البُرهان القاطِعُ
بعد السلام والكلام، أسمعني تلك العبارة من جديد، فأمسكت بكلتا يديَّ قميصَه من تحت عنقه وهززته هزًّا عنيفًا رجرج نظارتيه، وصحت: انطقْ بهذه العبارة مرة ثانية، ترَ نفسك مضطجعًا على مخمل هذا الرصيف تعدُّ نجوم السماء في هذه الظهيرة …
ولقد كنت فظًّا قاسيًا على مخاطبي، ولكنها عبارة سمعتها من كل من لقيته بعد رجوعي إلى «مانيلا» على إثر دخول القوات الأميركية تلك المدينة، وتحريرها من اليابانيين؛ إذ طُفْتُ الشوارع والمتاجر أطلب وأتداول مع أصدقائي ومعارفي في شئون تحصيل الرزق. وكانت كل محادثة تبتدئ أو تنتهي بنفس العبارة: «افتح خمارة.»
كيف أفتح خمارةً وقد وُلدتُ وشبَبت في «بعقلين» لبنان، تدوي في أذني كلمة «حرام». بلى، حرام أن تقبض «فائضًا» على دَينٍ؛ حرام أن ترمي بكسرة الخبز، أو تنفق من معاشات الحكومة أو من دفعات المهاجرين؛ حرام أن تدخِّن سيكارة أو تفوه بشتيمةٍ؛ كلُّ شيء حرام إلا عبادة الله، وقهر النفس، وحراثة الأرض، والعناية بها.
وهنا في «مانيلا» يريدونني أن أفتح خمارة! أي شيء من ماضيَّ بانَ سافلًا فشجَّعهم على مثل ذلك الاقتراح! فلا عجب إذن أن ثار حنقي حين سمعت تلك العبارة من جديد. وإني عصبي المزاج لا أقوى على كبح غضبي متى ثار، لا سيما إذا كان خصمي وضيع الحال، نحيل البنية. عجبًا لسراع الغضب: كيف يضبطون عواطفهم أمام من يفوقهم قوة أو شأنًا؟! ذكرني متى اجتمعنا أن أروي لك كيف استطعت أن أكبح جماح غضبي في حضرة ضابط ياباني يدغدغ كتفي بسوطه، ويصفُ السالفين من أهلي بكلمات تُسمع ولا تُطبع!
وحين أفلتت فريستي من يدي تابعتُ تسياري في الشوارع، فألفيت حوانيتها خمارةً تجاور خمارة، فضلًا عن متجولي الباعة الذين ملئوا جيوبهم وأيديهم بقناني الوسكي، والجنود والبحارة يملئون الشوارع والأقنية بأجسامهم وشتائمهم ودولاراتهم وعراكهم. ولئن جاز أن تسمى دمشق مطبخًا كبيرًا، فقد كانت «مانيلا» في تلك الأيام حانة كبيرة.
وفيما أنا أحسب نفسي أسيرُ وحيدًا، تطلعت فإذا بالأسود الباسم ذي القرنين والذيل الطويل يماشيني قائلًا: يا مجنون! حين ترجع إلى لبنان، سيسألونك: كم جمعت من مالٍ، لا كيف جمعت المال. ارجع عن غباوتك، وافتح حانة تغنيك في شهرين. تلك الدنيا التي عمُرت بها مخيلتك طُمست ولن ينقب عن آثارها الباحثون!
«هَلو عمُّو!» بادرني وليم زعرور الجندي اللبناني الأميركي، طاردًا الشيطان من جواري: «أراك سابحًا في التفكير، بماذا تفكر عمُّو؟» قلت: إني أفكر بوسيلة أكسب بها دولارًا من غير أن أفتح خمارة!
قال: لماذا لا تحاول الخدمة في الجيش؟
– هاه؟!
– كمَدنيٍّ أعني. إنهم يستخدمون ألوف المدنيين. اذهب إلى البناية الكبرى قرب المرفأ وقدِّم استدعاءك.
وحين صعدت درجات تلك البناية، لم أدرِ كيف بلغتُها؛ فإني لم أركب أي عجلة تمشي على دواليب، كذلك لم أذكر أن قدميَّ لمستا الأرض، غير أني أعرف من نفسي أني متى أردت الإسراع شددت على كتفي جناحين.
«إني أطلب عملًا.» أجبت الفتاة الأميركية التي سألتني: «هل في وسعي أن أسعفك؟» فناولتني ورقة ملأتها باسمي، وجنسيتي، وسيرة حياتي، واسم أبويَّ، وثقافتي، وأمضيت تلك العريضة ودفعتها إلى الفتاة سائلًا: متى أعود؟
قالت: إن لم تكن في عجلة فاصبر قليلًا، نحن في حرب ونفعل كل شيء بسرعة.
فجلست في قاعة الانتظار هنيهة، وسرعان ما عادت الفتاة مبتسمة قائلة: تفضل بمقابلة كابتن كلي.
وتبعتها إلى حيث أشارت، فنهض الكابتن وحياني وقدم إليَّ سيكارة قائلًا: إني درست عريضة استدعائك. إن المعاش الذي ندفعه لك هو ١٥٠ دولارًا. أراك تبتسم. إني أدري أن هذا المعاش لا يكيفك؛ أنتم المدنيين تدفعون دولارًا ثمن عشرين سيكارة وثمانية دولارات ثمن كيلو لحم؛ لهذا دعوتك إليَّ. أراك تدَّعي أنك خريج الجامعة الأميركية في بيروت! هذا حسن، حسنٌ جدًّا! إننا نحسبك كخريج جامعة أميركية في الولايات المتحدة ونجعل معاشك تسعمائة دولار، أراك فرحًا. إنما لا تتعجل، فنحن نريد برهانًا قاطعًا على أنك خريج الجامعة الأميركية في بيروت … هل لك أن تأتيني بشهادتك؟
قلت: إنها …
– احترقت. هذا ما كنت أخشاه.
– لا … لم تحترق، ولكني أحرقتها خوفًا من اليابانيين. غير أنه في وسعي أن آتيك بشهود …
– شهود؟ ما نفع الشهود. أنا في وسعي أن آتيك بشهود أنني أنا الرئيس روزفلت وغريتا غاربو.
– لماذا لا تبرقون إلى بيروت؟
– التلغرافات هي للأمور الحربية فقط، ولكن تعالَ معي إلى ج٢؛ دائرة الاستخبارات؛ هناك يعرفون متى حشوت ضرسك، وماذا همست في أذن حبيبتك إذ قبلتها لأول مرة. هيَّا بنا فمكتبهم في البناية المقابلة.
ومشينا معًا، ولم أستغرب الأهمية التي يعلِّقونها على الجامعة الأميركية في بيروت؛ فإني ما حدثت أميركيًّا إلا وجدت أنه قد سمع بتلك الجامعة؛ فمعظمهم يجهلون أين هي سوريا أو لبنان، ولكنهم يعرفون الجامعة الأميركية في بيروت … إنها مؤسسة ثقافية عظمى مكانها إسطمبول أو أثينا أو القاهرة، وربما كانت في القدس أو بغداد.
وودعني الكابتن كلي بعد أن عرفني إلى الماجور مِلَر وخوفني منه قائلًا — مشيرًا إلى مِلَر: «حذار من هذا الذئب، لئن دعاك إلى سهرة فارفض الدعوة.» ثم زاد: «لئن جئتهم بالبرهان القاطع أنك خريج جامعة بيروت، فابدأ عملك في صباح الغد بمعاش تسعمائة دولار.» فشكرته وانصرف.
أما مِلر فقد كان سريع الخُطَا، قلق الصوت، يختطف الكلام، ولكنه كأكثر الأميركان، مصقول التهذيب لطيف، ففتح الباب الذي وراء طاولته ودعاني: «لنمشِ إلى الشرق الأوسط؛ إنه في الجناح الأيسر من هذه البناية.»
ودخلنا غرفة كبرى كُتب على رتاج بابها «الشرق الأوسط»، عُمرت بالرفوف تحتشد فيها الكتب والأوراق والصور. وما إن لفظ ملر «الجامعة الأميركية في بيروت» حتى جاءه القائم على تلك الغرفة بدفاتر وكتب. وراح الماجور يقرأ إحداها عابسًا بعض الأحيان، ومقهقهًا تارة قهقهة هزَّت كل خلية في جسمه، ثم سألني: بالطبع أنت تذكر بعض أغاني الجامعة؟
فوقفت وأنشدت منها أغنيتين.
فقلب مجلد صور فوتوغرافية وسأل: «هؤلاء الرجال، هل تعرف منهم أحدًا؟ فحدَّقت وأجبت سلبًا. وقلَّب الورقات إليَّ ثانية، فأشرت بإصبعي إلى تلك الهامة الجرمانية تعممها عليقة من الشعر الأبيض الكثيف وأجبت: «رحم الله الأستاذ نيكولي مدرسي في علم الاقتصاد.»
– وهذه البنايات؟
– بلى، هذه «وست هول» حيث تقام الحفلات.
وكدت أن أحدثه عن «لولا المحامي» و«نخب العدو»، غير أني ذكرت أن الأميركان يمقتون المتبجِّحين.
ثم راح يتصفَّح دفترًا آخر ظهرت فيه حوانيت ومتاجر ومطاعم، فلما أن وصل إلى صفحة ٤٣، صحت: «قف! هذا هو المطعم الذي يقابل بوَّابة الجامعة. هذان صاحباه الأخوان توفيق وأديب فيصل، وهذا الدفتر الأسود الذي بينهما هو دفتر الهوالك. لو تصفحته لرأيت حسابي غير المدفوع؛ ٣٤ ليرا و٢٨ قرشًا.»
فأطبق الدفتر ودفع به وبالكتب إلى القيِّم على تلك الغرفة. وصمت برهة مفكرًا ثم خاطبني: اسمع! نحن في حرب وأنا جنديٌّ في جيش. إني مقتنع أنك خريج جامعة بيروت، ولكننا في الجيش لا ننفذ الأمور بسبب الأوهام أو الاقتناع أو الشعور أو الظواهر، بل نتقصَّى الحقائق الراهنة. ما أدراني أنك لم تكن مستخدمًا في الجامعة، أو تلميذًا، أو أنك عرفت هذه الأمكنة والأشخاص بسبب مصادقتك لأحد الناس في الجامعة؟ إني آسف أن ليس في مقدوري أن أثبتَ للكابتن كَلِي أنك خريج جامعة بيروت؛ إذ إنك لم تأتني بالبرهان القاطع. غير أنه في طاقتي أن أخدمك. تعالَ إلى حانوت الجيش واشترِ بعض حاجاتك. أسعارنا بخسة.»
وهبطنا إلى الحانوت، وهو في الطابق الأول من البناية، فعجبت لهذا الجيش يحارب ويصطحب معه ما رأيت من بضائع؛ فقد أبصرت الغرائب: كمنجة، قيثارة، ماندولين، كل أنواع العطور والحمرة والبودرة … وما فتح الله ورزق من ضروري وغير ضروري. لا عجب أن قال ذلك القائد الألماني في إيطاليا: «الجيش الأميركي؟! زمرة مليوناريين في أثواب جنود.» ولما فرغت الفتاة التي تتولى البيع من خدمة أحد الزبائن، اقتربت من رفيقي الماجور فحيَّته: مرحبًا يا عشيقي!
أجابها: مرحبًا يا جميلة الوجه!
قالت: حسبتُني نفضت يدي من كريه خدمتك أمس حين اشتريت كل حاجاتك بتلك المزيفة التي أعطيتنيها صباح البارحة.
أجاب الماجور: ما كنت لأرجع إلى التطلع إلى سحنتك البشعة لولا أني أريد أن أشتري — وأشار إليَّ — بعض حاجات لرفيقي. هاكِ وثيقة تخصيصاتي، ولا تبيعيني ثانية من تلك القاذورات التي تسمينها بضاعة.
وتطلعت الفتاة إلى وثيقة التخصيصات بلحظة خاطفة، وكلمتني «إن جشع صديقك لم يبقِ له حقًّا بالشراء إلا حذاءً واحدًا «ومشمعًا». قلت للماجور: «لعلك في حاجة إليهما.»
فمد قدمه يريني حذاءً بنيًّا جديدًا، وأشار إلى مشمعٍ يحمله على زنده وأجاب: «لقد اشتريت هذين أمس وعندي في الخيمة سواهما.»
فأجابت الفتاة مشمئزة: «كذبٌ وبهتان. إن ساقيَّ جميلتان! ليس من فتًى في الجيش لم يهنئني على هندامهما. كذلك لن أنقطع عن العتلتة.»
ودارت نحوي ودعتني لأن أجس: «قل لصديقك هذا الخبيث إن كانت بطة ساقي ضخمة العضلات.» فلمست ساقها لمسة خفيفة وابتسمتُ متأدبًا شأن الغريب لا يودُّ أن يشترك في جدال بين صديقين.
وحين صرنا في الباب منصرفين، التفت الماجور إلى خلفه وسأل: «ماذا تفعلين هذه الليلة؟» أجابت: «اسأل الليوتنان سمِث، هو الذي يخرج بي هذه الليلة.»
فغمز رفيقي بعينيه وصاح: «بعض الفتيات محظوظات.» أجابت صديقته بعد أن أخرجت لسانها ساخرة: «بعض الضباط طوال الألسنة!»
وحين صرنا في الشارع، فاضت معلومات الماجور ثانية فجدَّد ملاحظاته الفلسفية: «إن الذين لا يفهمون الأميركان يعيبوننا بأمور نحن منها براء. إن دعابتنا مع النساء طاهرة ليس فيها لؤم الفجور، فلسنا نحسب أعضاء الجسم مما يحرَّم ذكره أو لمسه.» أجبتُ متلعثِمًا: «صدقتَ، لقد عايشت الأميركان وخبرتهم.» واحمرَّ وجهي. تراه لاحظ كيف بلعتُ ريقي وارتعشتْ أناملي حينما لمست تلك الساق؟ وأردت الافتراق عنه، فجرَّني إلى مطعم عبْرَ الشارع وأصرَّ على أن أشاطره زجاجة بيرة، فجلسنا نتحدث كثر من ساعة استهلكنا خلالها زجاجات لا زجاجة واحدة. ولم يشأ إلا أن يدفع عني، فشكرته. وودعني معتذرًا، شاجبًا قوانين الجيش التي تغلُّ يديه عن خدمتي وتسهيل أمر استخدامي.
ووقفت في عتمة ذلك الشارع — خارج الرستوران — وقد بدأ المطر يقع رذاذًا، فوضعت المشمع على كتفي من غير أن أرتديه، وكانت أوركسترا المطعم تعزف لحنًا خافتًا، وفي نفسي ظلمة أشدُّ حلكًا من عتمة الشارع، وفي قلبي وحشة وغمرة حزن.
لقد مرَّت بي مواقف يأسٍ كثيرة في هذه الغربة المريرة. أذكرُ يوم كنتُ أتمشى بابنتي الصغيرة في البولفار إذ مرَّ بائع بالونات ملوَّنة منفوخة، فنادته ابنتي وصرفته أنا؛ إذ لم يكن معي ثمن ذلك البالون. كذلك أذكر رعب السجن الياباني؛ حيث ضاجعتُ طيلة الليل رجلًا صينيًّا ميتًا لفظ أنفاسه في وجهي وصبغت دماه قميصي. وأذكر يوم اختبأنا رجالًا ونساءً وأطفالًا في كهف اتِّقاء غارات الطيارات، ووقعت القذيفة قربنا بحيث لفحت وجوهنا ريحها، ولكني لا أذكر مرارة قطَّعت نياط قلبي مثل تلك التي شدَّت على أوتاره حين وقفت خارج ذلك الرستوران لا أدري إلى أين أسير، ومن أين أكسب الرزق في اليوم التالي. حقًّا، إن الحيرة آلم على النفس من الخيبة، والخوف، والفاقة.
لا أدري كم طال وقوفي هناك: ألحظة أم ساعة؟ ولكني استفقت من غيبوبة آلامي على قهقهة الماجور، تلك الضحكة التي كان يقهقهها في مكتبه وهو يقلِّب الكتب وينهال عليَّ بالأسئلة.
وفيما هو يقهقه خاطبني بكلمات متقطعة: رح إلى الكابتن «كَلِي» غدًا، وقل له أن يضع اسمك في قائمة المستخدمين بمعاش ٩٠٠ دولار في الشهر. لقد ظفرت بالبرهان القاطع على أنك من «خريجي الجامعة الأميركية في بيروت».
وخلع مشمعه مقهقهًا من جديد، متابعًا حديثه: الظاهر أننا تبادلنا المشمعين؛ فحين مددت يدي إلى جيب المشمع أتطلب محرمتي وجدت هذا …
وانتشل من جيب المشمع تلك الملاعق الأربع التي استملكتها أنا من المطعم حيث شربنا البيرة …