الكشف عن أصل الديناصورات
حتى هذه اللحظة، كان اهتمامنا منصبًّا بدرجة كبيرة على فحص الجوانب التشريحية والحيوية لديناصور الإجواندون وطريقة حياته — إن لم يكن مقصورًا على ذلك — وقد اتضح بالطبع أن الإجواندون كان مجرد ديناصور واحد داخل منظومة أكبر بكثير للحياة في حقبة الحياة الوسطى. وإن إحدى المهام المهمة التي تقع على عاتق علماء الحفريات لَهِي محاولةُ اكتشاف أصل الأنواع التي يدرسونها أو تاريخ تطوُّرها. ومن أجل تكوين صورة عن الديناصورات بأكملها، سيكون لزامًا علينا عرض الأساليب المستخدمة في تحقيق هذا، وفهمنا الحالي لتاريخ تطوُّر الديناصورات.
إحدى سمات السجل الحفري أنه يمنحنا تلك الإمكانية المثيرة لتعقُّب أصل الكائنات، ليس فقط لبضعة أجيال بشرية (مدى ما يصل إليه علماء الأنساب في العصر الحديث)، لكن عبر آلاف أو ملايين الأجيال على مدى الزمن الجيولوجي الضخم، والوسيلةُ الأساسية التي يُجرَى بها هذا البحث في العصر الحالي هي أسلوبٌ يُعرَف باسم علم تصنيف تطوُّر السلالات. الفرضية التي يقوم عليها هذا الأسلوب في الواقع بسيطةٌ إلى حدٍّ كبير، فهو يقرُّ بأن الكائنات الحية تمرُّ بالعمليات العامة في التطوُّر الدارويني، وهذا لا يتطلَّب شيئًا أكثر عمقًا من مجرد افتراض أن الكائنات الأقرب صلةً بعضها ببعض — من حيث مفهوم علم الأنساب — يكون بينها تشابُهٌ جسدي أكثر من الموجود بينها وبين الكائنات الأبعد صلةً بها. وفي محاولة استكشاف درجة قرابة الكائنات (في هذه الحالة، الكائنات المتحجِّرة على وجه الخصوص)، فإن أكثر ما يهتم به علماءُ تصنيفِ الحفريات هو تعريفُ مثلِ هذا النطاق الواسع من الصفات التشريحية المحفوظة في الأجزاء الصلبة من هذه الحفريات. ومع الأسف، فسدَ كمٌّ كبير من المعلومات الحيوية المهمة للغاية، وفُقِدَ في أثناء عملية تحجُّر أيِّ هيكل عظمي؛ لذا فإن أسلوب التعامُل الواقعي مع الأمور يقتضي منَّا تحقيق أقصى استفادة ممكنة من المتبقي لدينا؛ فحتى وقت قريب، اعتمدَتْ إعادةُ تجميع تاريخ تطوُّر السلالات على الصفات التشريحية للأجزاء الصلبة للحيوانات فقط، إلا أن الاختراعات التكنولوجية أتاحت الإمكانية حاليًّا لجمع بيانات — بناءً على التكوين الكيميائي الحيوي والتكوين الجزيئي للكائنات الحية — من شأنها إضافة معلومات مهمة وجديدة إلى هذه العملية.
تتمثَّل مهمة اختصاصيِّ تصنيف الديناصورات في إعداد قوائم مطوَّلة من الصفات التشريحية، بهدف تحديد الصفات المهمة في تطوُّر السلالة، أو التي تحمل إشارةً تطوُّريةً. تهدف هذه المهمة إلى إعداد تسلسُل هرمي للعلاقات قابل للتطبيق، بناءً على تصنيفات تخصُّ حيوانات وثيقة الصلة للغاية.
يحدِّد هذا التحليل أيضًا صفاتٍ تتفرَّد بها حفرياتُ أنواعٍ معينة، وهذه الصفات مهمة لأنها تبرز السمات الخاصة التي تميِّز — على سبيل المثال — الإجواندون عن بقية الديناصورات كلها. قد يبدو هذا أمرًا واضحًا للغاية، لكن في الحقيقة تستند عادةً حفرياتُ الكائنات إلى عدد صغير من العظام أو الأسنان، وإذا اكتُشِفت بقايا جزئية أخرى في صخورٍ في أماكن أخرى بعيدًا عن المكان الأصلي — لكنها تنتمي إلى عصر مشابه للغاية — فقد توجد صعوبة كبيرة للغاية في تقديم دليل مقنع حول ما إن كانت هذه البقايا تنتمي للإجواندون — مثلًا — أم أنها ربما تكون لكائن جديد لم يُكتشَف من قبلُ.
بخلاف الصفات التي تحدِّد تفرُّدَ الإجواندون، لا بد أيضًا من تحديد الصفات التشريحية التي يشترك فيها مع حيوانات في مثل تفرُّده، لكنها وثيقةُ الصلة به. ربما يمكنك أن تعتبر هذه الحيوانات بمنزلة «عائلته» التشريحية، وكلما زادت السماتُ العامة المشتركة بين مجموعات الديناصورات المنتمية إلى «عائلة» واحدة، أتاح هذا إمكانيةً أكبر لتجميعها في فئاتٍ أكبر وأكثر شموليةً من الديناصورات، تكوِّن تدريجيًّا نمطَ العلاقات العام لها جميعًا.
حالة الباريونيكس
خضعت الصخور من أوائل العصر الطباشيري الموجودة في جنوب شرق إنجلترا لدراسة مكثَّفة على يد الباحثين عن الحفريات (بدءًا من جيديون مانتل) والجيولوجيين (خاصةً ويليام سميث)، لأكثر من ٢٠٠ عام. كانت عظام الإجواندون منتشرةً للغاية، وكذا بقايا عدد محدود من الديناصورات الأخرى، مثل الميجالوصور والهيليوصور والبولاكانتوس والبيلوروصور والفالدصور والهيبسيلوفادون؛ ونظرًا لكثافة هذا العمل، قد يعتقد البعضُ استحالةَ العثور على أي شيء جديد آخَر على الإطلاق. لكن في عام ١٩٨٣ اكتشف جامِعُ الحفريات الهاوي ويليام ووكر عظامَ مخلب كبير في حفرةٍ من الطمي في سَري، قادت إلى استخراج ديناصور مفترس طوله ٨ أمتار، وكان اكتشافًا علميًّا جديدًا بالكامل. سُمِّي الديناصور باريونيكس ووكري تكريمًا لمُكتشِفه، واحتلَّ مكانَ الصدارة في متحف التاريخ الطبيعي في لندن.
المغزى من هذه القصة أنه لا يوجد أمر مُسلَّم به؛ فمن المحتمل أن يكون السجل الحفري مليئًا بالمفاجآت.
السؤال الحقيقي هو: كيف يتحقَّق هذا النمط العام من العلاقات؟ طوال فترة طويلة للغاية، كانت الطريقةُ العامة المُستخدَمة تُوصَف ببساطة بمقولة «أنا أعرف أكثر.» لقد كانت هذه حرفيًّا وجهةَ نظرِ الخبراء المدَّعِين، الذين قضَوْا وقتًا طويلًا في دراسة مجموعة معينة من الكائنات، ثم لخَّصوا أنماطَ التشابُه العامة لمجموعتهم؛ ربما تتفاوت كثيرًا أساليبُهم في فعل هذا، لكن في النهاية لم يكن نمطُ العلاقة المفضَّل لديهم يزيد عن كونه تفضيلًا شخصيًّا لهم أكثر من كونه حلًّا دقيقًا للغاية ناتجًا عن مناقشة علمية. وفي حين نجحت هذه الطريقة على نحوٍ معقولٍ لمجموعات محدودة من الكائنات، ثبَتَ أنه من الصعب استخدامُها في مناقشةِ صحةِ أحد التفسيرات على نحوٍ سليمٍ مقارَنةً بآخَر؛ لأن الحجج — عند تحليلها إلى عناصرها الأساسية — كانت غير مباشِرة وتعتمد على اعتقادِ شخصٍ ما مقابِل آخَر.
ظهرت هذه المشكلة الأساسية بوضوح شديد عند وجود مجموعات من الكائنات أعدادُها كبيرةٌ للغاية ومتنوِّعة بطرق كثيرة دقيقة، وخير مثال على هذا مجموعاتُ الحشرات، أو بعض الأنواع المذهلة من الأسماك العظمية. إذا حدث وتقبَّلَ المجتمعُ العلمي العام عن طيب خاطرٍ سلطةَ أحد العلماء لفترة من الوقت، فإن كل الأمور ستبدو على ما يرام؛ ومع هذا، في الحالات التي لم يستطع فيها الخبراءُ الاتفاقَ، كانت النتيجة النهائية مع الأسف نقاشاتٍ عديمةَ الجدوى.
على مدار العقود الأربعة الماضية، أُقِرَّت تدريجيًّا منهجية جديدة ثبَتَ أن لها قيمة علمية أكبر. إنها لا تقدِّم بالضرورة الإجاباتِ الصحيحةَ، لكنها على الأقل تقبل التدقيقَ العلمي والنقاشَ الفعلي؛ يُعرَف هذا الأسلوب على نطاق واسع حاليًّا باسم التصنيف التفرُّعي الحيوي (أو «علم تصنيف تطوُّر السلالات»). يتعامل البعض مع هذا الاسم بدرجةٍ من الخوف، لكن السبب في هذا يرجع إلى حدٍّ كبير إلى وجود بعض المناقشات العنيفة للغاية حول طريقةِ تطبيق التصنيف التفرُّعي الحيوي عمليًّا، والأهميةِ العامة التي قد توجد للنتائج في أحد سياقات التطور. لِحُسن الحظ، لسنا بحاجةٍ إلى إمعان النظر كثيرًا في هذا النقاش؛ لأن مبادئه بالفعل بسيطةٌ وواضحة على نحوٍ مذهل.
إنَّ مخطط الفرع الحيوي، المعروف أيضًا بمخطط التصنيف التفرُّعي الحيوي، هو مخطط شجري تشعُّبي يربط جميعَ الأنواع التي كانت قيد الدراسة في وقتٍ ما. ومن أجل رسم هذا المخطط، يحتاج الباحث إلى إعداد جدول (مصفوفة من البيانات) يحتوي على عمودٍ تُذكَر فيه الأنواعُ الخاضعة للفحص، وأمام هذا العمود سَرْدٌ للصفات (التشريحية والكيميائية الحيوية، وغيرهما) التي تظهر في كلٍّ من هذه الأنواع؛ ثم يحصل كلُّ نوع على «علامة» توضِّح إذا كان يحمل الصفة أم لا، فيدل (١) على أنه يحمل الصفة، في حين يدل (٠) على أنه لا يحملها؛ وفي بعض الحالات، إذا كان القرارُ غيرَ مؤكَّد، يمكن التعبير عن هذا بعلامة (؟). بعد ذلك، تخضع مصفوفة البيانات الناتجة عن هذه العملية (التي قد تكون ضخمةً للغاية) للتحليل باستخدام عدد من برامج الكمبيوتر الخاصة، التي يتمثَّل دورُها في تقييم توزيع علامات الآحاد والأصفار، وتكوين مجموعة من الإحصائيات التي تحدِّد أكثرَ توزيعٍ للبيانات المشتركة بين الأنواع المختلفة، ذي علاقة بتطوُّر السلالات. يشكِّل مخطط الفرع الحيوي الناتج نقطةَ البدء لعدد كبير من عمليات الفحص الأخرى التي تهدف إلى تحديدِ وفهمِ إلى أي مدًى توجد أنماط مشتركة أو أوجه تشابُهٍ عامة، وكذلك إلى أي مدًى قد تكون هذه البيانات مضلِّلة أو خاطئة.
لا يمثِّل مخطط الفرع الحيوي الناتج عن هذا النوع من التحليل أكثرَ من مجرد فرضية إرشادية عن العلاقات القائمة بين الحيوانات الخاضعة للدراسة. يحدِّد كلُّ فرع في الشجرة النقاطَ التي يمكن عندها تحديدُ مجموعةٍ من الأنواع ترتبط كلها بعضها ببعض عن طريق اشتراكها في عدد من الصفات المميزة. وباستخدام هذه المعلومات يمكن في الواقع إنشاءُ نوعٍ من سلسلةِ النسب أو تاريخ تطوُّر السلالة يمثِّل نموذجًا لتاريخ تطور المجموعة بأكملها؛ على سبيل المثال: إذا رُسِمَت العصور الجيولوجية المعروفة لوجود كل نوع على هذا المخطط، فإنه يصبح من الممكن الإشارةُ إلى التاريخ العام للمجموعة، وكذلك الوقت المحتمل الذي ربما ظهرت فيه الأنواعُ المتنوعة؛ وبهذه الطريقة، بدلًا من أن يمثِّل مخططُ الفرع الحيوي مجردَ ترتيب مكاني مناسب للأنواع، فإنه يبدأ في محاكاة سلسلة نسب حقيقية. من الواضح أن كل تأريخ تطوري ينشأ بهذه الطريقة تنبع جودته من جودة البيانات المتاحة، ويمكن أن تتغير البيانات وكيفية تسجيلها مع اكتشاف حفريات جديدة أو أفضل أو أكثر اكتمالًا، وكذلك مع ظهورِ أساليب تحليل جديدة أو تحسينِ الأساليب الأقدم.
يهدف كل هذا العمل إلى تكوين صورة دقيقة قدر المستطاع لتاريخ تطوُّر الحياة أو لتاريخ تطور الديناصورات — في هذه الحالة على وجه الخصوص.
تاريخ تطور الديناصورات بإيجاز
يشير الاعتقاد التقليدي إلى أن الديناصورات (حسبما أدرك أوين بحِسه) من الزواحف؛ نظرًا لوضع أرجلها المنتصِب، والوصلات المعززة على نحوٍ خاص بين الأرداف والعمود الفقري بهدف تسهيل حمل الجسم بكفاءة على الأرجل التي تشبه الأعمدة. منحت هذه التغييرات الديناصورات الأولى بعضَ الخصائص القيِّمة للغاية؛ أرجلًا تشبه الأعمدة قادرة على حمل وزن الجسم الهائل بكفاءة كبيرة حيث استطاعت الديناصورات أن تصبح كائنات ضخمة للغاية، كما تسمح الأرجل التي تشبه الأعمدة بخطوة واسعة؛ مما يعني أن بعض الديناصورات كانت تستطيع التحرُّكَ بسرعة كبيرة. استخدمت الديناصورات كلتا الصفتين بفاعلية كبيرة طوال فترة سيادتها على الأرض.
في حين أن كل الديناصورات تشترك في هذه الصفات الأساسية، فإنه يمكن تقسيمها إلى نوعين أساسيين مختلفين: سوريشكيا (تعني حرفيًّا «سحليات الورك»)، وأورنيثيسكيا (وتعني «طيريات الورك»). وكما يشير هذان الاسمان، فإن الاختلافات بين مثل هذه الديناصورات كانت تكمن أساسًا في تكوين عظام الورك، على الرغم من أهمية العديد من الصفات التشريحية الأخرى الأقل وضوحًا في المساعدة في التمييز بين هذين النوعين الرئيسيين. عُثِرَ على ديناصورات أولى تنتمي لهاتين المجموعتين في صخور من العصر الكارني (على الأقل منذ ٢٢٥ مليون سنة)، لكن لم يكن من الممكن العثور على أول ديناصور على الإطلاق، أو معرفة إن كان قطعًا من سحليات الورك أم من طيريات الورك، أم مجرد نوع من الديناصورات لم يكن ينتمي حتى تلك اللحظة لأيٍّ من النوعين.
سحليات الورك
تضمُّ الدرومايوصورات كائنات شهيرة مثل فيلوسيرابتور وداينونيكس، ومجموعة من كائنات مشابهة ولكن أقل شهرةً اكتُشِفَت مؤخرًا. إنَّ الاهتمام الخاص الذي تحظى به ينبع من حقيقة أن تشريح هيكلها العظمي يشبه إلى حدٍّ كبير هيكلَ الطيور الموجودة حاليًّا؛ في الواقع أوجهُ التشابُه كبيرةٌ للغاية، لدرجة أنه يُعتقَد أنها الأسلاف المباشِرة للطيور. تشير الاكتشافات الحديثة المثيرة في مواقع بمقاطعة لياونينج في الصين — التي تُظهِر ظروفَ حفظٍ استثنائية لدرومايوصورات ثيروبودية — إلى وجود مادة تغطي أجسامها مكوَّنة إما من شعيرات كيراتينية (مثل شعر خشن)، وإما في بعض الحالات من ريش يشبه فعليًّا ريش الطيور؛ مما يؤكِّد وجهَ التشابه بينها وبين الطيور الحديثة.
طيريات الورك
يُعتقَد أن جميع الديناصورات المنتمية إلى فئة طيريات الورك كانت آكلةً للعشب، وتشبه إلى حدٍّ ما ثدييات العصر الحديث، وتبدو أكثر تنوُّعًا وأكبر عددًا من مفترساتها المحتملة.
أخيرًا، كانت توجد الكيراتوبسيا، وهي مجموعة من الديناصورات تضمُّ ديناصور بروتوسيراتوبس الأسطوري المذكور في المقدمة، بالإضافة إلى ديناصور تريسراتبس (الثلاثي القرون) الشهير. كل هذه الديناصورات كان لها منقار فريد غير عريض في طرفَيْ فكَّيْها، ويحيط بالحافة الخلفية لجمجمتها تكوينٌ عظمي يشبه الطوق. وفي حين كان بعض هذه الديناصورات — خاصةً المجموعات الأولى منها — يسير على قدمين، كبرَ عددٌ كبير منها في الحجم كثيرًا، وزاد حجم رأسها، الذي كان يزينه تكوينٌ عظمي ضخم يشبه الطوق المكشكش وقرونٌ هائلة في حاجبَيْها وأنفها. دفعها حجمُها الضخم ورأسُها الثقيل إلى الوقوف على قوائمها الأربع، ويتضح وجه الشبه بينها وبين حيوانات وحيد القرن في عصرنا الحالي بدرجة كبيرة. من الواضح — كما تُظهِر هذه الدراسة الموجزة إلى حدٍّ كبير — أن الديناصورات كانت متعدِّدة ومتنوِّعة، بناءً على الاكتشافات التي حدثت على مدار ٢٠٠ سنة مضت. لكن على الرغم من أنه حتى وقتنا هذا أصبحنا نعرف نحو ٩٠٠ نوع من الديناصورات، فإن هذا مجرد جزء ضئيل من الديناصورات التي عاشت طوال ١٦٠ مليون سنة في أثناء سيطرتها خلال حقبة الحياة الوسطى. للأسف لن نتمكَّن أبدًا من اكتشاف كثير من هذه الأنواع؛ لأن حفرياتها لم تُحفَظ قطُّ، والبعض الآخر سيكتشفه صائدو الديناصورات الباسلون في السنوات القادمة.
تصنيف الديناصورات والجغرافيا الحيوية القديمة
قد يكون لمثل هذا النوع من الأبحاث نتائج عرضية ممتعة، وإن كانت غير متوقَّعة بعض الشيء؛ إحدى هذه النتائج التي سنتناولها هنا تربط تطوُّرَ السلالات بالتاريخ الجغرافي للأرض؛ ففي الواقع ربما كان للأرض تأثيرٌ عميق على النمط العام للحياة.
تكوَّنَ الجدولُ الزمني الجيولوجي للأرض من التحليل المضني لأعمار مجموعات متتالية من الصخور المكشوفة في أماكن متعددة على سطح الأرض. كان أحد المكونات المهمة التي ساعدت في هذه العملية، الأدلة المستمدَّة من الحفريات الموجودة داخلها؛ فإذا احتوَتْ صخورٌ من أماكن مختلفة على حفرياتٍ من النوع نفسه بالضبط، أمكن أن نفترض بقدر معقول من الثقة أن هذه الصخور كانت من العصر نفسه الذي تنتمي إليه تلك الحفريات.
مع هذا، ثبت أن هذا المنطق مضلِّل؛ ففي خمسينيات وستينيات القرن العشرين، تراكمت سلسلةٌ من الملاحظات التي تدعم آراءَ فيجنر؛ أولًا: أظهرت نماذجُ مفصَّلة للغاية لكل القارات الكبرى أنه يمكن بالفعل أن تتلاحم معًا بدقة مذهلة، وبقدرٍ من التشابه لا يمكن أن يكون وليدَ المصادفة. وثانيًا: ثَمَّة صفاتٌ جيولوجية كبرى موجودةٌ على القارات المنفصلة أصبحت متصلةً عندما أُعِيدَ تجميع القارات معًا مثل الأحجية. وأخيرًا: أظهرت أدلة من المغناطيسية القديمة للأرض ظاهرةَ توسُّعِ قاع البحر؛ بمعنى أن قاع المحيط كان يتحرك مثل أحزمة ضخمة ناقلة للقارات، وأكَّدت البقايا التاريخية للمغناطيسية في الصخور القارية أن القارات قد تحرَّكَتْ بمرور الزمن. وكان «المحرك» الذي يقود هذه الحركة فعليًّا هو الحرارة الموجودة في لبِّ الأرض، وسيولة الصخور في طبقة الوشاح داخل الأرض. إن نظرية الألواح التكتونية المسئولة عن حركة القارات فوق سطح الأرض، بمرور الوقت أصبحت شهيرةً ومؤيَّدةً حاليًّا.
يبدو أن الديناصورات الأولى استطاعت الانتشارَ عبر معظم أجزاء قارة بانجيا، هذا بناءً على حفرياتها؛ لكن في العصر الجوراسي والعصر الطباشيري التالي له، كان من الواضح أن هذه القارة العظمى الموحدة أصبحت بالتدريج مجزَّأةً، بفعل الطرق البحرية التي تخلَّلَتْها مع ابتعاد أجزاء في حجم القارات بعضها عن بعض تدريجيًّا.
أحد الآثار الحيوية الحتمية لهذه العملية الفطرية (المرتبطة بالأرض) المتمثِّلة في انفصال القارات، هو أن مجموعة الديناصورات التي كانت ذاتَ يومٍ تعيش في مختلف أرجاء العالم، أصبحت منفصلةً تدريجيًّا ومنعزلةً. وكانت ظاهرةُ العزلة أحدَ المحاور الأساسية لتطوُّر الكائنات؛ فعندما تنفصل الكائناتُ تخضع لتغيُّرات تطوُّرية استجابةً للتغيُّرات المحلية في بيئتها المباشِرة. وفي هذه الحالة — على الرغم من أننا نتعامل مع مناطق ضخمة نسبيًّا (بحجم القارات) — فإن كل جزء من الأجزاء القارية حمَلَ معه مجموعتَه من الديناصورات (والحيوانات والحياة النباتية المرتبطة بها)، وبمرور الوقت، حظي كل كائن منها بفرصةٍ للتطوُّر على نحوٍ مستقلٍّ استجابةً للتغيُّرات المحلية في بيئته، مدفوعًا — على سبيل المثال — بالتغيُّرات المتتابعة في دوائر العرض وخطوط الطول، وتيارات المحيط المجاورة، والظروف المناخية السائدة.
يقضي المنطق بحتمية تأثير الأحداث التكتونية التي وقعت خلال حقبة الحياة الوسطى، في نطاق تاريخ تطوُّر الديناصورات ونمطه العام. في الواقع، يبدو منطقيًّا للغاية افتراض أن التبعثُر التدريجي لأسلاف الأنواع على مرِّ الزمن، كان له حتمًا دورٌ كبير في تسريع التنوُّع الموجود في المجموعة بأكملها. وتمامًا كما نستطيع عرْضَ تاريخ تطوُّر سلالة الديناصورات باستخدام مخطط فرع حيوي، نستطيع كذلك عرْضَ التاريخ الجغرافي للأرض طوال حقبة الحياة الوسطى، في صورة سلسلةٍ من الأحداث المتشعِّبة مع انفصال الكتل القارية من قارة بانجيا «القديمة». بالطبع، هذا الأسلوب العام ما هو إلا تبسيطٌ لتاريخ الأرض الحقيقي؛ لأن القِطَع القارية كانت تلتحم أحيانًا، فتعيد الجمْعَ بين الأنواع المنفصلة من قبلُ؛ لكن كتقديرٍ أوَّليٍّ على الأقل، يقدِّم هذا أرضًا خصبة للبحث في بعض الأحداث الأوسع نطاقًا في تاريخ الأرض.
إذا كان هذا النموذج من التاريخ الطبيعي للديناصورات حقيقيًّا بوجه عام، فقد نتوقَّع التمكُّنَ من اكتشاف بعض الأدلة التي تدعمه، عن طريق البحث في تفاصيل السجل الحفري لأنواع الديناصورات، والنماذج التكتونية لتوزيع القارات طوال حقبة الحياة الوسطى. وقد تطوَّرَ هذا الأسلوبُ في السنوات الأخيرة، من أجل البحث عن أنماط متزامنة في تاريخ تطوُّر الديناصورات، ومعرفة ما إذا كان تاريخُ تطوُّرها ينعكس في التوزيع الجغرافي.
تطوُّر الأورنيثوبودات
اهتمت الأبحاث الأولى التي أُجرِيت في هذا المجال البحثي في عام ١٩٨٤، بمجموعة من الديناصورات وثيقة الصلة بديناصور إجواندون المعروف. بوجه عام، تُعرَف هذه الأنواع من الديناصورات باسم أورنيثوبودات (بمعنى «قدم الطائر»، نسبةً إلى التشابُه العابر والطفيف بين هذه الديناصورات والطيور الحالية، من حيث تكوين أقدامها). وبالمقارَنة بين تشريحات عدد من أنواع الأورنيثوبودات المعروفة في هذا الوقت بقدرٍ من التفصيل، تمكَّنَ العلماء من رسم مخطط فرع حيوي. ومن أجل تحويل هذا المخطط إلى تاريخ فعلي لتطوُّر السلالة، كان لا بد من رسم التوزيع المعروف لهذه المجموعة على مر الزمن وتوزيعها الجغرافي على مخطط الفرع الحيوي.
ظهرت بعض الأنماط المذهلة في تاريخ هذه الأورنيثوبودات من هذا التحليل؛ بدايةً، بَدَا أنها تشير إلى أن النماذج الوثيقة الصلة «بالإجواندون» (أيْ أفراد المجموعة المعروفة باسم «الإجواندونيات») وأقاربها المقرَّبة (أعضاء عائلة الهادروصوريات)، ربما تكون قد نشأت نتيجةَ الانفصال القارِّي الذي حدث خلال أواخر العصر الجوراسي؛ ففي هذا الوقت، أصبحت الأسلاف — التي ربما تطوَّرَتْ منها هاتان المجموعتان — مقسَّمةً بفعل طريق بحري. وعقب هذا الانقسام، تطوَّرَتْ مجموعة من الكائنات لتصبح الهادروصوريات في آسيا، في حين تطوَّرَتِ الإجواندونيات في مكانٍ آخَر. يبدو أن كلًّا من هاتين المجموعتين قد تطوَّرت بمعزل عن الأخرى خلال أواخر العصر الجوراسي وأوائل العصر الطباشيري. لكن خلال النصف الثاني من العصر الطباشيري، أصبحت آسيا متصلةً مرةً أخرى ببقية قارات نصف الكرة الشمالي، ومن الواضح أن ما بها من هادروصوريات قد تمكَّنَ من الانتشار عبر نصف الكرة الشمالي دون إعاقةٍ تُذكَر، وحَلَّ محلَّ الإجواندونيات أينما الْتَقَى بها.
وفي حين بَدَا نمطُ إحلال الهادروصوريات محلَّ الإجواندونيات خلال أواخر العصر الطباشيري متَّسِقًا إلى حدٍّ ما، كان ثمة استثناءٌ أو استثناءان محيِّران لا بد من دراستهما.
ظهرت تقارير، كُتبِت في مطلع القرن العشرين، عن وجود إجواندونيات في أوروبا (فرنسا ورومانيا على وجه الخصوص) في صخور من أواخر العصر الطباشيري؛ وبناءً على التحليل السابق ذكره، لم يكن من المتوقَّع أبدًا لهذه الديناصورات البقاءُ حتى أواخر العصر الطباشيري؛ لأن النمط السائد في كل مكان آخَر كان استبدالَ الهادروصوريات بالإجواندونيات. وفي أوائل تسعينيات القرن العشرين، اكتُشِفَت أفضل مادة محفوظة في ترانسلفانيا، وهي منطقة في رومانيا. مع هذا، حثَّ تحليل تاريخ تطوُّر السلالات على إرسال بعثات لإعادة دراسة هذه الاكتشافات، وأثبتت دراسة حديثة أن هذه الديناصورات لم تكن أحد الأقارب المقرَّبة للإجواندون، وإنما كانت تمثِّل أحد الأعضاء المتبقية من مجموعةٍ من الأورنيثوبودات الأكثر بدائيةً. سُمِّي هذا الديناصور باسم جديد تمامًا؛ زالموكسيز. إذن، فإن إحدى نتائج التحليل المبدئي كانت الحصولَ على كَمٍّ كبير من المعلومات الجديدة حول ديناصور قديم، لكنه على ما يبدو لم يكن مفهومًا جيدًا.
أشار تقريرٌ نُشِر في خمسينيات القرن العشرين إلى أن ديناصورًا، قريبَ الشبه للغاية بالإجواندون، قد عاش في منغوليا خلال أوائل العصر الطباشيري. كان لا بد من خضوع هذا التقرير المثير أيضًا لمزيدٍ من الدراسة من أجل معرفة ما إذا كان نطاقُ وجوده الجغرافي الغريب — في آسيا خلال أوائل العصر الطباشيري — حقيقيًّا أم لا، تمامًا كما حدث في حالة المثال الروماني، الذي كان حالةً أخرى من أخطاء تحديد الهوِيَّة. لقد كانت هذه المادة — على الرغم من كونها متجزِّئةً — محفوظةً في متحف الحفريات الروسي في موسكو، وكان لا بد من إعادة فحصها؛ ومرةً أخرى، ما ظهر كان غيرَ متوقَّع؛ ففي هذه المرة تأكَّدَتْ صحةُ التقارير الأقدم، فقد بَدَا أن نوع الإجواندون نفسه كان موجودًا في منغوليا في أوائل العصر الطباشيري، وكانت الأجزاءُ المكتشَفة تنتمي للإجواندون الأوروبي الشهير، لكن تعذَّرَ التعرُّف عليها.
لم يتلاءم الاكتشاف الثاني على الإطلاق بسهولةٍ مع الفرضية التطورية والجغرافية التي نشأت في تحليل عام ١٩٨٤. في الواقع ظهرت في السنوات الأخيرة مجموعةٌ مثيرة جدًّا للاهتمام من الأورنيثوبودات تشبه الإجواندون في آسيا وأمريكا الشمالية، فيما يمكن وصفه على أفضل نحو ﺑ «منتصف» العصر الطباشيري. يشير معظم هذه الأدلة الحديثة للغاية — التي تتراكم طوال الوقت — إلى أن النموذج التطوُّري والجغرافي الأصلي احتوى على عدد من الأخطاء الأساسية التي استطاع البحثُ المستمر والاكتشافاتُ الحديثة الكشفَ عنها.
الديناصورات من منظور عالمي
في الفترة الأخيرة طُبِّق هذا الأسلوب على نطاق أوسع وبطريقة أكثر طموحًا؛ فقد تمنَّى بول أبتشيرش بكلية لندن الجامعية وكريج هَن بجامعة كامبريدج فحْصَ شجرةِ عائلة الديناصورات بالكامل، من أجل العثور على أدلةٍ تُثبِت وجودَ أوجه تشابُهٍ في أنماط حدود الطبقات الصخرية وأنماط تصنيف السلالات، عن طريق فحْصِ أعداد ضخمة من الديناصورات. قُورِنت هذه الأنماط بالتوزيعات المعترَف بها حاليًّا للقارات في فترات زمنية خلال حقبة الحياة الوسطى بأكملها، وقد أُجرِيت محاولةٌ لمعرفة إن كانت قد ظهرَتْ بالفعل إشارةٌ عامة تشير إلى تأثير الحركة التكتونية في تاريخ تطوُّر كل الديناصورات.
على الرغم من «الضوضاء» الحتمية في النظام، التي ترجع في الأساس إلى عدم اكتمال السجل الحفري للديناصورات، فمن المشجِّع أن نشير إلى ظهور أنماط متزامنة ذات أهمية إحصائية في فترات متقطعة، شملت منتصف العصر الجوراسي وأواخره وأوائل العصر الطباشيري. يشير هذا إلى أن الأحداث التكتونية — كما توقَّعنا — تلعب دورًا ما في تحديد مكان ووقت ازدهار مجموعات معينة من الديناصورات. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا التأثير قد حُفِظ أيضًا في التوزيعات الجغرافية وفي طبقات الصخور لحفريات تخصُّ كائنات أخرى؛ ومن ثمَّ فإن تاريخ تطوُّر مساحات واسعة من الكائنات قد تأثَّرَ بالأحداث التكتونية، ولا يزال أثرُ هذا باقيًا معنا حتى يومنا هذا. وهذا الأمر ليس جديدًا إلى حدٍّ ما؛ فكل ما أحتاج إليه هو الإشارة إلى التوزيع الغريب للثدييات الجرابية (الموجودة حاليًّا فقط في الأمريكتين وأستراليا)، وإلى حقيقة تمتُّع الأماكن المنفصلة في عالمنا الحديث بحيواناتها ونباتاتها المميزة الخاصة. إن ما يشير إليه هذا البحث الجديد هو أننا ربما نتمكَّن من تعقُّب الأسباب التاريخية لمثل هذه التوزيعات، بدقةٍ أكبر من التي كنَّا نعتقد أنها ممكنة.