الخِطابُ المبتورُ
وقعدنا في ديوانه نتحدث صامتين؛ أنا والباشا.
أصغي أنا إلى أفكاره فأسمعه يقول: «أنا الوزير وهذا ديواني. إن صحف بيروت تطبع صورتي وتنشر أخباري كل يوم. بين يديَّ سيف السلطة، وجاه الحكم، وأُبَّهَة السلطان. أنا عشير الملوك وخليل السفراء. إيماءة من إصبعي على هذا الزر، تسيِّرُ جيشًا. من هذا الشبح الجالس أمامي، الطافر من ظلمة ماضٍ بعيد؟ بلى، عرفته في الجامعة، ولكن ذلك منذ ربع قرن. وليكن اسمها جامعة، فهي مدرسة على كل حال. وماذا يهم إن كان هذا الرجل ذا شأنٍ في أيام التلمذة ومتفوقًا عليَّ؟! هذه مدرسة الحياة وأنا فيها وزيرٌ. أما هو، من هو هذا العائد من مهجر يجهل موقعه أساطين الجفرافية؟ ومن يأبه لتلك التسعة دولارات والثلث من الدولار التي قيل إنه جاء بها من غربته؟! وما له يقتعد ذلك الكرسي مثقلًا بثقة النفس؟! وما هذه البسمة الساخرة على شفتيه؟! تراه تحدثه نفسه أنه أحق بمقعدي مني والله …
وأنصتَ هو إلى صمتي فراعته رعود تفكيري وبروقه: «الله، الله! هذا نديم بعينه، رحم الله عهد التلمذة، يوم كان مسعود يتبع خطواتي مبصبصًا بذنبه، متوددًا إليَّ، يستكتبني خطابًا أو يرجوني أن أصلح له مقالًا، ثم يستعطفني أن أتوسط له صحافيًّا ينشر له ذلك المقال. بلى، كان مسعود موسرًا فأبوه يغدق عليه الحوالات من أوستراليا. وكان مسعود أنيق الثياب. ولقد أوحت أناقته وفخامة مظهره الأجوف إلى أحد مجان الجامعة «سمير ملُّوك» أن يطلق عليه لقب «الباشا». وهذه خمس وعشرون سنة مرَّت، تقلَّب خلالها مسعود على كراسي الحكومة حتى منحه ملك عربي لقب باشا.
فصار «الباشا» باشا من صحيح. هل انتقمت الأيام منا أم أنصفت مسعودًا؟ وكدت أقهقه هزءًا بنفسي وبسمير ملوك، أم هزءًا بمسعود؟! لم أدرِ …
ولبثنا في صمتٍ يشقُّ دويه الآذان، حتى التقت عيوننا، فابتعد اللؤم عن نفسينا، وذبنا نحن الاثنين في ضحكة طاهرة، هي سكرة الروح إذ تستلُّ من ذكريات صباح العمر أشعةً تنفذ إلى كوى النفس فتثير ظلمة كهولتها وتبخر ما فيها من قذارة، فنسينا الخصام والتفوق والحسد. ومضت ساعة أُنسٍ ودُعابة، فلما هممتُ بالانصراف، صاح بي مسعود: «إذن أنت عازم على زيادة «سرابايا»؟ ما أجمل هذه المصادقة! أنا قاصد إلى «سرابايا». هي في قائمقامية «العباسية». ما اسمه؛ صديقك الذي قُتل في «الفلبين»؟ رشيد المغربي؟ بيت المغربي جماعة «أَوادم». في الانتخابات الماضية، أعطونا أكثرية ٩٤ صوتًا. سآمر الحاجب أن لا يطلب منك بطاقة حينما ترجع في صباح الغد. ادخل هذا الديوان فور وصولك. نمشي حوالي الساعة العاشرة … على فوقه، يجب أن تنسفهم خطابًا. لئن كنتَ نسيت صنعة الخطابات ففي ديواني كاتبٌ لا بأس به يحسن إنشاء الخُطب. لا تدفع له شيئًا فمعاشه يكفيه، وأنا دائمًا أتصدق عليه بشيء. رويدك! وكبس الزر الكهربائي كبستين طويلتين، وكبسةً قصيرة، فما أسرع أن هرول إلينا رجل أصلع شاخ فتيًّا، فزرر سترته وانحنى متضعدًا أمام الباشا؛ فخاطبني الباشا مشيرًا إلى الكاتب: «لعلك تذكره، هذا «سمير ملوك».»
•••
ولقد علمتني الغربة احترام الوقت وتقديس المواعيد، فمثلتُ في ديوان الوزير في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي، فلم أجده هناك. وبعد انتظار ساعة أقبل في طليعة جماعة تواكبه، وجثم على كرسيه يتحدث معهم بشئون لم أفهم مغازيها، فمن بحثٍ في سباق الخيل، إلى الإعجاب بفيلمٍ مصري ظهر حديثًا، إلى نقدِ قصيدة رثاء، إلى مفاضلة بين سيارتي «كرايسلار»، و«بويك». وأنا بينهم صامتٌ مشدوه حتى جاءت ساعة الظهر فدعاني الباشا إلى الغداء معه. ولم نترك بيروت حتى الساعة الواحدة بعد الظهر؛ إذ سرنا في قافلة سيارات تحمل جنودًا وموظفين، وكنا كلما بلغنا قرية، أوقفَ الموكبَ جمهورُ القرويين، وتبادل الوزير الخطبَ معهم والأحاديث السياسية. وأذكرُ أنَّ وظيفة معاون جمرك في بيروت كانت شاغرة في ذلك الحين، وكان الوزير يعِدُ بها عشرة أشخاص في كل قرية نمرُّ بها. وكان الباشا يباهي أمامي بدهائه السياسي: «السياسة (وتفلسفَ الباشا) هي أخذٌ وعطاء. خذ مواعيد بأصوات انتخابية، وأعطِ وعودًا بوظائف حكومية.»
قلتُ: «وإذا جاء يوم الحساب، فكيف تبرُّ بوعودك لهؤلاء وتقعدهم كلهم في كرسي واحد، أَتُراك تفعل المستحيل وتُكذب علماء الطبيعة …؟»
فابتسم وقال: «إن السياسي هو رجل يفعل المستحيل، ووظيفة معاون الجمرك اتفقنا بالأمس مع دمشق أن تكون لسوري!» وقهقه.
وراح الباشا الوزير يضخِّم في عيني نفسه كلما أوغلنا في هذه السفرة، فطفق يحدثني من جديد عن ذلك الكتاب الذي يهمُّ بتأليفه، وأنه يستمد عناصره من الحياة مباشرة. وصار الكتاب يضخم بعد كل استقبال، حتى حسبت أنه إذا استمرت استقبالات الأهالي، فسيصبح الكتاب دائرة معارف.
وهوَّن الله، فبلغنا سراي «العباسية». وكان الاستقبال هنالك رائعًا؛ إذ أتت وفودُ القرى ببيارقها، واستلفت نظري علمُ «سرابايا» المتعدد الألوان. وعلا الهتاف للوزير. وسرعان ما اعتلى الباشا منبرًا وراح يخطب في الشعب؛ فبعد أن تغنَّى بالعباسية وأمجادها التاريخية، وأكدَّ لسامعيه أن أيًّا من أبناء قائمقامية «العباسية» يفوق سوبرمان، وطرزان، وغاندي، وأنشتين، ونيوتن، وعلي الزيبق أو هنري فورد أو عنترة العبسي؛ تخلَّص إلى ذكر «الفلبين» والفاجعة التي نزلت بالشرق المتوسط باستشهاد البطل رشيد المغربي، وأن الباشا حينما علم بالخطب من صديقه — وأشار إليَّ — أسرع فسألني أن آتي بنفسي لأحمل لبني العباسية وصية شهيدهم الأخيرة.
إذ ذاك أشرقت عليَّ الحقيقة حين عرفت أن زيارة الباشا للعباسية لم تكن صدفة، وأنه اقتادني إلى هناك ليستثمر حضوري ويبتاع به أصواتًا انتخابية. وكأنه لمح حنقي، وكنت إلى جانبه على المنبر، فأخذ يقدمني للجمهور، ويعزو إليَّ مقامًا سياسيًّا في المهجر لم أحلم به، وغمرني بألقاب علمية لم أسمع بها، ولقبني بسموأل لبنان الذي تحمَّل أخطار الأسفار ومشاقها إلى لبنان لأحمل وصية الصديق الأخيرة.
أيها الإخوان
كان رشيد المغربي بين يدي حينما لفظ أنفاسه الأخيرة، فهز حامل علم «سرابايا» بيرقه وصاح: «فليحيَ بطل سرابايا!»
فأجابه فتى يحمل علم «الفحيص»: «اخرس! إن رشيد المغربي ابنُ الفحيص، فليحيَ رشيد المغربي بطل الفحيص!»
وتطايرت الشتائم، واشتبك بنو القريتين في معركة بترت خطابي؛ فوجمت واتخذت موقفًا حياديًّا. ولقد علمتني معارك «الفلبين» أن الحذَر كل الشجاعة، فهرعت أبتغي مكانًا قصيًّا، غير أن أمواج المعركة غمرتني، ولم أدرِ إلا وعصًا كُسرت على كتفي الأيسر، فماجت الدنيا في عيني ووقعت على الأرض أستمعُ إلى أصوات القتال بيمنى أذنيَّ، وأصغي باليسرى إلى زقزقة عصافير الجنة …
وفرَّق الجند بين المتقاتلين، وتوسَّط العقلاء؛ فسكنت الجلبة، واعتلى الوزير المنبر ثانية. فبعد أن مجَّد قرية «سرابايا» وعظَّم ضيعة «الفحيص»، ذكر أن الشهيد رشيد المغربي ولد في «سرابايا»؛ فهو ابنها غير منازع (هتاف من بني سرابايا)، غير أن أملاكه في «الفحيص» وزوجته منها، وفيها كان عداد تذكرة نفوسه؛ فهو بدون شك فتى «الفحيص» (هتاف من الفحيصيين). وكان الباشا يودُّ أن يطلق على الشهيد لقب «بطل القريتين»، ولكنه يريد أن يزيد إلى أمجاد «العباسية» التاريخية فتحًا جديدًا، فهو يرغب إلى الجمع أن يوافقوه على تسمية الشهيد «بطل العباسية» فدوى الهتاف، وأُطلق الرصاص، وهاج القوم فرحين مؤيدين اقتراح الوزير في حكمته السليمانية، فشكرهم الباشا، وتمنى الشفاء العاجل للأربعة عشر جريحًا.
- أولًا: مطالبة الحكومة الأميركية بتعويض مالي لأسرة الشهيد.
- ثانيًا: إقامة تمثال ﻟ «بطل العباسية» وتوجيه الدعوة للتبرعات إلى المهاجرين في أنحاء الدنيا.
- ثالثًا: مطالبة رئيس الجمهورية اللبنانية بتعليم أولاد الشهيد على نفقة الحكومة.
- رابعًا: شكر فخامة الوزير لعطفه على المقاطعة.
- خامسًا: إرسال تلغرافات إلى صحف بيروت بهذا المعنى.
قال الوزير لسائق السيارة: «تمهل!» وأوضح لي: «أريد أن أتمتع بمشهد هذا المغيب. أودُّ في كتابي وصف سيارة تنحدر إلى بيروت عند الغروب. وعلى ذكر كتابي آسف أنك لم تُنه خطابك. قل لي ماذا كانت كلمات الشهيد الأخيرة؟ فقد سمعت أنه مات بين ذراعيك.»
أجبت: «لقد نطق بكلمة واحدة قبل أن يلفظ أنفاسه.»
– أيُّ كلمة؟
– كلمة «آخ!»
– قل لي كيف صرع؟
– كان بين نارين.
– اليابانيون والأميركان؟
– اليابانيون وزوجته.
– وكيف كان ذلك؟
– أرادت زوجته أن تغسل فسطانها، فأمرتْ زوجَها رشيد المغربي أن يملأ لها سطل ماء من قسطل قرب اليابانيين، فلما دنا منهم صوَّبوا البنادق وأمروه بالرجوع.
– ولماذا لم يرجع؟
– لأن امرأته أمرته أن يملأ السطل ماءً …
– إذن فقد مات …
– حاملًا سطلًا …
قال الباشا: «أريد أن أصف — في كتابي الجديد — كيف يتفجر الدم من صدر قتيل. قل لي بمَ شعرت حين رأيت الدم يفور من صدر صديقك؟
– لم يكن هناك من دم.
– إذن كيف قُتل رشيد المغربي؟
– الخوف قتَّال يا باشا!
وقبل أن نترجَّل من السيارة في بيروت، شعرتُ أنه جاء دوري بإلقاء سؤال؛ فتطلعت إليه وسألته بلهجتنا أيام التلمذة: «مسعود! كيف حذقت هذا النفاق؟» فضحك حتى كاد يُغْمى عليه، وأمسك بكتفي الصحيحة وخاطبني بلهجة الحكيم يعظُ أحمقَ، فقال: «الصدق قتَّال يا باشا!»
وحينما غابت سيارته عن عيني وانقطع صوت قهقهته، تبلجت لي الحقيقة المؤلمة، وهي أن مسعود ألبسنا في زمن الكهولة وفي مدرسة الحياة لقبًا خلعناه عليه أيام الصبا وفي مدرسة التلمذة، فخاطبت نفسي معترفًا بلقبي الجديد: «هذه حال الدنيا يا باشا.»