الدَّواةُ
جلستْ في تلك الغرفة المقفلة النوافذ خائفة، حييَّة، وقد سكن كل ما حولها إلا نور سراج ضئيل يهتز شعاعه الباهت فتتراقص معه أخيلةُ بعض رياش الغرفة. وقد كانت الفتاة في وحشة ذلك الليل وحيدةً على مقعد حريري أزرق، مطرِقة كأن تلك الورود التي زانت رأسها ثقلت عليه فحنته. وقد تماوجت العطور من حولها وانتثرت الأزهار وتدلت بردايات الدمقس، وامتد السرير العريض ذو الوسادتين المجاورتين يعلوه اللحاف المطرز. وكانت قدماها قلقتين بالحذاء الجديد الأبيض اللماع، تكثر من تقليبهما، وأظافرها برمة بالطلاء الأحمر الذي لم تعرفه قبل صباح ذلك اليوم؛ فهي تتفرس بها ثم تطبق يديها وتبسطهما، وتهم بأن تقرض أظافرها بأسنانها فلا تفعل. وقد استقام خصرها النحيل تحت صدر عَمُرَ وتوثب جانباه، وتصلَّب جيدها في عقد من اللؤلؤ المزيف، وتنقَّب وجهها في طوقة النور البهي الذي يغمر وجوه العذارى.
وأرهفت فتاتنا سمعها وجلةً فلم تسمع إلا ضربات فؤادها.
وأصغت فإذا بصدًى خافت يتسرَّق من خلال النوافذ المقفلة علمت منه أن الموسيقى لا تزال تعزف في الطابق الأسفل. وعبثًا حاولت أن تطرد عن أذنيها صدى مواعظ خالتها «أم عمر» التي ألقتها عليها والفتاة تستحم في فجر ذلك اليوم. وكانت تلك المواعظ خليطًا من الإنذار والتشويق ووصفًا للذة الجنسية وألمها لو لم تُطهر ألفاظه لتبذَّل. وكانت الفتاة تشعر بالدوار؛ إذ ذعرت لسماع نحنحة خفيفة في الخارج، وبان ظلٌّ فدخل الباب محترسًا واقترب منها متمهلًا ملقيًا في صوت ناعم مضطرب «مساء الخير!» ثم وقف الظل أمامها وامتدت يده إلى ذقنها، وعاد الظل إلى الكلام: «لماذا لا تنظرين إليَّ يا رئيفة؟» فرفعت نظرها خجلة متمهِّلة وأبصرت لأول مرَّة وجه محمد الكرار — الزوج الذي انتقوه لها — وابتسمت نشوى وقد فرَّ الخوف من نفسها، وانبسطت أسارير وجهها وطيات روحها في لذة الضعف الأنوثي؛ إذ يستسلم للرجل القوي، فليس في الدنيا ما يبعث في نفس المرأة غريزة الاستسلام مثل قوةٍ لفلفها الحنان.
يقولون لك: إن اقتياد فتاة إلى فراش زوج تجهله عادةٌ همجية بهيمية، بل يسرفون في القول فيذكرون أن الهمج والبهائم تتعارف وتتآلف قبل أن تتزاوج. أما أنت — يا قارئي — فإنك مثلي محافظٌ رجعي ترى السفه في ذلك الافتراء؛ إذ إنه في وسعك أن تستشهد بمئات من الأزواج والزوجات الذين قطعوا مراحل العيش هانئين وهم لم يبدأ تعارفهم إلا في ليالي الزواج. ومن أظهر هؤلاء الأزواج الفتى محمد الكرار وعروسه رئيفه عبد المجيد؛ فإن رئيفة صيَّرها محمدُ سيِّدةَ منزلٍ، وكانت في دار أبويها ابنة بين جمهور من إخوة وأخوات لا قيمة لها، ونعمت معه باللذة الجنسية المشروعة، فالتهبت بين يديه نزوات غرامها فأشعل تلك النيران برفق وأطفأها بلين وحنان. وأما محمد الكرار، فقد وجد في رئيفة عطف الأم التي فقدها طفلًا ووفاء الممرضة وهُيامَ الحبيبة التي تغزَّل بها شاعرًا يحس بالغرام ولا يُمارسه.
وهكذا مرت عِسال الشهور وهما في غمرة من سعادة لا يَفترقان إلا ساعات المداومة التي يقضيها محمد في المدرسة الابتدائية؛ إذ كان يدرِّس فيها ويديرها. وكانت رئيفة في غيابه تُطالِع الكثير، وتختصُّ بالقراءة من مكتبتها العامرة رواية «الغراب الشائب» لمؤلفها محمد الكرَّار، فما من يوم مضى إلا وأعادت قراءة تلك الرواية أو بعضها، وما من مساء عاد محمد من عمله في المدرسة إلا ولاقته رئيفة ضاحكة تُقبِّله وتُعيد عليه شيئًا من نكات «الغراب الشائب» أو حوادثها، أو مقاطعها الرائعة، ثم تسأله فخورًا: «هذا ما كتبت وأنت دون العشرين، ترى ما الذي تؤلف قبل أن تبلغ الأربعين؟»
وكانت تعيد هذا السؤال في النهار مرارًا، متَّئِدة في أول الأمر، حتى إذا مرَّت الشهور ولم ينتج محمد شيئًا صار السؤال يحمل رنة العتاب. وفي العام الثاني من زواجهما، أمست رئيفة تُلقي السؤال على زوجها بشيء من مرارة وقساوة، ثم تشير إليه بأسماء رفاقه في الدراسة وهم دونه مقدرةً كيف نَبه ذكرهم وكثُر إنتاجهم الأدبي، وكيف لهجت الصحف بأنبائهم، وقد صار بعضهم في أعلى مراكز الدولة، في حين أنه — محمد الكرار — لا يزال معلمَ مدرسة في إحدى ضواحي دمشق.
أما محمد فكان يداعبها قائلًا: «إني لا أطلب العظمة بل السعادة، وها إني في جنة الدنيا؛ دمشق، ظافر بملاك هذه الجنة؛ رئيفة، ومهنتي أشرف المهن؛ التعليم. من يطلب العظمة إلا الأبله؟ ولئن كنتِ تُصرِّين عليَّ بطلب العظمة، فاعلمي أنه كلما سما أحدٌ من رفاقي، شعرت أن قد نبتت ريشةٌ في جناحي وأن جناحي قويَ واستطال. ما صاغني الله غازيًا وما أنا بالطامح إلى الفتوحات. والآن، هاتِ قبلةً وابسمي فإنك بشعة حين تبسمين!»
وهكذا ركضت الأيام ورئيفة تتحرَّقها آلام الخيبة في زوجها الذي سمن ونعم، وبدأ الشعر يتراجع إلى مؤخرة رأسه في صلعة برَّاقة، واستدار بطنه في بروز هائل، وراح ضميرها يؤنِّبها أن تلك السعادة التي غمرته بها أطفأت نار نبوغه؛ فقد كان في أول العهد — على رغم انقطاعه عن الكتابة — تنطلق من شفتيه كلمات لاذعة وهَّاجة. أما اليوم فقد ترهَّلت نكاته؛ فهو يشير إلى صلعته ويسميها «بيضة الرخ العاجيَّة»، ويضع يده على بطنه ويقول: «كل العظمة التي أصبتها في الحياة التفَّت حول وسطي.» وشعرَت رئيفة بما يشبه الاحتقار والكره نحو محمد، ولكن ذلك الشعور كان يذيبه منظر محمد أو تصهره قبلاته.
وغير مستغرب أن من خمل شأنه قلَّ أصدقاؤه … ولقد نَسِيَ الناس «الغراب الشائب». وما كان محمد بالمثري أو الزعيم السياسي، ولا هو تطلب عشرة الناس؛ فانقطعت الأقدام عن داره، وما دخلها من غريب إلا جيولوجي أميركي طاعن في السن كان ينقِّب في الصحراء السورية على دمن مدينة غابرة، ويؤمُّ دمشق مرَّة كل شهرين لشراء بعض الحاجات فيتناول وقعة على مائدة تلميذه القديم محمد الكرار. وكان الأستاذ ورئيفة يتعاونان على محاولة قدح الشرار في نفس محمد، فيجيب هذا ضاحكًا: «تريدني — يا أستاذي — أن أنقِّبَ عن مدينتي مثلما أنت منقِّب عن مدينتك؟ لكنتَ أنت أسعد حالًا لو أنك مكثتَ مستريحًا في الغوطة تمتِّع نظرك بجمال دمشق العامرة لا مُتعبًا تنقِّب عن دمار مدينة غيَّبتها الرمال.»
وكان من عادة محمد حين يرجع إلى البيت في المساء أن يفاجئ زوجته بهديَّة صغيرة من أثمار أو حلويات، وربما ابتاع لها حلية مزيفة جذَّابة شأنَ من ضَؤُل راتبه وكبُر قلبه؛ لذلك لم تستغرب ذات عشية أن تسمع منه حين آبَ: «في جيبي شيء لك.» ثم ناولها بدلًا من الهدية ورقةَ دعوة لحضور الاستعراض السنوي في اليوم الثاني، وأخبرها أن مكانها سيكون على الدكة الكبرى المعدة للنساء، أما هو فسيمشي خلف الجيش، وزاد أنه سيحمل العلم السوري فيهزه مرتين: واحدة لرئيس الجمهورية، وثانية لرئيسة قلبه. بلى، فقد دبَّ إلى حديث محمد شيءٌ من السماجة.
فابتهجت رئيفة أن تصبح — ولو مرة في العمر — على دكَّة الاستعراض، وأن ترى محمدًا بين المتظاهرين يهزُّ العلم، وبكرت في صباح اليوم التالي فارتدت أجمل أثوابها، وبالغت في التجمُّل، وهرولت إلى دكة الاستعراض، في المكان المعدِّ للنساء، فرأت أن الحاضرات اللواتي سبقنها قليلاتٌ، وأن معظم الكراسي شاغرة، فأمَّت واحدة منها وهمَّت تقتعدها إذ اقترب منها شرطي سائلًا: «يا سيدة، أين بطاقتك؟» فأرته البطاقة، فأشار إليها أن تذهب إلى المقاعد الخلفية القصوى، فهذه الكراسي هي لعقيلات كبار الموظفين، وقرأت بعض الأسماء على تلك الكراسي؛ حرم حسين باشا العساف، عقيلة عبد المجيد بك السوقي، مدام جورج بك الديراني زوجات رجال كانوا بالأمس رفاقًا لمحمد.
وتراجعت خجلةً ميمِّمة ناحية الدكة الخلفية، فإذا بعجوز تصيح بصوت عالٍ: «بعض نساء هذه البلدة طموحات.» وعلت قهقهة من الحاضرات، وتطايرت العبارات الساخرة، ولم يهدأ الضحك إلا حين وصل رئيس الجمهورية بين الهتاف والتصفيق، فاعتلى مكانه وصدحت الموسيقى بلحن الرئيس، وتكامل عدد الحاضرين من رجال ونساء، وبدأ الاستعراض.
وكأن الطبيعة أرادت أن تشترك في الاحتفال؛ فأرسلت نسيمًا باردًا فإذا الأجسام مفولذة، والوجوه مستبشرة فرحة، والأعلام خفاقة. يا له من يوم مفعم بالروائع، ويا لها من مظاهرة! فقد استمر الاستعراض ساعة وربعًا مشى فيه الجيش بترتيبه البديع وأسلحته الصقيلة، ومشت الجماهير والوفود من حضر وبدو. وكان أحد خطباء دمشق يُذِيع ما يجري فيتكلم في ميكروفون يتصل بمحطة إذاعة الراديو، ويخلط روايته بالحماس أو المجون حسب ما تقتضيه المشاهد فتسرُّ رئيفة لما تسمع؛ إذ إن المذياع كان واقفًا خلف كرسيها. وفيما هي مصغية إلى فصاحته، علا التصفيق من الجماهير، واشتد الضحك، وثارت زوبعة من التصفير، وسمعت رئيفة المذياع يحدث: «إني أسمع التصفير والضحك والتصفيق ولا أدري السبب. رويدكم أيها السامعون! أظنني اهتديت إلى سبب الهرج، إني أرى تحت هذه الشمس صلعةً تبرق يسميها صاحبها «بيضة الرخِّ»، وأرى كومة من الشحم تمشي، وبالونًا منفوخًا يتوسَّط تلك الهضبة الشحمية. هذا صديقنا محمد الفرار، أظنكم تعرفون لماذا نناديه «الفرار»، وكان يُدعى «الكرار». لأنه كرَّ في «الغراب الشائب» مرة ثم ظل يفر. ها هو يهز العلم السوري لفخامة الرئيس. أتسمعون الهتاف؟ هو يهز العلم مرة ثانية نحوي. سلامات يا أستاذ! اسمعوا! اصبروا! إن أستاذنا محمدًا لم يعد كرارًا ولا فرارًا. ها هو قد سلَّم العلم لأحد تلامذته وربض على الأرض يلهث. اسمعوا الضحك والصياح. ها. ها. ها. هاتوا ليموناضة لأستاذنا المنهوك. تقدم ضابط فمسح بمنديله «بيضة الرخ» المباركة. برافو! نهض الأستاذ من جديد وتناول العلم. إلى الأمام يا فرَّار! ها هو يستأنف السير. إن كتلة الشحم تتدحرج من جديد …
واختل النظام هنيهة وساد الهرج، وراح الكل يضحكون، وغفلوا عن رؤية امرأة ناحلة قفزت من دكة الاستعراض ورمحت بين صفوف الجماهير، وأسرعت ماشية راكضة نحو بيتها تلهث باكية ثائرة تودُّ لو أن الأرض تنفتح فتدفنها وتدفن معها خجلها وخزيها والمهانة التي لحقت بها في ذلك الصباح. وحين وصلت رئيفة إلى البيت صعدت توًّا إلى غرفتها ففتحت النوافذ المقفلة وراحت تبترد في ذلك النسيم، وارتمت على كرسيها الحريري الباهت اللون تسبح عيناها بالدموع ويغتسل جسدها بعرق الإعياء. ومرَّت عليها ساعات ثلاث يدور حولها نسيم دمشق البارد فلا تشعر به، ورفق بها عقلها فخدر عن التفكير فلم تفقه أحيَّة هي أم ميتة.
وفجأة ظهر محمد فأهوى عليها يقبِّلها ضاحكًا، ثم حملها إلى السرير وأتاها بثياب، وأصر عليها أن تبدل أثوابها، وأغلق النوافذ وانصرف.
لم تنهض رئيفة في صباح اليوم التالي لتهيئ القهوة لمحمد على عادتها، بل إنها كانت تئنُّ وتتقلب وتهذي. وجسَّ محمد جبهتها بشفتيه فإذا هي حارة، ووضع محمد أنامله على نبضها فإذا هو قلق، متقطِّع، مسرع. وكان تنفُّسها مجهدًا وفي أعلى وجهها شبه دائرتين متجمِّرتين؛ كل عوارض ذات الرئة، تشخيص حققه الطبيب حين لبَّى الدعوة مسرعًا.
«حسبتني أداوي مريضًا واحدًا فإذا بين يدي عليلان.»
عبارة طالما ردَّدها الطبيب في غرفة رئيفة، فمذ لازمت الفراش عاف محمد مدرسته، وبقي يحوم حول سرير زوجته يثب لكل نأمة في الليل أو في النهار، متوتِّر الأعصاب، حانقًا، خائفًا، يغير وسادتها ويمسِّد لحافها، ويتعهَّد أمورها مسرعًا بإلقاء الكلمة الناعمة الحنون، مشجعًا إياها، حاسرًا عن زنديه يتخطَّى الغرفة كمن يتحدى عدوًّا يريد مقاتلته. ولقد زهد بالطعام، فلئن جيء له بما يأكله فعل متأففًا متعفِّفًا. أما النوم فما عرفه إلا كما تعرفه الهرر؛ غفوة ثم انتفاضة، ثم وثبة، ثم غفوة من جديد.
وجاء صباح اليوم السادس عشر ورئيفة غاطسة في نومها تتنفَّس تنفُّسًا هادئًا متسقًا عميقًا، صافية الوجه، فجسَّها الطبيب، وابتسم وهمس في أذن محمد: «ربحنا المعركة. ارجع إلى مدرستك.»
وودَّ محمد أن يرقص ويغنِّي أو يهتف، ولكنه كبح ثورة طربه مخافة أن تستفيق رئيفة من راحة غفوتها، فراح يتفرَّس بذلك الوجه الذي أحبه، وما درى إلا وقلمه في يده ينظم بضعة أبيات من الشعر في الإنكليزية يخطها على بياض الوسادة، وأحكم وضع الوسادة بحيث تقع عليها عينا رئيفة متى استفاقت. وكانت الأبيات أنشودة مطلعها: «صرعت الموت إذ دانى حبيبي!»
وحينما وضع محمد ساقيه في بنطلونه وجد أن بطنه ضمر قيراطين!
•••
تلك النوافذ التي لبثت مقفلة أسبوعين عادت تنفتح، وذلك الوجه الذي شحب عاد إليه الرواء، وذانك القيراطان اللذان ذابا استردهما وسط محمد الكرار قراريط، وكذلك رجعت المرارة تتأكل نفس رئيفة إذ عادت إليها الحياة، غير أن حبها لمحمد عمق وزها صفاؤه؛ فليس من شيء يجعل النفس تتماسك مع نفس أخرى مثل أن تترافقا في سفرة خطرة.
وفيما تتمطى الحياة في منزل هذين الزوجين فاجأهما البريد بحوالة مائة دولار ثمن «صرعت الموت»، واعترفت حينذاك رئيفة بأنها أرسلت الأبيات إلى عنوان نقلته عن مجلة أميركية، فتسلَّم محمد الحوالة ووقع على صك طويل عريض مطبوع بحروف صغيرة، مبتسمًا ابتسامته الهادئة غير مكترث، شأنه في جميع أمور الحياة، حتى إنه لم يقرأ الصك الذي وقعه، كذلك غفلت رئيفة عن قراءة الصك؛ فقد أصبحت فوَّارة المرح بهذا الظفر فلا تطيق قراءةً.
في خريف ١٩٤٦م، كان في دمشق موضوع واحد للمجون: محمد الكرار؛ فقد اكتسحت الدنيا أغنية «صرعت الموت»، وتُرجمت إلى كل اللغات، وأُنشدت في المراقص والحانات، وحينما جهرت رئيفة بأن زوجها هو ناظمها تجاوب الضحك في أنحاء المدينة، فأيٌّ يصدق أن محمد الكرار نظَّم قصيدة قبض عليها مائة دولار ووقَّع صكًّا يتنازل به عن كل حقوقه، صكًّا طُبع بأحرف صغيرة تكاسلَ عن قراءته قبل أن يمضيه؟ ومتى عُرف عن «الفرار» أنه شكسبير اللغة الإنكليزية؟
وكأن ربَّة المجون لم تكتف بهذا لتشبع بالهزء عابديها، فجاءتهم بشيء أضحك؛ فقد هرع تلامذة الأستاذ محمد إليه ذات صباح؛ إذ أبصروا به ووجهه إلى الجدار يعالج بطنه بيدٍ، وسبَّابة اليد الأخرى في فمه يحاول أن يتقيأ، فلما سألوا عن حاله أجاب: ما من أمر خطير. زوجتي في وحامها، وفي بعض الأحيان تصيبني أعراضها.
يسوءنا أن نعلم أن إجهاضًا جرى في منزل الأستاذ محمد الكرار، وقد انقطع الأستاذ عن المداومة في مدرسته. ونحن فيما نذيع هذا الخبر آسفين نتساءل: ترى أي الزوجين أجهض؟
بين الحيوانات الناطقة فئة سادية لا تستطيب الحياة إلا حين تدوس على الضعيف؛ فإن السقط في نفوسها يتطلب التفوق، فلا يظفر به إلا في إظهار القوَّة على من ضَؤُلَ شأنه. هم في بعض الأحيان يسرفون في الإجرام حتى ليقتلوا، وأحيانًا تقصر جناياتهم على ترويج الأكاذيب. وكانت من ضحايا هذه الشيمة الصفراء رئيفة؛ إذ إنها بعد أن فقدت جنينها ضجرت بمنزلها فصارت تبتعد عنه فأوسعها ذلك، وهي قد فهمت من الطبيب أنها حين فُجعت بالجنين فقدت أمومتها إلى الأبد. ولقد أرادت ذلك الجنين أملًا يحقق ما وعد به محمد من فوزٍ وأخفق بتحقيقه في الحياة. فها هي الآن وزوجها ميت حيٌّ، وآمالها بطفل قد تلاشت، وغريزة الأمومة فيها مكبوحة، فلا عجب أن نبذت القعود في البيت، وصارت تنزل إلى السوق تبتاع حاجاتها بنفسها من خضار ولحم وثياب وعطور وغيرها، تبتغي بذلك التسلية وقتل الوقت. وأمست تُطيل الوقوف في الحوانيت لا تنعُّمًا بالوقوف، بل اتقاءً لشرِّ المكوث في البيت. هذا، وقد بدأت أسعار الحاجات تتصاعد بحيث صار راتب زوجها يقصر عن شراء كل شيء تحتاجه، فأصبح من الحكمة التروِّي في الشراء والانتقاء والمساومة.
لذلك ارتجفت الألسنة السوداء بسم الأقاويل: «هل بلغك أن رئيفة تُطيل الوقوف في دكان اللحام؟ … هل سمعتِ أنها تتهامس مع ذلك العطار؟ … هل قيل لكِ إن رئيفة والبقال في مغازلة؟»
وكان من حسن حظ رئيفة أن لم يبقَ لها عشراء، فلم يترامَ إليها ما يقال عنها.
وكأن آلامها من الإجهاض، ونكبة الخيبة بمحمد، وفشلها في أمل يُعيضها عن محمد، وأوجاعها من رؤية ذلك الفتى الذي عشقته وما تزال تهواه، والذي سمعت من شفتيه أولى كلمات الحب في ليلة الزفاف، وها هي تراه قد مسخ كاريكاتورًا، وكأن شقاءها في عزلتها عن الناس؛ كل هذه تكالبت عليها؛ فنحلت وتهدمت، فما عادت تستطيع الخروج من البيت في بادئ الأمر، ثم عيَّت عن الحركة فلازمت الفراش وبدأت تتلاشى.
أما الأطباء فقد جاءوها فُرادى وبعثات، وأما الأدوية فقد استحالت دار الكرَّار إلى صيدلية. ونزلت بمحمد الحيرة فلم يدرِ ماذا يفعل؛ فقد دعا الإخصائيين من دمشق، وبيروت، والقاهرة، وكلٌّ يصف علاجًا، ويذكر اسم علَّةٍ، ولم يتفق اثنان على تسمية الداء، غير أنهم أجمعوا على أن رئيفة إن لم تكن مسلولة فهي على أبواب السُّل، وأن هواء الصحراء الجاف يفيدها؛ لذلك تهافت محمد على قبول وظيفة معاون لأستاذه الجيولوجي في الصحراء السورية. وانتقل برئيفة وأدويتها إلى خيمة في البادية تحاذي خيمة الأميركي البحَّاثة، وقطع علاقاته مع المدرسة في ضاحية دمشق.
وهكذا مرت الشهور على تلك الخيمة يظللها شبح الموت، ولا يسمع فيها إلا أنَّات رئيفة وشظايا من كلامها؛ إذ هي تحرض محمدًا على الاعتناء بصحته، وتضرع إليه أن يأكل وأن ينام، وتبكي إذ ترى نحوله وشحوبه ونظراته التائهة. أما محمد فقد يئس من الطب وغمر الحزن قلبه فَكَرِهَ الكلام، فما عاد يُرى إلا في بحران من التفكير، اللهم إلا حين يفتح القرآن ويجوِّد آياته؛ فإن قلبه ينعم بالإيمان، فما تتبدَّد آلام نفسه ولا يسكن قلقه إلا في نشوة ترتيل سور المصحف الكريم.
وراحت الحياة تجمد حول تلك الخيمة، وكثف ظل الموت واسودَّ، ورئيفة تهبط نحو الفناء ببطء وألم، ومحمد يتهدَّم ويحزن ويجوِّد القرآن.
وذات ظهيرة، إذ كان المخيم ينتظر عودة الأستاذ الأميركي من دمشق، ظهرت سيارته القديمة تتبعها قافلةٌ من سيارات، وسرعان ما نزل منها جمع من صحافيين ومصورين، يترفَّه بينهم في الوطء على الثرى بعضُ كبار موظفي الدولة السورية، وأقبلوا على محمد يهنئونه ويهزُّون يده بحماس. وفي الوهلة الأولى، ظنَّ محمد أنه انتقل إلى عالم المجانين، أو أن أحد مجَّاني دمشق قسا عليه بأضحوكة جديدة. ولكن الأستاذ الأميركي تقدَّم ووضع يده برفق على كتف محمد وقال: «لقد اقترفت نحوك إثم السرقة؛ فإني كنتُ أبصر بك قرب هذا السراج في الليالي وأراك جادًّا في الكتابة، وصرت أترقب انصرافك فأسرق — على علم من رئيفة — ما تكتبه، فأنسخه حتى اكتملت روايتك «عنترة والنفط». لقد أرسلتها إلى هوليوود فاشتروها. إنما أحدثوا فيها تغييرًا. لا أدري إن كنت تذكر ما ألَّفت؛ فأنا أعيده عليك: كبير مهندسي شركة نفط أميركية — وهو كذلك أعظم مساهم فيها — يستضيف شيخ قبيلة عربية في الصحراء، يكتشف الزيت ويشتري، بل يكاد يستوهب الشيخ امتياز استغلال الزيت لقاءَ ثمنٍ بخسٍ. تأتي ألوف العمال، وترسل ألوف المعدات، وبعد الحفر يجدون أوقيانوسًا من نفط فيفرزون القساطل، وفيما هم يهمون باستخراج النفط، يظهر طيف عنترة فيجوِّف رمحه ويشكه بالبئر فينتزع كل النفط ويفرغه بظرف صغير، ويضع الظرف وراءه على حصانه وينصرف كما أتى شبحًا لا يراه إلا رئيس المهندسين الأميركي.
وهكذا كلما حفر المهندس بئرًا وظفر بالنفط، جاء عنترة فامتصَّ النفط برمحه إلى ظرفه، واحتمله على جواده ومضى.
وطبيعيٌّ أن تضطرب أمور الشركة الأميركية المستثمِرة وتهتز ماليتُها ويدبُّ الذعرُ في قلوب مساهميها، وتستبدل المهندس بآخر ثم بغيره وغيره، فما أفاد التبديل، بل استمرت الآبار تطفو بالنفط ثم تجف. وكان أن تُوفي الشيخُ وتولى زعامة القبيلة ابنه، وهو فتًى عالي الدراسة، ففتَّش بين أغراض أبيه عن نسخة من اتفاقية النفط فلم يجدها، وطلبها من الشركة ففتحوا صندوقهم وانتزعوها فإذا هي بيضاء إلا آخر ورقة منها كانت خالية من الكلمات ولم يظهر عليها إلا صورة عنترة وحصانه ورمحه وظرفه.
وليس الأميركان من الذين يؤمنون بالسحر أو الأعاجيب، ولا هم من الذين يفرُّون من مواجهة الحقائق، فأدركوا أن كل ما في الأمر أنهم يملكون معدات ثمنها ملايين نثروها في أرض نائية غريبة، وأنهم أنفقوا الملايين في محاولة استغلال مشروع لا تحمي حقوقهم فيه عقود مقاولة. فأسرع رئيس الشركة إلى ابن شيخ القبيلة ونفحَه اتفاقيةً سخت شروطها على ابن الشيخ، فصار الأميركان متى ظفروا بالزيت قدروا على استخراجه من غير أن يسبقهم إليه عنترة. وكان خلال ذلك — وهنا ظهرت أصابع هوليوود — قد اشتبكت عواطف ابن الشيخ في معركة غرامية؛ أحب ابنة رئيس الشركة، وزهد في النفط والخيام والثقافة، بل ترك أمور القبيلة لأخيه الأصغر، ووثب مع فتاته إلى خلف عنترة، وراح جواد هذا يعدو بالثلاثة وبالظرف الفارغ إلى الواحة الكبرى في قلب الصحراء، تلك التي يحجبها السراب ولا يسكنها إلا كل من رضي عنه عنترة.»
وفيما كان الأستاذ الأميركي يروي مختصر رواية «عنترة والنفط» كان الصحافيون يدوِّنون الملاحظات، والمصورون يلتقطون الصور. وعاد الأستاذ إلى الكلام: «هذه المرة لم نقترف غلطة «صرعت الموت»، فسلطنا عدسة المكرسكوب على كل حرف من سطور الاتفاقية ولم نوقع من غير أن نقرأ. في الأسبوع القادم، ستحتفل هوليوود بعرض فلم «عنترة»، وسيكون محمد الفرَّار هناك ليساهم بالحفلة، وليتسلَّم مائة ألف دولار ثمن روايته.»
أما محمد فكان يسمع ويرى ولا يدري ما الذي يجري حوله، غير أنه استفاق عند سماع خبر سفرته إلى هوليوود وعلق بصره بتلك المضطجعة على السرير فآلمه أن يرى ذلك الوجه الشاحب وقد تهدل جلد ساعدها فبانت عظامه، حتى ليحسب الناظر إليها أنها ميتة لو لم تكن عيناها نجمتين بالحياة تسطعان.
وعبثًا تضرَّع الأستاذ الأميركي، وتشفعت رئيفة، ورجا صحافيو دمشق أن في ظهوره شرفًا للعرب، فكان محمد يجيب أن ما يشده إلى سرير رئيفة هو شيء أثمن من الشرف، وأحب من الشهرة، وليس من شيء يُغْرِيه بترك الخيمة.
ولكن محمدًا في نهاية الأمر سلخ نفسه عن تلك الخيمة حين ظهر له أن سفرته قد تيسر الفوز بطبيب عالمي الشهرة يصطحبه في أوبته فيصف لرئيفة ما يشفيها.
•••
حينما حوَّمت الطائرة فوق مطار دمشق كاد محمد الفرَّار أن يقفز منها ليعدو نحو خيمة رئيفة، وما إن وقفت وفتح الباب حتى أمسك بذراع الدكتور «ماديسون» وصاح به: «وصلنا! وصلنا!» وسمع محمد هتاف الجماهير متبرمًا وتقبَّل التهاني والوسام حانقًا، وأصغى إلى القصائد والخطب في ضيق صدرٍ، وما تنفَّس الصعداء إلا حين ركب الأوتوموبيل مع الدكتور «ماديسون» يرافقهما بعض مشاهير أطباء دمشق الذين عالجوا رئيفة وقصدوا جميعًا إلى المخيم في الصحراء.
وكطائر عاد إلى عُشِه وفراخه بعد سفرة منهكة خطرة، هكذا ترامى محمد على سرير رئيفة يُقبِّلُها ضاحكًا باكيًا، تهتزُّ نفسه بين تيَّارات العواطف، ثم أفسح المجال للطبيب «ماديسون» فتقدم إلى المريضة وقال: «أراك فتية! يجب أن تستثيري كل ما في قواكِ من عزم، وتتعاوني معي على صرع هذا المرض. إن محمدًا في حاجة إلى رفيق في سفرة هذه الحياة.»
فأجابت باسمة: «إن محمدًا بلغ الذروة، ومن صار في القمة لا يحتاج إلى رفيق!»
فهز الطبيب رأسه وطفِق يتفحَّصها ويسأل زملاءه عن العلاجات التي وصفوها، ووقف حائرًا يخاطب الأطباء بقوله: كل ما فعلتموه ووصفتموه كان صحيحًا.
ووقف «ماديسون» حائرًا، ثم اقترب من العليلة ثانية يجسُّ صدرها، فارتطمت أصابعه بشيء صلبٍ خِيطَ طيَّ قميصها فانتزعه بعنفٍ، وإذ رآه انتفض صائحًا: «سم البنغال!» هذا السائل هو السم الذي يقتل ببطء وليس له من علاج!
وتطلع إلى الأطباء هائجًا: من منكم وصف هذا العلاج السامَّ؟
وصاح محمد هلعًا: رئيفة! من أعطاك هذه الزجاجة؟
فابتسمت رئيفة وتكلمت بهدوء الظافر: لا تتهمْ أحدًا. لقد فتشتُ عن هذه الزجاجة طويلًا حتى وجدتها أخيرًا في سوق العطارين. ما هي بزجاجةٍ تلك، وما سائلها بسمٍّ، بل هي الدواة التي بحبرها كتبتَ رائعتك «عنترة والنفط». والآن اقترب مني وخذ بيدي وحدثني عن الحفلة الافتتاحية في كاليفورنيا وكيف استقبلتك دمشق في المطار …
وشعَّتْ الحياةُ في وجهها ومضةً ثم اضمحلَّت.