وكان للأطفال كرامة العظماء
صوته لم أسمعه من قبل، ليس فيه ذكورة أو أنوثة، شجن رقيق من الزمن البعيد قبل العبودية، يسري كضوء الفجر، لا يُطأطئ الرأس ولا يقبل الظلم، كنت أعيش في صحراء مكتظة بالبشر، رجال ونساء يرتدون وجوهًا أنيقة وأحذية لامعة، والأغلبية بلا أحذية ولا وجوه، القلوب تحجرت والضمير مات، أمشي في الظلمة بكشافي الصغير، أعرف أنه ينتظرني في نهاية الطريق، ستزلُّ قدمي من التعب وطول المسافة، سأسقط وأشد نفسي من مخالب القدر وأنهض، سأسقط وأنهض ولن أعرف اليأس أبدًا.
سمعت صوته وسط عواصف التراب وانفجارات الإرهاب، وانقطاع الماء والكهرباء، الحر في شهر يوليو والناس صيام، الأعصاب مشدودة والشوارع مسدودة والأنفاس مخنوقة، تتخفَّى السماء وراء أعمدة الصحف والدخان، الناس يسيرون كالنيام، حالة وسطية بين النوم والموت، منطقة هلامية رمادية، يتغنَّى الزعماء بالوسطية، نقطة الصفر في الحبل المشدود، انعدام الرؤية باسم التوازن، لا ندري والله أعلم، لا مدنية ولا دينية، لا شك ولا يقين، لا حقيقة مطلقة وكل شيء نسبي.
في طريقي مُستشفيات ومحاكم وسجون، شباب وشابات لهم عيون العجائز، طوابير الأمهات الواقفات أمام الباب أو جالسات على الأرض من شدة الإنهاك، فوق صدورهن أطفال نائمون في غيبوبة كالموت أو يترنَّحون على أقدام صغيرة حافية، تدوس عليها الأحذية الجلدية للسادة الأطباء والمحامين والسجانين، الداخلين والخارجين، مات شاب من الضرب فقال الطبيب الشرعي: نوبة قلبية والوفاة طبيعية. مات طفل في عملية ختان فقال الطبيب للأب: لا أحد يموت بغير إرادة الله. ماتت فتاة في عملية إسقاط الجنين، فقال الجراح للأم: الله يُحرم الإجهاض.
وقال الزوج العلماني للقاضي: ليس هناك خيانة زوجية مطلقة وكل شيء نِسبي. وقال السلفي العجوز إن زواجه بالطفلة القاصر مشروع بأمر الله. وأعلن الزعيم الشيوعي بعد انفجارات الإرهاب الأخيرة أنه أخطأ في تدعيم الإخوان وجلَّ من لا يخطئ.
وقال الفنان الشهير لحبيبته: أحبك إلى الأبد والله يشهد. صدَّقته الفتاة، ثم حملت وأنجبت بعد تسعة شهور طفلهما، له أنف الأب الذي أنكر وقال ليس ابني. قالت الأم: انظروا إلى الأنف. قالت المحكمة: لا ننظر إلى الأنوف، بل إلى الأوراق والشهادات. قالت الأم: كان الله شاهدًا علينا. قال القاضي: شهادة الله ليست بملف القضية، هاتي ورقة المأذون. قالت الأم: وهل الورقة أكبر من الله؟ ألا تُردِّدون الله أكبر بمكبرات الصوت من فوق المآذن كل لحظة؟
قال القاضي: لا نعترف إلا بالدليل المادي، هاتي نتيجة «الدي إن إيه». رفض الأب أن يرضخ للتحليل؛ فالرضوخ إهانة للرجولة، أصبحت الألسنة تنهش الأم ولا أحد يمسُّ الأب، ثم صعدت رُوح القاضي للسماء، وجاء قاضٍ من شباب الثورة يؤمن بالعدل، نظر للقضية بالعقل، أمامه اعترافات الشهود تُثبت أن الأب كان يعيش مع الأم في بيتها، وكان بينهما حياة الزوجين المشتركة، يسافران معًا في الإجازات، يزورهما الناس في الاحتفالات، التُقِطت لهما الصور معًا، حملت منه وأنجبت طفلهما، توافرت دلائل ثبوت النسب بالفراش، لكن الأب استمر في إنكار أبوَّته للطفل، ولم يُقدم الدليل على انعدام العلاقة الزوجية بينه وبين الأم، كما امتنع عن الخضوع لإجراء تحليل البصمة الوراثية لبيان ما إذا كان الطفل ابنه ومن مائه أم لا، الأمر الذي يثبت أن الطفل هو ابنه، وتكون دعوى الأم قد أقيمت على سند صحيح من الواقع والشرع والقانون؛ لهذا تستجيب المحكمة لطلب الأم وتثبت نسب الطفل لأبيه.
أطلقت الأم والنساء الزغاريد، وكان الطفل يتابع القضية منذ مولده حتى تعلم النطق، كانت قضايا النسب والنفقة والرجعة والعدة والحيض والنفاس وكل أمور النساء، تستمر العام وراء العام، وتسقط مع الزمن أو موت الأم، وحين سمع الطفل قرار المحكمة انتفض من فوق صدر أمه وصاح معترضًا: لن أحمل اسم أبي الندل.
ضجَّت المحكمة بأصوات مندهشة: أيتكلم الطفل في المهد؟ هل عاد المسيح ابن مريم ليُنقذ العالم من الفساد؟ وأصوات أخرى غاضبة اتَّهمت الطفل بازدراء الذات الأبوية العُليا وإنكار المعلوم من الدين.
صوته طفولي عذب، ليس فيه رجولة ولا أنوثة، فيه كرامة وعزة النفس، يمسح عني تراب الطريق ومشقة السفر، أعود طفلة تجري على الشاطئ أجمع في يدي زهرات الياسمين، ينتشر عبيرها في الكون، وتشرق الشمس في يوم جديد، وفي الليل يظهر القمر بضوئه الفضي، يصغر حجمه ويصغر ويختفي ثم يظهر من جديد، وأسأل أمي: هل يعيش القمر والشمس للأبد؟ تضحك أمي وتناديني من الشاطئ البعيد فأسبَح إليها كالسمكة، وتعود ذاكرتي إلى أوراقي التي بعثرها الريح، كنت أكتب على وجه القمر وأنسى الزمن، تفوتني مواعيد الأكل والشرب والنوم، تمنحني الكتابة الاكتفاء والاستغناء، وكان للأطفال كرامة العظماء.