للقيود والمحرمات، والسفر إلى بلاد وثقافات مختلفة.

•••

فقدان البنت الثقة بنفسها هو نتيجة التربية الاجتماعية والدينية والقيود الفكرية التي تتعرَّض لها منذ الطفولة، يؤدي فقدان الثقة بالنفس إلى الإحساس بالضعف الجسمي والنفسي والعقلي، والاستسلام للأوامر والطاعة العمياء والخجل والغباء، وكل الصفات التي تندرج تحت اسم الأنوثة والجمال والرقة.

تغيرت مفاهيم الأنوثة مع مرور السنين، بسبب المآسي الجنسية والاجتماعية المسكوت عنها التي تعرضت لها البنات والنساء، وتم نشر الأفكار التحريرية منذ منتصف القرن العشرين، بأقلام الرائدات والرواد.

كانت البنت المصرية تُقتل إن لم تَنزِف ليلة الزفاف، كان مفهوم الشرف يرتبط بهذه القطرات من الدم، وقد بدأ مفهوم الشرف يتغير خاصةً في بعض العائلات المتعلِّمة من الشعب المصري، وكانت البنت المصرية تتعرَّض أيضًا لعمليات الختان الخطيرة للحفاظ على العذرية والعفة، لكن الأفكار الجديدة انتشرَت عن مخاطر هذه العمليات، مما اضطر الحكومة المصرية إلى منع ختان الإناث بقانون الطفل عام ٢٠٠٨م، كما أعطى هذا القانون الحق للأم غير المتزوجة لإعطاء اسمها لطفلتها أو طفلها، وحق هذا الطفل أو الطفلة الحصول على شهادة ميلاد رسمية ودخول المدرسة، وكانت الطفلة أو الطفل غير المعروف الأب، يُحرم من شهادة الميلاد والتعليم، وإن حمل اسم أمه يعتبر ابن زنا غير شرعي.

هذه التغيُّرات الجزئية في القانون المصري لم تحدث إلا بسبب النضال الطويل للرائدات النسويات، اللائي تعرَّضْن للمحاكمات أو للسجن أو المنفى وتشويه السمعة، دفعت النساء الرائدات ثمن التحرر باهظًا، وكذلك أيضًا المنظمات النسائية الثورية، التي تعرَّضت للبطش والإغلاق والمصادرة في ظل الحكومات المستبدَّة خلال الأربعين عامًا الماضية وحتى اليوم.

يمنع القانون المصري منذ ٢٠٠٨م ختان البنت، إلا أن القانون لا ينفذ بسبب ضعف الإدارة والإرادة الحكومية مع قوة التقاليد الموروثة منذ العبودية، ويستمر ختان البنات المسلمات والقبطيات سواء بسواء، لا فرق بين مسلمة أو قبطية، لا تنجو البنت المصرية من الختان إلا في بعض الأسر المتعلِّمة، أما الأغلبية الساحقة (أكثر من ٩٠٪ من البنات) يتعرَّضْنَ للختان في الطفولة، ما بين ٧ إلى ١١ سنة حتى اليوم، أما ختان الأطفال الذكور فهو مباح بالقانون المصري، رغم خطورة هذه العملية صحيًّا واجتماعيًّا.

في نهاية ٢٠١٢م أصدرت الأمم المتحدة، لأول مرة، قرارًا واضحًا يمنع كل أنواع الختان للبنات، لكن حسب بيانات الأمم المتحدة، لا يزال أكثر من ١٤٠ مليون امرأة مُختتنة في ٢٦ دولة في العالم.

حتى اليوم لم تصدر الأمم المتحدة قرارًا بمنع ختان الأطفال الذكور، رغم ثبوت الأضرار الصحية والاجتماعية لهذه العمليات، فالضغوط السياسية للقوى اليهودية في العالم، تعرقل صدور هذا القرار، تحت اسم معاداة السامية، وهناك آية صريحة في التوراة تفرض الختان على الذكور الأطفال، لكن لا يوجد مثل هذا النص في الإنجيل أو القرآن، مع ذلك فقد ورث المسيحيون والمسلمون الكثير من العادات اليهودية القديمة، ومنها ختان الطفل الذكر.

في ألمانيا عام ٢٠١٢م أصدرت محكمة كولون قرارًا بمنع ختان الذكور؛ بسبب أضراره الصحية والاجتماعية، لكنها تراجعت في قرارها تحت ضغوط الجماعات اليهودية والإسلامية داخل ألمانيا وخارجها.

الهُوَّة بين الطبقات وبين الجنسَين اتسعت في مصر منذ السبعينيات من القرن العشرين؛ بسبب زيادة السيطرة الاستعمارية الرأسمالية الخارجية، والاستبداد الداخلي، وتصاعد التيارات الدينية الأصولية، واشتد الفقر خاصةً بين النساء، وانتشرت ظاهرة «تأنيث الفقر» كما اشتدت التفرقة الجنسية والاقتصادية بين الذكور والإناث، وفي جميع المجالات.

أغلب فئات الشعب المصري، الفقير الكادح، لا تزال خاضعة للتقاليد القديمة والأفكار الأصولية السلفية الدينية، التي تصاعدت خلال الأربعين عامًا الماضية، مع انتشار الفساد والتجارة المحلية والدولية، بالدين والجنس وأعضاء البشر، وتحويل كل شيء إلى سلعة في السوق الحرة بما فيها جسد المرأة والبنت.

أصبح التناقض صارخًا بين القيم السائدة في المجتمع المصري، البنت في الطبقات الفقيرة ترتدي الحجاب وهي طفلة، وتذهب إلى المدرسة الابتدائية بالحجاب، حتى تتزوَّج، فتلزم البيت لترعى الأسرة، وتتعرَّض للقهر أو الضرب؛ لأنها تعيش عالة على زوجها، وإن خرجت إلى العمل بأجر وشاركت في نفقات الأسرة، وهذا يحدث في أغلب الأسر الفقيرة، مع زيادة معدلات البطالة بين الرجال أصبحت ٧٥٪ من الأسر المصرية تعولها النساء العاملات الكادحات خارج البيت، وتظل المرأة العاملة رغم ذلك تحت سيطرة زوجها، حسب قانون الأسرة الحالي، الذي يعطي الرجل حق تطليق زوجته بلا سبب، والزواج بأربع نساء في وقت واحد، وحق ضربها لتأديبها حسب الآية في القرآن.

قانون الأحوال الشخصية المصري خاضع للشريعة الإسلامية في حالة المسلمين أو الشريعة المسيحية في حالة الأقباط، وتخضع الزوجة في الشريعتَين للقيم الدينية والأخلاقية الذكورية المزدوجة التي تُميز الرجل لمجرد أن الله خلقه ذكرًا، بل إن الدستور المصري الجديد بعد الثورتَين (يناير ٢٠١١م ويونيو ٢٠١٣م) ينصُّ في المادة الثانية على أن دين الدولة هو الإسلام، والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، لكن الواقع يكشف أن جميع القوانين في مصر مدنية وغير مستمدة من الشريعة فيما عدا قانون الأحوال الشخصية، أو قانون الأسرة الخاص بالزواج والطلاق والنَّسب والإرث؛ حيث ترث المرأة نصف ما يرثه الرجل وإن كانت هي التي تعول الأسرة، وينسب الأطفال للأب ويندثر اسم الأم في التاريخ العائلي.

هذا القانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٠م تسبَّب في كثيرٍ من المآسي للبنات والنساء والأطفال، وتم تعديله عام ١٩٣٩م، ثم تمَّ تعديله بالقانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥م، وهو القانون الحالي الذي ما زال يسمح بزواج البنات القاصرات، ويُمكن للأب حتى اليوم أن يبيع ابنته القاصر في سوق الزواج لرجل يكبرها بخمسين أو ستين عامًا أو أكثر، مقابل عدد من الجنيهات تحت اسم المهر أو الصداق.

بعد ثورة يناير ٢٠١١م انكسر حاجز الخوف، وتعالت الأصوات النسائية والاحتجاجات والوقفات لتعديل قانون الأحوال الشخصية، دون جدوى، رغم زيادة نسبة الطلاق إلى ٤٨٪، والتفكك الأسري وزيادة أعداد الأطفال في الشوارع بلا مأوى، يرجع ذلك إلى السلطة المطلقة الممنوحة للرجل تحت اسم الشريعة الإسلامية.

لهذا تعالَت أصوات بعض النساء الثوريات وبعض المنظمات النسائية الجديدة بإصدار قانون جديد للأسرة «مدني وموحَّد» لجميع المصريين والمصريات المسلمين والأقباط، يقوم على المساواة الكاملة بين الرجال والنساء في جميع الحقوق والواجبات داخل الأسرة وخارجها، دون جدوى، وقد يتحقَّق ذلك في المستقبل القريب أو البعيد، مع استمرار العمل النضالي الثوري الفردي والجماعي، لا يمكن أن تستمر الدولة في التحكم في حياة الناس الشخصية تحت اسم الدين؛ فالزواج علاقة إنسانية بين اثنين، لا يحق لأحد التدخل فيها، تخص الزوجين فقط على قدم المساواة، بصرف النظر عن الدين أو الطبقة أو الجنس أو القومية أو الجنسية أو اللون أو غيرها.

لا يزال أغلب رجال الدين المسيحي في مصر يُعارضون قانون الأحوال الشخصية المدني الموحد للأقباط، بصرف النظر عن اختلاف الطوائف، إنجيلية أو كاثوليكية أو أرثوذكسية أو غيرها.

وقد سبقت ألمانيا غيرها من الدول في العالم، حين أصدرت محكمتها الفيدرالية العليا حكمها في ١١ أكتوبر ٢٠٠٦م، قررت فيه أن أحكام الشريعة الكاثوليكية تُخالف النظام العام في ألمانيا، وأن الزواج علاقة إنسانية لا يجوز إجبار الإنسان على الزواج أو عدم الزواج.

وهناك مُبادرات جديدة في مصر، خلال عام ٢٠١٤م، لزيادة تمثيل النساء في البرلمان القادم لتحصُل المرأة على مائة مقعد (من ٥٤٢ مقعدًا بالبرلمان) أما أن تحصل على نسبة ٥٠٪ من المقاعد، وهي نسبة تمثيل النساء في القاعدة الانتخابية، فهذا أمر بعيد المنال حتى الآن، في ظل القوى السياسية الذكورية الطبقية المسيطرة على الأحزاب السياسية والدينية والثقافة والتعليم ومؤسسات الدولة عامة.

في المجتمع المصري اليوم أصبحت بنات الطبقات العليا وفوق الوسطى، يتمتَّعْنَ بحريات تكاد تُشبه حريات البنات في أوروبا وأمريكا، ويرتدين ملابس حديثة تكشف عن بعض أجزاء من الصدر أو الفخذَين، وقد تلفُّ البنت رأسها بحجاب ملون مزين بفصوص اللؤلؤ (حسب الموضة) لكن الجزء الأعلى من بطنها يتعرَّى داخل البنطلون الجينز الضيق، وهي تتعلم في الجامعة المصرية أو الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وتصادق الرجال وتمارس التعدُّدية الجنسية قبل الزواج، ثم تتزوج بعد أن تجري عملية ترميم غشاء البكارة لتعود عذراء، أو تشتري من السوق الحرة غشاء بكارة صناعيًّا مستوردًا من الخارج.
تتمزق البنت المصرية عامةً بين القيم الاستهلاكية للسوق العالمية الحرة والتَّزمُّت الأخلاقي للتيارات الأصولية الدينية، إلا القليل منهن اللائي ملكن الوعي والشجاعة والثقة بالنفس للتحدي والانتصار على هذا الفساد المزدوج.

ومنذ ٢٠٠٢م أصبح عقد الزواج الرسمي المصري يشتمل على خانات معينة تكتب فيها الفتاة العروس شروطها قبل التوقيع عليه، منها أن تكون العصمة بيدها، وألا يحقَّ لزوجها منعها من السفر، أو منعها من العمل خارج البيت، أو يفرض عليها المكان الذي تسكن فيه، وأي شروط أخرى تريد العروس أن تسجلها في العقد، لتضمنَ حُريتها الكاملة واستقلالها، وعدم سيطرة زوجها عليها، وهذه بعض ثمرات النضال النسائي الطويل على مدى العهود.

إلا أن ازدياد الفقر مع تزايد الخصخصة، والهيمنة الاستعمارية وفساد رجال الأعمال، البزنس، وانسحاب الدولة المصرية من حماية المنتجات المحلية، أدَّى إلى ازدياد معدل البطالة بين الشباب، حتى بين ذوي المؤهلات الجامعية العليا، وعجزهم عن سد نفقات الزواج والإنفاق على الأسرة، هكذا أصبح في مصر ملايين النساء والرجال غير المتزوجين، ظاهرة يسمونها «العنوسة»، آخر إحصاء يقول إن العوانس النساء في مصر يزيد على عشرة ملايين امرأة، ولا تزال كلمة «عانس» مخجلة ومهينة للمرأة أكثر من الرجل، خاصةً المرأة الفقيرة؛ فالقِيَم الطبقية الذكورية لا تزال طاغيةً رغم ثورة يناير ٢٠١١م التي شاركت فيها النساء والبنات والأمهات، وقدَّمن أرواحهن ودماءهن بأمل الحرية والعدالة والكرامة.

وكما يحدث في التاريخ دائمًا، تتجمَّع قوى الثورة المضادة وتجهض الثورة الشعبية وتقتل أو تسجن الثوار والثائرات، بدأت الثورة المضادة عملها مباشرةً، بعد سقوط مبارك في ١١ فبراير ٢٠١١م؛ إذ تولى الحكم المجلس العسكري برئاسة المشير طنطاوي، وبدأ البطش بالثوار والثائرات، تعرض بعضهم، نساء ورجال، للقتل والسحل في الشوارع، وهجمات البلطجية الذكور عليهم، الذين ظهروا فجأة في ميدان التحرير والميادين الأخرى، اشتدَّت ظاهرة التحرش بالبنات التي غابت تمامًا أيام الثورة، لم تحدث حادثة تحرش واحدة أيام الثورة المصرية خلال يناير وفبراير ٢٠١١م، كانت الملايين من الرجال والنساء، تتكدَّس في ميدان التحرير نهارًا، وتحت الخيام في الليل يرقد الجميع، نساء ورجال، كبار وصغار، مسلمون وأقباط، لم يتحرَّش رجل بامرأة، لم تقع حادثة سرقة واحدة، لم تحرق كنيسة واحدة، كشف الشعب المصري عن حضارته العريقة الممتدَّة في التاريخ لأكثر من سبعة آلاف سنة، منذ إلهة الحكمة والمعرفة «إيزيس»، وإلهة العدل والقانون «ماعت» وإلهة الطب والصحة «سخمت»، لكن الثورة المضادة بدأت فورًا بعد أن تولَّى المجلس العسكري الحكم بعد سقوط مبارك، وعودة الملايين إلى بيوتهم، بدأت الثورة المضادَّة بحرق الكنائس، وقتل الثوار في الشوارع والميادين، والتحرش بالبنات الثائرات، واتهامهن بالفساد الأخلاقي، واعتدى عليهن البلطجية المأجورون من السلطة الحاكمة، خلال مسيرتهنَّ السلمية، يوم المرأة العالمي ٨ مارس ٢٠١١م، وتم القبض على بعضهن وإيداعهن السجن العسكري، حيث تعرضن للانتهاك البدني للكشف عن عذريتهنَّ أو سلامة غشاء البكارة، لكن ذلك لم يثبط همة البنات السجينات، بل زاد غضبهن، وتقدمت إحداهن، سميرة إبراهيم، برفع قضية في المحكمة ضد المسئولين عن كشوف العذرية في السجن، ولم يتم، في نهاية الأمر، عقاب أي مسئول، فالقانون الطبقي الأبوي، في مصر والعالم، تحكمه القوة وليس العدل، إلا أن القهر العسكري للبنات المسجونات أصبح مفضوحًا أمام الرأي العام داخل مصر وخارجها، وارتفع الوعي النسائي والشعبي بضرورة الاستمرار في النضال.

قامت المرأة المصرية بدور هام في ثورة يناير ٢٠١١م، ثم شاركت المرأة بدور هام في ثورة يونيو ٢٠١٣م، وحقَّقت بعض النجاحات الجزئية، أهمها كسر حاجز الخوف لدى الشعب المصري، وإسقاط رءوس النظام الاستبدادي السياسي الديني المتحالف مع الاستعمار الثلاثي الجديد، الأمريكي الأوروبي الإسرائيلي، وأعوانه في الداخل والخارج، من الجماعات الأصولية الدينية الإرهابية، إسلامية ومسيحية، ويهودية وبوذية وهندوكية وغيرها، على رأسها تنظيم القاعدة والطالبان، وداعش وبوكو حرام، وجماعة الإخوان المسلمين، وغيرها من التنظيمات المحلية والدولية، التي تربَّت وترعرعت بأموال النفط والأسلحة الأمريكية.

نجحت الثورة المصرية في إسقاط بعض رءوس النظام السياسي الديني القائم على الاستبداد الطبقي الأبوي والفساد، إلا أنها لم تنجح في تغيير جسد النظام والمؤسسات الطبقية الأبوية الذكورية التي تتحكَّم في الشعب، خاصةً الفقراء والنساء، بل زادت قوة الأحزاب الدينية السلفية السياسية في مصر بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين، رغم أن الدستور الجديد، بعد الثورتَين، يحرم إنشاء الأحزاب الدينية، وهي أحزاب متخلِّفة فكريًّا، تكنُّ العداوة للمرأة وتفرض عليها النقاب الذي يخفي الوجه تمامًا إلا ثقبَين للعينَين، أما حجاب الإخوان المسلمين الذي يغطي الرأس ويكشف الوجه، فقد انتشر في مصر منذ عصر السادات-ريجان في بداية السبعينيات.

رغم الضربات التي تلقَّتها الثائرات والثوار بقوى الثورة المضادة الداخلية والخارجية، فإنَّ الأمل في المستقبل لا يخبو أو ينطفئ، ولا تزال قوى الثورة الشعبية مستمرة، رغم تشتيتها، من أجل تحقق أهدافها الأربعة: الحرية، الاستقلال، العدالة، الكرامة.

تحت وسادتي أتحسَّس مُفكرتي الطفولية، رغم تجاوزي الثمانين عامًا بعدة سنوات، ما زلت أذكر أحداث طفولتي كأنها الأمس، كأنما لا يوجد زمن، وأرى أمي الميتة تصحو من الموت وتضحك، كأنما لا يوجد موت، وأسمعها تضحَك كما كنت أسمعها في طفولتي تضحك، كان لها ضحكة خاصة مميزة عن كل الضحكات في الكون، ترنُّ ضحكتها في كياني، تُدفئني كأشعَّة الشمس في الشتاء، تُشبه ضحكة ابنتي، منى، وكل البنات من حولي، الشابات الثائرات والشباب الثوار، لا يمضي يوم دون أن أسمع إحداهن أو أحدهم يقول لي: كتابكِ غيَّر حياتي.

هذه هي جائزتي الواحدة الوحيدة في حياتي، التي تمسح الآلام والأوجاع في كل مراحل عمري.

•••

كيف نقضي على العنف والإرهاب سياسيًّا وأمنيًّا، ثم ندعمه فكريًّا ونغذيه ثقافيًّا واجتماعيًّا وتعليميًّا ودينيًّا ومدنيًّا من المهد إلى اللحد؟

كيف نقضي على العنف دون أن نقضي على أسبابه الحقيقية العميقة المتجذِّرة في الفكر المدني السائد، وليس الديني أو الأزهري فقط؟

أصبح معروفًا أن أشد الجماعات إرهابًا وعنفًا (داعش والقاعدة والطالبان وبوكو حرام وغيرها) هي صناعة استعمارية تخدم أهدافًا مادية، بمساعدة القوى الدينية بالداخل والخارج، يشهد تاريخ الأديان، من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام إلى البوذية والهندوكية وغيرها، كيف تُراق الدماء وتشتعل الحروب تحت اسم الدين، لم ينفصل الدين عن السياسة في أي مكان أو زمان؛ فالأديان منذ نشأتها لم تنفصل عن سلطة الحكم، بل إنها تتبعه وتخدمه في كل العصور، القوة السياسية الاقتصادية المادية هي التي تحكم الدولة وليس الكهنة وحملة المباخر من أي مذهب، تتحكَّم قوة الدولة في الدنيا، وإن سيطر رجال الدين على الحكم في فترات معينة، فإنهم يحكمون من خلال الدولة، التي تملك وسائل القمع والعنف القانوني والسياسي والديني والثقافي، ابتداءً من تعاليم الآباء، ونظم التربية والتعليم إلى المؤسسات المتخصصة في عقاب المخالفين، بالضرب والتجويع والتشريد والسجن والتعذيب والقتل والنفي وتشويه السمعة، لم ينفصل الدين عن السياسة في العالم كله، وإن تشدقت بعض الدول بالمدنية والعلمانية والديمقراطية والحداثة، فإن الدين يظل الأرض التي يرتكز عليها الحكم.

ألم تعلن دولة إسرائيل عن يهوديتها مؤخرًا بعد أن ادَّعت الديمقراطية دهرًا؟ والولايات المتحدة الأمريكية، ألا ترتكز في حكمها وانتخاباتها على القوى المسيحية اليهودية الأصولية العنصرية حتى اليوم؟

من الخداع أو الجهل السياسي أن نَفصل بين العنف والإرهاب في العالم الأول والثاني والثالث، أو بين الحضارة الغربية والحضارات الأخرى في الشرق والجنوب، فنحن نعيش في عالم واحد، في ظل حضارة واحدة رأسمالية أبوية، قائمة على القوة والعنف، رغم شعارات الديمقراطية والعدالة والحرية والسلام.

وكم من ثوراتٍ شعبيةٍ انفجرت شرقًا وغربًا، ضد العنف والقهر، وكم أجهضت هذه الثورات، وتم إخضاع الشعوب، نساءً ورجالًا وشبابًا وأطفالًا، بوسائل قمع متجددة، تنتجها تكنولوجيا العنف المتطورة، أحدثها وسائل التعذيب الأمريكي الجديدة.

أول مفاهيم العنف في المجتمع، تترسَّخ في عقل الطفل الذكر، ليكتسب صفات الرجولة، وتعني القوة والسيطرة، وتتعلم الطفلة البنت مفهوم الأنوثة القائم على الضعف والخضوع والاستسلام.

هذه القيم والمفاهيم سائدة في كل مكان في العالم، في البيت والمدرسة والجامع والكنيسة والحزب والعمل والشارع والراديو والتليفزيون، وجميع مؤسسات الدولة والمجتمع، هذه القيم تولد أول أنواع العنف تحت اسم اختلاف الجنس، العنف الذي يسلب البنت كرامتها كإنسانة، كاملة الإنسانية مثل أخيها، ويفقدها الثقة في نفسها إن رفضت الخضوع والطاعة، على حين تتلقَّى أختها المطيعة المنكسرة كل المدح والثناء، واعتبارها صاحبة الأنوثة المثالية، ويحظى أخوها الذكر بالمدح والثناء كلما ازداد قوةً ورجولةً وسيطرةً على أخته وأمه أيضًا.

تحدث هذه التطورات السلبية للشخصية منذ الطفولة، خوفًا من الاتهام بالنقص في الرجولة أو النقص في الأنوثة، يتعوَّد الولد على الغطرسة، وتتعوَّد البنت على الخنوع، يومًا وراء يوم، لحظة بعد لحظة، تتراكم الإهانات تدريجيًّا داخل عقل البنت الواعي وغير الواعي، تترسَّب فيما يسمى الوجدان والشعور واللاشعور، حتى إنها لا تشعر بالإهانة ولا تعترض على العنف إن ضربها أخوها أو زوجها، أما الطفل الذكر فيتلقى التعليمات بأن يكون الرجل، مثل أبيه قويًّا «دكرًا» يضرب أخته أو زوجته، إن لم تخضع لأوامره، يتعود الأخ الكبير أن ينظر إلى أخته وأمه باستخفاف أو عدم احترام، تدعم الثقافة والقوانين والأديان والأخلاق والفنون والروايات والمسرحيات والتمثيليات هذه القيم التي تولد العنف في الأسرة والمجتمع والدولة.

قد يرفض الرجل العنف نظريًّا أو عقليًّا، بعد أن يقرأ بعض الكتب الثورية عن المساواة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة، إلا أن شعوره ووجدانه يظل رافضًا المساواة بينه وزوجته، وبينه والخادم في البيت أو المرءوس في العمل، كلمة الأب أو الرئيس تبلغ حد التقديس في الوجدان الفردي والجمعي، خاصةً في بلادنا، يتوارث الرجل العنف عن أبيه وجده، ويرث المجتمع القيم والتقاليد ذاتها تحت اسم الحفاظ على التراث أو الأصالة أو الخصوصية أو الهُويَّة.

وقد يخف العنف الطبقي الأبوي لدى بعض المتأثِّرين بأفكار كارل ماركس، أو قصص تشيكوف وجورج أورويل أو حكايات ألف ليلة، ليصبحوا ضد الحاكم المستبد (الأخ الكبير)، أو ضد العنف الدموي للملك شهريار، الذي لم يعاقب في التراث الأدبي على قتله البنات، بل تمت مكافأته بزوجة مسلية (شهرزاد) تحكي له الحكايات كل ليلة، ثم تلد له ثلاثة ذكور ليس بينهم بنت واحدة.

وصالون «مي زيادة» الأدبي كان ملتقى الرجال، أغلبهم عجائز متزوجون، بعضهم يفخر بعدائه للمرأة (عباس العقاد) لم يشمل صالونها امرأة واحدة، مع ذلك لم يتركها المجتمع إلا حطامًا فوق سرير بالمستشفى النفسي، وهذا ليس إلا جزءًا من جبل الثلج تحت الماء.

•••

حذفت صحيفة سلفية إسرائيلية (هاميفاسر) صور المشاركات في مسيرة باريس يوم ١١ يناير ٢٠١٥م؛ لأن وجه المرأة عورة يجب إخفاؤه، حسب تعاليم الإله يهوه.

رأينا الصورة الأصلية بالصحف العالمية، الرجال والنساء يسيرون بالأيادي المتشابكة متضامنين ضد الإرهاب، منهم رؤساء ورئيسات دول أوروبية وأمريكية، تعرضوا أنفسهم للإرهاب بعد أن شاركوا في تغذيته وتطعيمه، منهم الدولة الإرهابية العظمى (الولايات المتحدة) الحاضنة الرءوم للجماعات الإسلامية والمسيحية واليهودية والبوذية والهندوكية، على رأسها دولة إسرائيل اليهودية، التي لم تنشأ ولم تستمر إلا بالإرهاب وقوة السلاح الكيميائي والنووي والحماية الأنجلو أمريكان.

النظام العالمي، قديمه وجديده، يقوم على الإرهاب، المعلن أو المستتر، تحت اسم الشرعية الدولية أو الأمم المتحدة أو هيبة الدولة، أو اسم الله أو الرب، الأب والابن، أو الإله يهوه، وهذا الأخير هو المشرِّع الأول للإرهاب، ضد العقل والمرأة معًا، حسب نصه التوراتي.

وجه المرأة المبتور بالصحيفة اليهودية السلفية يعبر عن خوف الإله يهوه من عقل المرأة والتفكير الحر، مما يؤكد عدم ثقته في عقله وتفكيره.

تختلف التيارات السلفية باختلاف الطوائف والأديان، إلا أنها تتشابه في شيء واحد هو «الخوف من العقل المفكر»، خاصةً عقل المرأة؛ لهذا يتركز عداؤهم لرأسها، يحاولون بتره وإلغاءه بكل الطرق، المادية والروحية.

منعت الحكومات المسيحية المرأة الأوروبية من «الكتابة» قبل عصر النهضة، فالكتابة تنبع من العقل وتقود إلى المعرفة، والمعرفة «قوة» تنتصِر على أقوى الأسلحة، وحرمت الكنيسة الضحك على النساء؛ لأن الضحك يفتح الصدر والعقل للهواء والحرية؛ وبالتالي للمعرفة والقوة.

عمدت جماعات إسلامية إلى إخفاء رأس المرأة بالحجاب، مثل جماعة الإخوان المسلمين، أما التيارات السلفية الإسلامية فهي تفرض إخفاء وجه المرأة بالنقاب (إلا ثقبَين للعينَين)، واستبدال صورتها في الانتخابات بالوردة أو صورة زوجها.

في نوفمبر ٢٠١٤م، اتهمت وزارة الداخلية (بالسعودية) المرأة التي تقود سيارتها بنفسها بتهديد اللُّحمة الاجتماعية (بالضمة على اللام) وتعني تهديد السلام الاجتماعي في الدولة والأسرة.

وكانت هيئة كبار العلماء تمنع المرأة من قيادة سيارتها بنفسها، ولا تصدر إدارة المرور تصاريح القيادة إلا للرجال، لكن في نوفمبر ١٩٩٠م بدأت مجموعة من ٤٧ امرأة بقيادة سياراتهن بأنفسهن في شوارع الرياض العاصمة، مما بث الخوف في قلب الدولة، فأطلقت عليهن حملة بوليسية، اعتقلت بعضهن بالسجون، ومنعت بعضهن من السفر، وتم فصل البعض من وظائفهن، وتم اعتقال آبائهن وأزواجهن بتهمة عجز «الذكر» عن التحكم في «أنثاه»، دافعت جمعية تضامن المرأة العربية، عن حق المرأة السعودية في قيادة سيارتها، لكن بعض الشيوخ أفتوا بأن الإسلام لا يبيح للمرأة قيادة السيارة، حمايةً لها من المخاطر، لم تكن السيارة اكتشفت حينئذٍ، وكانت المرأة تركب الخيل والإبل، الأقل أمانًا من السيارة؛ لأنها بلا سقفٍ ولا أبواب، وكانت حرب البترول الاستعمارية مُشتعلة ضد العراق تحت اسم تحرير الكويت، خلال يناير ١٩٩١م، تعاونت الحكومتان المصرية والسعودية، تحت السيطرة الأمريكية، في الحرب التي دمرت العراق، وفتحت المنطقة كلها للحروب والفتن الطائفية والتقسيم. كانت جمعية تضامن المرأة العربية، ضمن القوى الشعبية التي عارضت الحرب والهيمنة الأمريكية، فتم إغلاقها بقرار ضد القانون في مايو ١٩٩١م.

وتلقَّت الحركة النسائية السعودية الضربات تحت اسم حماية الإسلام من تمرد النساء، لكن الحركة عادت بعد قيام الثورتَين التونسية والمصرية في يناير ٢٠١١م، بدأت بعض السعوديات بقيادة سياراتهن، في مايو ويونيو ٢٠١١م، تحت شعار «سأقود سيارتي بنفسي».

ما الذي يخيف سلطة الدولة أو الزوج إن قادت المرأة سيارتها بنفسها؟

وما الذي يخيف الإله يهوه إن نُشرت صور نساء في مسيرة عالمية؟

لكنه الخوف التاريخي من قوة المرأة وعقلها، وقدرتها على التفكير الحر وإنتاج المعرفة والحكمة، وإلا فلماذا فرض على المرأة أن تخفي رأسها بالذات؟

وهل الرأس الذي يحتوي العقل المفكر «عورة وعار» يجب تحجيبه؟

كانت المرأة في الحضارات القديمة إلهة ترمز للعقل والحكمة، قبل إدانة حواء والمعرفة في كتاب يهوه، هذه الخطيئة توارثتها البشرية، بدرجات مُتفاوتة، حتى اليوم.

بترت الصحيفة اليهودية وجوه النساء اللائي شاركْنَ في مسيرة باريس خضوعًا للقيم السلفية لطائفة الحريديم، التي تُعادي النساء وحرية الفكر، وتمنع ظهور وجوه النساء بحجة الحفاظ على الأخلاق والدين، وفي عام ٢٠٠٩م حذفت صحيفة إسرائيلية تابعة لهذه الطائفة، وجوه نساء من عضوات الحكومة الإسرائيلية، وصحيفة أخرى وضعت صور رجال مكان النساء، ولا تزال التعاليم اليهودية التقليدية تمنع وجود النساء بين الرجال، مثل مذاهب أخرى في الإسلام والمسيحية.

سألني صحافي بالأمس: لماذا تُواصلين الدفاع عن حقوق المرأة رغم أنها أخذَت حقها وزيادة؟ ألا يرى وجوه النساء المختفية بالنقاب؟ ألا يرى رءوس النساء الملفوفة بالحجاب؟ ألا يرى طوابير الأمهات المطرودات للشارع بكلمة من الزوج «طالق»؟ ألا يقرأ صفحات الحوادث عن الاغتصاب والتحرُّش بالبنات؟ ألا يرى ظاهرة زواج القاصرات وزنا المحارم وبيع الأطفال البنات لعجائز الرجال؟ هل تستطيع امرأة أن تشمَّ الهواء على شاطئ النيل دون أن يطاردها الرجال؟ ألا يتزوج الرجل أربع نساء ثم يذبح زوجته إن نظرت بطرف عينها لرجل آخر؟ ألا يرى الأحزاب السياسية التي تتعمَّد إقصاء النساء بعد أن قدمْنَ أرواحهن للثورة؟ ألا يرى أن أخطر أنواع الإرهاب هو فرض الظلم الجنسي العنصري بقوة القانون والشرع والعرف والهُوية والفضيلة؟

•••

أطل من النافذة على الثلوج تغطِّي «أوسلو» عاصمة النرويج، تكتسي الأرض والبيوت والأشجار حتى الأفق باللون الأبيض الشاهق، برودة الشمال في الشتاء تبثُّ النشاط في العقل والجسم وتعيدني للشباب، زجاج النافذة متين شفاف يسمح للعين أن تنفذ للسماء، ويظل الصقيع خارج القاعة المتوهجة بحرارة الشابات المبدعات من بلاد العالم. تتألَّق الثلوج بلون اللؤلؤ الشفاف تحت الشمس، تنفذ الأشعة الذهبية داخل قلب البياض الناصع، تكتسب الأرض والسماء حمرة الدم التي توحي بالدفء رغم البرودة الهابطة تحت صفر الصفر.

وصلتُ من القاهرة والشمس بالأفق تنحدر برفق فوق قمم الثلج، صديقتي النرويجية منذ ثلاثين عامًا اسمها «ماريان»، تعرف منذ لقائنا (عام ١٩٨٣م) أنني أحب السير فوق الثلج تحت أشعَّة الشمس، أخذَتْني بالأمس إلى الميدان الرئيسي حيث مبنى البرلمان، وتمثال «هنريك إبسن» الكاتب المسرحي، تفخر «ماريان» به فخرًا عظيمًا مثل الشعب النرويجي، يفخرون بالفنانين المبدعين، لكن هنريك إبسن يحتل موقعًا مميزًا، لا يساويه إلا الملك هاكون السابع، ينتصب تمثاله في الناحية الأخرى من الميدان، هذا الملك (١٩٠٥م إلى ١٩٥٧م) قاوم الاحتلال النازي خمس سنوات، منذ ٩ أبريل ١٩٤٠م حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، عاش المنفى في لندن، ولم يكفَّ عن النضال حتى هزيمة هتلر، عاد إلى النرويج (عام ١٩٤٥م) حيث استقبله الشعب استقبال الأبطال.

أشارت «ماريان» إلى ثلاث بنايات في الميدان، واحدة بيضاء والثانية حمراء والثالثة زرقاء، بألوان العلم الفرنسي، وقالت: احتفلت النرويج العام الماضي (٢٠١٤م) بمرور قرنَين على الثورة الفرنسية، وتمَّ طلاء هذه الأبنية بالألوان الثلاثة، الأبيض والأحمر والأزرق، احتفالًا بالثورة ومبادئها الثلاثة: الإخاء، الحرية، المساواة، ثم مصمصت شفتَيها بأسًى: هذه الأبنية الثلاثة التي ترمز للثورة الفرنسية كان المفروض أن تعبر عن مبادئها العظيمة، ولا تتحوَّل إلى دكاكين ومراحيض عامة.

تفخر «ماريان» باسمها؛ فهي تحمل اسم المرأة التي ترمز للجمهورية الفرنسية الأولى بعد الثورة، وكان الفرنك الفرنسي (قبل وجود اليورو) يحمل صورتها، ماريان النرويجية تتمتَّع بروح الفرنسية الثورية، تناضل منذ سنين ضد جشع الرأسمالية الشرسة بالنرويج، تقوم بتأليف كتابها الجديد عن انتهاك الأثرياء للطبيعة، رجال الأعمال الكبار، يقطعون الأشجار ويهدمون التماثيل في الحدائق الأثرية القديمة والغابات؛ من أجل بناء الدكاكين التجارية والمراحيض العامة، النهم للاستهلاك وشراء أشياء لا يحتاجون إليها، تحت وطأة الإعلانات، وإنفاق المال الذي لا يحتاجون إليه تحت وطأة السأم، هذه آلة الرأسمالية الجهنمية الجشعة، تزيد من الهوَّة بين الفقراء والأغنياء، وبين النساء والرجال، في النرويج وكل البلاد.

في القاعة الفسيحة أجلس وسط نساء العالم الشابات الثوريات المبدعات الجديدات، تجمَّعن من الشرق والغرب والشمال والجنوب، كاتبات، روائيات، موسيقيات، قاضيات، طبيبات، مخرجات وممثلات سينما ومسرح، راقصات، مغنيات، شاعرات، فنانات تشكيليات، محاميات، عاملات بالصناعة والزراعة، مقاتلات، وزيرات، خبيرات دوليات، وغيرهن من كل المجالات.

مؤتمر يجمع نساء العالم المناضلات بالإبداع الفكري والفني، من أجل إسقاط النظام العالمي القديم، وبناء نظام جديد قائم على مبادئ الثورات في العالم: حرية، عدالة، كرامة، مساواة بين الجميع. بصرف النظر عن الجنس أو الدين أو الطبقة أو الجنسية أو اللون أو اللغة أو غيرها.

قامَت بتنظيم المؤتمر مجموعة من الشابات، وُلدن بالنرويج، وتعلَّمن واشتغلن فيها، أمهاتهن وآباؤهن ولدوا وعاشوا في بلاد مُتفرقة في القارات الخمس، دفعهن القهر والبطش والفقر إلى الهجرة، تقود المجموعة شابة فنانة اسمها «دييا خان» مخرجة أفلام تسجيلية، سمراء البشرة، جاء أهلها من باكستان، ممشوقة القامة، ملامحها خليط من الهويات والأجناس، هذا المزيج المبهر من الدماء، يوحي بكسر الحدود والتمرد على القيود، يمنح الشخصية جاذبية خاصة بها وشجاعة على الإبداع، وهدم الفواصل المصنوعة بين البشر.

استمعت في إحدى جلسات المؤتمر إلى شابات فلسطينيات، منهنَّ كاميلا جبران، المؤلفة الموسيقية، قدمت أغنية من تأليفها وتلحينها، تُعبر عن آلام الشعب الفلسطيني وثورته المستمرة ضد الوحشية الصهيونية المدعمة بالسلاح الأمريكي، وريم عبد الهادي التي تعمل في رام الله، تكلمت عن معاناة النساء والأطفال تحت الاحتلال الإسرائيلي، والفنانة «آن باك» المصورة الفوتوغرافية المهاجرة لباريس، عرضت علينا مشاهد لنساء وأطفال تعرضوا للقتل وتقطيع أطراف الجسد، بواسطة الآلة العسكرية الإسرائيلية، وتكلمت «رنا الحسيني»، الكاتبة الصحافية الفلسطينية، عن نزوحها القسري إلى الأردن تحت وطأة البطش العسكري للشعب الفلسطيني.

ومن بغداد جاءت «ينار محمد» لتتحدث عن الاحتلال الأمريكي للعراق، وتشجيع «جورج بوش الأب والابن وباراك أوباما» للتيارات الإسلامية القاتلة، من القاعدة إلى داعش، لتفتيت العراق طائفيًّا والاستيلاء على بتروله وموارده، ومن طهران جاءت القاضية والمحامية «شيرين أبادي» الحاصلة على جائزة نوبل، تحدثت عن أهوال الإمام الخميني وخلفائه من الملالي وأعوانهم بالداخل والخارج، لتفتيت الشعب الإيراني طائفيًّا ونهب بتروله وموارده، الخطة الاستعمارية الجهنمية المتكررة بالتعاون مع الحكومات المحلية.

افتتحت المؤتمر الراقصة الفنانة الباكستانية «شيما كرماني» جاءت من كراتشي، وقدمت رقصة هندية من أجمل الرقصات مع اللحن من تأليفها، والراقصة والفنانة التشكيلية التونسية «هالة فتومي» قدمت ختام المؤتمر بصور من فنها الجرافيك ورقصة تونسية مبدعة.

على مدى يومَين كاملَين عِشنا مُتعة الإبداع والثورة مع نساء العالم الجديد القادم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤