لعنة كتاب
قعدتُ إلى كأسِ الوسكي أتجرَّعها كريهة، كأني أبلع كذبة صهيونية.
وقد كنت يقظًا متوتِّر الانتباه، كمن هو في بحران رؤيا، تزخر في عروقه قهوة عدنية، وتعمم رأسه ثلوج من قمة «جبل الشيخ» في أصقع ليالي زمهريره.
ففي تلك الحالة جلست، أسمع التاريخ وأراه — التاريخ — حيًّا، صخَّابًا، فتَّاكًا، مضحكًا، مريعًا، متهتكًا، خليعًا، كما لم تعلِّمني إياه الكتب وأساتذة الجامعات، وكما لم يصوِّره خيالي.
فهذه الحانة حيث الوسكي رديء، والخادمات بغيَّات، والزبائن غوغاء، من بحارة وجنود، هي في أطراف شمالي مدينة «مانيلا». وفيما نحن نحتسي الوسكي، والبغايا يقتعدن أحضان الزبائن، وآلات الموسيقى تزفر، وتلهث، وتطبِّل؛ كانت المعركة — معركة مانيلا — على أشدِّ احتدامها. هذه سيارات الجيش وكميوناته ترمح من أمامنا مثقلة جنودًا وعتادًا. هذه هي الطيارات تحوم فوق مراكز اليابانيين وترميهم بالموت المتفجر، وهذه هي المدافع الأميركية تبصق ألف قذيفة كلما أزَّت من الجبهة اليابانية قذيفة واحدة. ولو أن أحدًا مشى بضع مئات من الخطوات جنوبًا، لرأى اليابانيين المحاصرين، ذوي العيون الكلبة، والوجوه الحيوانية، ولسمع حينًا بعد حين هجمات شرذماتهم تحدوهم شجاعة بهيميَّة يصرخون صرخات الوحوش الجريحة الكاسرة.
وكان كلما انفتح باب الخمَّارة، ظهر لي مشهد جديد؛ فهذا بحري يقاتل بحريًّا، وهذا جندي سكران يفترش القناة، وهذه فتاة أميركية من الملتحقات بالجيش تريد أن تبادل معجون الأسنان وقنينة الكولونيا بمصنوعات «مانيلا» من زنانير قش، وأحذية خشبية. وذاك غليظ يترصَّدك؛ ليروي لك للمرة العاشرة أنباء غماره في هذه الحرب، وخسائره فيها. ومرَّ بائع جرائد فابتعتُ منه صحيفةَ الجيش، فإذا فيها أن كل شمالي «مانيلا» أصبحت في أيدي الأميركان، وأن اليابانيين في تراجعهم نسفوا الجسور الثلاثة التي تصل شمالي المدينة بجنوبها فوق نهر «الباسغ»، وأن الجسر الرابع سليم؛ إذ إن اليابانيين أبقوه خشية أن تنقطع المياه عنهم، وهي تمرُّ بقسطل فوق الجسر، وأن القيادة العامة الأميركية في حيرة؛ إذ لو قذفوا الجسر بالمتفجرات فقد ينقطع الماء عن الأهالي الذين لا يزالون في المنطقة اليابانية، وأن اليابانيين يستميتون في الدفاع عن الجسر، فكلما قُتل منهم جنديٌّ، ظهر جندي يجعل من جثة رفيقه متراسًا للدفاع.
أما أنا فلم تهزَّني هذه المشاهد، ولم يرعبني قصف المدافع، ولم أكن بالناظر إلى هذا التاريخ الذي يهدر حولي نظرة الفيلسوف، بل إن أفكاري ومشاعري وقلقي كانت متوثبة يقظة، أتساءل عن إبراهيم جوهر، تُرى أسليمٌ هو أم … أم …؟! كلمةٌ كلما تخيَّلتها طلبتُ كأسًا من الوسكي من جديد.
وكيف لا أقلق على إبراهيم جوهر، وهو عشيري، وشريبي، ومُساكِني خلال خمسة عشر عامًا، وقد افترقنا لأسبوعٍ خلا، في الجبال، إذ يمَّم هو سراديب معادن الذهب للاختباء فيها، وقصدت أنا إلى الأحراج. وهذه جيوش الأميركان قد حرَّرتنا وأتت بنا إلى «مانيلا»، واليوم قيل لنا: إن الجيش احتلَّ مناجم الذهب، وإن كميونات الإنقاذ ستأتي بالأجانب الأحياء إلى «مانيلا»، وقد دفنت القتلى منهم — وهم كثيرون — حيث وجدَتهم.
حقًّا إننا لا نفهم كم هو شغفنا بشخص ما حتى نفقده، أو نخشى أن نفقده!
ونهضت من مقعدي، وعبرت الطريق إلى المخفر؛ حيث انتصب الخفير الأميركي، فسألته للمرة العشرين: متى تصل كميونات الإنقاذ؟ فابتسم وداعب بارودته قائلًا: «لئن سألتني مرة ثانية لأطلقنَّ عليك الرصاص! قلت لك: تصل الكميونات الساعة الثامنة عشرة.» وهذه الساعة العسكرية في لغة المدنيين تعني الساعة السادسة بعد الظهر؛ أي قبيل الغروب بساعة؛ أي بعد دقائق.
فوقفتُ أمام المخفر، وما طال انتظاري حتى أقبلت كميونات الإنقاذ، تحرس مقدِّمتها ومؤخرتها سيارتان مصفحتان، وهدَّأَتْ أمام المخفر، وراح ركابها يثبون منها فرحين، وكان كلما قفز شخص من كميون، قفز قلبي من بين أضلاعي، وطفقت أتفرَّس بمن ترجَّل من الكميون؛ علَّه يكون إبراهيم.
وابتدأت الكميونات تسير وقد خَلت من ركابها، منصرفة من أمام المخفر، وأحسست بالخوف واليأس يشلان ركبتيَّ، وقد بردت يداي، وشعرت بظمأ إلى الوسكي شديد، وتماوجت الأبنية والشارع في نظري، وكادت السيارة التي تخفر مؤخرة القافلة تلطمني؛ إذ امتدَّت منها يد أمسكت بكتفي، وصاح منها صوت باسمي، ففرَكتُ عيني، وتثبتُّ أن الجالس إلى يمين السائق في الثوب العسكريِّ الأخضر هو إبراهيم.
وانحدر إبراهيم من السيارة متمهلًا لم يثب، وسلَّم عليَّ سلامًا عاديًّا غير حارٍّ، وتمعَّنته فلم أُبصر في عينيه تلك النار المشعَّة التي عهدتها، ولم أسمع في صوته تلك النبرة المتوثِّبة الحارَّة التي اشتقَّت إلى صداها، وحقًّا لقد تنكَّر عليَّ، ونحن ما افترقنا إلا منذ أسبوع، حتى لوجدت فيه كل شيء تغيَّر، إلا ذلك الكتاب الأحمر الذي تأبطه «مجاني الأدب»، وكان يسمِّيه إنجيله وقرآنه وتلموده. وعرَّفني إلى رفيقه الفتى الأميركي الضابط؛ ماجور أندرسون، وراح يناديه باسمه «هرِي» عاريًا عن اللقب، ومشى بنا إلى الخمارة في دعوة توهَّمت أنها شبه أَمْر.
وحقًّا لقد شعرت بالخيبة في لقاء إبراهيم، ولكني لست من الذين يطَّرحون جواهر الأمور لفشل في ظواهرها؛ فإبراهيم جوهر هو خليلي وصفيي لخمسة عشر عامًا، وها هو قد نجا من الموت والمخاطر، وما عليه إن كان فاترًا في سلامه، وهذه الحرب قد صيَّرت من العقلاء مجانين، ومن الأذكياء بلهاء أو قلقين. هي بادرة عارضة. فلنشرب هذه الوسكي، فسيصبح طعمها الآن مسكرًا لذيذًا.
وجلسنا إلى طاولة فغمز إبراهيم إحدى البنات، ودعاها إلى مجالسة الماجور بقوله: «عليك بهذا الأميركي، إنه فتى جندي عطشان جائع.» والتفت إلى الماجور وقال: «فيما أنت يا هري تتصابى، اسمح لي أن أحدِّث مواطني هذا بلغتنا الغجرية.» فرجفت مشمئزًّا؛ متى كان إبراهيم وسيط البغايا؟ وكيف يدعوني ﺑ «مواطن» وهو ما قدَّمني إلى الناس إلا مداعبًا «أكبر أعدائي»، «وريثي»، «ابن عمي»، «أعظم مصائبي»؟ وكيف يقول إن لغتنا هي «الغجرية»، وهو ما تكلم عن العربية إلا بصوت مرتجف وصدر بارز فخور؟
وبلعتُ كأس الوسكي جرعة واحدة؛ إذ أخذ إبراهيم جوهر يخطب بي: أولًا (قال إبراهيم واضعًا سبابته بين عينيَّ) سأحرق هذا الكتاب «مجاني الأدب». أتذكر راجي الراعي؟
– نعم، أذكره.
– أتذكر ما كنا نقرأ من كتاباته؛ ما عنوانها؟
– قطرات ندى.
– مضبوط. أتذكر قوله: «العقل جنون هادئ»؟ لقد كنتُ أنا خلال هذه الخمس عشرة سنة في جنون هادئ، ولقد أيقظتني من بحراني الجنوني كهربائية هزات هذه الحرب. ما كان أغباني! لقد نزلت إلى سوق التجارة متسلحًا ﺑ «مجاني الأدب». ما هي هذه العادات البدوية التي استعبدتنا: الوفاء، الشهامة، الكرم، العفو، الضيافة، العطاء؟! ما هذا الدستور الملائكي الذي حاولت تنفيذه في عالم الشياطين؟ وقبل أن أنسى، لئن رجعت إلى لبنان قبلي، فتِّشْ عن ضريح المعلم عباس. هل لك أن توليني منَّة وتبول عليه؟
وقهقه إبراهيم ونادى الغلام أن يملأ كئوس الوسكي من جديد، ثمَّ عاد إلى الكلام: «أصغِ إلى هذه المدافع التي تقصف حولنا، لعلك تحسب أنها حرب هذه التي نشهد ونسمع! ما هي بحرب. هي تجارة. الحرب، والسلم، والدين، والعلم، كلها تجاراتٌ.» هكذا قال لي رفيقي هذا هَرِي الأميركي. تراك هل عرفت من هو؟ هو بطل «جواد الكنال» على صدره شارة أعظم نيشان. المجلة الأميركية التي نشرت خبر بطولته دفعت له خمسة وعشرين ألف دولار، وباعت أربعة ملايين نسخة من ذلك العدد الذي روى أنباء غماره. هوليوود دعته إلى صنع صورة. أتدري ما قال لي؟ قال لي: إنه يحارب ويتاجر معًا! يبيع من بضاعة الجيش، لعلك تحسبها سرقة؟ ما أبلهك! بيعُ بضاعة الجيش هي سرقة في عرفك وعرف «مجاني الأدب» والمعلم عباس، أما هؤلاء الأذكياء مثل ميجور أندرسون فيحسبونها تجارة. أنا من الآن وصاعدًا تاجرٌ، أفهمت؟
وكانت الخمرة قد دارت في رأسه، فانتزع علبه الكبريت من جيبه، وأولع عودة فأدناها إلى كتاب «مجاني الأدب» يريد إحراقه، فاختطفته منه، وقلت: «أعطني إياه، مكتبتي احترقت، وأريد أن أحتفظ به فيكون عندي ولو كتاب عربي واحد.» فضحك إبراهيم وقال: «عجبًا! هل فرغت من نهب اللغات الإفرنجية حتى تبدأ بسرقة الكتب العربية؟ لا بأس، فالكتابة تجارة. لئن كانت بضاعة الجيش حلالًا، فحلالٌ بضائع المؤلفين. هاك «مجاني الأدب».»
وقبل أن أتمكن من الرد عليه مشمئزًّا، أسرع إلى طاولتنا جندي، فأدى التحية العسكرية إلى الماجور أندرسون، وناوله كتابًا مختومًا بالشمع الأحمر، فابتسم أندرسون وصرف الرسول بهزة رأس بعد أن شكره. وصرف الأنثى التي كانت على ركبته بأن دسَّ في يدها دولارين. وفتح الغلاف وقرأ الرسالة، ثم همس بأذن إبراهيم بحيث أسمع: «هل لي أن أأتمن صديقك هذا؟» أجاب إبراهيم: «يمكنك.» فقرأ الماجور في الرسالة أن قيادة الجبهة قد وافقت على الخطة التي اقترحتها: «تجد أمام مخفر المنكوبين أربعة كميونات، وخمسة قوارب، و٨٤ جنديًّا، وعتادًا من القذائف اليدوية. هاجم حال استلامك هذه الرسالة، وعليك أن تحتلَّه بسرعة، فتكون مع رجالك في الجبهة المقابلة من الجسر قبل أن تظلم الدنيا، بحيث تتمكَّن قواتنا من عبور الجسر قبل العتمة. أفهمْ جنودك أن هذه العملية هي فدائية، فخيِّر أيًّا أراد منهم بين الاشتراك بها أو العدول عنها.»
وابتسم الماجور فرحًا، وراح يهزأ: «قلت لك يا إبراهيم إن الجنرال غبي؛ صار له أسبوعان يهاجم الجسر من الأمام. خطتي أن نركب هذه القوارب في أعلى النهر، وننساب مع التيار حتى نبتعد خمسين مترًا شرقيَّ الجسر ونهاجم اليابانيين من هناك؛ فبعد أن نمزِّق أجسامهم بالقذائف، نقرفص على جنوبي الجسر ونرسل دعوة لجنرالنا الأبله أن يشرفنا بزيارة.»
وفيما كان الماجور يتكلم، دفع إليَّ إبراهيم بأوراق صغيرة، طبع اسم الخمارة عليها مرفقًا بأرقام، وقال: «ادفع أنت عن نفسك، وأنا أدفع عني وعن هَرِي؛ لأنه ضيفي.»
وخرجنا نحن الثلاثة إلى حيث الكميونات وحولها الجنود، فوقف فيهم أندرسون خاطبًا بلهجة عادية وصوت منخفض: «أيها الغلمان! في جيبي أمر بأن نعصف بالجسر الرابع فنحتلَّه بعد أن نرسل إلى جهنم كل ابن قحبة ياباني يحرسه. حين تشع الأنوار هذه الليلة، قليلون منا من يمسي راقصًا في هذه الحانة؛ إذ إن أكثرنا يكون إما طائفًا على مياه «الباسغ» نحو أسماك البحر، أو مفترشًا بقعة قرب الجسر في راحة أبدية. على أنكم غير مرغمين على المساهمة في هذه النزهة. أيُّ سعدان منكم أراد أن يتخلف، فليفتح فمه ولينطق بكلمة، فأستبدل به قردًا ثانيًا من معسكرنا!» ولبث يردد العبارة الأخيرة بضع مرات فلم يجبه أحد، حتى تنطَّع فتًى أمرد فخاطب رفاقه: «الظاهر أن ضابطنا الماجور أندرسون لا يحب وجوهنا ولا يستطيب مرافقتنا، ما قولكم لو سألنا الجنرال أن يرسل لنا ضابطًا آخر؟» فقهقه الجميع وطفقوا يقفزون إلى الكميونات. أما الماجور فأعطى إبراهيم صورة زوجته وابنه وهمس بأذنه: «هذا عنوان بيتي في كاليفورنيا، لئن رجعت إليك، فلك حمل كميوني بضاعة بألفي دولار، ولئن بقيت هناك فزر زوجتي وردَّ لها هذه الصورة وأخبرها أنك اجتمعت بي.»
ووقفت أتطلع إلى الكميونات تسير كأنما ركابها جماعة عمال في طريقهم إلى مصنع، أو تلامذة قاصدون إلى نزهة، أو مسافرون ينتقلون من مدينة إلى مدينة. أين ذلك مما طبع في مخيلتي عن زيد الهلالي وعنترة العبسي وسلطان الأطرش وعودة أبو تايه، وما رسمته في خاطري تلغرافات الحرب عن الفروسية في الحروب؟
وحين غابت الكميونات مشيت وإبراهيم إلى «مخيم اللاجئين»؛ حيث كانت خيمتي نمرو ٢٧، وقصدنا مكتب المخيم، فسجَّل إبراهيم اسمه وتناول بطاقة تخصيصاته، ثم دلفنا إلى العنبر، فتناول منه سريره وحرامه، وبعض ألبسة ومعدات، وذهبنا إلى خيمته نمرو ٧٨، فمدَّ سريره وقعدنا صامتين.
من المؤلم أن تُجالس شخصًا، كتفه إلى كتفك، وبينكما صحاري الدنيا وبحارها، وأن تكون بالقرب منه بحيث يستطيع أن يسمع همسك ولا تتكالمان. ولقد قعدت إزاء إبراهيم على حافة سريره صامتًا يقتتل شعوري وتفكيري. أريد أن أُكره نفسي على بغض صديقي فلا أقوى؛ إذ كلما ثرتُ على مجونه الوقح، وتهافته على المال، ولهجته الشرسة، ذكرته لأسبوعٍ مضى، كيف كان خلًّا حبيبًا مرحًا يحتقر المال، ويستشهد بحكايات «مجاني الأدب»، ويعبد المكرمات. ثم أدور على نفسي فأجد في الحرب وأهوالها عذرًا لتغيرٍ فيه أردت أن أحسبه عارضًا. وإني فيما أهمُّ بأن أبغضه كنت معجبًا بحرارة الإيمان فيه، فنفس المرء تبقى ميتة حتى يملأها الإيمان فتتكهرب وتحيا وتثير الخضوع في الناس، وإن يكن إيمانها بمعبود مرذول.
وصرَّخَتْ بعد حين صفارةُ المخيم تدعونا إلى العشاء، فهززت عني أفكاري، والتقطت صحوني المعدنية، ومشيت وإبراهيم إلى حيث الطعام، فوقفنا في صف طويل نسمع المدافع وأزيز الرصاص، وإلى القرب منا مجهر المخيم الصوتي ينطلق منه صوت نسائي بأغنية قديمة:
وحين جاء دورنا ملأنا الصحون وقفلنا راجعين نحو الخيمة، وما عادت نفسي تصبرُ على هذا الصمت الذي ضيَّق عليها، فقلت متعمدًا فتح المحادثة: «هل لاحظتَ الرجل الذي كان أمامي في الصف؟ هو مدير بنك الناشيونال سيتي، وإن الصيني الذي كان يحاذيه كان خادمًا في مقهى «الكلوب» قبل الحرب. سبحان الله! الأميركان يهبوننا الطعام ويساوون بين مواطنهم الذي يرأس مصرفًا، والغريب عنهم الذي يخدم في مطعم. فتقزَّزتْ نفس صديقي وصرخ بي: «هل لاحظتَ أن فلسفاتك غليظةٌ، وأن لعنة كتاب «مجاني الأدب» التي ركبتني قبل الحرب تثقل الآن رقبتك؟ … اسمع.»
وجمدنا كلانا إذ انقطعت أغنية «تُراك تحبني …» وخرج من المجهر صوت عسكري: «إن القيادة العامة في جبهة «مانيلا» تذيع أن الجسر الأخير الذي يربط شماليَّ المدينة بجنوبها هو في أيدينا منذ ربع ساعة، ولقد خسرنا في القتال حوله ٣٨ رجلًا، بينهم الماجور هري أندرسون بطل «جواد الكنال» الذي قاد الهجوم. هذا كل شيء.»
ورجع الصوت النسائي يغني:
وجثمنا كلانا في خيمتي والصحون ملأى بالطعام، لا نمد إليها أيدينا، غارقين في التفكير، وفجأةً انتفض إبراهيم جوهر وانتزع صورة الماجور وطفله من جيبه فمزَّقها وداسها وصاح شبه مجنون: «لعن الله أندرسون. بقِيَ في الجيش ثلاث سنين يقاتل، أما انتقى ساعة يُقتل فيها إلا قبل أن يسلمني حمْل الكميونين بضاعة؟!»
ومشى من خيمتي، فرحتُ أتطلع إلى قامته المبتعدة أحمد الله أن ليس قربي مسدسٌ أو بارودة، وأحدثُ نفسي: «حبذا لو لم يرجع إبراهيم جعفر مع قافلة اللاجئين. حبَّذا لو أنه دفن شريفًا حبيبًا في سراديب معادن الذهب!»
وحين غاب عن عيني تمنيتُ أن يبقى غائبًا عني، ما حييت.
أخيرًا، خضع الحيوان الياباني للعِلم الأميركي، فسكنَت المتفجرات وانقطعَ أزيزُ الرصاص، وقلَّت في شوارع «مانيلا» وجوه الأميركيين الباسمة، وابتدأت كومُ الدمار من حجارة وحديد تختفي، وصارت البنايات تنهض هنا وهناك، وأنا خلال ذلك دائب في أعمالي المتواضعة، أشتري من هنا وأبيع هناك، وأرجع في المساء إلى غرفتي حيث أعيش وحيدًا تُؤنِسُني أحلامي وذكرياتي، وقد أقنعتُ نفسي أن إبراهيم جوهر مات على الرغم من أني كنت أرى صورته في الجرائد أحيانًا، وأقرأ فيها أنباء حفلات أقامها أو دُعي إليها، وأنظر إلى صورته في الصحف صاعدًا إلى طائرة أو مترجلًا منها؛ فلقد أمسى من الواضح أن الرجل قد صاب في الحياة نجاحًا وأصبح ممن يسمُّونهم عِلْيَةَ القوم.
أسابيع، شهور، سنة، سنتان.
إلى أن جاء صباح يوم فيما أنا أذرع الطريق قاصدًا أسواق البلدة حيث أصطادُ قُوتي، وإذا بسيارة ١٢ سيلندر خضراء فخمة لماعة حاذتني متمهلة ووقفت ونزل منها من ناداني باسمي، ومدَّ إبراهيم يده إليَّ وصاح: «ضعها هنا، وقل لي إنك غفرت لي.» فوضعت يدي في يده البضة المترهلة وصافحته كأني أصافح شبحًا، ونظرت إليه فإذا هو قد بدن وتراخى وظهر لأول وهلة متخنِّثًا أو كممثلي هوليوود، على رأسه برنيطة خضراء شكَّ في شريطتها ريشة حمراء، يعلو شفته شارب قصير ثائر، ويلفلفُ بدينَ جسمه طقمٌ خمري، ويتدلَّى من جيب سترته منديلٌ أحمر، تجاوره زهرة من القرنفل، وشُدَّتْ إلى رسغه ساعةٌ شفافة، ودار حول وسطه الضخم زنارٌ أبيض ينتهي ببكلة ذهبية حُفر عليها اسمه، وتختبئ قدماه في حذاء مثلث الألوان.
«أَمَا غفرت لي؟» صاح إبراهيم: «ادخل الأوتوموبيل؛ فأنا في حاجة إليك. لم يكن اجتماعي بك صدفة فأنا جادٌّ في طلبك منذ حين. إني في حاجة إلى مساعدتك.» فتبسمتُ وتطلعتُ إلى تلك السيارة، وأجبت مستغربًا: «أنت في حاجة إلى مساعدتي أنا؟ دعني وشأني. إني أحب رياضة المشي.» قال متضرعًا: «لا تكن حقودًا.» وما زال بي حتى أدخلني سيارته وركضت بنا إلى بناية عرَفتُ مما كتب على رتِاجها أنها «مكتب مخلفات الجيش الأميركي». وسار إبراهيم متأبطًا رزمةً صغيرة، فتبعتُه، وشعرت حينما صِرنا في داخل البناية أن رفيقي ذو شأنٍ؛ إذ رأيت كل من مرَّ به يحييه تحيةَ تواضع، أو خشية، أو دعابة. كذلك سمعت بعضهم يدعوه «الجنرال»، فسألته: ما معنى ذلك اللقب؟ فضحك إبراهيم وأجاب: «إن أعلى موظف في هذا المكتب هو في رتبة كولونيل، ويسمونني جنرالًا؛ اعتقادًا منهم أني أعظم شأنًا من عريفهم!»
وفيما هو يشرح لي هذا، أطلَّت امرأةٌ أميركية شقراء، من الملتحقات بالجيش؛ فعانقها صاحبي، وبعد مطر من القبلات ناولها الرزمةَ وهنأَها بعيد ميلادها، ونزع زهرة القرنفل من عروة سترته وشكَّها في صدر صاحبة العيد، وإخالُني رأيته قد كبس بأصابعه أعلى ثديها.
وكأنما ظهور الجنرال في ذلك المكتب كهربه وقد كان ناعسًا؛ فتحرك الضباط من وراء الطاولات، وراح الكتَبةُ يقلِّبون الدفاتر. وكان في الرواق جمع من التجار الصينيين فأقبلوا على إبراهيم ودار الهمس والغمز، وتبادل الأوراق، والعروض، وإبراهيم المحور الذي يدور حوله كل شيء. وقد اشتدَّ الجدلُ حول طاولة جلس خلفها ضابط برتبة كابتن، عديم شعر الرأس، ناداه إبراهيم: «يا أقرع!» فهرع هذا يتبعه تاجرٌ صيني أعرفُ أنه من أكبر مستورِدي المأكولات في المدينة. وبعد أن اشتد الجدل والتاجر الصيني يعترض بقوله: «هذا كثير. هذا كثير.» صرخ إبراهيم: «طيب، خمسون ألفًا، اقبلها أو ارفضها.» ونادى بي، فخرجنا إلى السيارة. وفيما نحن نفتح بابها لحق بنا الصيني باسمًا فرمى بصرَّةٍ إلى داخل الأوتوموبيل وقال: «طيب، هاك الخمسين ربحك، سلمني ورقة البيع.» فناوله إبراهيمُ بعض صكوك وصاح بالسائق: «إلى المكتب.»
وحينما صرنا في داخل المكتب عجبتُ لخلوِّه من المستخدمين، ولحقارة شأنه وصغره، وكأنما قرأ إبراهيم أفكاري فأوضح: «إني لا أستخدم أحدًا؛ إذ إني لا أريد ائتمان أحد.»
وفتلَ الزرَّ الكهربائي فانتشر النور، وفتح إبراهيم الصندوق الحديدي الهائل الذي كاد يملأ المكتب، ثم أحكم المفتاح في أسفله ودار به؛ فانفرجت دفة عن رزم الأموال، فرمى بالصرة التي أعطاه إياها الصيني، وأقفل أسفل الصندوق الداخلي، وسلمني سائر مفاتيح الصندوق والمكتب قائلًا: «اسمع، ليس في هذه البلدة من أثق به سواك، أنا مسافر في الغد إلى جبال «أيلوكوس»، أربع ساعات في الأوتوموبيل، وعشرون كيلومترًا مشيًا — هناك سأثبت حقي بمعدن ذهب أعطاني خارطته ذلك الأيرلندي «أوهارا»، هل تذكُره؟ لقد أخبرتك أنه مات في سراديب معادن الذهب، قتلَته الزنطاريا، وأعطاني هذه الخارطة فيما هو يحتضر، رحمه الله.»
وقهقه مرحًا: «سأُبكِّر في المسير بعد منتصف الليل، فنبلغ الجبل عند الشروق، ونزرع العواميد، واسمي محفور عليها، في حدود تلك الأرض، ثم ننحدر إلى «سانتاماريا» قاعدة تلك المنطقة، فنسجل الأرض بعد ظهر الغد أو صباح بعد غدٍ. كل هذه السفرة لن تستغرق إلا ثلاثة أيام. أما أنت، فاجلسْ وراء هذه الطاولة، ستأتيك مني أوراق كثيرة فاقبض وادفع بحسب الطلبات التي تحمل توقيعي. كل تجارتي ومعاملاتي هي باسم «مكحش وشركاهم».»
قلت: «من أين لي أن أدفع وأراك قد احتفظت بالمفتاح حيث المال؟» فقهقه ثانية وقال: «ستفهم كل شيء في الغد. إن التجارة هي في أن تقبض أكثر مما تدفع.» قلت: «وما معنى «مكحش وشركاهم»؟» فعاد يضحك وأجاب: «ألا ترى الأميركان يخترعون الكلمات بأن يؤلفوا من أول حرف من عدة كلمات كلمةً جديدة واحدة؟ «مكحش» هي اختصار «ما أكثر الحمير وشركاهم». مضحكة هاه؟» ورجع يضحك من جديد.
وحينما ودعني رجع يتضرع من جديد: «إني في حاجة إليك.» وقد أضاف هذه المرة: «إن حصتك من الربح هي خمسة آلاف دولار في هذه الأيام الثلاثة.»
في صباح اليوم التالي، فتحت باب مكتب إبراهيم جوهر، فشعرت كأني داخلٌ قبرًا، فأسرعت إلى النافذة ففتحتها على مصراعيها، وأنرت كل المصابيح الكهربائية، وجلست وراء المكتب حائرًا فيما أفعل. وسرعان ما دخل عليَّ زنجي أميركي متدلي الشفتين، أحمر العينين، ضخم الأجفان، فبادرني بالسلام قائلًا: «نهارك سعيد يا دكتور.» قلت: «ما أنا بدكتور، من أنت وما تريد؟» أجاب: «أيحرم على الإنسان أن يتأدب بإلقاء التحية؟ أنا عمُّك جُو، جئتك بالمخمل، هذه شورباء العظام المباركة، وهذه رغوة دم الملائكة.» ولقد سرَت بي رعشةُ خوف وتطلعت إلى الباب أقصد الفرار، ولكني رأيت الزنجي بيني وبين المهرب.
وأرسل الزنجي زفرة وصاح: «يا للبقرة المقدسة! إن الأزرار النحاسية غلا ثمنها.» وكأن محدثي لحظ الرعب الذي حلَّ بي، وعرف من بلاهة نظراتي أني لم أفهم ما يقول؛ فزاد: «إخالك تجهل اللغة الأميركية، المخمل هو صافي الربح، العظام المباركة هي «الزهر» المزيف.» وانتزع من جيبه مكعبين من عظم أبيض، واحدًا يحمل علامة الصفر على وجوهه الستة، وآخر عليه ستُّ نقاطٍ في كل وجه. ثم تابع الزنجي شرحه القاموسي: «دم الملائكة» هو الخمور، الأزرار النحاسية هي البوليس؛ يعني أن هاتين الصرتين تحتويان على الأرباح الصافية، في الليلة البارحة، من طاولة الزهر، وبيع الخمور، بعد أن دفعنا للبوليس حصتهم التي ضخموها. وبعبارة ثانية، هذه غلة النادي الاجتماعي الذي أديره أنا ويملكه مواطنك إبراهيم. إلى هناك هو يسوق الضباط الذين يرشوهم في النهار، ونحن ننهبهم في الليل.» ورجع يضحك. ثم سلمني ورقة عليها بالعربية: «استلم من هذا اللص ذي الوجه العاجي ما يعطيكه من غلة النادي، إبراهيم.» وحين انصرف زائري وصار في الباب، التفتَ إليَّ متهكمًا: «بخاطرك يا دكتور.» وغمزني مشيرًا إلى الفتاة الشقراء التي أقبلَت عليَّ في خطوات خفيفة ووجه صبوح وعاجلتني بتحية: «صباح الخير.» بصوت عالٍ شأنَ الأميركيات؛ فقد كانت تلك الفتاة صاحبة العيد أمس، وناولتني حالًا ورقةً من إبراهيم: «ادفع لهذه الشقراء مائتي دولار، واقبض منها قبلتين أو أكثر.» فدفعت لها المائتي دولارٍ حالًا، فشكرتني مبتسمة سائلة: «أفي وسعي أن أقضي لك حاجة؟» فشكرتها وأجبتها سلبًا، وخرجَت كما أقبلتْ رشيقةً، تمشي على قدمين قويتين، مرفوعة الرأس واسعة الخُطَا.
وكرَّ ذلك الشريط السينمائي أمام عيني، وصار الباب كالشاشة البيضاء، أتطلع إليه منتظرًا ظهور كل غريبة، ولم يطل انتظاري حتى جاءني أميركي زريُّ الثياب، مشعث الرأس، وناولني فاتورة بيعٍ من «مكتب مخلفات الجيش، إلى مكحش وشركاهم» خمسة أطنان طحين فاسد لا تصلح للاستهلاك البشري. وهمس الأميركي في أذني: «إن كميونات السكر هنا.» قلت: «ما تعني بكميونات السكر؟ هذه فاتورة طحين فاسد.» قال مستغربًا: «ألا تفهم؟ اشترينا الطحين الفاسد، ورشونا القائم على المستودع؛ فسلَّمنا سكرًا، ودفع إليَّ بورقة: «تلفن إلى ٧٢–٢٤ وحينما يدفعون لك ٨٢ ألف دولار سلِّمهم السكر، إبراهيم.»
وتلفنتُ وقبضت وسلَّمت، وقعدتُ في ذلك الكرسي ألهث تَعِبًا كأني أركض وعلى ظهري كيس من حجارة. ودار الشريط، فإذا على الشاشة البيضاء صاحبنا الكابتن الأقرع يصافحني في مرح وظرف ويسألني عن القنبلة الذرية أين مكانها، فكان جوابي أنْ فتحت فمي ووسعت حدقات عينيَّ، فمدَّ يده إلى جرَّار في طاولتي قائلًا: «كانت هنا.» وانتزع قنينة وسكي وكأسين فارغتين ملأهما وأعطاني إحداهما، ثم مضى يقصُّ عليَّ تاريخ حياته من يوم خُلق إلى أن تخرَّج من جامعة هرفرد إلى أن تطوَّعَ في الجيش، وجُرح في «أيوجيما»، ومنحوه رتبة كابتن والنيشان الفضي، وجاء «مانيلا» مسرَّحًا من خدمة الجيش، غير أنه لمح في «مكتب مخلفات الجيش» ميدانًا للتجارة، وها هو يتعاون مع صديقي جعفر في الاتجار وكلاهما ناجح؛ فالكابتن في يده فضُّ غلافات المزايدة، وهو بدلًا من أن يفضها في المكتب وعلى مشهد من التجار، يأخذها إلى غرفته ويطلع إبراهيم عليها، وأي صفقة أعجبت إبراهيم زاد هذا عليها عشرة سنتيمات فاشتراها وانتهى الأمر.
ولم يكن الكابتن في سرده أخبار المعارك التي خاضها متباهيًا، بل كان كغيره من الأميركان يهزأ بنفسه ويبالغ بوصف رعبه في المعركة. كذلك لم يكن في تحداثه عن «تجارته» مع إبراهيم حييًّا؛ فقد كان يعتقد أن أشغاله تلك كانت أمورًا مشروعة كأنها تجارة عادية. وحينما فرغت الزجاجة فرغ الكابتن من أحاديثه وناولني ورقة من إبراهيم تأمرني أنْ أدفع لحاملها ستة آلاف دولار، ففعلت.
واستمر عقربا الساعة في بطء دبيبهما نحو الساعة الثانية عشرة؛ إذ غمرت المكتب موجة من العطر فاسقة، ورنَّ في أذني طقطقة كعبين عاليين، وأبصرت برقعة من البودرة، والحمرة، والأهداب المكحلة فوق فسطان من الحرير يتماوج ضيِّقًا على قامة هيفاء شهيَّة، وصوتًا يقول: «هَلو»، وأصابع حمراء الأظافر تدفع لي ورقة: «ادفع لحاملها ثلاثمائة دولار، إبراهيم.» وقد رسم إبراهيم تحت توقيعه رسم قرنين. وبعد أن عدَّت الدولارات، شكرتني، بغمزة زانية، ورددتُ عليها بنظرة بلهاء. وانصرَفتْ، وأقفلت المكتب شاعرًا كأنني خارج من كهف جناة أو قُطَّاع طرق.
•••
لن أروي لك حوادث الأربعة الأيام التي تلت الصباح؛ إذ إنها كانت مشابهة لما ققصت؛ حيلة إثر حيلة، ورشوة تتلو رشوة، وكذب وتزوير، ورجال ونساء يدفعون ويقبضون، والصندوق تتكدَّس فيه أوراقُ المال حتى كاد يضيق بها، وأنا متفكِّر متبرِّم بهذا الدور الذي أرغمني على لعبه، حانقٌ عليه، متوعِّد له، أحاول أن أفهم لمَ أبطأ إبراهيم في عودته، وكيف زلقت أنا إلى قبول الاشتراك معه في اللعبة الذميمة.
صديقك إبراهيم في مستشفى سانتاماريا في خطر شديد، يصرُّ عليك أن تحضر حالًا.
غريبة عواطف الإنسان، كيف تُسرع في تقلباتها بين المدِّ والجزر؛ فمنذ هنيهات كنت ناقمًا على إبراهيم مزدريًا لأعماله، وها أنا حين مرَّ نظري على ذلك التلغراف ذائب حنانًا، لا أذكر من صديقي إلا كل ما كان فيه من نبيل وجميل، وكأنما الخطر الذي هو فيه أنا سبَّبته، فرُحت أوبِّخ نفسي على خيانتي لصديقي وأشجعها «لا لن يموت إبراهيم، سأهرع إليه وأدفع عنه الخطر، سأداعبه وأُضحِكه، سأريه كتاب «مجاني الأدب»، وأسأله أن يتبرَّك به، سأذكره بكل ما مضى بنا من حوادث فكهة، سأشجِّعه بقولي: إن من نجا من اليابانيين والمدافع وقذائف الطيارات لن يصرعه مرضٌ في مستشفى.» وركبت قطار الليل إلى «سانتاماريا» متفائلًا متحفزًا إلى القتال كبدوي يهرع إلى مخيَّم قبيلته إذ قيل له إن عدوًّا هاجمها.
وقفزت من القطار قبل أن يقف، وطفِقت أمشي وأركض إلى المستشفى في ضاحية «سانتاماريا». وفيما أنا في منتصف الطريق أطلَّت أشعة الشمس فبدَّدَت ما في نفسي من مخاوف، ورحت أقترب من المستشفى والكنيسة بقلب مفعم بالرجاء.
حين دخلت الباحة التي تفصل الكنيسة عن المستشفى، تقدم إليَّ رجل الدين يلبس الثوب الأسود متمتمًا صلاة، وبين يديه الكتاب المقدس، وتمعَّن بي لحظة وسأل: أنت صديقه يا بني؟
– نعم، يا أبتِ!
إن عرضَك أربعةَ آلاف دولارٍ ثمن ألفيْ حرام مرفوضٌ؛ إذ إن شركة «مكحش وشركاهم» عرضت عشرة سنتيمات زيادة بالحرام؛ أي أربعة آلاف ومائتيْ دولار.
وفيما الأب يتضرَّع إلى الله من جديد أن يعفو عن خطيئاته ويتهم نفسه بجريمة قتل صديقي؛ لخلوِّ الدير من الحرامات، أقبلَ دكتور المستشفى، فعرَّفني الكاهن إليه وسأله أن يسير بي إلى غرفة الميت؛ نمرو ٨. وقبل أن أُدِير ظهري سألني الأب: «مسألة الصلاة عليه؛ هل كان صديقك يؤمن بالكتاب الأحمر الذي تتأبطه؟»
أجبت: لقد آمن به ثم كفر، يا أبتاه.
وماشيت الدكتور نحو غرفة إبراهيم، أستمعُ لذلك الطبيب يتكلم عن المريض الذي خسره غير آبهٍ كتاجر تعوَّد أن يفرَّ منه زبون حينًا بعد حين. وقبل أن نصل إلى باب الغرفة أوقفني وقال: «كان من المؤكد نجاة صديقك لو أن عندنا «بناسلين». في الشهر الماضي، حاولت شراء ٥٠٠ زجاجة من مخلفات الجيش فخسرتها في المزايدة. شركة «مكحش وشركاهم» دفعت أكثر مني عشرة سنتيمات بالزجاجة. من هي هذه الشركة «مكحش» التي تشتري كل شيء؟»
•••
وكشفتُ الشرشف الأبيض عن وجه إبراهيم، فبان وجهه المتضخِّم في لون الشمع، وقد تراخى شارباه الثائران إلى خطَّين مائعين، ونبت الشعر في وجهه طويلًا بشعًا، وشخصت عيناه باهتتين كعينيْ سمكة، وتطلَّعتُ إلى خلفه فرأيت سترته معلقة، معروكة، في عروتها زهرة قرنفل يابسة، وقد استوت فوق السترة برنيطته الموحلة وليس في شريطتها ريشة، وتحتها حذاؤه وقد وحَّدت الوحول ألوانه.
وبقيتُ وإبراهيم وحيدين في تلك الغرفة المظلمة، وليس معنا إلا كتابُ «مجاني الأدب» يتأرجح في يدي، وقد قبضت عليه بإبهامي وسبابتي، في المكان المحروق، حيث أراد إبراهيم أن يولعه ويتلف لعنته.