مَوجَة نار
حينما شدَّت «نوتيلوس» الغوَّاصة الأميركية حبالهَا إلى مرفأ «مانيلا»، كنتُ أول من قَفَزَ منها إلى الشاطئ.
ولم يكن حافزي جوعي إلى النساء، أو شوقي إلى أكل الخضار والفواكه، ولا حدا بي إلى الإسراع تلك الأحلام التي تراود البحَّار في أسفاره من قناني وسكي، ويابسة صلبة تحت قدميه، وقامة ميَّاسة بين ذراعيه، بل إن عواطفي كانت متوترة توَّاقة إلى لقاء جميل السغبيني.
فجميل هذا هو مواطن لي، سكن «مانيلا»، ويعرف كل شيء عن لبنان حيث شببت، حتى ليسرد من أمور بلدتي «بعلبك» أكثر مما أعرف، فهو يذكر شوارعها، وراس عينها، وقلعتها، وساستها وبساتينها، وخيولها، ويعرف كذلك «أبو علي» ملحم قاسم، وأولاد دندش، وقائمقام بعلبك صلاح اللبابيدي.
وكان سبيل تعرُّفي إلى المواطن جميل السغبيني، النجمة السينمائية «غريتاغربو»؛ إذ ظهرت على الشاشة البيضاء ذات مساء، فأفلتت من شفتي لفظةُ إعجاب عربية، فلم أشعر إلا ويدان قويتان تهزَّان كتفيَّ، وفتًى يصيح من المقعد الخلفيِّ في دار تلك السينما: «ابن عرب؟» أجبت: «… وبعلبكي!»
ومنذ تلك الليلة نشأت بيني وبين جميل مودَّة أنْمتها الأيام، وشدَّت قلبي إلى قلبه حبالٌ أمتن من حبال غوَّاصتنا «نوتيلوس»، فكنت كلما رجعنا من سفرة تمارين حربية، أو من زيارة إلى مرفأ مجاور، هرعتُ إلى جميل وفي يديَّ هدية له أو لزوجته وطفلته؛ تلك الصغيرة التي كانت تدعوني «عمُّو». وكانت زوجته تغتفر لجميل تأخره عن الرجعة إلى البيت في المساء، ما دام «أسطول بعلبك» في الميناء.
ولعلَّ ما جذبني إلى جميل السغبيني تنوُّع شخصيته؛ فما أعاد عليَّ سرد قصة، ولا ردَّد نكتة. وقد أتركُ «مانيلا» وجميل مستخدم في مصرف، فأرجع إليها وهو مدير شركة أوتوموبيلات، ولعله بين الوظيفتين كان قد غامر بصفقة بورصة، وفتح ثم أقفل معمل بوظة. وكان يعجبني منه ثقته بنفسه إلى درجة عجيبة؛ فهو يروي لك كيف سيبْني الخزانات لنهري دجلة والفرات، وينشئ معامل الفخار والقرميد والخزف في شرقي الأردن، ويجعل من إحدى قرى «عكار» مزرعة عصرية مثالًا أعلى للزراعة العلمية، ويؤسس المدارس العربية في «جاوى». وحين ينتهي من خطابه يسألني اقتراض خمسة دولارات.
وإن مثل هذا السلوك، من غير جميل، يوحي الهزء. ولكنَّ الأثر الذي يتركه في النفس حديث جميل أن هذا الفتى سائرٌ إلى مبتغى سيدركه ولا ريب، وأن هذه الحاجة الوقتية، وتنوُّع أعماله، هما محطتان لا بدَّ من الوقوف بهما في الطريق إلى النجاح.
هكذا كانت «مانيلا» قاعدة «نوتيلوس» البحرية، تعبِّئ منها زيوتها ومؤنها وذخائرها، وكان جميل السغبيني قاعدتي الروحيَّة أستمدُّ منه الوحيَ والقوةَ والإيمانَ، وأدَّخرُ من ظرفه ونكاته وحكاياته ما يؤنس نفسي في أسفاري الموحشة.
لذلك كان قلقي عليه شديدًا، حينما احتلَّ اليابانيون مانيلا، وحينما دمَّرت تلك المدينة أساطيلنا الهوائية ومدافعنا البرِّية. وكنت كلما قرأت أنباء القتل والدمار التي نزلت بمانيلا، أسائلُ نفسي خائفًا: تُرى ما حلَّ بجميل وعائلته؟ وفي صيف ١٩٤٣م، أغرقنا باخرةً يابانية شماليَّ الفيلبين، وأسَرْنا منها ثلاثة فيلبينيين من موظفي الحكومة، أخبرني أحدهم أنه يعرف جميلًا، وأن جميلًا في سجن ياباني كثُر من يدخله، وندُر من يخرج منه.
وها أنا ذا في خريف ١٩٤٥م وقد استعادت قواتنا الأميركية «الفيلبين»، منذ شهور أجول «مانيلا» أسأل عن جميل، فلا ألقى من يعرفه، وأقصد إلى البيت الذي كان يسكنه، فلا أجد هناك إلا السورَ وقد اسوَدَّ من دخان الحرائق، فسألتُ نفسي هلِعًا: تُرى أين كان جميل وعائلته، إذ استحال منزله إلى دخان ورماد؟ واقتربت إلى رتاج البوابة … لا، ليس في الأمر من شك؛ فالنمرة التي اختبأت تحت حجاب من دخان — وغبار وأقذار — هي هي نمرة ٧٢٢.
ولقد أتعبني التجوال وأغمَّ قلبي ألم الخيبة، فجررت قدمين ثقيلتين، ودخلت إلى أقرب خمَّارة، وطلبت مشروبًا، فجاءوني بزجاجة سكَبت منها كأسًا لها طعم دم الأَبالسة، ولون الزنا، ورائحة الانتخابات النيابية في لبنان … ورحتُ أفكِّرُ في جميلٍ، وأتذكَّرُ. بلى تذكرت ليلة اشتدَّ المرض على زوجته، وكان بها شغوفًا، وكنتُ إلى جانبه في المستشفى؛ إذ خرج الأطباء الثلاثة من غرفتها فتقدم منه عريفُهم، وهزَّ رأسه مُعزيًا قائلًا: «إن الزوجة ستموت بعد ساعاتٍ.» وتذكرتُ كيف انتفض جميلٌ وصاحَ: «إن علمَكم كاذبٌ. إن زوجتي ستُشفى، فلو أنها في طريقها إلى الموت، لكانَ ارتعبَ قلبي، وقلبي ساكنٌ غير خائفٍ.» وذكرتُ كيف سَلمت الزوجةُ، بسبب أن قلبَ جميل لم يرتعب. قلت لنفسي: «وأنا كذلك شغوفٌ بجميل وقلبي غير مروَّع، تُرى هل تفوز الصوفية مرة ثانية؟»
وضربت بقبضتي على الطاولة صائحًا: «إن جميلًا حيٌّ.» وكأنما أجفل من صيحتي رجلٌ كان واقفًا حذاء الباب، يقلِّبُ صفحات دفتر التليفون، فوقع الدفتر من يده، وانحنى يلتقطه، فوَمضَت إذ ذاك في ذاكرتي عبارة سمعتها من جميل: «إن أعسر الأمور على الإنسان أن يراها، هي الأمور الواضحة.» بلى، إن من الأمور الواضحة التي لم أرها، أن أفتش على اسم جميل في دفتر التليفون. فوثبت إلى الرجل الذي أجفَلته صيحتي، واختطفتُ الدفتر منه، ورحت أُقلِّبُ صفحاته: سين … سين … سابَنْكَا … سادولي … سغبيني، جميل نمرة ٥٠٢، بناية دافيس؛ فأقفلت الدفتر وأرجعته للرجل الذي كان يقلبه، منحنيًا أمامه معتذرًا، ورجعتُ إلى طاولتي راقصًا على اللحن السماوي الذي تصدح به تلك الموسيقى العلوية، وأفرغت بين شفتيَّ الرحيق الكوثريَّ الذي ملأ كأسي، ونقدتُ عشرة دولاراتٍ إلى الحوريَّة الفتَّانة التي كانت تجالسني، كذلك قبَّلتها في شفتيها وعنقها، ووضعت تحت إبطي تلك الصرَّة من سواكير، وصابون، وشفرات حلاقة، التي أتيت بها هدية لجميل، وأحسست أن بين ساقيَّ ألفًا من الخيول البعلبكية أهمزها لترمح بي إلى بناية دافيس.
ووقف بنا المصعد الكهربائي في الطابق الخامس، فانطلقت منه، فإذا الطابق كله مكتب واحد انتشرت فيه عشرات الطاولات، جلس خلفها رجال وفتيان وفتيات في كل الأعمار والألوان. وفيما أنا أُدِير عيني، أفتِّش عن جميل فلا أراه، اقترَبت مني إحدى كاتبات المحل، وسألتني مغازِلة: «هل لك من أمر؟» قلت: «إني أفتِّش عن جميل سغبيني، أُخبرتُ أنه يشتغل هنا.» قالت مداعبة: «إنه لا يشتغل هنا، ولكنه صاحب المحل، أعطِ اسمك هناك إلى سكرتيرته، وهي تسهِّل لك سبيل مقابلته.» ودارت تسير إلى طاولتها، فلم ألاحظ أنها فتانة في إقبالها وإدبارها، بل سرتُ إلى حيث السكرتيرة التي سألتني عن حاجتي في مقابلة «الرئيس». قلت: «أبغي أن أقدم تقريرًا عن أسطول بعلبك.»
وانفتح الباب وبان جميل.
وجمدت مكاني واقفًا تهتزُّ الكلمات على شفتيَّ ولا تنطلق، ويغْشَى الضباب عينيَّ ولا تندى دموعًا، بل رحتُ أتطلَّع إليه وأضحك. أما هو فبقي كذلك في كرسيِّه مبهوتًا، لم ينهض ولم يُقبلني، ولم يهزَّ يدي، بل مَكَثَ ينظر إليَّ باسمًا، إلى أن نطق أخيرًا؛ فقال: «إن كنت بحَّار بعلبك، لا طيفه، فارمِ بنفسك على ذلك الكرسي.»
فقعدت، وطفقنا نتحدث. بلى، لقد عانى أهوال السجن والتعذيب، والجوع، والخوف، وخرج من جهنم حكم اليابانيين نحيلًا فقيرًا. أخبار الوطن؟ كثيرة! القلعة لم تبرح بعلبك، و«رأس العين» لا تزال مياهها تجري.
وسألني بدوره أخباري، فقلت: إنها مختصرة؛ سماء، وماء، وبضعة بوابير يابانية ومدرعتان. فضحك وسرد لي أخبار غمار غواصتنا؛ إذ إنه كان قرأ الكتاب الذي ألَّفه قبطان الغواصة «نوتيلوس»، وعنوانه «سوريفاو» إلى مياه ظننَّاها أمينة، ففوجئنا بعشرات من قطع الأسطول الياباني، فغطسنا إلى قعر البحر، ولبثنا هناك ثماني ساعات، واليابانيون يرموننا بالقنابل من طياراتهم ومن بواخرهم المقاتلة.
وهدأ فوران نفسي، بعد انقضاء الوهلة الأولى، وانكشف الضباب عن عيني، فأخذت أنظر إلى جميل من جديد، فلم أجده الفتى الذي عهدتُ؛ فقد ضخُم وجهه وترهَّلَ، وعرُض جبينُه في صلعةٍ، ولقد اغتفرتُ له أنه لم ينهض للقائي ولم يمدَّ يده لمصافحتي، ولكنني لم أغتفر له ذلك الطنين الخفي في صوته الذي يقصيني عنه. كان فيما مضى في صوته نبرةٌ ثورة، وحدَّة إيمان استحالت الآن إلى هدوء مائع ساخر، وكنت قبل اليوم تشعر إذ تُحادثه أنك في حضرة مقاتل يجاهد في تحقيق أمر نبيل، وها هو يصدر الأوامر ويقضي الحاجات، كأنه عامل في مصنع ينزع المسمار من هنا ليضعه هنا، يفعل هذا في حذقٍ ودقة، ولكن بغير حماس. وكنت من قبل أرى حول رأسه هالة، كأنما هو قديسٌ أو ولي، فإذا بتلك الهالة أمست ضبابًا من كآبة؛ إذ تسرَّق إلى صوته حزنٌ عميق، ورنة يأسٍ لم أفقه معناها.
وصمتَ وصمتُّ.
ورحت ألاعب الصرَّةَ التي أردتها هديةً له، وأضحك من نفسي إذ إن محادثتنا قاطعها ظهور بعض مستخدمي المكتب، واحدًا إثر واحدٍ، ولم يسعني الآن أن أفهم من شظايا كلماتهم أنهم يمارسون التجارة بأرقام ضخمة: «أرسل ستين ألف دولار إلى نيويورك … اطلبْ عشرة صناديق ذهب من المكسيك … ادفع حوالة اﻟ ٦٨ ألف دولار … ثمانية آلاف صندق سواكير … أربعة آلاف صندوق صابون … لا نقبل طلبية بأقل من خمسة آلاف دولار … مليون شفرة …»
وحالًا ذكرت أن قنينة الوسكي التي دفعت ثمنها لم أشربها كلها، وأن في شفتيْ تلك الفتاة شهوة مسكرة. وكنت حينما جلست قُبالة جميل، أجد مقعدي ناعمًا كأنه مليء بأشعار فوزي المعلوف؛ فشعرت بعد أن تطلعت إلى جميل ثانيةً، أن الكرسي صار وخَّازًا كأن حشوه خطابات المطران مبارك … فتهيَّأت للنهوض والانصراف، ولكن عينيَّ إذ ذاك التقتا بعينيْ جميل.
سبحان الله! اليد تصافح العدو مخادِعة، واللسان ينطق بالكذب، والشفتان تنفرجان عن ابتسامة ختل. أما روح الإنسان الصادقة، فقد صبَّها الله في العينين فلا تكذبان. وقد التقت روحانا خلال عينينا، فاغتصب جميل ضحكة، وقال: «إن في نفسك معركة يا بحَّار، وكدت أن تنهزم منها.» ودخل إذ ذاك أحد مستخدمي المحل فأمره جميل بأن يقفل الباب وينصرف، وألَّا يسمح لأحدٍ أن يدخل علينا، ثم تابع جميل حديثه: «تريد أن تسألني سؤالًا ولا تجسر. وجدتني ممسوخًا. تريد أن تعرف لماذا؟ إني مخبرك. لقد عرَفتَ أسراري كلها في زمن فقري، فلمَ أخفيها عنك اليوم؟ ولكني أقول لك: إنه ليس في وسعك إسعافي! إن بي مرضًا لا يشفى. أنت تذكر آلامي في أيام القلة. لقد رويت لك أي مهانةٍ ملَكَت نفسي يوم ذهبت وزوجتي إلى كلية الراهبات لنسجل اسم ابنتنا في ذلك المعهد، وكيف أعرضت عنا الراهبات، ورفضنَ قبولَ ابنتي لولا توسُّل زوجتي. وما كان ذنبنا إلا أن حقارة أثوابنا أعلنت قلة دراهمنا. تذكر كيف كنتُ، حين انصرفنا بعد ظهر يوم ماطرٍ، أقبع في مدخل البِناية منتظرًا انقطاع المطر، وكيف كان يمر أمامي الأوتوموبيل خلف الأوتوموبيل، ترشُّ عليَّ الوحول، وتحمل الكثيرين من أجلاف الناس. أنت تذكر حين جاءت الجوقة الأميركية ولم نقدر أن نشهد أيًّا من رواياتها؛ إذ كان ثمن التذكرة خمسة دولارات. تذكر أني كنت أقترضُ منك الدولار والاثنين والخمسةَ. أنت تذكر مرارتي وثورتي وآلامي. هذا ليس عليك بجديد.
وجاءت الحرب فطوَّحت بنا الفاقة، وكاد سجن اليابانيين يطحن روحي وجسمي. إلى أن حرَّرتنا جيوش الأميركان.
وكنت آملُ أن تمطر الدنيا دولاراتٍ، ولكني لم أحلم بمثل هذا الطوفان. لقد كانت لي علاقات وثيقة ببعض فبارك أميركا — كما تعرف — وكان اسمي في «السوق» محترمًا، والبلاد خالية من البضائع. اجمع هذا إلى ذاك واضربه بشيء من الحظ، تفهم كيف أسبح الآن هذا الأوقيانوس من الأموال.
وحين هبط عليَّ الغنى لم أصبح مقترًا، بل إني ابتنيتُ شبه قصر في ضاحية المدينة، فرشتُه بأفخم الرياش. وصارت ابنتي تذهب إلى كلية الراهبات — تلك التي أرادت رفضها بسبب فقرنا — بأكبر سيارة في المدينة.
ولكن شيئًا من عناصر نفسي خشِن وتصلَّب وآلم.
فحين مرضتْ زوجتي قبل الحرب كنت أسهرُ الليل أحدثها وأواسيها، وإذ تغفو أكبُّ على قراءة كتاب، وربما ألَّفتُ قصةً أو قطعةً من رواية. أما بعد الغنى، فإني أكتري لها ممرضتين؛ واحدةً لليلِ، وأخرى للنهار، ثم أنام ملء عيني. كنت في زمن الفقر، إذ يقبل العيد، آتي بدُميةٍ رخيصة الثمن وأُعطيها لابنتي وألاعبها وأضاحكها. أما اليوم، فأوصي من نيويورك على أثمن الدُّمى، ولكني لا أضاحك ابنتي ولا ألاعبها. في زمن العدم، كنت أدخل وعائلتي إلى دار السينما، فنضحك أو نبكي مهما كانت الصورة سخيفة. أما منذ حينٍ، فقد أقاموا حفلة خيرية وعرضوا فيها صورةَ «سلم إلى السماءِ» وباعوني ثلاث تذاكر، الواحدة بخمسين دولارًا، فبقيت زهاءَ ساعتين أتطلعُ إلى الشاشة البيضاء، فلا أرى إلا الشاك الذي أمضيتُه لهم: ١٥٠ دولارًا، ١٥٠ دولارًا، ١٥٠ دولارًا. أتذكُرُ يا بحار يوم جاءتني من لبنان علبة الزيتون، وجئت أنت ونسيب ويوسف وسليم وداود معي إلى البيت، وفي طريقنا اشترينا بستين سنتيمًا خبزًا و٤٠ سنتيمًا خيارًا، وأكلنا وأكلنا وأكلنا، وضحكنا وضحكنا وضحكنا … أما اليوم فإن وجوه المدينة يأتون إلى العشاء في بيتي، ولا نتبادل إلا المداجاة، وإني أعدُّ عليهم حبوب العنب إذ يأكلون؛ كيلو العنب ثمنه ثلاثة دولارات يا بحار …
وذات يوم جاءني بريد بيروت، فإذا فيه رسالة من رفيق الصبا، وعشير الدراسة، كنت أدعوه «المكاري»؛ إذ إن معظم رجال ضيعته أكَّارون، وكان يدعوني «المعَّاز»؛ لكثرة رعاة الماعز في ضيعتي. كانت رسالة المكاري إليَّ كلها عواطف، وقد أرفقها بنسخةٍ من مجلة يصدرها؛ فذاب قلبي حنوًّا وتذكارًا، وقطعت له حوالة ﺑ ١٠٠ دولار اشتراكًا بمجلته المتواضعة. وحين رجع الأجير من البنك بالحوالة، تصفحتُ المجلة فوجدت أن اشتراكها عشرة دولارات. لماذا أرسل له مائة؟ من وهبني خلال أيامي كلها تسعين دولارًا، حتى أرمي بهذه التسعين؟ فأرجعت الأجير إلى البنك، واستبدل الحوالة بثانية قيمتها عشرة دولارات.
وبعد ظهر ذلك اليوم انصرفنا، وكان المطر شديدًا؛ فركبتُ أوتوموبيلي الفخم، أمرُّ بالناس تقي رءوسها من الأمطار بالجرائد، كما كنتُ أفعلُ في أيام الحاجة. أما أنا فكان كل تفكيري أن هذا الوحل الذي يخوضه أوتوموبيلي سيضطرني إلى غسله وتشحيمه في اليوم الثاني؛ أربعة دولارات … أربعة دولارات … أربعة دولارات … وأرى الناس في مداخل البنايات تنتظر انقطاع المطر، فأذكرُ يوم كنت أقفُ بينهم موجعًا، فأغسلُ روحي بصلاةٍ خاشعة طالبة السعة، أو شتيمة وأسبيروتية تعلن الفقر. أما الآن، أربعة دولارات … أربعة دولارات …
وبلغت البيت، وجلست إلى العشاء، واتفق أن زلَّت القدم بالخادمة؛ فوقعت وكُسر الصحن الذي كانت تحمله؛ فنظرت إلى القطع تنتشر على الأرض، وتألمت كأنها كسرات من أضلعي.
ثم آويت إلى مضجعي، وما إن غفوت حتى حلمت كأني أرى «المكاري» يأتيه موزع البريد في مكتبه الحقير في بيروت فيدفع إليه برسالتي، فيأخذها «المكاري» فرحًا ويفضُّها نشوانَ، ثم يرى الحوالة بعشرة دولارات فيبهت وجهه، ويتطلع بي — كأننا ما برحنا غلامين في زمن الدراسة — ويبتسم عاتبًا: «لا تكفي يا معَّاز، لا تكفي يا معاز.» وعزَّ النوم فأرقت الليل كله. وفي مطلع الفجر هيأت قهوتي ولبست ثيابي، وفيما أنا أهم بالانصراف استفاقت زوجتي فسألتني: «شممت رائحة القهوة في الليل، ما هي؟ قصة، رواية، أم مشروع تجاري؟» قلت: «إن أمامنا أفراحًا كثيرة، وأيامًا سعيدة، فحين أرجع هذا المساء سنعود فقراء.» فشع وجهها وتنهدت قائلة: «أممكنٌ هذا، أممكنٌ؟» قلت: «سترين!»
ونزلت إلى المكتب أنتظر مجيء المستخدمين. وما إن ظهر أمين الصندوق حتى سألته: «هُوسا، كم رصيدنا في البنك؟» ففتح هُوسا الدفتر وأجاب: «١٩٤٣١٢ دولارًا و١١ سنتيمًا.» قلت: «اعمل بها تشاك بالمبلغ كله، وأرسله تبرعًا للمعهد العربي الأميركي في نيويورك.»
– «تبرُّع؟»
– «تبرُّع!»
وفيما هو يحضِّر التشاك، شعرت بأن ما يضطرب في أحشائي قد استحال إلى موجة من نار، غمرتني ثم تراجعت عني، ثم عادت إليَّ، فوقفت عليها، وراحت تندفع بي صعدًا، صعدًا، إلى مكان بعيدٍ بعيدٍ لاح كأنه جنةُ ربيع دائم. وتطلعت إلى يميني فأبصرت ملايين — أقول ملايين — البشر وقفَت تصفق لي، عرفت بينها وجوهًا كثيرة، منها وجه المكاري وقد سمعته ينادي: «برافو يا معاز! برافو يا معاز!» ورأيتك يا بحار تحت إبطك غواصتك «نوتيلوس» في حجم هذه الصرة التي هي الآن بين يديك، تلوِّح لي بقبعتك هذه البيضاء. ونشقتُ الهواءَ شذيًّا كنسيمِ صَيدا في إبان ازدهار بساتين ليمونها، وسمعت الصنوج والطبول تقرعها قبائل البدو، وألوفًا من المؤذنين ينشدون «الله أكبر»، وعمالقةً تقرع أجراس الكنائس. ورأيت أبي نهضَ من ضريحه وتلفلف بعباءته الشتوية، وصاح بالناس: «هذا ابني! هذا ابني!» وكذلك انتفض عمي الشاعر من قبره، وكان يتكلم العربية بلهجة مصرية، فتغنَّى: «دا كويس خالص! دا كويس خالص!» ولاح قصرٌ تبيَّنتُه، فإذا هو قلعة بعلبك وقد غطت حيطانها الأزاهيرُ الملونةُ من ورودٍ وقرنفلٍ وياسمين وزنابق، وقد وقف في مدخلها على أعالي الدرج — تحت قوس النصر — رجلٌ قصير، كبيرُ الأنف، عبقري المظهر، تفرستُ به، فإذا هو خليل مطران في كهولته ينشد قصيدة ترحيبية، وقد اصطف خلفه أبو علي ملحم قاسم وأولاد دندش بأثوابهم العربية وأسلحتهم الألمانية يتوسطهم صلاح اللبابيدي، تعلو رأسه برنيطة عالية سوداء. وإذا بهوسا أمين الصندوق يوقظني من تلك الرؤيا ويدفع إليَّ التشاك لأمضيه ويصيح: «سيدي! التشاك حاضر.»
ووقف جميل هائجًا صائحًا: «انظر. الآن تفهم لماذا لم أصافحك حين دخلت. جسَّها! جسَّها!»»
فتطلعت إلى يده التي مدها نحو وجهي، فإذا أصابعها الخمسة قد تكورت، وجسستها فإذا هي صلبة جافة عديمة الحياة، كقضبان حديد النافذة. وسَرت بسلسلتي الفقرية رعشة أوجمتني.
أخيرًا، سألتُ متلجلجًا: «والطبيب … ألمْ …»
فضحك جميل ضحكة دامية وأجاب: «زرتُ كلَّ أطباء المدينة ومشاهير الجيش والبحرية، وطرْت إلى أميركا، فتعهدني كبار الأخصائيين، وقد جربوا الكهرباء والتمسيد والمراهم والسوائل، ولم أعفَّ عن المشعوذين؛ فكتبوا لي الطلاسم، وألبسوني الحجاب، وتوسَّط لي عميلنا في نيويورك لدى الحكومة الأميركية، فسهلوا لي الطيران إلى همبورغ؛ حيث كان بين الأسرى الألمانيين شيخ أطباء الأعصاب «هَرْ دكتر شمت»، وجيء بالدكتور الألماني في ثيابه المقلمة الزرقاء يحرسه جندي أميركي. وقدمني الضابط إليه بقوله: إني السيد سغبيني، ومددت يدي نحوه فنظر إليها نظرة سريعة، وضحك وتكلم هازئًا: «هل خلق الله أناسًا أشد بلهًا من الأميركان؟ من غير أن تخبرني أن اسم هذا المخلوق سغبيني، أفهم أنه من صبيان موسوليني.» ثم تطلع بي من فوق قامته الجبارة، وخاطبني كأني غلام دون العاشرة: «كانت المعركة حامية يا بُنيَّ، وكانت المدافع تقصف كالرعد، وكان بين يديك بارودة تلك التي حملك إياها الدوتشي، وقال لك: إنك صرت جنديًّا. ولكنك لم تطلق البارودة يا بني!» وشدَّ ذقني شأن من يدلل طفلًا وقال: «يا حبيب أمك!» وتطلع إلى الضابط: «قلتُ لكم أن لا تأتوني بمثل هؤلاء المرضى. نحن الألمان اخترعنا كل شيء، ولكننا لم نخترع دواءً يشفي من الجبن، لو كنا اخترعناه لاحتل حلفاؤنا قنال السويس، ونشروا بيارقهم على ذروة «ألمبوس»، ولكنتَ أنتَ تلبس ردائي الأزرق المقلم، ولكانت تحيتك لي: «هَيْل هِتلر!» …
ورمقني الطبيب بنظرة ازدراء، لو أن النظرات تقتل لكانت طحنتني هباءً، وأدار ظهره وانصرف.
•••
وزفر جميل زفرة خلتُ أنه زفر معها روحه، وتابع: «إني تعيس يا بحار! أشعر أني ساكن — كما ذكر قبطانكم في كتابه — في جوار الشيطان، في قعر بحرٍ موحشٍ باردٍ، ولكني في الغواصة وحيدٌ، ليس لي رفاق. إن نفسي جفَّت وتصلَّبت وانطوت على نفسها مثل هذه الأصابع الميتة!»
وحملق في الزجاج السميك الذي يغطي طاولته، وجحظت عيناه، فتبعته بنظري، فإذا هو محدق بالتشاك الذي تمدد تحت الزجاج، ذلك التشاك الذي جبن جميل أن يوقعه.