اكتشاف جديد عن الإجواندون
إنَّ النهضةَ التي شهدها علم الدراسة الحيوية للحفريات في ستينيات القرن العشرين، والمعلوماتِ الجديدة عن الديناصورات التي تمخَّضَتْ عن عمل جون أوستروم المهم؛ قد قدَّمَتْ حافزًا إلى إعادة دراسة بعض الاكتشافات المبكرة.
ساقان خلفيتان قويتان، وذيل ضخم كان يساعده في التوازن … وكان من أَكَلة النباتات … فقد كان يمسك بمجموعة من أوراق الأشجار بلسانه الطويل، ثم يجذبها إلى داخل فمه ويقضمها بمنقاره.
كانت صورة الإجواندون تعبِّر عن حيوان «يرعى الأشجارَ» يشبه الديناصور، حلَّتْ محلَّه في الماضي القريب حيواناتُ الكسلان الأرضية العملاقة في أمريكا الجنوبية والزرافات في عصرنا الحالي. أشار دولو نفسه إلى الإجواندون على أنه «زاحف أشبه بالزرافة»، لكن المفاجئ في الأمر أن جميع جوانب هذه الرؤية تقريبًا عن الإجواندون كانت خاطئةً أو مضلِّلةً على نحوٍ خطير.
برنيسارت: هل هي وادٍ نفَقَ فيه الإجواندون؟
شكَّلت الاكتشافات في برنيسارت تحدِّيًا منطقيًّا كبيرًا في سبعينيات القرن التاسع عشر وأوائل ثمانينيات القرن نفسه؛ فقد اكتُشِفت هياكل عظمية كاملة لديناصورات يبلغ طولها ١١ مترًا في قاع منجم عميق، وقد كانت محورَ اهتمام عالمي في هذا الوقت، لكن كيف كان السبيل إلى استخراجها ودراستها؟
حُفِظت الخرائطُ الأصلية لكل عملية تنقيب، وبعضُ المقاطع الجيولوجية الخام، ورسوماتٌ للاكتشافات؛ في أرشيفات المعهد الملكي في بروكسل. استُخرِجت هذه المعلومات هذه المرة من أجل الحصول على أدلة تتعلَّق بالطبيعية الجيولوجية لموقع دَفْن هذا النوع من الديناصورات.
كانت الطبيعةُ الجيولوجية لمنطقة تعدين الفحم مونس بازين — التي تقع فيها قريةُ برنيسارت — هي موضوعَ الدراسة قبل اكتشاف الديناصورات فيها؛ فقد أشار تقريرٌ مهم في عام ١٨٧٠ إلى أن الطبقات المحتوية على الفحم في مونس بازين كانت مليئةً بفتحات جوفية مكوَّنة طبيعيًّا، كانت كلُّ فتحة من هذه «الفتحات الجوفية» ذاتَ حجم محدَّد ومملوءةً بالصخر الطيني؛ فاستُنتِج أنها تكوَّنت عن طريق ذوبان صخور حقبة الحياة القديمة الموجودة على عُمق كبير تحت سطح الأرض. تنهار أسقف هذه الكهوف على فترات منتظمة بفِعل الوزن الهائل للصخور العلوية؛ لذا امتلأت الفراغاتُ بما يوجد فوقها أيًّا كان، وهو في هذه الحالةِ الطمْيُ أو الصخور الطينية الناعمة. وُصِف انهيارُ مثلِ هذه الرواسب محليًّا في منطقة مونس بازين بأنه هزات مروعة بعض الشيء تشبه الزلزال، ومن قبيل المصادفة المذهلة، وقع «زلزال» صغير من هذا النوع أثناء التنقيب عن الديناصورات في أغسطس عام ١٨٧٨ في برنيسارت، وقد أُشير إلى حدوث انهيارات صغيرة في الأنفاق الباطنية، بالإضافة إلى فيضان، لكن سرعان ما تمكَّنَ عُمَّالُ المنجم والعلماءُ من استكمال عملهم بمجرد شفط مياه الفيضان.
كذلك تتناقض الرواسب التي طُمِرت الديناصورات بداخلها مباشَرةً، مع تفسيرات وادي النهر الضيق؛ فالصخور الطينية الناعمة المتراصفة التي تحتوي على الحفريات ترسَّبَتْ بطبيعة الحال في بيئات منخفضة الطاقة ذات مياه ضحلة نسبيًّا، ربما مثل بحيرة كبيرة أو ضحلة. ببساطة، لا يوجد دليل على حدوث حالات وفاة كارثية إثرَ سقوط قطعان من الحيوانات في وادٍ ضيق؛ في الواقع، عُثِرَ على هياكل عظمية للديناصورات في طبقات منفصلة من الرواسب (مع أسماك وتماسيح وسلاحف وآلاف من آثار أوراق الأشجار، بل حتى أجزاء من حشرات نادرة)؛ مما يثبت أنها لم تَمُتْ جميعًا في نفس الوقت، ومن ثَمَّ لا يمكن أن تكون جزءًا من قطيع واحد من الحيوانات.
تشير دراسةُ اتجاهِ الهياكل العظمية المتحجرة داخل المنجم إلى أن جثث الديناصورات انجرفت إلى منطقة الدفن على فترات منفصلة ومن اتجاهات مختلفة؛ بَدَا الأمر كما لو أن اتجاه تدفُّق النهر الذي حمل جثثَ هذه الديناصورات قد تغيَّرَ من وقتٍ لآخَر، تمامًا كما يحدث في منظومات الأنهار الضخمة البطيئة الحركة في عصرنا الحالي.
لذا، منذ وقت مبكر يرجع إلى سبعينيات القرن التاسع عشر، كان مفهومًا بوضوح أن الديناصورات في برنيسارت لم تَمُتْ على الأرجح في «أودية ضيقة»، ولا في «أودية أنهار». من المذهل معرفة كيف أن الاكتشاف المثير للديناصورات في برنيسارت كان يتطلَّب فيما يبدو تفسيرًا مثيرًا بالمثل لطريقة وفاتها، وأن مثل هذه التخيُّلات قد قُبِلت دون نقْدِها، على الرغم من تناقضها مع الأدلة العلمية المتاحة في ذلك الوقت.
أصبحت صورة الإجواندون بوصفه كائنًا ضخمًا يشبه الكنغر أمرًا معروفًا جيدًا، بسبب التوزيع السخي لنماذج من هياكل عظمية بالحجم الكامل في العديد من المتاحف حول العالم. لكن هل تصمد عمليةُ الإحياء هذه أمام المزيد من عمليات الفحص الدقيق؟
«انحناءة» في الذيل
يُخِلُّ هذا الاكتشافُ بوضعية الجزء المتبقي من الهيكل العظمي؛ فإذا كان الذيل مستقيمًا بحيث يأخذ شكلًا «طبيعيًّا» أكثر، فسوف تتغيَّر إذن درجةُ ميلِ الجسم بالكامل، فيصبح العمود الفقري أفقيًّا أكثر، وأكثرَ توازُنًا عند الأرداف؛ ونتيجةً لهذا، يصبح الصدرُ أكثرَ انخفاضًا؛ مما يجعل الذراعين واليدين أقرب إلى الأرض، ويطرح تساؤلاتٍ عن وظيفتهما المحتمَلة.
هل هي أَيْدٍ أم أرجل؟
إنَّ فكرة أن اليد يمكن أن تُستخدَم في السير مثلها مثل القدم — أو على الأقل في حمل بعضٍ من وزن الجسم — كانت ثوريةً ومبتكرةً، لكن هل كانت صحيحة؟ حثَّ هذا على إجراء المزيد من الأبحاث على الذراع والكتف من أجل الحصول على أدلة إضافية قد تؤكِّد إعادةَ التفسير الجذرية هذه.
بدايةً، اتضح أن المعصم مثير للاهتمام؛ فعظام المعصم ملتحمة معًا لتكوِّن كتلةً عظمية، بدلًا من أن تكون صفًّا من العظام المستديرة الملساء التي يمكن أن تنزلق متخطِّيًا بعضها بعضًا، من أجل السماح لليد بالدوران قبالة الساعد. الْتَحمت كلُّ عظام المعصم الفردية معًا بأسمنت عظمي، وزاد من قوة ترابُطها معًا من الخارج وجودُ جدائل من الأربطة العظمية. من الواضح أن هذه السمات اجتمعت من أجل تثبيت المعصم بإحكامٍ في عظام اليد والساعد، ومن أجل مقاوَمةِ القوى الواقعة عليها في أثناء حمل الوزن، تمامًا كما يقتضي الأمر في حال كانت اليدان تُستخدَمان بالفعل مثل القدمين.
أما عظام الذراع المتبقية فبنيتُها قويةٌ للغاية؛ وذلك مرة أخرى لضمان صلابتها في أثناء تحمُّل الوزن، وليس من أجل السماح بالمرونة كما هو معتاد أكثر في الأذرع العادية. ولصلابة الساعِد آثارٌ مهمة في الطريقة التي ربما كانت اليد تُوضَع بها على الأرض — فربما كان اتجاهُ الأصابع إلى الخارج، واتجاهُ راحة اليد إلى الداخل — وهي نتيجة استثنائية لتحويل اليد إلى قدم. تأكَّدت وضعيةُ القدم — بهذه الطريقة الغريبة إلى حدٍّ ما — بفحص شكل آثارِ القدم الأمامية التي خلَّفَها هذا الديناصور.
كان الجزء العلوي من الذراع (عظم العضد) ضخمًا، يشبه العمود إلى حدٍّ ما، ويقدِّم دليلًا على أنه كان يدعم عضلات ذراع وكَتِفٍ ضخمة، كذلك كان هذا الجزء طويلًا على نحو فريد؛ حيث كان طوله يزيد عن ثلاثة أرباع طول الطرف الخلفي. لم يكن الحجم الحقيقي للذراعين واضحًا إلى حدٍّ ما في نماذج إعادة التجميع الأصلية للهيكل العظمي؛ حيث كانتَا مطويتَيْن فوق الصدر وظهرتَا دومًا أقصر مما هما عليه في حقيقة الأمر.
أخيرًا، كانت عظامُ الكتف كبيرةَ الحجم وقويةَ البنية، وهو أمر منطقي للغاية إذا كانت الذراعان تُستخدَمان كالأرجل. مع هذا، يُظهِر الكَتِفان سمةً أخرى غير متوقَّعة، ففي منتصف صدر الهياكل العظمية الأكبر حجمًا التي عُثِر عليها في برنيسارت، توجد عظمةٌ غير منتظمة نَمَتْ في الأنسجة الرخوة التي تمر عبر منتصف الصدر بين مفاصل الكتف. إن هذه العظمة ذاتُ منشأ باثولوجي؛ إذ تكوَّنت استجابةً للجهد داخل الصدر الناتج عن سير الحيوان على أطرافه الأربعة (ويُطلَق عليها تحوُّلٌ عظمي داخل القص).
الحجم والجنس
تشتهر اكتشافات برنيسارت بأنها تتضمَّن نوعين من الإجواندون؛ أحدهما هو: «إجواندون برنيسارتنسيس»، الذي يعني حرفيًّا «الإجواندون الذي عاش في برنيسارت»، وهو نوعٌ ضخم وصلب البنية عُثِر له على أكثر من ٣٥ هيكلًا عظميًّا. والآخَر هو: «إجواندون أثرفيلد»، الذي أُطلِق عليه سابقًا اسم «إجواندون مانتيلي»، الذي يعني حرفيًّا «إجواندون مانتل»، وكان صغير الحجم وبنيته أضعف (كان طوله ٦ أمتار تقريبًا)، وعُثِر له على هيكلَيْن عظميَّيْن فقط.
اعتُبِر أن هذه العينات تخصُّ نوعين مختلفين، حتى أُعِيد تقييمُها في عشرينيات القرن العشرين على يد فرانسيس بارون نوبكسا، وهو أحد النبلاء من ترانسلفانيا، وكان عالِم حفريات؛ فقد دفعه اكتشافُ نوعين متشابهين لكثير من الديناصورات، من الواضح أنهما عاشَا في نفس المكان والزمان، إلى طرح سؤال بسيط لكنه بديهي: هل هما ذكر وأنثى للنوع نفسه؟ حاوَلَ نوبكسا تحديد الفروق الجنسية في عدد من الأنواع المتحجرة، وفي حالة الإجواندون المُكتشَف في برنيسارت، استنتج أن الديناصور الأصغر حجمًا والأكثر ندرةً كان هو الذكر، والديناصور الأكبر حجمًا والأكثر عددًا هو الأنثى؛ فقد لاحَظَ، على نحو منطقي تمامًا، أن إناث الزواحف عادةً ما تكون أكبر حجمًا من الذكور، والسبب الحيوي في هذا أن الإناث عادةً ما تحتاج إلى إنماء أعداد كبيرة من البيض السميك القشرة داخلها، ويستنزف هذا البيضُ كثيرًا من موارد الجسم قبل وضعه.
في حين بَدَا هذا الاقتراح منطقيًّا إلى حدٍّ كبير، فمن الصعب جدًّا في حقيقة الأمر إثباته من الناحية العلمية. وبعيدًا عن الحجم — الذي يتفاوت إلى حدٍّ مذهل بين الزواحف ككلٍّ وليس كسمة متسقة كما أرادنا نوبكسا أن نعتقد — فإن السمات التي يُستدَل بها في التمييز بين الجنسين في الزواحف الحية، موجودةٌ على نحوٍ أكثر شيوعًا في تشريح الأعضاء التناسلية الرخوة نفسها، أو لون الجلد، أو السلوك. وهذا على وجه الخصوص أمر مؤسف؛ لأن من النادر للغاية أن تحتفظ الحفرياتُ بمثل هذه السمات.
سيكون أهم دليل هو العثور على حفريات رخوة تشريحيًّا لأعضاء الإجواندون التناسلية، لكن للأسف هذا أمر بعيد الاحتمال للغاية. وبما أننا لا نستطيع أبدًا معرفةَ التكوين الحيوي لهذه الكائنات وسلوكها، فلا بد أن نكون حَذِرين بعضَ الشيء وواقعيِّين أيضًا، ومن الأسلم في الوقت الحالي أن نسجِّل الاختلافات (وربما تكون لدينا شكوكنا)، لكن لِندَعِ الأمر يتوقَّف ببساطة عند هذا الحد.
كشفت دراسةٌ متأنِّية للإجواندون الضخم الأكثر وفرةً من برنيسارت، أن بعض هذه الديناصورات كان أصغر من المعتاد؛ حيث أظهر قياس أبعاد كل هيكل عظمي من هذه الهياكل تغيُّرًا غير متوقَّع في النمو؛ فالعينات الأصغر حجمًا — التي يُفترَض أنها غير بالغة — كانت أذرعها أقصر من المتوقَّع. ربما كانتِ الديناصورات الأصغر سنًّا نسبيًّا قصيرةَ الأذرع وماهرةً في الركض على رِجلين، لكن مع وصولها إلى الحجم الضخم والطول الهائل للديناصورات البالغة، أصبحت بالتدريج أكثرَ اعتيادًا على التحرُّك على قوائمها الأربعة. يتلاءم هذا أيضًا مع ملاحظة وجود التحوُّل العظمي داخل القص، لدى الديناصورات الأكبر حجمًا فقط، المفترض أنها بالغة، التي قضَتْ وقتًا أكبر في السير على قوائمها الأربع مقارَنةً بالديناصورات الشابَّة الأصغر حجمًا.
الأنسجة الرخوة
من النادر للغاية الاحتفاظ بالأنسجة الرخوة للكائنات المتحجرة، ولا يحدث هذا إلا في ظلِّ ظروف حفظٍ استثنائية؛ لذا طوَّرَ علماء الحفريات أساليبَ لفكِّ شفرة الأدلة المتعلقة بهذا النوع من التكوين الحيوي للديناصورات، بطريقة مباشِرة وغير مباشِرة على حدٍّ سواء.
أعلن لويس دولو عن وجود قِطَع صغيرة من آثار الجلد على أجزاء من الهياكل العظمية للإجواندون، وقد عُرِض عددٌ من الهياكل المُكتشَفة في برنيسارت في «وضعية الوفاة» مع انقباض عضلات الرقبة القوية، في أثناء «التيبُّس الموتي»؛ وهو الانحناء الشديد للرقبة واتجاه الرأس إلى الأعلى وإلى الخلف. ويشير الاحتفاظ بهذه الوضعية طوال الفترة بين الوفاة وعملية الدفن النهائية إلى تصلُّب جثة الحيوان وجفافها. وفي ظل هذه الظروف، فإن جلد هذه الحيوانات القاسي الملمس، الرقيق السُّمْك، قد كوَّنَ سطحًا صلبًا شكَّلت عليه حبيباتُ الطمي الناعمة قالبًا في أثناء عملية الدفن، وإذا ضُغِطت رواسبُ الدفن بما يكفي لتحتفظ بشكلها، قبلَ التعفُّن الحتمي لأنسجة الديناصور العضوية واختفائها، فإن آثار ملمس سطح الجلد ستظلُّ باقيةً في الرواسب (تمامًا كما يحدث في قوالب الطمي البسيطة).
بالإضافة إلى الخطوات المفصَّلة التي لا بد من إجرائها لوصف عظام الهيكل العظمي للديناصور فحسب، من المحتمَل أيضًا التركيز على أجزاء معينة من الجسم، خاصةً الوركين والكتفين والرأس، من أجل العثور على أدلة تتعلَّق بترتيب عضلاته؛ والسبب في هذا أنه في أماكنِ التصاقِ العضلات والأوتار بسطح العظام، تتكوَّن عادةً علاماتٌ دالة على السطح، مثل حوافَّ عظمية مرتفعة أو ندبات عضلية مجوَّفة. من المذهل أن عظام الهيكل مادة لدنة؛ فلا بد أن يتغيَّر شكلُ العظام مع نمو الجسم، أو إذا كان لا بد من إصلاح العظام لنفسها عقب إصابتها بأذًى، كالتعرُّض لكسر مثلًا. وقد يكون الأمر الأقل وضوحًا هو أنه عندما يكتمل نموُّ الجسم تستمر عظامه في تغيير شكلها استجابةً لأنماط الضغط والجهد الدائمة التغيُّر؛ فعلى سبيل المثال: تترسب لدى الإنسان الذي يتدرَّب على حمل الأثقال عظامٌ هيكلية إضافية لتواكِبَ الحملَ الزائد، خاصةً إذا استمرَّ هذا النظامُ التدريبي لوقت طويل.
أحد الأساليب المستخدمة في محاولة فهم الجهاز العضلي للإجواندون — على الرغم من عدم اتِّصافه بالمثالية من الناحية العلمية — تمثَّلَ في استخدام المعلومات المتعلِّقة بنوعين من أقرب الأنواع الحية صلةً بالديناصورات، هما: الطيور والتماسيح. من الواضح أن هذين النوعين من الحيوانات لا يعبِّران بدقةٍ على الإطلاق عن تشريح الإجواندون؛ فالطيور معدَّلةٌ إلى حدٍّ كبير للطيران، وليست لديها أسنانٌ، وذيلها صغير، وتتمتَّع بعضلات معدَّلة على نحوٍ فريدٍ في منطقة الأرداف وفي الأرجل. أما التماسيح، على الرغم من أنها أقرب إلى شكل الزواحف التقليدي، فإنها حيوانات مائية مفترسة متخصِّصة إلى حدٍّ بعيد. وعلى الرغم من هذه المشكلات الحقيقية، فإن كلا النوعين يقدِّم إطارَ عملٍ أو نموذجًا عامًّا — يُعرَف باسم «تطوُّر السلالات بمقارَنة المنقرِض بالحالي» — لتقديم نموذج أُعِيد بناؤه يمكن استكماله بتفاصيل أفضل عن تشريح الإجواندون.
تحتوي إعادة البناء الأخيرة هذه على أدلة عامة من التكوين الجسماني الإجمالي (شكل العظام وتنسيقها) للهيكل العظمي أو الجمجمة، وتأثير هذه الأمور على توزيع العضلات ووظيفتها. لا بد أن تفسِّر أيضًا هذه النماذجُ المعاد بناؤها عواملَ مثل الطريقة المقترحة للحركة؛ على سبيل المثال: تفاصيل المفاصل الموجودة بين عظام الأطراف، وتقييم الآليات البسيطة المرتبطة بوضع الأطراف ونطاق حركتها المتاح في كل مفصل طرفي، وفي بعض الحالات الأدلة الفعلية التي تتركها الديناصورات في شكل آثار متحجِّرة تشير إلى الطريقة التي كانت تتحرَّك بها فعليًّا عندما كانت على قيد الحياة.
تطوُّر السلالات بمقارنة المنقرِض بالحالي
عن طريق إنشاء شجرة لتطوُّر السلالات عن أقرب الأنواع صلةً بالديناصورات، اتضح أن التماسيح تطوَّرَتْ «قبل» ظهور الديناصورات، وأن الطيور تطوَّرت «عقب» ظهور أول الديناصورات؛ ومن ثمَّ، تقع الديناصورات من الناحية التطورية بين التماسيح والطيور الموجودة على قيد الحياة.
من المفترض أيضًا وجود الصفات التشريحية المشتركة بين الطيور والتماسيح الموجودة حاليًّا لدى الديناصورات؛ لأن الديناصورات تقع حرفيًّا بين هذين النوعين. أحيانًا يساعد هذا الأسلوب في استنتاج الصفات الحيوية لدى مجموعات منقرضة، حتى عندما لا توجد أدلة جسمانية على مثل هذه الصفات. لكن، في ظل الخصوصية الشديدة لبعض الكائنات مثل الديناصورات، لا بد من استخدام هذا الأسلوب بحذرٍ عند مقارنتها بالتماسيح والطيور التي تعيش حاليًّا.
في أثناء فَحْصِي كثيرًا من أجزاء عظام الإجواندون الموجودة في مجموعات متحف التاريخ الطبيعي في لندن، لفتَتِ انتباهي عينةٌ غريبة، كانت مكوَّنةً من البقايا المهشَّمة لجزءٍ من جمجمة ضخمة، واتضح من وجود عدد قليل من الأسنان في فكها العلوي، أنها تنتمي بالفعل للإجواندون، لكنها بَدَتْ بخلاف هذا غيرَ مفيدة تشريحيًّا. وبدافع الفضول فقط قرَّرْتُ قطْعَ العينة إلى نصفين لرؤية إن كان تكوينها الحيوي الداخلي محفوظًا على نحوٍ أفضل أم لا، واتضح أن ما وجدْتُه كان ممتعًا ومثيرًا على نحوٍ غير متوقَّع؛ فعلى الرغم من أن العظام كانت مهشَّمةً ومتآكِلةً، فقد كان واضحًا أن هذه الجمجمة دُفِنت في طمي غريني رخْوٍ تسرَّبَ داخل كل الفراغات. تصلَّبَ الطمي وتحجَّر على مدار ملايين السنين، فأصبح قوامُه يشبه الأسمنت، وكانت عملية التحجُّر هذه مكتمِلةً تمامًا حتى أصبح من غير الممكن نفاذُ الماء إلى الصخر الطيني، ومن ثَمَّ لم تستطع المياهُ الجوفية المحتوية على المعادن التسرُّبَ عبر هذا الصخر بحيث تتشبَّع عظامُ الجمجمة بالمعادن، ونتيجةً لهذا كانت العظامُ ليِّنةً نسبيًّا وسهلةَ التفتُّت.
الإجواندون والتكيُّف الغذائي
إنَّ أولى حفريات الإجواندون التي أمكن التعرُّف عليها هي أسنانه، التي أظهرت سماتها الدالة أنه كان حيوانًا يقتات على الأعشاب؛ فقد كانت على شكل الإزميل لتمكِّن الحيوان من تقطيع النباتات وطحنها في فمه قبل بلعها.
تشير الحاجة لتقطيع النباتات وطحنها إلى بعض الاعتبارات المهمة بشأن النظم الغذائية للكائنات المنقرِضة، وبعض الأدلة التي قد تحتوي عليها هياكلُها العظمية.
دماغ الإجواندون
يشير تكوين تجويف الدماغ إلى وجود فصوص شمٍّ ضخمة في الجبهة؛ مما ينمُّ على تمتُّع الإجواندون بحاسة شمٍّ متطورة. كانت الأعصاب البصرية الضخمة تمرُّ عبر قحف الدماغ في اتجاه التجويفات الكبيرة للعينين، وهو ما يؤكِّد بوضوح أن هذه الحيوانات كانت تتمتَّع برؤية جيدة. وتشير الفصوص الدماغية الكبيرة إلى أن الإجواندون كان حيوانًا نَشِطًا ومنسَّقَ الحركة. يُظهِر الشكل الداخلي للأذن القنواتِ الحلقيةَ نصف الدائرية التي مَنحت هذا الحيوان شعورًا بالاتزان، وتكوينًا يشبه الإصبع كان جزءًا من الجهاز السمعي. يتدلى أسفل تجويف الدماغ تكوينٌ يشبه القرنَ يحتوي على الغدة النخامية المسئولة عن تنظيم عمل الهرمونات. وفي أسفل جانبَيِ الشكل الداخلي للأذن تُرَى سلسلة من الأنابيب الضخمة، التي تمثِّل الممرات المارة عبر الجدار الأصلي للقحف الدماغي (الذي أُزِيل هنا بالطبع) لأعصاب الجمجمة الاثني عشر. حُفِظت كذلك أنابيبُ وقنواتٌ تمر عبر جدار الجمجمة، وتشير هذه الأنابيب والقنوات إلى توزيع مجموعة من الأوعية الدموية التي كانت تحمل الدم إلى قاع الدماغ من الدم (عبر الشريان السباتي)، وبالطبع تنقل الدمَ من الدماغ عبر الأوردة الضخمة على جانبَيِ الرأس التي تعيد الدمَ إلى أسفل باتجاه الرقبة.
يتكوَّن النظام الغذائي لآكلات اللحوم من اللحم في المقام الأول. ومن المنظور الكيميائي الحيوي والغذائي، فإن النظام الغذائي القائم على اللحوم هو أحد أبسط وأوضح الخيارات لأيِّ كائن؛ فمعظم الكائنات الأخرى الموجودة في العالم مكوَّنة إلى حدٍّ ما من العناصر الكيميائية نفسها التي تتكون منها الكائنات اللاحِمة؛ ومن ثَمَّ، فإن لحمها يمثِّل مصدرًا جاهزًا للطعام السريع الامتصاص — شريطة التمكُّن من الإمساك بالفريسة — يمكن تقطيعه داخل الفم باستخدام أسنان بسيطة التكوين تشبه السكاكين (أو حتى بلعه كاملًا)، ثم هضمه سريعًا داخل المعدة. وقد تكون هذه العملية بأكملها سريعة نسبيًّا وفعَّالة للغاية من الناحية الحيوية؛ نظرًا لأن كم الإهدار المحتمَل قليل.
تواجِه آكلات العشب مشكلةً أكثر صعوبة إلى حدٍّ ما، فالنباتات ليست مغذِّية بدرجة كبيرة ولا يسهل امتصاصها مقارَنةً بلحم الحيوانات؛ إذ تتكوَّن النباتات في الأساس من كميات كبيرة من السليولوز، وهي مادة تعطيها القوةَ والصلابةَ. والسمة الأساسية في هذه المادة الفريدة (والغريبة للغاية) ذات الأهمية البالغة للحيوانات، هي أنها «غير قابلة للهضم بالكامل»؛ فببساطة لا توجد مادة كيميائية في الترسانة الموجودة في أمعائنا قادرة فعليًّا على إذابة مادة السليولوز؛ ونتيجةً لهذا، يمر مقدار السليولوز الموجود في النباتات مباشَرةً عبر أمعاء الحيوانات فيما نطلق عليه اسم ألياف الطعام. كيف إذن تعيش آكلات العشب على مثل هذا النظام الغذائي الذي يبدو غير واعد؟
تكيَّفت الأنواعُ آكِلة النباتات بنجاح مع هذا النظام الغذائي؛ نظرًا لتمتُّعها بعدد من السمات المميزة، فلديها أسنان سطحها متين وقوي ومعقَّد وخشن، وفكَّان قويان، وعضلات يمكن استخدامها في طحن أنسجة النبات بين الأسنان من أجل إخراج «العصارة الخلوية» الصالحة للاستخدام من الناحية الغذائية، والمحبوسة داخل جدران خلايا النبات. تتناول آكلات العشب كمياتٍ ضخمة من الأطعمة النباتية؛ حتى يتسنَّى لها استخراج عناصر غذائية كافية من هذه المادة التي تفتقر إلى حدٍّ ما إلى العناصر الغذائية؛ ونتيجةً لهذا، فإن أجسام آكلات العشب تميل إلى الشكل الأسطواني، الذي يتناسب مع أمعائها الضخمة والمعقدة، الضرورية لتخزين الكميات الضخمة من النباتات، التي لا بد لها من تناوُلها وإعطاء الوقت الكافي لحدوث عملية الهضم. تحتوي الأمعاء الضخمة لآكلات العشب على أعداد هائلة من الجراثيم التي تعيش داخل أكياس أو تجويفات خاصة داخل جدار الأمعاء. الزائدة الدودية لدينا هي عضو غير وظيفي صغير من أحد هذه التجويفات، وتشير إلى الحياة العشبية لأسلافنا من الرئيسات. يسمح هذا النوع من التكافُل للحيوانات آكلة العشب بتوفير بيئة دافئة وآمنة للجراثيم، وإمداد مستمر بالطعام، وفي المقابل تتمتع هذه الجراثيم بالقدرة على تصنيع السيلولاز؛ وهو إنزيم يهضم السليولوز ويحوِّله إلى سكريات يمكن للعائل الحيواني امتصاصها بعد ذلك.
كان الإجواندون حيوانًا آكلًا للعشب ضخمًا بكل المقاييس (إذ يبلغ طوله ١١ مترًا ويتراوح وزنه بين ٣ و٤ أطنان تقريبًا)، وكان يتناول نباتات بكمياتٍ ضخمة؛ وبناءً على هذه المعلومات، يمكن استعراضُ بعض الأسئلة المتعلقة بالطريقة التي كان الإجواندون يتناول بها طعامه ويمتصه بالتفصيل.
اقترحت إحدى النظريات المطروحة بشكل دائم بشأن طريقة تناول الإجواندون للطعام؛ أنه كان يستخدم لسانَه الطويل في جذب النباتات إلى داخل فمه. بدأت هذه النظرية مع جيديون مانتل، الذي قدَّمَ وصفًا لأول فكٍّ سفلي مكتمِل تقريبًا للإجواندون. اشتملت الحفرية الجديدة على بعض الأسنان الدالة؛ لذا لم يكن ثمة شكٌّ في نسبة تلك الحفرية إلى الإجواندون، وكان الجزء الأمامي من الحفرية خاليًا من الأسنان وعلى شكل مزراب. توقَّعَ مانتل أن الجزء الذي يشبه المزراب يسمح لِلِّسان بالانزلاق خارج الفم وإلى داخله، تقريبًا مثلما تفعل الزرافة. لم يستطع مانتل معرفة أن طرف الفك السفلي المُكتشَف حديثًا كان غير مكتمِل، وأنه كان مغطًّى بعظمة إضافية كانت تملأ مساحة «المزراب».
تجدر الإشارة إلى أنه في عشرينيات القرن العشرين قدَّم لويس دولو المزيدَ من الأدلة المؤيِّدة لتخمين مانتل. قدَّم دولو وصفًا لفتحة مميزة في العظمة الإضافية الموجودة على طرف الفك السفلي؛ حيث شكَّلَتْ هذه الفتحة نفقًا يمر مباشَرةً عبر العظمة الإضافية ممَّا سمح لِلِّسان الطويل الرفيع والمليء بالعضلات بالخروج من الفم، والإمساك بالنباتات وسحبها إلى داخل الفم. كما اقتُرِح أن العظام الضخمة (عظام قرنية خيشومية) التي عُثِر عليها بين فكَّيِ الإجواندون، تعمل كوسيلةِ ربط بين العضلات التي تتحكَّم في حركة هذا اللسان. تناسب هذا التكوين بدقةٍ مع فكرة دولو عن الإجواندون بوصفه حيوانًا يرعى أوراقَ الأشجار المرتفعة، يتميَّز بلسان طويل مثل لسان الزرافة تمامًا يستخدمه للإمساك بالأشياء.
إن إعادة الفحص المتأنِّية للفك السفلي في عددٍ من جماجم الإجواندون المُكتشَفة في برنيسارت، قد فشلت في إظهار نفق العظمة الإضافية الذي أشار إليه دولو. كانت للعظمة الإضافية حافة عليا حادة تدعم منقارًا قَرْنيَّ الشكل يشبه منقارَ السلحفاة. تطبق العظمة الإضافية ومنقارها على عظم قواطع خالٍ من الأسنان، يغطِّيه منقار يوجد في طرف الفك العلوي، وقد سمح هذا التكوين للديناصورات بقطع النباتات التي كانت تتغذَّى عليها بكفاءة كبيرة. تمثَّلت فائدة المنقار القرْني في أنه كان ينمو باستمرار (على عكس الأسنان التي كانت تتآكل بالتدريج)، بصرف النظر عن مدى صلابة النباتات التي تُقطَّع وخشونتها. ما زالت العظامُ الخيشومية تحتاج إلى بعض التفسير، وفي هذه الحالة، ربما كانت تُستخدَم في تثبيت العضلات المُحرِّكة لِلِّسان في جميع أنحاء الفم، من أجل تغيير موضع الطعام في أثناء مضغه، ومن أجل دفعه إلى الخلف نحو الحلق عندما يكون جاهزًا للبلع؛ وهذا يشبه بالضبط الدورَ الذي تؤدِّيه العظامُ القرنية الخيشومية في قاع الفم لدى الإنسان.
طريقة مضغ الإجواندون لطعامه
إنَّ شكلَ الأسطح الطاحنة الذي عليه «مخزون» الأسنان البديلة العلوية والسفلية مثيرٌ حقًّا للاهتمام؛ فالأسطح البالية تكون مائلةً؛ إذ تتجه الأسطحُ السفلية إلى الخارج ولأعلى، بينما تتجه الأسطح البالية في الأسنان العليا إلى الداخل ولأسفل. هذا النمط له تبعات مهمة، ففي حالة الزواحف التقليدية يُغلَق الفكُّ السفلي كما لو أن به مِفْصَلة؛ حيث يُغلَق الفكَّان على جانبَيِ الفم في نفس الوقت فيما يُعرَف باسم «الإطباق المتزامن». لو افترضنا أن هذا النوع من الإطباق صحيح في حالة الإجواندون، فإنه يتَّضح على الفور أن مجموعتَيِ الأسنان على جانبَي الفم كانتَا ستصبحان في تداخُل معًا طوال الوقت؛ فينحشر الفك السفلي داخل الأسنان العليا. يعني هذا أنه من المستحيل أن نتخيَّل كيف ظهرَتِ الأسطحُ البالية المائلة في المقام الأول.
حتى تظهر الأسطح البالية المائلة، لا بد أن تكون للفكَّيْن قدرةٌ على التحرُّك نحو الجانبين في أثناء انغلاقهما. تتحقق هذه الحركة لدى الثدييات آكلة العشب الموجودة حاليًّا من خلال تطوير آليةٍ لغلق الفكَّين غير المتساويَيْن في عرضهما. يرتكز هذا على حقيقة أن الفك السفلي يكون عادةً أقل عرضًا من الفك العلوي، فتستطيع عضلاتٌ خاصة — منسَّقة في حمالة على جانبَيْ عظام كلِّ فكٍّ — التحكُّمَ في وضع الفك بدقة بالغة، بحيث تقابل الأسنان الموجودة في جانب واحد بعضُها بعضًا، ثم تنزلق الأسنانُ السفلى بقوة إلى الداخل بحيث تحتَكُّ الأسنان بعضها ببعض. نطبِّق نحن البشر هذا النمط من آلية غلق الفك، وخاصةً عند تناوُل أطعمة جامدة، إلا أن هذه الآلية تحدث بمبالغةٍ أكبر لدى بعض الثدييات التقليدية الآكلة للعشب، مثل الأبقار والأغنام والماعز، التي يكون تأرجُح الفك لديها واضحًا للغاية.
يعتمد نوع آلية تحريك الفك لدى الثدييات بأكملها على عضلات فكٍّ معقَّدة للغاية، وجهاز تحكُّم عصبي معقَّد، ومجموعة من عظام الجمجمة مصمَّمة خصِّيصَى من أجل تحمُّل الضغوط المصاحبة لطريقة المضغ. وفي المقابل، لا يوجد لدى الزواحف التقليدية — التي كان الإجواندون أحدها — تكوينٌ لفكَّيْن غير متساويين في عرضهما، وتفتقر إلى التكوين العضلي المعقَّد الذي يسمح بتحديد وضع الفك السفلي بدقة شديدة (لا يهم إن كانت وظيفةُ جهازِها العصبي هي التحكُّم في مثل هذه الحركات)، كما أن جمجمتها غير مجهَّزة بتعزيز خاص من أجل تحمُّل القوى الجانبية التي تؤثِّر في عظام الجمجمة.
يبدو أن الإجواندون يقدِّم لنا أحجية؛ إذ لا ينطبق عليه أيٌّ من النماذج المتوقَّعة! فهل كان ثمة خطأ في عملية التشريح، أم أن هذا الديناصور كان يفعل شيئًا غير متوقَّع؟
يتسم الفك السفلي للإجواندون بقوةِ عظامه وتعقُّدِها إلى حدٍّ ما؛ ففي الطرف الأمامي تثبِّت العظمةُ الأمامية الإضافية جزْأَيِ الفكِّ السفلي معًا. يكون ترتيب الأسنان في الأساس موازيًا لطول الفك، ويوجد في الخلف جزء ناتئ طويل عظمي مخروطي الشكل (الناتئ الإكليلاني)، يكون هو المنطقة التي تتعلَّق بها عضلاتُ غلق الفك القوية، ويكون بمنزلة رافعة لتعزيز قوة الغلق التي يمكن ممارستها على الأسنان. وخلف الناتئ الإكليلاني توجد مجموعةٌ من العظام المجمعة معًا بإحكام شديد، التي تدعم مفصلَ الفك الذي يشبه المفصَّلة. لا يتعرَّض جُزْءَا الفك العلوي في أثناء عملية القضم لقوًى عمودية فقط، تنشأ عن غلق الفك السفلي والأسنان إلى أعلى نحو الأسنان العليا، وإنما يتعرضان أيضًا لقوًى جانبية تنشأ عن إدخال الأسنان السفلى لنفسها بين الأسنان العليا مع تزايد قوة القضمة.
من بين جميع القوى المؤثرة على جمجمة الإجواندون، تعدُّ القوى الجانبية التي تمارَس على أسنانه أكثرَ القوى التي لم تكن الجمجمة مجهَّزةً جيدًا للتعامل معها؛ فقد اتضح في المقطع العرضي للخطم الطويل (المنطقة التي تقع أمام تجويفَيِ العينين)، أنه كان يشبه حدوةَ الحصان. ولمقاومة القوى الجانبية التي تُمارَس على الأسنان، كان لا بد للجمجمة أن تُعزَّز ﺑ «دعامات» عظمية تصل بين جزْأَي الفك العلوي، ويوجد هذا التكوين لدى الثدييات الموجودة حاليًّا. ودون وجود هذا التدعيم تكون جمجمة الإجواندون معرَّضةً جدًّا لخطر الانقسام على طول خط المنتصف؛ وذلك ببساطة لأن عمق عظام الوجه يمارس قوةً كبيرة على سقف الخطم بسبب القوى الواقعة على الأسنان. وقد حال دون انقسام الجمجمة من المنتصف تزويدُها بعددٍ من المفصلات المنسقة على نحوٍ مائل أسفل كلا جانبَي الجمجمة؛ وقد سمح هذا لجانبَي الجمجمة بالانحناء إلى الخارج معًا أثناء دفع الأسنان السفلى لنفسها بين العليا. كذلك ساعدَتْ سمات أخرى أكثر عمقًا داخل الجمجمة، في التحكُّم في مقدار الحركة الممكنة على طول هذه المفصَّلة (حتى لا يتحرَّك الفك العلوي ببساطة في جميع الأنحاء بطلاقة).
أطلقتُ على هذا الأسلوب الرائع اسمَ «الحركة الجانبية». من ناحية، يمكن أن نرى هذا الأسلوب على أنه وسيلة لتجنُّب حدوث قصور كارثي في الجمجمة في أثناء عملية القضم الطبيعية؛ ومع هذا، تسمح آلية الحركة الجانبية بوجود حركة «طاحنة» بين مجموعتَي الأسنان المتقابلتين. يشبه هذا الحركةَ الطاحنة التي تحدث لدى الثدييات آكلة العشب بطريقة مختلفة تمامًا.
يمكن ربط هذا الأسلوب الجديد في المضغ بملاحظة أخرى مهمة تتعلَّق بديناصورات، مثل الإجواندون؛ فأسنانها تكون غائرة (موجودة في الداخل) بعيدًا عن جانب الوجه. يتسبَّب هذا في وجود منطقة منخفضة ربما كانت مغطَّاةً بوَجْنَة ممتلئة؛ وهذه سمة أخرى لا علاقةَ لها بالزواحف. ونظرًا لأن الأسنان العليا تتخطَّى في انزلاقها الأسنانَ السفلى لتقطِّع الطعام، يبدو منطقيًّا أن نتوقَّع أنها في كل مرة تمضغ الطعامَ في فمها، سوف يُهدَر نصفه على الأقل من جانبَي الفم! … هذا بالطبع لو لم توجد وَجْنَة ممتلئة تلتقط الطعام وتعيده مرةً أخرى إلى الفم. إذن يبدو أن هذه الديناصورات لم تكن قادرةً فحسب على مضْغِ طعامها بطريقة معقَّدة على نحوٍ مذهلٍ، بل كانت تتمتَّع أيضًا بوجنتين تشبهان وجنات الثدييات، وكانت تحتاج بالطبع — من أجل المساعدة في وضع الطعام بين الأسنان قبل مضغه — إلى لسان ضخم مليء بالعضلات (وعظام قرنية خيشومية قوية، وهي عظام عضلات اللسان).
بمجرد التعرُّف على أسلوب المضغ الجديد هذا، تمكَّنتُ من إدراك أن أسلوب الحركة الجانبية لم يكن اختراعًا «فرديًّا» متعلِّقًا بالإجواندون، ففي الواقع، كان منتشرًا بين المجموعة العامة للديناصورات التي تُعرَف باسم «الأورنيثوبودات»، التي ينتمي إليها الإجواندون. وبتتبُّع تاريخ التطوُّر العام للأورنيثوبودات عبر حقبة الحياة الوسطى، يتضح أن هذه الأنواع من الديناصورات أصبحت أكثر تنوُّعًا ووفرةً بمرور الوقت؛ فقد وصلت الأورنيثوبودات إلى أكبر انتشار لها في النُّظُم البيئية في أواخر العصر الطباشيري، ويقال دومًا إنها أكثر حفريات الحيوانات الأرضية المُكتشَفة تنوُّعًا، المنتمية إلى هذا العصر. وفي بعض أجزاء من العالم، كانت ديناصورات الأورنيثوبودات — المتمثِّلة في هذا الوقت بالديناصورات البطيةِ المنقار أو «الهادروصوريات» — شديدةَ الوفرة والتنوُّع؛ فتشير بعض الاكتشافات في أمريكا الشمالية إلى قطعان من الهادروصوريات تحتوي على عشرات الآلاف. كانت الهادروصوريات تتمتَّع بأكثر نُظُم الأسنان الطاحنة تعقيدًا (قد يصل عددُ الأسنان الموجودة في كلٍّ منها إلى ألف سنٍّ في أي وقت)، وبنظام حركة جانبية مكتمِل النمو.
إنَّ الوفرةَ والتنوُّعَ الهائلين اللذين أصبحت عليهما هذه الديناصورات يبدوان أمرًا منطقيًّا؛ لأنها كانت ماهرةً للغاية في تناول الأطعمة النباتية، باستخدام أسلوب الحركة الجانبية، وربما كان نجاحها التطوُّري نتيجةً لوراثتها لآلية المضغ الجديدة التي ظهرت لأول مرة لدى الإجواندون.