مغامرة الجندي الشاحب
تتميَّز أفكار صديقي واطسون بأنها شديدة الإلحاح على قِلَّتها؛ فلَطالما ألحَّ عليَّ في شأن تدوين تجربة خاصَّة بي. ولعلي، في الحقيقة، مَن جلبتُ على نفسي المتاعب؛ فكثيرًا ما دعتني الظروف إلى التلميح إلى مدى سطحيَّة مَروِيَّاته، واتِّهامه بالانسياق وراء إرضاء أذواق العوامِّ بدلًا من الاقتصار الصارم على الحقائق والأرقام. وكان ردُّ واطسون على اتهاماتي هو: «جرِّب بنفسك يا هولمز!» ولا مفرَّ أمامي من الاعتراف بأنَّني بمجرَّد أن أمسكت القلم بدأتُ أدرك ضرورة عرض الأمر بحيث يُثير اهتمام القرَّاء. والحقُّ أن القضية التالية يَسعُها بالتأكيد تحقيق ذلك المطلب؛ فهي واحدة من أغرب الوقائع التي تضمُّها مجموعتي ولم يُدوِّنها واطسون في مجموعته. بالحديث عن صديقي القديم وكاتب سيرتي الذاتية، سوف أغتنِم هذه الفرصة للإشارة إلى أن تَجشُّمي عبء اتِّخاذ رفيقٍ في شتَّى تحقيقاتي البسيطة ليس استجابةً لعاطفةٍ أو اتِّباعًا لهوى، وإنما لما لواطسون من بعض السمات المُميزة التي، لتواضعه، لم يُعِرها الانتباه اللازم في غمرة تقديره المُبالَغ فيه لإنجازاتي. إن مُرافَقة شريك يتنبَّأ باستنتاجاتِك وتصرُّفاتك لهو قرار ينطوي دائمًا على خطورة. أمَّا الرفيق الذي يرى كلَّ مُنعطف للأحداث مُفاجأةً لا تنقطع والمُستقبلَ غيبًا لا يُتوقَّع لهو خير مُعين.
وجدتُ مدوَّنًا في مُذكرتي أنَّني تلقيتُ زيارةً من رجل بريطاني، ضخم البنية، أَسْفَع الوجه، تبدو عليه حَداثة السنِّ واستقامة الخُلُق، ألا وهو السيد جيمس إم دود، وذلك في شهر يناير من عام ١٩٠٣، بعدما خمد أُوار حرب البوير مُباشرةً. كان صديقي الوفيُّ واطسون قد هجرَني حينئذٍ ليُزَفَّ إلى عروسه، ولا أذكر له تصرُّفًا أنانيًّا طوال رُفقتِنا إلَّا في هذه السابقة؛ فقد تركني وحيدًا.
من عادتي أن أجلس مُولِّيًا ظهري صوبَ النافذة بينما أُجْلِس زوَّاري على المقعد المُقابل بحيث يقَع الضوء عليهم كاملًا. بدا السيد جيمس إم دود مُتردِّدًا نوعًا ما في كيفية استهلال الحديث، ولم أحاوِل مساعدته؛ إذ أمدَّني صمتُه بمزيدٍ من الوقت لمُلاحظة هيئته وسلوكه. وقد وجدتُ أنَّ من الحِكمة أن أُثير إعجاب عُملائي بإظهار تمكُّني من عملي؛ لذلك بادرتُ بإخباره ببعض ما خَلَصتْ إليه مُلاحظاتي.
«أظنُّك يا سيدي، من جنوب أفريقيا.»
أجابني وقد علَتْ وجهه بعض الدَّهشة: «أجل يا سيدي.»
«أحسبُك من فرقة اليوامنة الإمبراطوريِّين.»
«بالضبط.»
«فيلق ميدلسكس بالتأكيد.»
«هو كذلك. أنت عبقري يا سيد هولمز.»
قابلتُ ذهوله بابتسامة.
«عندما يأتيني شابٌّ مُفعم بالحيوية تعلو بشرتَه سُمرة لا يُمكن إطلاقًا أن تُخلِّفها شمس إنجلترا، واضعًا منديله في كُمِّه لا جَيبه، لا يكون من الصَّعب إذن أن أُحدِّد مكان إقامته. كما أنك قصير اللِّحية، ممَّا يُظهِر أنك لست جُنديًّا نظاميًّا، وتصفيفة شعرِك تدلُّ على أنك فارس. أما بالنسبة إلى ميدلسكس، فقد أخبرتْني بطاقتك التعريفية أنك تعمل سمسارًا في بورصة ثروجمورتون ستريت. بأيِّ كتيبةٍ عساك أن تَلتحِق إذن؟»
«أنت ترى كلَّ شيء.»
«أنا لا أرى أكثر ممَّا تراه، لكنَّني دربتُ نفسي على مُلاحظة كلِّ ما تُبصِره عيناي. لكنك لم تطلُب مُقابلتي هذا الصباح، يا سيد دود، لنُناقِش عِلم المُلاحظة. ماذا جرى في توكسبري أولد بارك؟»
«سيد هولمز: …!»
«سيدي العزيز، الأمر ليس لُغزًا. لقد صدَّرتَ رسالتك بهذا العنوان، وبالنظر إلى كونك قد حدَّدتَ هذا المَوعِد على وجه العَجَلة، فكان من الجليِّ أنَّ شيئًا مُفاجئًا ومُهمًّا قد وقع.»
«نعم، بالفعل. لكنني خطَطْتُ الخطاب عصرًا، وقد وقع الكثير من الأحداث منذ ذلك الحين. لو لم يطرُدْني الكولونيل إمزورث …»
«يطرُدك!»
«حسنًا، هذا ما آلت إليه الأمور. إنه رجل غليظ القلب. كان، في عنفوان مجده، أشدَّ قيادات الجَيش صرامةً وحزمًا، كما كان سليطَ اللسان أيضًا. ما كنتُ لأتحمَّل الكولونيل لولا إكرامي لجودفري.»
أشعلتُ غليوني وتراجعتُ مُسترخيًا في مقعدي.
«هلا أوضحتَ ما تعنيه!»
ابتسم عميلي ابتسامةً عريضة لا تخلو من خُبث.
ردَّ السيد دود قائلًا: «كنتُ قد بدأتُ أفترِض أنك تُحيط بكلِّ شيء علمًا دون حاجة إلى إخبارك. لكنني سأروي لك الحقائق وأدعو الله أن تنجح في تفسيرها لي؛ فقد بتُّ الليل كلَّه مُنشغِلَ الفكر بهذه الواقعة، وكلما أنعمتُ فيها النظر، ازدادتِ استِعصاءً على التصديق.
تزامن التِحاقي بالجيش في يناير عام ١٩٠١ — أي منذُ عامين — مع انضِمام الشابِّ جودفري إمزورث إلى سرية الخيالة نفسها. كان جودفري الابن الوحيد للكولونيل إمزورث — إمزورث الحائز على صليب فيكتوريا لبطولته أثناء حرب القِرم — وورِث عنه الرُّوح القتالية؛ ولذلك لا عجَبَ في انضِمامه مُتطوِّعًا. كان ألطفَ مَن في الكتيبة. نشأتْ بيننا صداقة؛ ذلك النوع من الصداقات الذي لا يُمكن أن يُولَد إلَّا بِمُعايشة الحياة نفسها ومُشاركة الأفراح والأتراح عينِها. لقد كان رفيقي، وهو أمر يعني الكثير في حياة الجُندية. أمضَيْنا عامًا من القتال الشرس، تقاسَمْنا خلاله لذَّة السرَّاء ومرارة الضرَّاء. ثم حدَث أن أصابتْه رصاصة من إحدى البنادق الضخمة أثناء القتال بالقُرب من دياموند هيل خارج مدينة بريتوريا. تلقَّيتُ بعدَها رسالة منه أثناء وجوده في المستشفى بمدينة كيب تاون، وأخرى أثناء إقامته بمدينة ساوثهامبتون، ومنذ ذلك الحين لم يُرسِل إليَّ بكلمةٍ واحدة، ولا كلمة واحدة يا سيد هولمز، على مدى ستة أشهر ويزيد، وهو أقرب أصدقائي.
حسنًا، بعدما وضعَتِ الحربُ أوزارها وعُدنا جميعًا إلى دِيارنا راسلتُ والدَه مُستعلمًا عن مكان جودفري، لكنَّني لم أتلقَّ ردًّا، فانتظرتُ قليلًا ثم راسلتُه مُجدَّدًا، تَلَقَّيْتُ ردًّا هذه المرة، وكان قصيرًا وفظًّا. لقد انطلق جودفري في رحلةٍ بحرية حول العالم، ولن يعود على الأرجَح قبل عام. كان هذا كلَّ ما في الأمر.
لم أقتنِعْ بذلك يا سيد هولمز. بدا لي الأمر برُمَّته غريبًا جدًّا. لقد كان شابًّا وفيًّا ولن يَهْجُرَ صديقًا بهذه الطريقة. لم يكن هذا النَّمطَ من الشخصيات. ثم صادَفَ أن نما إلى علمي أنَّ جودفري كان وريثًا لثروةٍ من المال، وأنه ووالده لم يكونا على وفاقٍ دائمًا؛ فالعجوز كان مُتسلطًا أحيانًا، وكان جودفري ذا طبع مُتمرِّد ولم يكن ليتحمَّله. لا، لم أقنَعْ بهذا الرد، وعزمتُ على التقصِّي عن السبب الحقيقي لاختفاء صديقي. لكن حدَث أن احتجْتُ احتياجًا شديدًا، بعد عامَين من الغياب، إلى إعادة ترتيب شُئوني؛ ولذلك لم يتسنَّ لي استئنافُ مُتابعتي لقضيَّة جودفري إلَّا هذا الأسبوع، لكن بِما أني قد التفتُّ إلى القضية مُجددًا، فإني عازِم على نبْذِ كلِّ ما سواها والتفرُّغ لها.»
بدا لي السيد جيمس إم دود من ذلك الطراز الذي يَحْسُن بك كسْبُ صداقتِه لا عَداوته؛ فعَيناه الزَّرقاوان صارِمتان وفكُّه المُربَّع مشدود وهو يتحدَّث.
بادرتُه مُتسائلًا: «حسنًا، ماذا فعلت؟»
«كانت خطوتي الأولى هي الوصول إلى منزله في توكسبري أولد بارك، بالقُرب من بدفورد؛ لمُعاينة الوضع بنفسي؛ لذلك خطَطْتُ رسالةً إلى والدته — فقد لاقيتُ ما يكفيني من والِدِه الفظِّ — باغتُّها فيها مُباشرةً بهجومٍ بارع، فأخبرتُها أنَّ جودفري كان صديقًا حميمًا لي، وأن لديَّ الكثير من التفاصيل المُثيرة بشأن تجاربنا المُشترَكة ممَّا قد أقصُّه عليها، وسوف أكون بالجوار، فهل ثمَّة اعتراض؟ … إلخ. تلقَّيتُ منها ردًّا في غاية اللُّطف وعرضًا باستِضافتي لليلة. هذا ما ساقَني إلى هناك يوم الاثنين.
من الصَّعب الوصول إلى توكسبري أولد هول؛ فهي على بُعد خمسة أميال من أقرب منطقة آهِلة بالسُّكان، ولم يكن في المحطة عربات؛ لذا اضطُررْتُ إلى المسير حاملًا حقيبة السفر، ولم أنفكَّ سائرًا حتى حلَّ الظلام تقريبًا ولمَّا أبلغْ وِجهتي بعد. كان منزلًا عظيمًا يقِف كالشريد وسط مُتنزَّهٍ ضخم. كان المنزل في تقديري مزيجًا من جميع الحِقَب والطُّرُز؛ فمَبدؤه أساسٌ نِصف خشبي يرجِع إلى الحِقبِ الإليزابيثية ومُنتهاه رُواق فيكتوري مُعمَّد. أما من الداخل، فكانت الجُدران جميعها مُغطَّاة بالألواح المؤطَّرة واللوحات النَّسيجية المُزخرفة والصُّور العتيقة التي طمَسَ الزمان نِصف ملامِحها. بدا كأنه منزل تَحفُّه الظلال ويَلفُّه الغموض. وجدتُ في استقبالي كبير الخدم، وهو رجل عجوز يُدْعَى رالف، خُيِّل إليَّ أنه يُضاهي هذا المنزل هِرَمًا، كما رأيتُ زوجته، والتي ربما تكبُره سنًّا. كانت العجوز مُربِّية جودفري، وسبق أن سمعتُه يصِفها بأنها أقربُ الناس إلى قلبه بعد والدته مُباشرةً؛ لذلك ألفَيتُ نفسي مُنجذبًا إليها رغم هيئتها المُريبة. أُعْجِبْتُ بوالدته كذلك؛ فقد كانت امرأةً رقيقةً وديعة ضئيلة الحجم. لم يُزعِجني إلَّا الكولونيل نفسه.
سُرعان ما نشَب بينَنا شِجار بسيط، وكنتُ سأرجِع قافلًا إلى المحطة لولا إحساسٌ راودَني أنَّها ربما تكون لُعبة حاكها ليدفَعَني إلى الرحيل. توجَّهتُ إلى مكتبه مُباشرةً، وهناك رأيته؛ رجل ضخم الجثة مُحْدَودب الظهر أدْخنُ اللون ذو لِحيةٍ شعثاء رمادية، يجلس خلف مكتبه المُبعثر. لمحتُ أنفَه ذا العُروق الحمراء بارزًا كمنقار النَّسر، وعينيه الرَّماديتَين القاسِيَتَين مُطلَّتَين من تحت حاجِبَين كثيفَين وقد حدَّقتا فيَّ. يَسعُني الآن أن أفهم لماذا لم يكن جودفري يتحدَّث عن أبيه إلَّا لِمامًا.
استهلَّ حديثه معي بصوتٍ أجشَّ قائلًا: «حسنًا يا سيدي، إني أتطلَّع لمَعرِفة الأسباب الحقيقية وراء هذه الزيارة.»
فأجبتُه بأنني قد شرحتُ تلك الأسباب بالفعل في الخطاب الذي أرسلته إلى زوجته.
«أجل، أجل، قلتَ إنك تعرَّفت إلى جودفري في أفريقيا، وليس لدَينا بالطبع دليل إلَّا ادِّعاؤك.»
«أحتفِظُ بخطاباته إليَّ في جَيبي.»
«فضلًا أرِني إيَّاها.»
ألقى نظرةً سريعة على الخطابين اللذين ناولتُه إياهما ثم ألقاهما جانبًا.
ثم التفتَ إليَّ سائلًا: «حسنًا، ماذا بعد ذلك؟»
«لقد أحببتُ ابنك حبًّا جمًّا يا سيِّدي؛ فقد جمعنا الكثير من الروابط والذكريات. أمِنَ المُستغرب أن أتعجَّب من الانقطاع المُفاجئ لخطاباته وأن أرغَبَ في معرفة ما حدَث له؟»
«لقد راسلتُك من قبل، فيما أذكر، وأخبرتُك بالفعل بما حدَث له يا سيدي. لقد انطلق في رحلةٍ بحرية حول العالَم. لقد ساءت صحَّتُه بعد الذي تعرَّض له في أفريقيا ورأيتُ ووالدته أنه في حاجةٍ إلى الراحة التامَّة والتَّغيير. أرجو أن تَنْقُل هذا التوضيح إلى من قد يَهْتَمُّ بالأمر من أصدقائه.»
أجبتُه قائلًا: «بالتأكيد. لكن لعلَّك تتفضَّل بإخباري باسم الباخِرة والخطِّ المِلاحيِّ الذي أبحرَ عليه، بالإضافة إلى تاريخ إبحاره، وسوف أنجحُ بالتأكيد في مُراسلتِهِ.»
بدا لي أنَّ طلبي قد أربكَ الرَّجُل وأغضبَه. فدنا حاجِباه الكثَّان من عَينَيه وهو يَطْرُق بأصابعه الطاولة بنفادِ صبر، وأخيرًا رفعَ بصرَه إليَّ بنظرة مَن رأى خَصمَه على وشْك القِيام بحركة خطيرة في لُعبة الشِّطْرَنْج فقرَّر كيفيَّة مُواجهتها والتَّصدِّي لها.
ردَّ الكولونيل قائلًا: «قد يُثير إلحاحُك المُزعِج استياء الكثيرين، وربما يرَون أنَّ هذا الإصرار قد بلغَ حدَّ الصَّفاقة البغيضة.»
«لا بُدَّ أن تعزو سلوكي إلى مَحبَّتي الحقيقية لابنك يا سيِّدي.»
«بالضبط. فكلُّ تساهُلٍ معك كان مَرجِعُه هذا السبب، لكن عليَّ أن أطلب منك الكفَّ عن هذه الاستفسارات؛ فلكلِّ عائلةٍ تفاصيلها الداخلية ودوافعها الخاصَّة، والتي قد لا تتَّضِح دائمًا للغُرَباء مهما كان حُسْنُ نواياهم. إنَّ زَوجتي مُتلهِّفة لمَعرفة بعض التفاصيل عن ماضي جودفري، وهو أمرٌ في استطاعتك، ولكنِّي أسألُك أنْ تدَعَ عنك الحاضر والمُستقبل؛ فمثل هذه التساؤلات يا سيِّدي لا تُجدي نفعًا وتَضعُنا في موقفٍ دقيق وصعب.»
وصلتُ إلى طريقٍ مسدود يا سيد هولمز. لم يكن أمامي مَفرٌّ من التَّظاهر بتقبُّل المَوقف، لكنِّي قطعتُ عهدًا في قرارةِ نفسي ألا تقرَّ لي عينٌ قطُّ حتى أستَجلِيَ ما آل إليه مصير صديقي. كان مساءً مُملًّا؛ فقد تناول ثلاثتُنا العشاء في سكونٍ داخل غُرفة قديمةٍ باهتة الألوان تُخَيِّم عليها الكآبة. راحتِ السيدة تَسألُني بلهفةٍ عن ابنها، لكنَّ العجوز بدا مُتجهِّمًا مَحزونًا. سئمتُ الأمر بِرمَّته، حتى إنني استأذنتُ للانصِراف متى وجدتُ ذلك لائقًا وأويتُ إلى غرفة نومي. كانت غرفةً رحيبة شِبْهَ خالِيَةٍ في الطابق السُّفلي، لا تقلُّ كآبةً عن بقيَّةِ المنزل، لكن بعد عام من افتِراش سُهُوب جنوب أفريقيا، لا يُدقِّقُ المرء كثيرًا في مَحلِّ إقامته يا سيد هولمز. أزحتُ الستائر مُتطلعًا إلى الحديقة، ولاحظتُ أنها كانت ليلةً صافية وقد انتصف فيها القمر وسطع ضَوْءُه، ثم جلست بالقُرب من نِيران المدفأة المُستعِرة إلى جوار مِنضدة ذات مصباحٍ، وحاولتُ التَّشاغُل بمُطالَعة رواية، لكن رالف، كبير الخدَم العجوز، قاطَعَني بدخوله حاملًا دَفْعةً جديدة من الفحم.
«لقد خطر لي أنك قد تحتاج إلى مَزيدٍ من الفحم ليلًا يا سيِّدي؛ فالطقس قارسٌ وهذه الغرف باردة.»
تردَّد العجوز قبل مُغادرة الغرفة، وحين استدرتُ ألفيتُه واقفًا في مُواجهتي وقد علتْ وجهَهُ المُجعَّدَ نظرة مِلؤها الأسى واللهفة.
«أستميحُك عُذرًا يا سيدي، لكنَّني لم أستطِعْ مَنْعَ نفسي من استِراق السَّمْع إلى ما قُلتَه عن سيدي الشاب جودفري وقتَ العشاء. فأنت تدري يا سيدي أن زَوجتي قد أرضعتْه؛ ولذا فإنِّي بمنزلة أبيه، ومن الطبيعي أن نَهتمَّ لأمره. أحقًّا أبلى السيد جودفري بلاءً حسنًا يا سيدي؟»
«كان أشجعَ مَن في الكتيبة. لقد سحَبَني ذات مرَّةٍ من تحت بنادق البوير، ولولاه ما امتدَّ بي العمر لأكون ها هنا.»
«فرَكَ العجوز يدَيه النَّحيلتَين.»
«أجل يا سيدي أجل، هذا هو السيد جودفري تمامًا. دائمًا ما كان جَسورًا. ليس في المُتنزَّه شجرة إلَّا وتَسلَّقَها ولم يكن شيء يُوقِفُه. كان فتًى رائعًا يا سيدي، أوه، لقد كان رجلًا رائعًا.»
نهضتُ واقفًا.
ثم صحتُ قائلًا: «انظر! لقد قلتَ إنه كان. أنت تتحدَّث وكأنَّهُ قد مات. ما كلُّ هذا الغموض؟ ما الذي دها جودفري إمزورث؟»
أمسكتُ بكتِفِ الرجل العجوز، لكنه انكمش خوفًا.
«لا أدري ما تَعنيه يا سيدي. فلتسألْ سيِّدي عن السيد جودفري. هو يَعلم. ليس لي أن أتدخَّل.»
وهَمَّ بمُغادَرة الغرفة لكنِّي أمسكتُ ذِراعه.
وتوجهتُ إليه قائلًا: «اسمع. سوف تُجيبُني عن سؤالٍ واحدٍ قبل أن تُغادِرَ وإن اضطررتُ لاحتجازِك هنا طوال الليل. هل تُوفِّيَ جودفري؟»
لم يستَطِعِ النظر في عَينيَّ. تَسمَّر الرجل كالمسحور وانفرجتْ شفتاه عن جوابٍ خرج بشقِّ الأنفس. وكان جوابًا مُفزعًا وصادمًا.
صاح الرجل مُجيبًا: «ليتَهُ كان!» ثُمَّ تحرَّر من قبضتي واندفع خارجًا من الغرفة.
لعلك تتوقَّع يا سيد هولمز أنَّني عدتُ إلى مقعدي كاسِفَ البال، فكلمات العجوز لم تكن تحمل بالنسبة لي إلا معنًى واحدًا. من الواضح أن صديقي المسكين قد تورَّط في واقِعةٍ إجرامية أو مُشينة على الأقلِّ مسَّتْ شرفَ العائلة، وهو ما دفع ذلك العجوز الجافي إلى ترحيل ابنه بعيدًا وإخفائه عن الأعيُن لئلا يُفتَضح أمره. لقد كان جودفري شخصًا طائشًا سهل التأثُّر بِمَن حولَه. لا شكَّ أنه كان ضحيَّةً لأصحاب سوء أضلُّوه السبيل وقادوه إلى التَّهلُكة. إنه لأمرٌ مُثير للشفقة، لو صحَّ بالفعل، لكن حتى في تلك الحالة فإن من واجبي أن أبحثَ عنه وأرى إن كان بِوُسعي مدُّ يَدِ العَون إليه. وبينما كنتُ أُنعِم النظر في المسألة والقلق يَتملَّكني، رفعتُ بصري فإذا بجودفري إمزورث شاخِص أمامي.»
صمتَ عميلي لبُرهة كمن انغمس في لحظة انفعالٍ عميق.
ناشدتُه قائلًا: «أرجوك أن تُكمِل؛ فقضيَّتُك تأخُذُ مُنعطفًا شديد الغرابة.»
«كان واقفًا خارج النافذة، يا سيِّد هولمز، لاصقًا وجهه في مُواجَهة الزُّجاج. كنتُ قد أخبرتُك أنَّني ألقيتُ نظرة إلى الخارج ليلًا. حين فعلتُ ذلك، تركتُ الستائر مفتوحةً بعض الشيء. رأيتُ طيفَهُ مُحدَّدًا في هذه الفُرجة، بل تمكنتُ من رؤية كامل جسده؛ نظرًا لأنَّ النافذة كانت مُمتدَّة إلى الأرض، لكنَّ وجهه هو ما خطف بصري. كان شاحبًا كالمَوتى. لم أر قطُّ رجلًا بهذا الشُّحوب. أحسَبُ أنَّ الأشباح لا تختلِفُ عن تلك الهيئة؛ لكن عُيوننا تلاقتْ وكانت عَينيْ رجلٍ حي. عندما رآني ناظرًا إليه تراجِعَ سريعًا واختفى في حلكة الليل.
لاحظت شيئًا صادمًا فيه يا سيد هولمز. لم يكن مجرَّد وجهه المُروِّع الذي أومضَ وسط العَتْمة كقطعة الجُبن الأبيض، بل كان شيئًا أدقَّ من ذلك، شيئًا ما يَشي بالانسِلال والتَّخفِّي والشعور بالذنب، شيئًا لا يمتُّ بِصِلةٍ إلى ذلك الشاب الصريح المِقدام الذي عرفتُه. لقد خلَّف منظره شعورًا بالهلَع داخلي.
لكن حين تُمضِي عامًا أو اثنين جُنديًّا جنبًا إلى جنبٍ مع البوير، تتعلَّم رَباطة الجأش وسُرعة التصرُّف. لم يغِب جودفري عن ناظري حتى بلغتُ النافذة. كان للنافذة مِقبضٌ يعلق أثناء الاستخدام، فلم أنجح في فتح النافذة إلا بعد بُرهة، ثم اندفعتُ إلى الحديقة مُهرولًا في الاتجاه الذي حسبتُ أنه ربما يكون قد سلكَه.
كان المسار الذي سلكته في الحديقة طويلًا ولم يكن الضوء كافيًا، لكن بدا لي أنَّ شيئًا ما كان يتحرَّك أمامي فركضتُ وناديتُه باسمه لكن دون جدوى. لمَّا بلغتُ نهاية المَسار وجدتُ أمامي عدَّة مسارات أخرى مُتشعِّبة في اتِّجاهاتٍ مختلفة ومُؤدِّية إلى عدَّةِ مبانٍ خارجية. وقفتُ في حيرةٍ من أمري، وبينما أنا كذلك، إذا بي أسمع بوضوحٍ صوت بابٍ يُوصَد. لم يكن الصوت قادمًا من المنزل من خلفي بل من أمامي، من مكانٍ ما في الظُّلمة. كان ذلك كافيًا يا سيد هولمز ليؤكد لي أنَّ ما رأيتُه لم يكن أضغاث أحلام؛ فجودفري ركض هرَبًا منِّي وأوصَدَ بابًا دُونه. كنتُ على يقينٍ من ذلك.
لم يكن بوُسعي فِعل أيِّ شيء آخر، وأمضيتُ ليلةً قلقة أُقلِّب الأمر في ذِهني مُحاولًا إيجاد فرضيَّةٍ ما تتعامل مع الوقائع. لمَّا قابلتُ الكولونيل في اليوم التالي، وجدتُه أكثر مُسالمة، وعندما أشارت زوجتُه إلى وجود بعض المزارات المُثيرة للاهتمام في الجوار، وجدتُ في ذلك مدخلًا لأسألهما عمَّا إذا كان بقائي لليلةٍ أخرى سوف يُزعِجهما. قَبِل العجوز طلَبي كارهًا، وهو ما أتاح لي نهارًا صحوًا لإجراء ملاحظاتي. كنتُ على قناعةٍ تامَّةٍ حينئذٍ أنَّ جودفري مُختبئ في مكانٍ ما بالقُرب من هذا المنزل، لكن أين ولماذا؟ هذا ما لم أُحِط به علمًا.
كان المنزل كبيرًا للغاية ومُتراميَ الأطراف، حتى إنَّ كتيبةً كاملة قد تختبئ داخله دون أن يدري بها أحد؛ وإن كان السرُّ كامنًا داخله، فلن يكون كشفُه أمرًا سهلًا. لكنَّ الباب الذي سمعتُ صوت إغلاقه لم يكن داخل المنزل على وجه اليقين. لذلك كان عليَّ استِكشاف الحديقة ورؤية ما قد يتمخَّضُ عنه البحث. لم يكن ثمَّةَ صعوبةٍ في كيفية تنفيذ عملية البحث؛ فالعجوزان مُنشغِلان بأمورهما الخاصَّة وترَكاني وشأني.
كان هناك عدَّة مبانٍ خارجية صغيرة في الحديقة، لكن في نهايتها يوجَد مبنًى مُنعزل كبير نوعًا ما، تكفي مساحته لإقامة بُستانيٍّ أو حارس حيوانات. أيُمكن أن يكون هذا المبنى هو المصدر الذي انبعثَ منه صوت الباب المُوصَد ليلةَ أمس؟ اقتربتُ من المبنى مُتظاهرًا باللامُبالاة وكأنَّني أتجوَّل في الأنحاء على غير هدى، وإذا برجلٍ ضئيل رشيق ذي لِحيةٍ ومِعطفٍ أسود وقُبَّعة مُستديرة — لا يُشبِهُ عُمَّال الحدائق بأية حال — يدلف خارجًا من باب المبنى. ما أثار استِغرابي أنَّهُ أغلق الباب وراءه ووضع المِفتاح في جَيبه. التفتَ الرجل إليَّ مُتعجِّبًا بعض الشيء.
بادَرَني سائلًا: «هل أنت من زُوَّار هذا المكان؟»
فرددتُ بالإيجاب وأوضحتُ أني صديق لجودفري.
ثم تابعتُ قائلًا: «من المُؤسِف أنه غائب في أسفاره؛ إذ كان سيرغب بشدَّةٍ في رؤيتي.»
علَّق الرجل وقد بدا عليه الشعور بالذنب نوعًا ما: «تمامًا. بالضبط. لكنك ستُجدِّد الزيارة بالتأكيد في وقتٍ أكثر مُلاءمة.» ثم مضى في طريقه، لكنِّي حين التفتُّ لاحظتُ أنه يقِف ليُراقِبني، وقد توارى نِصفه وراء أوراق الغار المُتدلِّية في أقصى الحديقة.
أنعمتُ النظر في المنزل الصغير وأنا أمرُّ بجانبه، لكن النوافذ كانت مُغطَّاة بستائر كثيفة، وقد بدا لي المنزل خاليًا، بقدْر ما أجلى لي نظري. فكرتُ أنَّني ربما أُفسد خُطَّتي بل أُطرَد من المُتنزَّه لو بالغتُ في الجرأة؛ فقد كنتُ لا أزال مُدركًا أنَّني قَيد المُراقبة؛ ولذلك عدتُ أدراجي إلى المنزل وانتظرتُ حلول الليل قبل استئناف بحثي. وعندما خيَّم الظلام والسكون على كلِّ شيء، تسلَّلتُ من نافذة غرفتي وشققْتُ طريقي إلى الكوخ الغامض مُحاولًا قدر الإمكان التحرُّك في سكونٍ تام.
كنتُ قد ذكرتُ أن الكوخ مُغطًّى بستائر كثيفة، لكنِّي وجدتُ حِينها أنَّ النوافذ تحجُبها عن الأعيُن شبابيكُ خشبية أيضًا. غير أني لاحظتُ ضوءًا ما نافذًا عبر إحداها فأوليْتُه تركيزي. كنتُ محظوظًا؛ إذ لم يكن ستار النافذة مُحكمَ الغلق، وكان ثَمَّة شقٌّ في الشبَّاك الخشبي سمَح لي باختِلاس النظر إلى داخل الغُرفة. بدا لي المكان مُبهِجًا بما يكفي بما فيه من مِصباح ساطع الضوء ونار وهَّاجة. لمحتُ في مُقابلي الرجل الضئيل الذي لاقيتُه صباحًا. كان جالسًا يُدخِّن غليونه ويقرأ جريدة.»
قاطعتُه سائلًا: «أي جريدة؟»
بدا على عميلي الانزِعاج لمُقاطعة قصَّته.
تساءل: «أيُهمُّ ذلك؟»
«إنه أمرٌ ضروري للغاية.»
«في الحقيقة لم ألحَظ.»
«لعلَّك لاحظتَ إن كانت صفحاتها عريضةً أم صغيرة كتلك التي تُميِّز المجلَّات الأسبوعية.»
«أما وقد ذكرتَ نوع الصَّفحات الآن، فإني أذكر أنها لم تكن كبيرة. ربما كانت مجلة «ذا سبيكتيتور». لكني لم أُعِر مثل هذه التفاصيل انتباهًا؛ فقد رأيتُ رجلًا آخَرَ جالسًا مُولِّيًا ظهره إلى النافذة وبِوُسعي أن أُقسِم أنه كان جودفري. لم أتمكَّن من رؤية وجهه لكنني أعلَمُ مَيل كتِفَيه المألوف. كان مُستندًا إلى مرفقه كالمَكروب ومائلًا بجسده نحوَ نِيران المِدفأة. وقفتُ مُتردِّدًا بشأن ما ينبغي فِعله حين فاجأتْني نَقرَةٌ حادَّةٌ على كتِفِي، لأجِدَ الكولونيل إمزورث واقفًا إلى جواري.
قال بصوتٍ خافِت: «من هنا يا سيِّدي.» ثم سار في صمتٍ إلى المنزل وتَبِعتُه إلى غرفتي، وكان قد التقط جدول مواعيد من الرَّدْهة.
التفتَ إليَّ قائلًا: «ثَمَّة قطار مُتَّجِه إلى لندن الساعة الثامنة والنصف. ستكون العربة في انتظارك في الثامنة.»
كان الرجل مُمتقِع الوجه من الغضب. والحقُّ أنَّني أحسستُ بمدى صعوبة مَوقفي حتى إنَّني لم أجرؤ إلَّا على التلعثُم ببضعة اعتِذاراتٍ مُفكَّكة، حاولتُ من خلالها التِماس العُذر لنفسي لقلقي على صديقي.
قاطعَني بقوله: «لن يتحمَّل الأمر نِقاشًا. لقد انتهكتَ خصوصيَّة أُسرتي انتِهاكًا أشدَّ ما يكون بُغضًا. كنتَ زائرًا هنا ثم أمسيتَ جاسوسًا. ليس لديَّ ما أقول يا سيِّدي إلَّا أنَّني أرجو ألَّا أراك مُجدَّدًا أبدًا.»
عندها فقدتُ أعصابي يا سيِّد هولمز، وتحدَّثتُ ببعض الانفِعال:
«لقد رأيتُ ابنك وأنا على قناعةٍ بأنك تُخفيه عن العُيون لسببٍ ما خاصٍّ بك. ليس لديَّ أدنى فكرة عن دَوافِعك وراء عَزله بهذه الطريقة، لكنَّني مُتأكِّد أنه لم يَعُد حُرَّ الإرادة. إنَّني أُنذِرك يا كولونيل إمزورث أنَّني، إلى أن أطمئنَّ على سلامة صديقي، لن أدَّخِرَ جُهدًا للتوصُّل إلى حقيقة هذا اللُّغز، وبالتأكيد لن أدع أقوالك أو أفعالك تُرهِبُني.»
بدا العجوز بَشِعَ المنظر، وظننتُ حقًّا أنه على وشْكِ مُهاجمتي. ذكرتُ سلفًا أن العجوز كان ضخم الجُثَّة، عنيفًا، شرِسًا، ورغم أنَّني لستُ ضعيف البِنية، لكن ربما كنتُ سأواجِهُ مَشقَّةً بالِغةً في الدِّفاع عن نفسي في مُواجهته. وخلافًا لتوقُّعاتي، وبعد نظرةٍ طويلة مُتَّقِدة غضبًا، استدار فجأةً وخرَج من الغرفة. أما من جانبي، فقد استقللتُ القِطار المُحدَّد صباحًا وكلِّي عزم على التوجُّه إليك مُباشرةً طالبًا نُصحَك وعونك في المَوعد الذي راسلتُك طالبًا إياه.»
كانت تلك هي القضية التي عرَضها ضَيفي أمامي، وقد طرحت، كما سوف يتبيَّن بالفعل للقارئ الأَرِيب، بضعةَ مَصاعِبَ في حلِّها؛ إذ ليس أمامنا إلَّا الاستِعانة بِعدَدٍ محدودٍ للغاية من الخيارات للوصول إلى حقيقة المسألة. لكنَّ القصة لا تخلو، على بَساطتها، من الإثارة والغرابة، وهو ما قد يُبرِّرُ لي إدراجها في مُذكراتي. أقدمتُ على تضييق الحلول المُمكنة، مُستخدِمًا منهجي المُعتاد في التحليل المنطقي.
سألت السيد دود قائلًا: «بالنسبة إلى الخدَم، كم كان عددُهم في المنزل؟»
«على حدِّ علمي، لم يكن هناك إلَّا كبير الخدَم العجوز وزوجته. وكان نمَط حياتهما، فيما يبدو، أبسط ما يكون.»
«إذن لم يكن ثَمَّ خادِم في المنزل المُنعزِل؟»
«لا، اللَّهُم إلَّا إذا كان الرجل الضئيل ذو اللِّحية خادمًا. لكنه بدا لي أرفعَ منزلةً من ذلك.»
«يبدو ذلك مفعمًا بالدِّلالات. أتذْكُر أيَّ إشارة إلى أنَّ الطعام كان يُنقَلُ من هذا المنزل إلى الآخر؟»
«لقد ذكَّرتَني بسؤالك هذا أنَّني رأيتُ بالفعل رالف العجوز حاملًا سلَّةً وهو يسير في الحديقة صوب هذا المنزل. لم تخطُر على بالي حينها فكرة الطعام.»
«هل أجريتَ أيَّ تحرِّياتٍ في الجوار؟»
«أجل فعلت، فقد تحدثتُ إلى ناظر المحطة وصاحب الحانة في القرية. سألتهما ببساطة إذا ما كانا يَعرِفان أيَّ شيءٍ عن صديقي، لكنهما أكدا لي أنه غادَرَ في رحلةٍ بحرية حول العالم، وأنه قد عاد إلى الوطن لكن ما لَبِثَ أن انطلق مرَّةً أخرى في أسفاره. كان من الواضح أنَّ قصَّة سفره تَلقى قَبولًا من الجميع.»
«ألم تَبُح إليهما بشيء من شكوكك؟»
«لا.»
«تصرُّفٌ حكيم للغاية. لا شكَّ أنَّ المسألة تحتاج تحقيقًا لسَبْر أغوارها. سوف أعود معك إلى توكسبري أولد بارك.»
«اليوم؟»
تصادَف حِينها أنَّني كنتُ أفكُّ خُيوط القضية التي أشار إليها صديقي واطسون بقضية مدرسة آبي، وهي القضية التي كان دوق جرايمينستر ضالعًا فيها بشدَّة. هذا إلى جانِبِ المُهمَّة التي كلَّفَني بها سُلطان تركيا التي كانت تتطلَّبُ اتِّخاذ إجراءٍ فَوريٍّ نظرًا لخُطورة العواقب السياسية التي قد تنجُم عن إهمال هذه المُهمة؛ ومن ثَمَّ لم أتمكَّن من البدء في مأموريتي إلى بدفوردشاير بصُحبة السيد جيمس إم دود إلَّا مَطلَعَ الأسبوع التالي، حسبما تُشير مُذكراتي. اصطحبْنا في طريقنا إلى يوستن رجلًا وقورًا كتومًا مُتَّشِحًا بلَونٍ رمادي داكنٍ كنتُ قد اتَّفقتُ معه على الترتيبات اللازمة.
أخبرتُ دود مُوضِّحًا: «هذا صديق قديم لي. ربما يكون وجوده غيرَ مُهمٍّ على الإطلاق، وقد يكون، على النقيض من ذلك، ضروريًّا. لا داعي حاليًّا للخَوضِ في هذه المسألة.»
لا شكَّ أن القُرَّاء قد ألِفوا، من واقِع مَروِيَّات واطسون، طريقتي في عدَمِ إهدار الوقت في الحديث، أو البَوح بأفكاري والقضايا لم تَزلْ رَهْنَ البحث. بدا دود مُتعجِّبًا، لكن الحديث انتهى عند هذا الحدِّ وواصَلَ ثلاثتنا الرحلة معًا، ولم يَقطعْ صمتَنا إلَّا سؤال آخَرُ ألقيتُه على دود بينما نحن في القطار ووددتُ أن يسمعَهُ رفيقُنا الثالث.
«تقول إنك رأيتَ وجه صديقِك واضحًا تمامًا في النافذة، بحيث لا يُراوِدُك شكٌّ في شخصيته؟»
«ليس لديَّ أدنى شكٍّ في ذلك. لقد كان أنفه مُلتصِقًا بالزُّجاج وضوء المِصباح مُسلَّطًا بالكامل عليه.»
«ألا يُمكن أن يكون شخصًا آخر يُشبِهُه؟»
«كلا، كلا، كان جودفري.»
«لكنك تقول إنه تغيَّر؟»
«في لَونِه فقط. كان وجهه — كيف عساي أن أصِفَه؟ — باهتَ البياض. كان أمْهَقَ اللون.»
«وهل كان باقي جسده باهتًا؟»
«أعتقد لا. كانت جَبهتُه هي ما رأيتُه بوضوحٍ لالتِصاقها في الزجاج.»
«هل ناديتَهُ؟»
«أصابني من الذُّهول والفزَعِ حِينها ما ألْجَمَني، لكنني لاحقتُه بعدها، مِثلما أخبرتُك، لكن لم أُفلِح في اللَّحاق به.»
كانت القضية شِبهَ مُكتملة لا ينقُصُها إلا واقعة بسيطة لإنهائها. بعد رحلة طويلة، وحين وصلْنا إلى المنزل الغريب القديم المُترامي الأطراف الذي وصفَهُ عميلي، كان في استقبالنا رالف، كبير الخدَم العجوز. طلبتُ بقاء العربة طوال اليوم وسألتُ صديقي الكهل أن يَمكُثَ فيها ما لم نَستدْعِه. كان رالف، الذي كان رجلًا عجوزًا ضئيل الحجم مُجعَّد الوجه، يرتدي زيَّ الخدَم التقليدي المكون من مِعطفٍ أسودَ وسروالٍ مُلوَّنٍ بالأبيض والأسود، ولم يُخالف هذا المظهر التقليدي إلَّا شيءٌ غريب لافِتٌ للانتباه؛ إذ كان الرجل يرتدي قفَّازَين من الجلد لهما لونٌ بُنِّي، وبِمُجرَّد أن رآنا خلعَهُما ووضعهما على طاولة الرَّدْهة فيما كُنَّا ندلف إلى الداخل. حسبما أخبرَكم صديقي واطسون من قبل، فإن لديَّ طائفة من الحواسِّ الشديدة الدِّقَّةِ على نحوٍ غير مألوف، وهو ما مَكَّنَني من استِشعار رائحةٍ حادَّة لكنها خافِتة. بدا لي أن الرائحة مُنبعثة من مُنتصف طاولة الرَّدْهة. فالتفتُّ ووضعتُ قُبَّعتي على الطاولة، ثم أسقطتُها وانحنيتُ لألتقِطها مُتعمِّدًا أن أدنُوَ بأنفي على مرمى قدَمٍ من القفَّازَين. أجل، هذان القفَّازان هما بالتأكيد مصدر تلك الرائحة الغريبة الشَّبيهة برائحة القَطِران. توجَّهتُ إلى غُرفة المكتب وقد اكتملَتْ خُيوط قضيَّتي. من المؤسِف أن أُضْطَرَّ إلى كشْف أوراقي وأنا أقصُّ روايَتي! لا شكَّ أنَّ ما مكَّن واطسون من تقديم نِهاياته البرَّاقة هو إخفاؤه لمِثل هذه الحلقات في سلسلة الأحداث.
لم يكن الكولونيل إمزورث في غُرفته، لكنه سُرعان ما أقبل حين أبلَغَه رالف بِمَقْدَمِنَا. سمِعْنا خطواتِه الحثيثة الصاخِبة في المَمر، ثم ما لبِثَ أن انفتح الباب واندفع الرجل داخلًا بلِحيةٍ شعثاء وملامِح ممسوخة، وأحسَب أنِّي لم أرَ عجوزًا قطُّ أفظعَ منه هيئةً. أمسك بطاقتَي التعريف الخاصَّتَين بنا ومَزَّقَهما ثُمَّ وَطِئَ بقاياهما بقدَمِه.
«ألَمْ أُحذِّرْك أيها المُتطفِّل اللعين من الاقتراب من هذا المنزل؟ لا تتجرَّأ ثانيةً أبدًا على أن تُريني وجهك اللعين هنا. لو دخلتَ هنا مُجدَّدًا دون إذني، فسوف يكون لي مُطلَق الحقِّ في استعمال العُنف. سأطلِقُ النار عليك يا سيِّدي! قَسَمًا لأفعلنَّ!» ثم التفتَ إليَّ مُنذِرًا: «وبالنسبة إليك أيها السيد، فإني أُوَجِّه إليك التحذير نفسه. أعرِفُ مِهنتَكَ الوضيعة، لكن عليك أن تأخُذ مَواهِبَك المزعومة إلى مكانٍ آخر. لا مكان لكما ها هنا.»
ردَّ عميلي بحزْم: «لن أبرَح هذا المكان حتى يُخبِرني جودفري بنفسه أنه ليس رهنَ حبْس.»
دقَّ مُضيفنا المُكْرَه الجرَس.
قال مُخاطبًا رالف: «رالف، اتَّصِل بشُرطة المُقاطعة واطلُب من المفتِّش إرسال شُرطيَّين. أَخبِرْه أن بالمنزل لُصوصًا.»
عندئذٍ تحدثتُ قائلًا: «لحظةً واحدة. عليك أن تُدرِك يا سيد دود أنَّ الكولونيل إمزورث يُمارِس أحدَ حقوقه، وأنَّنا ليس لنا وضعٌ قانوني داخِل مَنزله. لكن في المُقابل، ينبغي عليه أن يُدْرِكَ أنَّ تصرُّفَك مدفوع بالكلية بقلقِك على ابنه. لديَّ من الإقدام ما يسمَح لي أن آمُل في أن يُتيح لي الكولونيل خمس دقائق للحديث معه، وأنا على يقينٍ أنَّني سأنجحُ في تغيير نظرته للأمر.»
أجاب المُقاتل العجوز: «نظرَتي لا تتغيَّر بتِلك السُّهولة. رالف، افعل ما أمرتُك به. ماذا تنتظِر بحقِّ الجحيم؟! اتَّصِل بالشُّرطة!»
قلتُ مُوصِدًا الباب بظهري: «لن يحدُث شيء من هذا. أيُّ تدخُّلٍ من الشرطة سوف يؤدِّي إلى حدوث الكارثة التي تخشاها.» وأخرجتُ دفتر مُلاحظاتي وخطَطْتُ كلمةً واحدة على ورقةٍ فصلتُها منه وناولتُها الكولونيل قائلًا: «ذلك هو ما ساقنا إلى هنا.»
حدَّق الرجل في الوَرَقة بِوَجهٍ تلاشى منه كلُّ تعبيرٍ عدا الذُّهول.
ارتمى الكولونيل على مقعده وهو يسألني وقد انقَطَعَتْ أنفاسُه: «كيف عرفت؟»
«وَظيفَتي هي معرفة الأمور. إنَّهُ عملي.»
جلس الكولونيل مُستغرِقًا في تفكيرٍ عميقٍ جاذِبًا لِحيتَهُ الشَّعثاء، ثم أومأ بإشارةٍ دلَّتْ على استِسْلامه.
«حسنًا، إذا كنتَ تودُّ رؤية جودفري، فلك هذا. لا أرغبُ في ذلك، لكنك أكرهْتَني. رالف، أبلِغِ السيِّد جودفري والسيِّد كِنت أنَّنا سنكون مَعهما بعد خمس دقائق.»
بعد خمس دقائق اجتزْنا ممرَّ الحديقة لنجِد أنفُسنا في النهاية أمام المنزل الغامِض، وقد وقَفَ لدى الباب رجل ضئيل ذو لِحيةٍ بدا عليه ذهول شديد.
بادر الرجل قائلًا للكولونيل: «هذا أمر مُفاجئ للغاية أيُّها الكولونيل إمزورث. إنَّ من شأنه أن يُفسد كلَّ خُططِنا.»
«لا يُمكنُني منع ذلك يا سيد كِنت. نحن مُجبَرون. هل يُمكن للسيد جودفري أن يُقابِلنا؟»
«أجل، إنه مُنتظِر بالداخل.» استدار الرجل وقادَنا إلى غرفة جلوسٍ كبيرة بسيطة الأثاث، حيث يقِف رجلٌ مُولِّيًا ظهرَه صوبَ نِيران المِدفأة، وبمُجرَّد أن لمَحَه عميلي اندفع مُقبلًا عليه باسطًا ذِراعَيه نحوَه:
«جودفري، يا صَاحِ، هذا رائع!»
لكن جودفري ردَّه:
«لا تلمِسْني يا جيمي. لا تقترِب. أجل، ستُحدِّق فيَّ بالطبع! لا أبدو مُطلقًا الجندي الأول إمزورث الذي كان يخدُم في سَرِيَّة الخيالة (ب). أليس كذلك؟»
كانت هيئته غريبة بالطبع. بوُسعِ المرء أن يلحَظ أنه كان بالفعل رجلًا وسيمًا، ذا تقاسيمَ واضحةٍ لفحَتْها شمس أفريقيا، غير أنَّ هذه التقاسيم الداكنة تعلوها بُقَع غريبة ضاربة إلى البياض، ظهَرَ جِلدُه بسبَبِها باهِتًا.
أردفَ جودفري قائلًا: «لهذا لا أُرحِّب بالزائرين. لستُ مُنزعِجًا منك أنت يا جيمي، لكنِّي كنتُ أُفضِّل عدم حضور صديقك. أعتقِد أنَّ ثَمَّة سببًا وجيهًا لحضوره، لكنك وضعتَني في موقِفٍ ضعيف.»
«أردتُ التأكُّد أنَّ كلَّ شيءٍ على ما يُرام يا جودفري. رأيتُك في تلك الليلة وأنت تنظُر عبر نافذتي ولم أستطِع أن أدَعَ المسألة تمرُّ مرور الكرام حتى أستوضِحَ الأمور.»
«أخبَرَني رالف العجوز بوجودك، ولم أستطِعْ منع نفسي من رُؤيتك خِلسة. وددتُ لو أنك لم تَرَني، واضطُررتُ إلى الرَّكض نحوَ مخبئي حين سمعتُ صوتَ فتح النافذة.»
«لكن بِحقِّ السماء أخبِرْني، ما الأمر؟»
أجاب جودفري وهو يُشعل سيجارة: «حسنًا، إنها قِصَّة ليست طويلة. أتذكُر تلك المَعركة التي نشبَتْ صباحًا في بافلسبريت، خارج مدينة بريتوريا، على خطِّ السكة الحديدية الشرقي؟ أظنُّك قد سمِعْتَ أني أُصِبْت. أليس كذلك؟»
«بلى، سمعتُ ذلك، لكنِّي لم أعرِف أيَّ تفاصيل.»
«انفصل ثلاثة مِنَّا عن باقي الكتيبة. قد تذكُر أنَّ جنوب أفريقيا كان بلدًا وعرًا للغاية. كان معي سيمبسون — ذلك الشابُّ الذي كنَّا ندعوه بالدي سيمبسون — وأندرسون. كنَّا نُطارِد أحدَ البوير، لكنَّه توارى عن أنظارنا ثم تربَّص لنا وقبَضَ على ثلاثَتِنا. قُتِلَ زَميلايَ وأُصِبْتُ أنا برصاصة من إحدى البنادق الضخمة في كتِفي، لكنَّني نجحتُ في التشبُّثِ بفَرَسي الذي ظلَّ يعدو عدَّة أميالٍ حتى أُغْشِيَ عليَّ وتدحرجتُ ساقطًا من فوق السرج.
لمَّا أفقتُ كان الليل قد حلَّ. استجمعتُ قواي لأنهض، وكنتُ في غاية الوَهَن والإعياء. فُوجِئْتُ بمنزلٍ قريبٍ منِّي، منزل كبير نوعًا ما ذي مدخلٍ واسع ونوافذ كثيرة. كان البرد قارسًا. تذكر ذلك البرد الذي كان يَحلُّ مساءً فيُفقِدك الإحساس بأطرافك، برد رهيب يجلب المَرَض، مُختلِف تمامًا عن الصقيع المُنعش الصِّحِّي. حسنًا، كدتُ أتجمَّد من البرودة، وبدا أملي الوحيد يكمُن في الوصول إلى ذلك المنزل. نهضتُ مُترنِّحًا ورحتُ أجرُّ قدميَّ، لا أكاد أعي ما أفعل. لديَّ ذكرى ضبابية عن ارتقائي الدَّرَج ببطءٍ ودخولي عبر بابٍ مفتوح على مصراعيه دالفًا إلى غرفة كبيرة تضمُّ عدَّةَ أسرَّة وارتمائي على أحدِها مُطلِقًا شهقةَ رضًا. لم يكن الفِراش مُرتَّبًا لكن هذا لم يُزعِجْني البتَّة. ما كان مِنِّي إلَّا أنْ ألقَيتُ الملابس على جسدي المُرتَعِش وغططتُ في سُباتٍ عميق في ثوانٍ.
استيقظتُ صباحًا، وبدلًا من أنْ أُفيق على عالمٍ عاقل، وجدتُ نفسي، كما بدا لي، في كابوسٍ شديد الغرابة. تسلَّلتْ أشعة الشمس الأفريقية عبر النوافذ الضخمة العارية من الستائر وانْجَلى واضحًا أمام ناظريَّ عنْبرٌ مُتَّسِع قليل الأثاث ذو جُدران بيضاء. رأيتُ أمامي رجلًا ضئيلًا يُشبِهُ الأقزام له رأس ضخم مُنتفِخ يرطُنُ بانفِعال بكلماتٍ هولندية، مُلوِّحًا بِكفَّين مُخيفتَين بدَتا لي مثل الإسفنج البُني، وخلفَه مجموعة من الأشخاص يبدو عليهم الاستِمتاع الشديد بالمَوقف، لكنِّي بمجرَّد أن رأيتُهم سرَتْ قشعريرة في أوصالي. لم يبدُ أحد منهم إنسانًا طبيعيًّا؛ فكلُّ فردٍ فيهم كان مُحوَّرًا، أو مُتوَرِّمًا، أو مُشوَّهًا بطريقةٍ ما غريبة. كان لضَحِكات تلك المُسوخ الغريبة وقْعٌ مُروِّع على مَسامعي.
بدا لي أنَّهم لا يُجيدون الإنجليزية، لكنَّ المَوقِفَ كان في حاجةٍ إلى توضيح؛ إذ ازداد ذلك الكائن الكبير الرأس غضبًا، وراح يُطلِق صيحاتٍ مَسعورة وهو يضع كفَّيه المُشوَّهتَين على جسدي ويَجُرُّني من فوق الفِراش، غير عابئ بالدَّم المُتدفِّق من جُرحي. كان الوَحش الصغير قويًّا كالثيران، ولا أدري ما كان سيُصيبني على يديه لولا تدخُّل رجلٍ مُسنٍّ استرْعَتِ انتباهه تلك الجلبة، وكان من الواضح أنه ذو سلطة في المكان؛ إذ نَطَق ببضع كلماتٍ صارمة باللغة الهولندية فتراجِعَ القِزْم مُنكمشًا، ثُمَّ التفتَ الرجل إليَّ مُحدِّقًا فيَّ وعلى وجهه أشدُّ أمارات الدَّهشة.
سألني الرجل في ذهول: «كيف وصلتَ إلى هنا؟ انتظر قليلًا. أرى أنك مُنهَك القوى وأنَّ كتِفك المُصابة في حاجةٍ إلى عِناية. أنا طبيب وسوف أُضمِّد جُرحَك حالًا. ولكن، يا للهول! إنَّ الخطر الذي يُحدق بك هنا أشدُّ كثيرًا ممَّا كنتَ تُواجِهه في ميدان المعركة. أنت داخل مستشفى الجُذام، وقد نمتَ في فِراش مُصاب بالجُذام.»
هل من حاجةٍ إلى أنْ أخبرك المزيد يا جيمي؟ يبدو أنه مع اقتِراب المعركة، جرى إجلاء جميع هذه المخلوقات البائسة قبل نُشوبها بيَوم، وحين تقدَّمتِ القوَّات البريطانية أعادهم إلى المستشفى هذا المُشرِف الطبي، الذي أكد لي أنه لم يَجْرؤ قطُّ على ارتكاب ما فعلتُه، رغم ثِقته بحَصانتِه ضِدَّ المرَض. وضعَني الرجل في غرفةٍ خاصَّة وأحسَنَ مُعاملتي وسُرعان ما نُقِلت إلى المستشفى العام في بريتوريا خلال أسبوع تقريبًا.
ها قد علمتَ مأساتي. ظللتُ مُتشبِّثًا بأهداب الأمل، لكن بمجرَّد أنْ وصلتُ إلى منزلي ظهرتْ تلك الأعراض البَشِعة التي تراها على وَجهي، لتُخبرَني أنَّني لم أنجُ. ماذا كان عسايَ أن أفعل؟ أقمتُ في ذلك المنزل المُوحِش مع خادِمَين نَثِقُ بهما ثقةً تامَّة، وكان هناك منزل يُمكنني أن أعيش فيه؛ لذلك أبدى السيد كِنت، وهو جرَّاح، استِعداده للمُكوث معي، مع تعهُّدٍ بإبقاء الأمر سرًّا. بدا الأمر بسيطًا بما يكفي في ظلِّ هذه الترتيبات. أما البديل فكان مُريعًا، عَزْلي للأبَدِ وسط غُرَباء دون أملٍ مُطلقًا في إطلاق سراحي. لكن السرِّيَّة التامَّة كانت ضرورةً حتمية، وإلَّا لشهِدَتْ تلك المنطقة الريفية، على هدوئها، احتجاجًا جماعيًّا يَسوقُني إلى مصيري المُروِّع. حتى أنت يا جيمي، كان لا بُدَّ من إخفاء الأمر عنك. لا أكاد أتصوَّر السبب الذي دفع والدي للرُّضوخ.»
أشار الكولونيل إمزورث نحوي.
«هذا السيد هو من أرغمني.» وأخرج القُصاصة الورقيَّة التي كتبتُ عليها كلمة «الجُذام». «رأيتُ أنَّهُ ما دام على هذا القدْر من الاطِّلاع على الأمر، فمِن الأحوط أن يعرِف كلَّ شيء.»
قلتُ مُعلقًا: «وهو كذلك بالفعل؛ فمن يدري؛ لعلَّ اطِّلاعي على المشكلة يأتي بخير؟ أعرِف أن السيد كِنت فقط هو من رأى المريض. أتسمَح لي يا سيدي أن أسأل إن كنتَ مُتخصِّصًا في مثل هذه الشكاوى المرَضية ذات الطبيعة الاستوائية أو شِبه الاستوائية، حسبما أفهم؟»
ردَّ السيد كِنت بتحفُّظٍ نوعًا ما: «لديَّ المَعرفة العادية التي تُميِّز الأطباء المُتعلمين.»
«لا شكَّ لديَّ يا سيدي في كفاءتك التامَّة، لكنَّني مُتأكد أنك ستتَّفِق معي أنه من الأهمية بمكانٍ في مثل هذه الحالات طلَبُ رأيٍ ثانٍ. أتفهَّم أنك تجنَّبتَ هذه الخطوة خشيةَ تعرُّضك لضغوطٍ تدفعك إلى عزْل المريض.»
تدخَّل الكولونيل مؤيِّدًا: «الأمر كذلك بالفعل.»
قلتُ مُوضِّحًا: «لقد توقَّعتُ هذا الموقِف وأحضرتُ معي صديقًا يُمكن الوثوق الكامل في كِتمانه الأمر. أسديتُ له ذات مرَّةٍ خِدمة مِهنيَّة وهو على استعداد لإسداء المَشورة كصديقٍ لا كمُتخصِّص. إنه يُدْعَى السير جيمس سوندرز.»
كان العَجَب والسرور البادِيَين الآن على وجه السيد كِنت لا يَقلَّان عمَّا كان سيُثيره تطلُّع مُلازمٍ أول لمُقابلة اللورد روبرتس.
تمتمَ السيد كِنت مُوافقًا: «يُسعِدني ذلك بالفِعل.»
«إذن سوف أطلُب من السير جيمس القدوم. إنه في العربة عند الباب. في تلك الأثناء ربما يَسعُنا الاجتماع في مكتبك يا كولونيل إمزورث لأُقَدِّم التَّوضيحات اللازمة.»
أجِد نفسي في تلك المرحلة مُفتقدًا صديقي واطسون؛ فبِفضل تَساؤلاته البارِعة وتعبيراته المُفاجئة عن الدَّهشة، كان ينجَح في الارتقاء ببراعَتي البسيطة، والتي لا تعدو كونَها إعمالًا منهجيًّا للمنطِق السليم، إلى منزلة الأعجوبة، وهو عونٌ أفتقِده حين أقصُّ رُوايَتي بنفسي. ورغم ذلك، سأشرحُ العملية الفكرية التي توصَّلتُ من خلالها لحلِّ القضية، تمامًا كما أوضحتُها لجمهوري المحدود داخل مكتب الكولونيل إمزورث، والذي ضمَّ والدة جودفري.
استهللتُ حديثي قائلًا: «تبدأ تلك العملية بافتِراض أنه بعد تنْحِيةِ كلِّ ما هو مُستحيل، فإن ما يتبقى، أيًّا ما كان، حتى وإن كان غير وارد، هو الحقيقة لا رَيب. غالبًا ما تتبقَّى عدَّة تفسيرات، يُجرِّب المرء عندئذٍ اختبارًا تلوَ اختبارٍ حتى يتبيَّن له أنَّ أحد تلك التفسيرات يَحظى بقدْرٍ مُقنِعٍ من الشَّواهد الداعمة. سوف نُطبِّق هذا المبدأ على القضية محلَّ بحثنا. حين طُرِحَت عليَّ القضية في البداية، كان أمامي ثلاثة تفسيرات مُحتملة لانعِزال هذا الشاب أو احتِجازه في مبنًى خارجي في قصر والده: إما أنه مُختبئ لارتكابه جريمة، وإما أنه مجنون ويودُّ ذَووه تجنُّب إيداعه مصحَّةً عقلية، وإما أنه مُصابٌ بمرضٍ ما تسبَّب في عزْله. لم أستطع التفكير في أيِّ حلولٍ أخرى مُلائمة. كان عليَّ بعد ذلك تَمحيص تلك الحلول والمُوازَنة بينها.
لم يكن ثَمَّة ما يُبرِّر التحقيق في الحلِّ الجنائي؛ إذ لم ترِد من تلك المُقاطعة تقارير عن وقوع جرائم لم يُتوصَّل إلى مُرتكبيها. كنتُ مُتيقِّنًا من ذلك. أما إن كانت جريمة لم يُكشَف بعدُ عنها، فلا بدَّ أنه سيكون من مصلحة العائلة التخلُّص من المُذنِب بترحيله إلى خارج البلاد لا بإخفائه في منزلهم. ولا أجِد تفسيرًا لمثل هذا التصرُّف.
بدا الجُنون سببًا أكثر معقولية. ووجود شخص ثانٍ داخل المبنى الخارجي يُوحي بأنه حارس. وممَّا عزَّز تلك الفرضية وأوحى بفكرة الحبْس هو إغلاقه الباب عقب خُروجه. لكن هذا الحبْس، في المُقابل، لم يكن مُشدَّدًا، وإلَّا لما استطاع الفتى الشاب التحرُّر من محبَسِه والخروج لاختلاس النظر إلى صديقه. تذكَّر يا سيد دود أني كنتُ أتحسَّس بحثًا عن أيِّ دليل، إذ سألتُك مثلًا عن الجريدة التي كان يقرؤها السيد كِنت. فلو كانت «ذا لانست» أو «ذا بريتيش ميديكال جورنال» لساعَدَني ذلك على تدعيم تلك الفرضية. غير أنه لا يُحْظَر قانونًا إبقاء شخصٍ مجنون داخل المُنشآت الخاصَّة ما دام في صُحبة شخصٍ مُؤهَّل للتَّعامُل معه وطالما أُبلِغَت السُّلطات على النحو الواجب. ما السبب، إذن، وراء هذه الرَّغْبة المُستميتة في إبقاء الأمر سرًّا؟ عجزتُ مجدَّدًا عن التوفيق بين الفرضية والوقائع.
لم يتبقَّ إلَّا الاحتمال الثالث، والذي يبدو، على نُدرة وقوعه وضعف إمكانيته، مُتفقًا مع كلِّ الحقائق؛ فالجُذام من الأمراض الشائعة في جنوب أفريقيا، وربما انتقل إلى الشابِّ في مُصادفةٍ ما غريبة. لا شكَّ أن ذَويه سيكونون في وضعٍ رهيب للغاية؛ إذ سيَرغبون في إنقاذ ابنهم من العزْل؛ ولذلك لا بُدَّ من إحاطة الأمر بالسرِّيَّة الشديدة منعًا لانتشار الشائعات وما يتبَعُها من تدخُّل السُّلطات. من السهل العثور على طبيبٍ مُتفانٍ يَقبل تولِّي مسئولية المُصاب مُقابِلَ أجرٍ مادِّيٍّ مُجزٍ. وليس ثَمَّة ما يمنع منح المُصاب حُرِّيته بعد حلول الظلام. يعَدُّ بَهَتُ الجلد إحدى نتائج الجُذام الشائعة. كانت الدلائل قوية، قوية إلى الحدِّ الذي جعلني عازمًا على التصرُّف وكأنَّ القضية مَحسومة بالفعل. عندما وصلتُ إلى هنا ولاحظتُ ارتداء رالف، الذي يَحمِل الوجبات، قُفَّازَين مُشبَّعَيْن بالمُطهِّرات، زال آخِرُ شكوكي. إنَّ كلمةً واحدة أثبتَتْ لك يا سيِّدي أنَّ سرَّك قد انكشف، وإخبارك بها كتابةً لا لَفْظًا إنما كان لأُثْبِتَ لك أنِّي جدير بكِتمان سرِّك.»
كنتُ بصدَدِ خِتام هذا التحليل القصير للقضية حين انفتح الباب ليدخل طبيب الأمراض الجلدية الكبير ذو الهيئة الوَقورة والملامح الصارمة. ولكني لاحظتُ أن مَلامِحَه الجامِدَة قد تهلَّلَت، على غير العادة، ولمستُ في نظراته دِفء المشاعر الإنسانية. أقبل الطبيب نحو الكولونيل مُسرِعًا وصافَحَه.
استهلَّ الطبيبُ قوله: «قدَري أن أجلب الأنباء المُؤلِمة في الغالِب والأنباء السارَّة فيما نَدَر. هذه المرة هي الأكثر قَبولًا. إنه ليس بِجُذام.»
«ماذا؟»
«حالةٌ واضِحة من الجُذام الكاذِب أو السُّماك، وهو مرَضٌ جلديٌّ قِشريٌّ بشِعُ المَنظر يصعُبُ عِلاجُه لكن لا يستحيل، وهو يَقينًا غَيرُ مُعدٍ. أجل يا سيد هولمز، إنها مُصادَفةٌ عجيبة. لكن أهي مُصادَفَةٌ حقًّا؟ أليس هناك قُوى خَفِيَّة مُؤثِّرة لا ندري عنها إلَّا القليل؟ هل نحنُ مُتأكِّدون أنَّ الهلع الذي عانى منه هذا الشاب بالتأكيد مُعاناةً رهيبة منذ تَعرُّضه لمُسبِّبات العدوى لم يُحْدِثْ تأثيرًا جسديًّا من شأنه أن يُحفِّز المرَضَ الذي يَخْشاه؟ على أيِّ حال، إنَّني أُراهن على ذلك التشخيص بِسُمعَتي المِهنيَّة، لكن السيدة غُشِيَ عليها! أظنُّ أنه من الأفضل أن يبقى السيد كِنت معها إلى أن تتَعافى من صدْمة الفرَح هذه.»