أبحاث الديناصورات: ملاحظات واستنتاجات
في هذا الفصل نعرض مجموعةً متنوِّعةً من خطوط البحث، في تأكيدٍ صريح على ضرورة استخدام أساليب متعدِّدة إذا كنَّا نريد أن نفهم حياةَ الحيوانات من حفرياتها.
علم دراسة آثار الديناصورات
إنَّ بعض جوانب البحث في مجال الديناصورات له طابع يشبه التحرِّي السري، وربما يكون أكثرُها هو علم دراسة الآثار الأحفورية أو التتبُّع الأحفوري، الذي يختص بدراسة آثار الأقدام.
لا يوجد فرعٌ من علم التحرِّي أكثرُ أهميةً وعرضةً للإهمال، من فنِّ تتبُّعِ آثار الأقدام.
من المذهل أن دراسة آثار أقدام الديناصورات لها تاريخ طويل؛ فقد عُثِرَ على بعضٍ من أوائل آثار الأقدام، التي جُمِعت وعُرِضت في عام ١٨٠٢ في ماساتشوستس، على يد الشاب بليني مودي في أثناء حرْثِه لأحد الحقول. قدَّمَ إدوارد هيتشكوك في النهاية شرحًا لآثار الأقدام هذه وغيرها من آثار الأقدام الضخمة الثلاثية الأصابع، ووصفها في عام ١٨٣٦ بكونها آثارًا تركتها طيورٌ عملاقة، ولا يزال من الممكن رؤيتها في متحف برات في كلية أمهيرست. ومن منتصف القرن التاسع عشر فصاعدًا، عُثِرَ على آثارٍ على فترات منتظمة إلى حدٍّ ما، في أجزاء مختلفة من العالم. ومع فهم تشريح الديناصورات، وبالأخص شكل أقدامها، اتَّضَح أن آثار الأقدام الضخمة الثلاثية الأصابع التي «تشبه أقدام الطيور»، التي عُثِرَ عليها في صخورٍ تعود لحقبة الحياة الوسطى، تنتمي إلى ديناصورات أكثر منها إلى طيور عملاقة. نادرًا ما كانت تُعتبَر هذه الآثار ذاتَ أهمية علمية كبيرة، على الرغم من الاهتمام الذي حظيت به على المستوى المحلي؛ لكن في السنوات الأخيرة، في ضوء أبحاث مارتن لوكلي من جامعة كولورادو في دنفر، بدأ يتكوَّن إدراكٌ أوسعُ نطاقًا لما يمكن أن تقدِّمه هذه الآثارُ من معلومات هائلة.
من أوائل هذه الأمور وأكثرها وضوحًا، أن الآثار المحفوظة تسجِّل أنشطةَ الديناصورات «في حياتها»، كما أن الآثار الفردية تسجِّل الشكلَ العام للقدم وعدد الأصابع، وهو ما يساعد دومًا في تضييق نطاق البحث عن صاحب هذه الآثار المحتمَل، خاصةً إذا اكتُشِفت هياكلُ عظميةٌ لديناصورات في صخورٍ مماثِلة لها في العمر في منطقة قريبة. وفي حين أن الآثار الفردية ربما تكون في حدِّ ذاتها مثيرةً للاهتمام، فإن الآثار المتتالية تقدِّم تسجيلًا للطريقة الفعلية التي كان الكائن يتحرَّك بها؛ فهي تعكس اتجاهَ القدمين عند ملامستهما للأرض، وطولَ الخطوة، واتساعَ الأثر (مدى قرب المسافة بين القدم اليسرى والقدم اليمنى). وانطلاقًا من هذه الأدلة، يمكن إعادةُ تمثيل الهيئة التي كانت الأرجلُ تتحرك بها بطريقة ميكانيكية. بالإضافة إلى هذا، ثبَتَ — عن طريق جمع ملاحظاتٍ باستخدام بيانات مأخوذة من عدد كبير من الحيوانات الموجودة حاليًّا — أنَّه من الممكن أيضًا حساب السرعات التي كانت تتحرك بها الحيواناتُ صاحبة هذه الآثار. وقد جاء الوصول إلى هذه الاستنتاجات ببساطةٍ عن طريق قياسِ حجم الآثار، وطولِ كل خطوة، والتوصُّل إلى استنتاج تقريبي لطول الساق. وعلى الرغم من أن تقدير طول الساق بدقةٍ كبيرة قد يبدو صعبًا للوهلة الأولى، فقد ثبَتَ أن الحجم الفعلي لآثار الأقدام هو من العلامات الدالة الجيدة للغاية (بناءً على ما نراه في الحيوانات الموجودة حاليًّا)، وفي بعض الحالات يكون قد عُثِرَ على عظام قدمٍ وساق أو هياكل عظمية لديناصورات عاشت في الوقت الذي تُرِكت فيه هذه الآثار.
ربما يكشف أيضًا شكلُ الآثار الفردية عن معلومات تتعلَّق باستنتاج الطريقة التي كانت تتحرَّك بها هذه الحيوانات؛ فالآثار العريضة المسطَّحة نسبيًّا، تشير إلى أن القدم بأكملها كانت تلامس الأرضَ لفترةٍ طويلة إلى حدٍّ ما؛ مما يشير إلى أن الحيوان كان يتحرَّك ببطءٍ نسبي. وفي حالات أخرى، ربما يظهر في الآثار أن أطراف الأصابع فقط هي التي كانت تلامس الأرضَ؛ ممَّا يشير إلى أن الحيوان كان يركض مُسرِعًا على أطراف أصابعه.
ثمة جانب آخَر من الجوانب المثيرة للاهتمام في الآثار التي تركتها الديناصورات، يرتبط بالظروف التي أدَّت إلى حفظها في الأساس؛ فآثارُ الأقدام لن تُحفَظ على أرض صلبة، وإنما تحتاج إلى أرض لينة ورطبة عادةً، ومن المثالي أن تكون ذات قوام طيني. وبمجرد ترْكِ الآثار، يكون من المهم عندئذٍ ألَّا تتعرَّضَ لتشويه كبير قبل تحجُّرِها؛ وقد يحدث هذا إذا دُفِنت الآثارُ سريعًا تحت طبقة أخرى من الطمي؛ لأن السطح يصبح صلبًا بفعل الشمس، أو عن طريق الترسيب السريع للمعادن التي تشكِّل نوعًا من الأسمنت داخل الطبقة المحتوية على آثار الأقدام. كثيرًا ما يمكن أن تُستنتَج بدقةٍ الظروفُ التي كانت موجودةً وقتَ ترْكِ الديناصورات هذه الآثارَ، من تفاصيل الرواسب المحتوية على الآثار نفسها؛ وقد يتدرَّج هذا من درجة تغيُّر شكل الطمي بفعل قدم الحيوان ومدى العمق الذي وصلت إليه القدم عندما غُرِست في الرواسب، إلى مدى الاستجابة التي تبدو عليها الرواسب لحركات القدم. فمن الممكن أحيانًا فهم أن الحيوان كان يصعد على أحد المنحدرات أو يهبط منها من مجرد الطريقة التي تحتشد بها التربةُ أمام آثار القدم الأساسية أو خلفها؛ ومن ثَمَّ، يمكن للآثار التي تركتها الديناصوراتُ أن تقدِّم قدرًا كبيرًا من المعلومات ليس فقط عن طريقة تحركها، وإنما أيضًا عن أنواع البيئات التي كانت تتحرَّك فيها.
أدَّى الاهتمام المتزايد بآثار أقدام الديناصورات في السنوات الأخيرة إلى ظهور عدد من مجالات البحث المحتمَلة المثيرة للاهتمام؛ فأحيانًا كانت تُكتشَف آثارُ الديناصورات في مناطق لم تُكتشَف فيها بقايا هياكل عظمية لديناصورات؛ لذا فإن هذه الآثار قد تساعد في ملء ثغرات معيَّنة في السجل الحفري المعروف للديناصورات. ظهرت كذلك مفاهيمُ جيولوجيةٌ مثيرة للاهتمام من واقع دراسة خصائص آثار الديناصورات. إن الديناصورات الصوروبودية الضخمة (مثل البرونتوصور المذكور آنفًا) ربما كان منها ما يزن من ٢٠ إلى ٤٠ طنًّا وهو على قيد الحياة، وربما مارست هذه الحيوانات قوًى هائلة على الأرض في أثناء سيرها. وعلى الطبقات اللينة، ربما أدَّى ضغطُ أقدام هذه الديناصورات إلى تشويه شكل الأرض على عُمْقٍ يصل إلى متر واحد أو أكثر تحت السطح، ونتج عن هذا سلسلة من «آثار الأقدام التحتية» التي تحاكي آثار الأقدام الأصلية الموجودة على السطح. إن هاجس «آثار الأقدام التحتية» يعني أن بعض آثار الديناصورات ربما يظهر على نحوٍ مبالَغٍ فيه في السجل الحفري، إذا كان من الممكن تكرار الأثر الواحد في صورة العديد من «الآثار التحتية».
إذا كانت قطعان من هذه الكائنات الضخمة قد سارت فوق مناطق ما — مثلما حدث بالتأكيد في دافينبورت رانش — فإنها كانت لديها القدرة أيضًا على تغيير شكل الأرض من تحت أقدامها؛ فتحطِّمها بالضغط عليها وتدمِّر تكوينها الرسوبي الطبيعي؛ سُمِّيت هذه الظاهرة المُكتشَفة حديثًا نسبيًّا «تأثير سير الديناصورات على سطح الأرض». ربما تكون هذه ظاهرة جيولوجية، لكنها تشير إلى تأثير بيولوجي مميَّز آخَر يرتبط بأنشطة الديناصورات التي يمكن بمرور الوقت قياسها أو لا. يتمثَّل هذا في التأثير التطوري والبيئي للديناصورات على المجتمعات الأرضية إجمالًا. إن سيرَ قطعان ضخمة من الديناصورات التي تبلغ عدَّة أطنان عبر مساحات شاسعة من الأراضي، كان بإمكانه تدميرُ البيئة المحلية بالكامل؛ فنحن نعلم أن الأفيال حاليًّا تستطيع إلحاقَ أضرار بالغة بالسافانا الأفريقية؛ نظرًا لما يمكن أن تتسبَّب فيه الأفيال من تمزيقِ أشجارٍ مكتمِلةِ النضج وإسقاطها. إذن، ماذا يمكن أن يفعل قطيعٌ من البرونتوصورات البالغ وزن الواحد منها ٤٠ طنًّا؟ وهل كان لهذا النشاط التدميري تأثيرٌ على الحيوانات والنباتات الأخرى التي عاشت في ذلك الوقت؟ وهل يمكن لنا تحديدُ مثل هذه التأثيرات أو قياسها على المدى الطويل، ومعرفة ما إذا كانت لها أهمية في تاريخ التطور في حقبة الحياة الوسطى أم لا؟
فضلات متحجِّرة
يركِّز فرعٌ بحثي آخَر أقلُّ بريقًا قليلًا في الدراسة الحيوية للحفريات، على روث حيوانات مثل الديناصورات؛ يُشار إلى هذه المادة باسم «الفضلات المتحجِّرة»، ومن المفاجئ أن دراستها لها تاريخ طويل وشهير! يرجع إدراك أهمية الروث المحفوظ بالتحجُّر إلى أبحاث ويليام باكلاند من جامعة أكسفورد (وهو الرجل الذي وصف أول ديناصور؛ الميجالوصور). كان باكلاند جيولوجيًّا رائدًا عاش في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقضى وقتًا كبيرًا في جمع ودراسة الصخور والحفريات من موطنه الأصلي، بالقرب من بلدة لايم ريجيس في مقاطعة دورست، بما في ذلك حفريات الزواحف البحرية. بجانب هذا، أشار باكلاند إلى أعداد ضخمة من الحصى المميَّز، اتَّسمَتْ عادةً بشكلها الحلزوني البسيط، وعندما فحصها باكلاند عن قرب — عن طريق كسرها لفتْحِها وفحْصِ قطاعات مهذَّبة منها — استطاع التعرف على قشور لامعة لأسماك، وعظام، والخطاطيف الحادة للسهميات (مجموعة من رأسيات الأرجل الرخوية)، ومجسَّات بأعداد كبيرة؛ لذا استنتج أن هذه الأحجار كانت على الأرجح الفضلات المتحجِّرة للزواحف المفترسة التي عُثِرَ عليها في الصخور نفسها. من الواضح أن دراسة الفضلات المتحجِّرة — على الرغم من أنها مثيرة للاشمئزاز إلى حدٍّ ما للوهلة الأولى — تستطيع الكشفَ عن أدلة على النظام الغذائي لذلك الكائن الذي كان يعيش على الأرض في وقتٍ ما، ولم يكن من الممكن الحصول على هذه الأدلة بطريقةٍ أخرى.
تمامًا مثل آثار الأقدام، يمكن لسؤال: «مَنْ فعل هذا؟» — على الرغم ممَّا ينطوي عليه من متعة واضحة — أن يمثِّل مشكلاتٍ كبيرةً. أحيانًا كانت الفضلاتُ المتحجِّرة — أو فعليًّا محتويات الأمعاء — تُحفَظ داخل أجسام بعض الفقاريات المتحجِّرة (خاصةً الأسماك)، لكن كان من الصعب ربْطُ الفضلات المتحجِّرة بديناصورات معينة أو حتى بمجموعة من الديناصورات. كرَّست كارين شين من وكالة المسح الجيولوجي الأمريكية حياتَها لدراسة الفضلات المتحجِّرة، وواجهت صعوبةً استثنائية في التعرُّف على الفضلات المتحجِّرة للديناصورات على نحوٍ موثوق به، حتى وقت قريب.
في عام ١٩٩٨، استطاعت شين وزملاؤها الإعلانَ عن اكتشافٍ أشاروا إليه في عنوان مقالهم على أنه «فضلات متحجِّرة ضخمة لأحد الثيروبودات». اكتُشِفت العينة المعنِيَّة في رواسب من فترة الماسترخي (أواخر العصر الطباشيري) في مقاطعة ساسكاتشوان، وتألَّفت من مادة متكتلة كثيرة البروز إلى حدٍّ ما، وبلغ طولها أكثر من ٤٠ سنتيمترًا، ووصل حجمها إلى لترين ونصف لتر تقريبًا. عُثِرَ في المنطقة المحيطة مباشَرةً بالعينة وداخلَها على أجزاء مكسورة من عظام، كما عُثِرَ في جميع أنحاء العينة على مسحوقٍ لموادَّ عظميةٍ أكثر نعومةً، يشبه الرمالَ. وقد أكَّد التحليلُ الكيميائي للعينة أنها تحتوي على مستويات مرتفعة للغاية من الكالسيوم والفسفور؛ ممَّا يؤكِّد وجودَ تركيز عالٍ للمادة العظمية. وقد أكَّدت أكثرُ المقاطع الرفيعة لأنسجة هذه الأجزاء المتكسرة التركيبَ الخلوي للعظام، وأن الفرائس التي كانت تُهضَم كانت على الأرجح من الديناصورات؛ فكما توقَّعوا كانت هذه العينةُ على الأرجح فضلاتٍ متحجِّرةً ضخمةً لحيوان لاحِم. وبدراسة الحيوانات المعروفة من صخور هذه المنطقة، كان الكائن الوحيد الضخم بما يكفي لإنتاج فضلاتٍ بمثل هذه الأبعاد، هو الثيروبود الضخم التيرانوصور ريكس («ملك» الديناصورات)؛ وقد أظهر فحْصُ قِطَعِ العظام المحفوظة داخل هذه الفضلات المتحجِّرة، أن هذا الحيوان كان قادرًا على سحْقِ عظام فريسته في فمه، وأن الفريسة المرجَّحة كانت الديناصور كيراتوبسي أورنيثسيكي الصغير السن (من تكوين العظام في مقاطع الأنسجة). وبالنظر إلى حقيقة أن العظام الموجودة في هذه الفضلات المتحجِّرة لم تكن كلها مهضومةً، تبيَّنَ تحرُّكُ هذه المادة داخل الأمعاء بسرعة كبيرة، وهو ما قد يستخدمه البعضُ كدليلٍ على أن التيرانوصور ريكس ربما كان حيوانًا جائعًا ذا دم حار.
أمراض الديناصورات
من الواضح أن إثبات اعتماد التيرانوصور ريكس على نظام غذائي لاحِم كان أمرًا متوقَّعًا تمامًا؛ نظرًا للتشريح العام لمثل هذه الثيروبودات. ومع هذا رُصِدت أيضًا آثارٌ مَرَضية مثيرةٌ للاهتمام لاتِّباع نظامٍ غذائي غني باللحوم الحمراء في الهيكل العظمي للتيرانوصور.
إنَّ «سو» — الاسم الذي أُطلِق على الهيكل العظمي الضخم للتيرانوصور ريكس المعروض حاليًّا في متحف فيلد في شيكاجو — إحدى الحفريات المهمة، بسبب احتوائها على العديد من السمات المَرَضية؛ فإحدى عظام أصابعها — عظمة مشط اليد — يظهر عليها بعضُ الحُفَر المميَّزة الملساء في المِفصل الموجود بينها وبين الإصبع الأولى، وقد خضعت هذه الحُفَرُ لفحص مفصَّل على يد كلٍّ من علماء الأمراض وعلماء الحفريات في عصرنا الحالي. اكتشف علماء الحفريات أن التيرانوصورات الأخرى لديها مثل هذه الإصابات، لكنها نادرة إلى حدٍّ ما في المجموعات الموجودة في المتاحف. استطاع علماء الأمراض — بناءً على مقارَنةٍ مفصَّلة بالأمراض الموجودة لدى الزواحف والطيور الموجودة حاليًّا — إثباتَ أن هذه الإصابات نتجت عن النقرس. يؤثِّر هذا المرضُ — المعروف لدى البشر أيضًا — بوجهٍ عامٍّ في اليدين والقدمين، ويكون مؤلمًا للغاية ويتسبَّب في تورُّم المناطق المصابة والتهابها. ينتج هذا المرض عن ترسُّب بلورات اليورات حول المفاصل. وعلى الرغم من أن النقرس قد ينتج عن الجفاف أو الفشل الكُلوي، فإن أحد عوامل إصابة البشر به هو النظام الغذائي؛ تناوُلُ طعامٍ غنيٍّ بمادة البيورين، وهي مادة كيميائية توجد في اللحوم الحمراء. إذن، فإن التيرانوصور لم يكن فقط يملك مظهرَ آكلات اللحوم، وإنما أثبتَتْ فضلاتُه هذا أيضًا، وكذلك أحد الأمراض التي كان يعاني منها.
تظهر على «سو» أيضًا مجموعة كبيرة من الأمراض التقليدية، وهذه الأمراض هي آثار دالَّة على إصابات سابقة؛ فعندما تنكسر عظامُ الكائن في أثناء حياته، تستطيع العظامُ علاجَ نفسها. وعلى الرغم من أن أساليب الجراحة الحديثة تمكِّن من إصلاح العظام المكسورة بدقة كبيرة، فإن أطراف العظام المنكسرة في الطبيعة لا تعود عادةً إلى مكانها بدقة، ويتكوَّن نسيجٌ صلبٌ حول منطقة التقاء أطراف العظام؛ هذه العيوب في عملية الإصلاح تترك آثارًا على الهيكل العظمي يمكن رؤيتُها بعد الوفاة. ومن الواضح من الحفرية «سو» أن التيرانوصور قد عانَى من عدد من الإصابات طوال «حياته»؛ ففي إحدى الحالات، تعرَّضَ إلى إصابة بالغة في صدره، الذي يحتوي بوضوح على العديد من الضلوع المكسورة والملتئمة. بالإضافة إلى هذا، فإن عموده الفقري وذيله بهما عدد من الكسور التي الْتأمَتْ — مرةً أخرى — في أثناء حياته.
من المثير للدهشة في هذه الملاحظات أن حيوانًا مثل التيرانوصور ريكس استطاع النجاة من نوبات الإصابة والمرض؛ فمن المتوقَّع أن مفترسًا ضخمًا مثل التيرانوصور ريكس سيصبح شديد الضعف، ومن ثمَّ فريسة محتمَلة بمجرد تعرُّضه لإحدى الإصابات؛ وكون هذا الأمر لم يحدث (على الأقل في حالة «سو») يشير إلى أن مثل هذه الحيوانات إما أنها كانت تتمتَّع بقدرة تحمُّل استثنائية؛ ومن ثمَّ لا تتأثَّر على نحوٍ بالغ بالإصابات الخطيرة، وإما أن هذه الديناصورات ربما عاشت في مجموعات مترابطة اجتماعيًّا، فكانت تتعاوَنُ من حينٍ لآخَر من أجل مساعدة الأفراد المصابة في المجموعة.
كشف فحص هذه العظام المتحجرة وتصويرها بالأشعة السينية أن موقع الإصابة الأصلية لا بد أنه تعرَّض للعدوى، لكن بدلًا من أن تظلَّ هذه العدوى متركِّزةً في مكان الإصابة، انتشرت إلى أسفل تجويف النِّقي في عظام القصبة، ومع انتشارها دمَّرَتِ العظامَ جزئيًّا. ومع انتشار العدوى ظهر نسيجٌ عظمي إضافي على السطح الخارجي من العظم، كما لو كان الجسمُ يحاول صنْعَ «جبيرته» أو دعامته الخاصة. ومن الواضح أن الجهاز المناعي للحيوان لم يستطع منْعَ الانتشار المستمر للعدوى، وتكوَّنت خُراجات تحت الغطاء العظمي الخارجي؛ ولا بد أن الصديد قد وصل إلى هذا الغطاء من عظام الساق، وخرج على سطح الجلد في صورة قُرَح. وبناءً على مقدار نمو العظام حول موقع الإصابة، يبدو أنه من المحتمَل أن الحيوان قد عاش لمدة تصل إلى سنة وهو يعاني من هذه الإصابة التعجيزية، قبل نفوقه في النهاية. هذا، ولا تظهر على الهيكل العظمي المحفوظ أيُّ علامات على عدوى مرضية، ولا توجد إشارة إلى أي آثارٍ لأسنان أو أي نشاط آخَر للبحث بين أشلائه؛ لأن عظامه لم تكن مبعثرة.
لم يتم التعرُّف على وجود أورام في عظام الديناصورات إلا نادرًا، وأكثر عقبة تظهر عند محاولة دراسة تكرار ظهور الأورام السرطانية لدى الديناصورات، هي الحاجة إلى تدمير عظام الديناصورات من أجل الحصول على مقاطع للأنسجة، وهو بالطبع أمرٌ لا يروق لمديري المتاحف؛ لذا، ابتكر مؤخَّرًا بروس روتشيلد أسلوبًا لمسح عظام الديناصورات باستخدام الأشعة السينية والتنظير التألُّقي. تقتصر هذه التقنية على العظام التي يقل قطْرُها عن ٢٨ سنتيمترًا؛ ولهذا السبب فحَصَ أعدادًا ضخمة (أكثر من ١٠ آلاف) من فقرات الديناصورات؛ كانت هذه الفقرات مأخوذةً من كل مجموعات الديناصورات الكبرى من عدد كبير من المجموعات الموجودة بالمتاحف. واكتشف روتشيلد أن الأورام السرطانية لم تكن نادرةً فحسب (أقل من ٠٫٢٪ حتى ٣٪)، وإنما اقتصرَتْ أيضًا على الهادروصوريات فقط.
إنَّ السبب في عدم انتشار الأورام على هذا النحو محيِّرٌ حقًّا. وبدأ روتشيلد يتساءل عما إذا كان النظام الغذائي للهادروصوريات له علاقة بهذا الوباء. تُظهِر الاكتشافاتُ النادرة للجثث «المُحنَّطة» للهادروصوريات تراكُمَ مادة في الأمعاء تحتوي على كميات كبيرة من الأنسجة الصنوبرية؛ حيث تحتوي هذه النباتات على تركيزات عالية من المواد الكيميائية المسبِّبة للأورام. وسواء كان هذا يقدِّم دليلًا على وجود قابلية وراثية لدى الهادروصوريات للأورام السرطانية، أو على وجود سبب بيئي (نظام غذائي مسبِّب لطفرات سرطانية)، فهو أمر مطروح للتفكير جملةً وتفصيلًا في الوقت الحالي.
النظائر
ثمة فرع آخر من العلوم يُعرَف باسم الجيوكيمياء، كان يستخدم النظائرَ المشِعَّة للأكسجين — خاصةً أكسجين-١٦ وأكسجين-١٨ — ونِسَبَها في المواد الكيميائية (الكربونات) الموجودة في أصداف الكائنات البحرية المجهرية؛ من أجل معرفة درجة حرارة المحيطات القديمة، ومن ثَمَّ معرفة الظروف المناخية الأوسع نطاقًا. الفكرة في الأساس أنه كلما زادت نسبة أكسجين-١٨ (مقارَنةً بأكسجين-١٦) المحبوس داخل المواد الكيميائية الموجودة في أصداف هذه الكائنات، كانت درجةُ حرارة المحيطات التي عاشت فيها هذه الكائنات في الأصل أكثرَ برودة.
في أوائل تسعينيات القرن العشرين، تعاوَنَ عالِمُ الحفريات ريس باريك مع عالِم الجيوكيمياء ويليام شاورز، من أجل رؤية إنْ كان من الممكن تطبيقُ الأمر نفسه على المواد الكيميائية في العظام — خاصةً الأكسجين الذي يشكِّل جزءًا من جزيء الفوسفات في معادن العظام. طبَّقوا أولًا هذا الأسلوبَ على بعض الفقاريات المعروفة (الأبقار والسحالي)، عن طريق أخذ عينات من العظام من أجزاء مختلفة من الجسم (الضلوع والأرجل والذيل)، وقاسوا نِسَب نظائر الأكسجين؛ وأظهرت نتائجهما وجودَ فرْقٍ طفيفٍ للغاية في درجة حرارة الجسم بين عظام الأرجل والضلوع لدى الثدييات ذات الدم الحار (الأبقار)؛ وكما كان متوقَّعًا تمامًا فهذا الحيوان يتمتع بدرجة حرارة جسم ثابتة. ومع ذلك، وجد العالِمان أن درجة حرارة ذيل السحلية تقل عن درجة حرارة ضلوعها بما يتراوح بين ٢ و٩ درجات مئوية؛ فلا يوجد توزيع متساوٍ لدرجة حرارة الجسم لدى ذوات الدم البارد؛ إذ تكون الأجزاءُ الخارجية في المعتاد أكثر برودةً من أجزاء الجسم الداخلية.
بعد هذا، أجرى باريك وشاورز تحليلًا مشابهًا على عظام متنوعة من هيكل محفوظ جيدًا للتيرانوصور ريكس اكتُشِفَ في مونتانا؛ كشفت العينات التي أُخِذت بالمثقاب من عظام الضلوع والأرجل والأصابع والذيل عن نتيجة تشبه إلى حدٍّ ما خصائصَ الثدييات؛ فقد تفاوتَتْ نِسَبُ نظائر الأكسجين على نحو قليل للغاية، ممَّا يشير إلى وجود درجة حرارة متساوية إلى حدٍّ ما في جميع أجزاء الجسم، وقد استُخدِم هذا من أجل الترويج أكثر لفكرة أن الديناصورات لم تكن فقط ثابتةَ الحرارة، وإنما كانت أيضًا من ذوات الدم الحار. ويبدو أن الأبحاث الأخيرة لهذين الباحثين تؤكِّد اكتشافهما الأساسي، وبسطت نطاقَ هذه الملاحظات لتشمل عددًا من الديناصورات الأخرى منها الهادروصوريات.
كما هو الحال دومًا أثارت هذه النتائجُ نقاشًا حيويًّا؛ فقد ظهرت مخاوفُ من احتمال أن يكون التكوينُ الكيميائي للعظام قد تغيَّر في أثناء عملية التحجُّر، وهو ما سيجعل إشاراتِ النظائر لا معنى لها. إن علماء الدراسة الحيوية للحفريات المهتمين بالجانب الفسيولوجي لم يكونوا مقتنعين على الإطلاق بما تعنيه النتائج؛ فقد كانت الإشارةُ الدالة على ثبات درجة الحرارة متوافِقةً مع فكرة أن الديناصورات كانت كائنات ضخمة الجسم وذات درجة حرارة داخلية ثابتة (الفصل السادس)، ولا تقدِّم أيَّ دليل قاطع على كونها من ذوات الدم الحار أو الدم البارد.
من الواضح أن هذا النقاش يمثِّل مجموعةً من الاستفسارات المثيرة للاهتمام؛ وحتى الآن لا تزال النتائج غيرَ قاطعة، لكنها تقدِّم أساسًا للأبحاث المستقبلية.
أبحاث الديناصورات: ثورة المسح الضوئي
ظهر التطوُّر المستمر في الموارد التكنولوجية وإمكانية استخدامها في الإجابة عن تساؤلات علم الدراسة الحيوية للحفريات، في عددٍ من المجالات البارزة في السنوات الأخيرة، وسنعرض بعضًا منها في القسم التالي، وهي قد لا تخلو من أوجه القصور والصعوبات، لكن في بعض الأحيان أصبح من الممكن حاليًّا طرْحُ أسئلةٍ لم يكن أحدٌ يفكِّر فيها منذ ١٠ سنوات.
إحدى أصعب المعضلات التي واجهها علماءُ الدراسة الحيوية للحفريات، هي الرغبة في فحْصِ أكبر قدرٍ ممكن من أية حفرية جديدة، لكن في الوقت نفسه مع تقليل الضرر الذي تتعرَّض له العينةُ إثر هذا العمل إلى أقصى حدٍّ. وعليه، فإن اكتشافَ إمكانية استخدام الأشعة السينية في صنع صور على فيلم فوتوغرافي للجسم من الداخل، كان له أهمية هائلة في العلوم الطبية. وفي ظل الثورة الحديثة في التصوير الطبي، عبر اختراع أساليب التصوير المقطعي المحوسب والتصوير بالرنين المغناطيسي، التي تتَّصل مباشَرةً بأجهزة كمبيوتر فعَّالة تعالج البيانات؛ أُتيحت القدرةُ على صنع صور ثلاثية الأبعاد تسمح للباحثين برؤية الأشياء من الداخل، مثل جسم الإنسان أو غيره من التكوينات الأخرى المعقَّدة، التي لم يكن من الممكن رؤيتها عادةً إلا بعد إجراء جراحة استكشافية كبيرة.
سرعان ما أُدرِكَت إمكاناتُ استخدام التصوير بالأشعة المقطعية في النظر إلى داخل الحفريات. أحد روَّاد هذا المجال هو تيم رو، الذي يعمل فريقُه في الأساس في جامعة تكساس في مدينة أوستن، وقد استطاع إنشاءَ أحدِ أنظمة التصوير بالأشعة المقطعية المخصَّصة للحفريات، ذي درجة الوضوح الأعلى والأكثر دقةً على الإطلاق، واستخدَمَه في عددٍ من أكثر الاستخدامات المثيرة للاهتمام، كما سنرى فيما يلي.
دراسة عُرْف الهادروصور
يظهر أحد الاستخدامات الواضحة للتصوير بالأشعة المقطعية، عند الإشارة إلى المجموعة الهائلة من الأعراف الموجودة على رءوس الهادروصوريات الأورنيثوبودية. انتشرت هذه الديناصورات بوفرة في أواخر العصر الطباشيري، وتشابهت أشكال أجسامها على نحو ملحوظ؛ كان الاختلاف الوحيد بينها في غطاء الرأس، لكن السبب في هذا الاختلاف ظلَّ لغزًا لوقت طويل. عندما وُصِف أول ديناصور له «غطاء رأس» في عام ١٩١٤، سادَ الاعتقاد في أن هذه ربما تكون سمات زخرفية مثيرة للاهتمام، إلا أنه اكتُشِف في عام ١٩٢٠ أن «أغطية الرأس» هذه — أو الأعراف — تتكوَّن من أغلفة رقيقة من العظام، تحتوي على تجاويف أنبوبية أو حجرات ذات تعقيد كبير.
ظهرت نظريات كثيرة تشرح الغرض من هذه الأعراف منذ عشرينيات القرن العشرين؛ ادَّعت أولاها على الإطلاق أن العُرْفَ كان عبارة عن منطقة لدعم الأربطة الممتدة من الكتفين حتى الرقبة التي تدعم الرأس الضخم الثقيل. ومنذ ذلك الحين، تفاوتتِ الأفكار من استخدامها كأسلحة، إلى كونها تحتوي على أعضاء شمٍّ متطوِّرة للغاية، وأنها كانت ذات صلة بالجنس (فالذكور لديها أعراف، أما الإناث فلا)، وكان أكثر الأفكار بُعْدًا في النظر هو أن هذه الحجرات ربما كانت بمنزلة أجهزة رنَّانة، كما يُرَى لدى الطيور في العصر الحديث. في خلال فترة الأربعينيات من القرن العشرين، كان ثمة تفضيلٌ للنظريات المائية التي كانت ترى أن تلك الأعراف شكَّلَتْ محبسًا هوائيًّا يمنع غمْرَ الرئتين بالماء، عندما تتغذى هذه الحيوانات على الأعشاب الموجودة تحت سطح الماء.
طُرِحت أكثر الاقتراحات الغريبة جانبًا؛ نظرًا لاستحالتها من الناحية الجسدية أو لعدم توافُقها مع التشريح المعروف. أما الاقتراحات التي ظهرت، فهي أن هذه الأعراف ربما كانت تؤدِّي عددًا من الوظائف المتداخلة ذات الطابع الاجتماعي/الجنسي في الأساس؛ فربما كانت تقدِّم نظامَ تعرَّفٍ اجتماعيًّا بصريًّا للأنواع الفردية، وبالإضافة إلى هذا كان لبعض تفاصيل الأعراف دورٌ بالتأكيد في إظهار الجنس. كانت أعداد قليلة من أعراف الهادروصوريات قويةً بما يكفي لاستخدامها في أنشطة الضرب، إما بجانب الجسم، وإما بالرأس كجزء من الطقوس التي تسبق التزاوُج أو المسابقات التنافُسية بين الذكور. أخيرًا، يُعتقَد أن الحجرات والمناطق الأنبوبية المرتبطة بالأعراف أو ببنية الوجه، قد عملت كأجهزةٍ رنَّانة. مرةً أخرى، يمكن ربْطُ هذه القدرة الصوتية المزعومة (الموجودة حاليًّا لدى الطيور والتماسيح) لدى هذه الديناصورات بجوانب من سلوكها الاجتماعي.
من كبرى المشكلات التي ارتبطت بنظرية الرنين الصوتي، الوصولُ مباشَرةً إلى مادة الجمجمة، مما يسمح بإعادة تجميع مفصَّلة للممرات الهوائية الموجودة داخل العُرْف، دون كسر العينات الثمينة والمستخرجة بعناية. جعلت أساليبُ التصوير المقطعي مثل هذا الفحص الداخلي ممكنًا؛ على سبيل المثال: استُخرِجت بعض المواد الجديدة من الهادروصور المميَّز للغاية ذي العُرْف باراسورلوفس توبيكن؛ من رواسب تنتمي إلى أواخر العصر الطباشيري في نيومكسيكو. كانت الجمجمةُ مكتمِلةً إلى حدٍّ كبير ومحفوظةً جيدًا، واحتوت على عُرف طويل ومقوَّس. صُوِّرت الجمجمةُ بالأشعة المقطعية بطول العُرف، ثم عُولِجت الصورُ رقميًّا بحيث تظهر المساحة الموجودة داخل العُرف، بدلًا من تصوير العُرْف نفسه، وكشفت الصورةُ الناتجة للتجويف الداخلي قدرًا استثنائيًّا من التعقيد؛ إذ كوَّن العديد من الأنابيب المتوازية الضيقة مجموعةَ حلقاتٍ مُحكَمة داخل العُرْف، فشكَّلت ما يشبه مجموعةً من آلات الترومبون. أصبح لا مجالَ حاليًّا للشك في أن تجاويف الأعراف، الموجودة لدى حيوانات مثل الباراسورلوفس، تمكَّنَتْ من تأدية وظيفةِ أجهزةِ الرنين كجزءٍ من جهازها الصوتي.
الأنسجة الرخوة: قلوب متحجِّرة
في أواخر تسعينيات القرن العشرين، اكتُشِف هيكل عظمي جزئي جديد لأورنيثوبود متوسط الحجم في أحجار رملية من أواخر العصر الطباشيري في ساوث داكوتا. تآكل جزء من الهيكل العظمي، لكنَّ الجزء المتبقي كان محفوظًا جيدًا ويحتوي على أدلة ما زالت واضحةً على بعض الأنسجة الرخوة، مثل الغضاريف، التي عادةً ما تُفقَد في أثناء عملية التحجُّر. وفي أثناء التحضير المبدئي للعينة، عُثِرَ على عُقَيْدة حديدية (غنية بالحديد) ضخمة في منتصف الصدر. ونظرًا لانبهار الباحثين بهذا التكوين، فقد حصلوا على إذنٍ بتصوير جزء كبير من الهيكل العظمي بالأشعة المقطعية، باستخدام ماسح ضخم يوجد في أحد المستشفيات البيطرية؛ وكانت نتائجُ هذا التصوير مذهلةً.
بَدَا أن العُقيدة الحديدية تتمتَّع بخصائص تشريحية مميَّزة، ووُجِدت بالقرب منها تكويناتٌ بَدَا أنها ذات صلة بها؛ فسَّر الباحثون هذا بأنه يشير إلى أن القلب وبعض الأوعية الدموية المرتبطة به قد حُفِظَا داخل هذه العُقيدة. ظهرت داخل العُقيدة حجرتان (فسَّرهما الباحثون على أنهما تمثِّلان البُطَيْنَيْن الأصليَّيْن للقلب)، وفوقهما بمسافة صغيرة تكوينٌ مقوَّس يشبه الأنبوب، فسَّروه على أنه الشريان الأورطي (أحد الشرايين الرئيسية التي تخرج من القلب). على هذا الأساس، اقترحوا أن هذا يوضح أن الديناصورات من هذا النوع كان لديها قلبٌ مقسَّم بالكامل يشبه جدًّا قلبَ الطيور، وهو ما دعمَ القناعةَ المتزايدة بأن الديناصورات كانت بوجهٍ عام حيواناتٍ عاليةَ النشاط تعتمد على الأكسجين (انظر الفصل السادس).
في وقت مبكر يرجع إلى عام ١٨٤٢، ومع التوقُّعات الاستثنائية لريتشارد أوين، افتُرِضَ أن الديناصورات والتماسيح والطيور لديها قلبٌ يحتوي على أربع حجرات (مقسَّمٌ بالكامل) يعمل بكفاءة نسبية. وعلى هذا الأساس، فإن هذا الاكتشاف لم يكن مفاجئًا؛ المذهل في الأمر هو فكرة أن الأنسجة الرخوة لقلب هذا الديناصور على وجه التحديد قد حُفِظت في ظل بعض ظروف التحجُّر الغريبة.
من المعروف أن حفظ النسيج الرخو يحدث في ظلِّ بعض الظروف الاستثنائية في السجل الحفري؛ تتمثَّل هذه الظروفُ بوجه عام في خليط من الرواسب البالغة النعومة (الطمي والطين) القادرة على حفظ آثار الأنسجة الرخوة. كذلك، فإن الأنسجة الرخوة — أو بالأحرى بقاياها المستبدلة كيميائيًّا — يمكن حفظها عن طريق الترسيب الكيميائي، الذي يحدث عادةً في ظل غياب الأكسجين. لم ينطبق أيٌّ من هذه الظروف على الهيكل العظمي للأورنيثوبود السابق الذكر؛ فقد عُثِرَ على العينة داخلَ أحجار رملية خشنة، وتحت ظروف كانت غنيةً بالأكسجين؛ لذلك يبدو من غير المحتمَل على الإطلاق — من وجهة نظر جيوكيميائية بسيطة — أن تَحفظ هذه الظروفُ أيَّ نوعٍ من الأنسجة الرخوة.
لم يكن من المستغرب أن تتعرَّض ملاحظاتُ هؤلاء الباحثين إلى الاعتراض. من الشائع العثور على عُقيدات من صخور الحديد في هذه الرواسب، وعادةً ما تظهر صلتُها بعظام الديناصورات. تعرَّضت الظروفُ الرسوبية، والبيئةُ الكيميائية التي ربما حُفِظت فيها هذه التكوينات، وتفسيرُ جميع السمات التي زُعِمت مشابهتُها لسمات القلب، إلى التفنيد؛ ومن ثمَّ، فإن وضع هذه العينة في الوقت الحالي غير مؤكَّد. لكن بصرف النظر عن أي مزاعم أخرى، إذا كانت هذه السمات ببساطة تنتمي إلى عُقيدة من صخور الحديد، فإنه من العجيب أن تشبه القلبَ على هذا النحو.
«ديناصورات طائرة» زائفة: دراسة حيوية للحفريات بأدوات الطبِّ الشرعي
في عام ١٩٩٩ ظهر مقال في مجلة ناشونال جيوجرافيك يلقي الضوء على أوجه الشبه بين الديناصورات والطيور، التي أظهرتها الاكتشافاتُ الحديثة في مقاطعة لياونينج في الصين. كشف المقال النقابَ عن عينة جديدة ومثيرة أُطلِق عليها اسم أركيورابتور، تمثَّلت في هيكل عظمي شبه مكتمِل، بَدَا تمامًا مثل أي «ديناصور طائر» وسيط يمكن للمرء تخيُّله؛ فقد كان لهذا الحيوان جناحان وعظامُ صدر تشبه تمامًا ما نجده في الطيور، إلا أنه احتفظ برأس ورِجْلين وذيل طويل متصلِّب على غرار الموجود لدى الثيروبودات.
احتفلت ناشونال جيوجرافيك في البداية بهذه العينة في احتفالات عامة، لكنْ سرعان ما أُثير جدلٌ حولَ هذه العينة، التي كان قد اشتراها متحفٌ يقع في يوتا من معرض للحفريات أُقيمَ في توسون في ولاية أريزونا، على الرغم من أن مصدرها الواضح كان الصين. وهذا أمر غريب للغاية؛ لأن الحكومة الصينية تعتبِر كلَّ الحفريات ذات القيمة العلمية ملكيةً خاصة للصين.
عندما عاد شو إلى الصين اكتشف — بمصادفة مذهلة — مكانَ قطعة من الصخور من لياونينج تحتوي على معظم أجزاء درومايوصور ثيروبودي، وبعد دراسته هذه العينةَ، أصبح مقتنِعًا أن ذيل هذه الحفرية هو النظير المطابق للذيل الذي رآه مؤخرًا لدى الأركيورابتور؛ وعندما عاد إلى واشنطن، وإلى مكتب ناشونال جيوجرافيك، استطاع شو مقارَنةَ حفريته التي اكتشفها حديثًا بعينة «الأركيورابتور»، وأظهر أن قالب الأركيورابتور الأصلي كان بلا شكٍّ مركَّبًا يتكوَّن «على الأقل» من حيوانَيْن مختلفين؛ فالنصف الأمامي كان جزءًا من طائر حقيقي، والنصف الخلفي كان جزءًا من درومايوصور ثيروبودي.
عندما تغيَّرَ الأمر على هذا النحو، تمكَّنَ رو من دراسة صورة الأشعة المقطعية التي أخذها لبلاط الأركيورابتور الأصلي بالتفصيل. لا تستطيع الأشعةُ المقطعية التمييزَ بين الحفريات الحقيقية والزائفة؛ ومع هذا، فقد سمحَتْ دقةُ الصور الثلاثية الأبعاد لكلِّ جزءٍ من اللوح بمقارَنةِ كلِّ قطعة من العينة، وأصبح من الواضح أن الجزء الرئيسي من اللوح كان لحفرية طائر جزئية، بالإضافة إلى عظام أرجل وقدمين لديناصور ثيروبودي؛ وقد تمكَّنَ رو وزملاؤه من إظهار أن عظمة ساق واحدة وقدم واحدة فقط هي التي استُخدِمت. وفي هذه الحالة، قُسِّم الجزء والجزء المقابل له إلى نصفين لصنع الساقين والقدمين! في النهاية، أُضِيف ذيل الثيروبود، ولاستكمال «الصورة»، أُضِيفت قِطَعُ رصف إضافية وحَشْو لتكوين شكلٍ مستطيلٍ ذي جاذبية بصرية أعلى.
لم يكن لهذه الاكتشافات المثيرة أيُّ تأثير على الإطلاق في النقاش الدائر حول العلاقات بين الديناصورات والطيور، لكنها أشارت إلى بعض الحقائق المؤسفة؛ ففي الصين، حيث ساعَدَ العمَّال الذين يتقاضون أجورًا زهيدةً في استخراج بعضٍ من الحفريات الرائعة بالفعل، اتضح أنه قد أصبح لديهم معرفة جيدة بعلم التشريح، وفهم لأنواع الكائنات التي يبحث عنها العلماء. يدرك أيضًا هؤلاء العمَّال وجودَ سوق مزدهرة لهذه الحفريات، يمكنها أن تحقِّق لهم مكاسبَ ماليةً أفضل بكثير إذا استطاعوا بيْعَ هذه الحفريات لتجَّارٍ من خارج الصين.
آليات الديناصورات: طريقة تناوُل الألوصور لطعامه
أثبت التصوير المقطعي المُحوسَب بوضوح أنه إحدى أدوات المساعدة القيِّمة للغاية في أبحاث الدراسة الحيوية للحفريات؛ لأن لديه القدرةَ على رؤية ما بداخل الأشياء بطريقة تكاد تقترب من السحر. اخترعت إميلي رايفيلد وزملاؤها بعض الطرق التكنولوجية المبتكرة لاستخدام التصوير بالأشعة المقطعية في جامعة كامبريدج. وباستخدام صور الأشعة المقطعية، وبرامج كمبيوتر متطورة، وكمٍّ كبيرٍ من المعلومات الحيوية والخاصة بالدراسة الحيوية للحفريات، ثبتَتْ إمكانية فحْصِ الطريقة التي ربما كانت الديناصورات تتصرَّف بها أثناء حياتها.
السمة المميزة لهذا النوع من النماذج أنه مع وجود الكمبيوتر والبرامج المناسبة يمكن تسجيل السمات المادية لعظام الجمجمة، مثل قوة عظام الجمجمة ومينا الأسنان، أو السمات المادية للغضاريف الموجودة على المفاصل بين العظام؛ على خريطةٍ للعناصر المنتهية. بهذه الطريقة، يمكن دفع كل «عنصر» للتصرف كأنه جزء من الجمجمة الحقيقية، ويتصل كل عنصر بالعناصر المجاورة له كوحدة متكاملة، تمامًا كما يحدث في الحياة.
بعد رسم خريطة للجمجمة الافتراضية لهذا الديناصور، أصبح من الضروري معرفة مدى قوة عضلات فكِّه عندما كان على قيد الحياة، وباستخدام الصلصال تمكَّنَتْ رايفيلد فعليًّا من صنع نموذج لعضلات فكِّ هذا الديناصور؛ وبمجرد فعلها هذا، استطاعت أن تحسب من أبعادها — طولها وحجمها وزاوية التصاقها بعظام الفك — مقدارَ القوة التي قد تولِّدها. ومن أجل التأكُّد من أن هذه الحسابات واقعية قدر المستطاع، أُنشِئت مجموعتان لحساب القوة: تعتمد إحداهما على فكرة أن التكوين الفسيولوجي لديناصورات مثل هذا النوع كان يشبه إلى حدٍّ ما التكوين الفسيولوجي للتمساح (من ذوي الدم البارد)، أما الأخرى فقد افترضت أن التكوين الفسيولوجي له يشبه التكوين الفسيولوجي للطيور/الثدييات (من ذوات الدم الحار).
باستخدام هاتين المجموعتين من البيانات، أصبح من الممكن إضافة هذه القوى إلى نموذج العناصر المنتهية لجمجمة الألوصور، و«اختبار» مدى استجابة الجمجمة فعليًّا لقوى العضِّ القصوى، وكيف تُوزَّع هذه القوى داخل الجمجمة. كان الغرض من هذه التجارب فحص بنية الجمجمة وشكلها، وطريقة استجابتها للضغوط المتعلقة بتناول الطعام.
كانت النتائج مذهلة! فقد كانت الجمجمة قوية على نحو استثنائي (على الرغم من كل الثقوب الضخمة المنتشرة على سطحها، التي قد يُعتقَد أنها أضعفتها كثيرًا)؛ ففي الواقع، ثبت أن هذه الثقوب كانت جزءًا مهمًّا من قوة الجمجمة. وعندما أُجري الاختبار على الجمجمة الافتراضية إلى أن بدأت «تستسلم» (بمعنى تعرُّضها إلى قوًى تجعل عظامَها تبدأ في التكسُّر)، ظهر أنها قادرة على تحمُّل حتى ٢٤ ضعفَ القوة التي تستطيع عضلاتُ الفك ممارستها عندما تعضُّ بأقصى قوة يمكن لألوصور ممارستها.
لقد أوضحَتْ هذه التجربة أن جمجمة الألوصور شديدةُ التعقيد دون داعٍ. عادةً ما يوفر الانتقاءُ الطبيعي «عاملَ أمان» في تصميم معظم سمات الهيكل العظمي؛ أيْ نوعًا من الموازنة بين مقدار الطاقة والمواد اللازمة لبناء هذا الجزء من الهيكل العظمي، وبين قوته العامة في ظلِّ ظروف الحياة الطبيعية. يتفاوت «عامل الأمان»، لكنه بوجهٍ عام يتراوح بين ٢ و٥ أضعاف القوى التي يتعرَّض لها الجزء في خلال أنشطة الحياة الطبيعية؛ وبَدَا من غير الطبيعي أن تكون جمجمةُ الألوصور مشتملةً على «عامل أمان» يصل إلى ٢٤ ضِعفًا. وقد أدَّتْ إعادةُ فحْصِ الجمجمة، وإعادة التفكير في طرقه المحتملة في تناول الطعام، إلى الملاحظة التالية: كان الفكُّ السفلي في الواقع «ضعيفًا» إلى حدٍّ كبير في طريقة تكوينه؛ لذا كانت عضةُ هذا الحيوان في الحقيقة ضعيفةً مقارَنةً بالقوة العامة لجمجمته. أشار هذا إلى أن الجمجمة كانت مصمَّمةً لتحمُّل قوًى كبيرة للغاية (أكثر من ٥ أطنان) لأسباب أخرى؛ أبرز هذه الأسباب أن الجمجمة ربما كانت تُستخدَم كسلاح أساسي في الهجوم؛ أيْ كأداة للقطع، فربما كانت هذه الحيوانات تندفع نحو فريستها وفكُّها مفتوحٌ على مصراعَيْه، ثم تُطْبِق رأسَها على الفريسة في ضربة مدمِّرة قاطعة. ونظرًا لأن هذه الحركة تكون مدفوعةً بوزن الجسم كله، ومع مقاومة الفريسة، فلا بد أن تكون لدى الجمجمة القدرةُ على تحمُّل الأحمال القصيرة المدى، التي تكون مع ذلك شديدةً للغاية.
بمجرد إخضاع الفريسة عقب الهجوم الأول، يمكن استخدام الفكَّيْن في قضم قِطَع من اللحم وفصلها بالطريقة التقليدية، لكن من المنطقي أن يُستعان بالرجلين والجسم من أجل شدِّ قِطَع اللحم المستعصية، ومرةً أخرى يشكِّل هذا عبئًا كبيرًا للغاية على الجمجمة من خلال القوى التي تولِّدها عضلاتُ الرقبة والظهر والرجلين.
من خلال هذا التحليل، أصبح من الممكن تكوين فكرة عن «الطريقة» التي ربما كان الألوصور يتناول بها طعامَه، بطرقٍ لم يكن من الممكن لأحد أن يتخيَّلها حتى بضع سنوات مضت. لكن مرةً أخرى أمكن استخدام التفاعل بين التقنيات الحديثة وفروع العلم المختلفة (في هذه الحالة، التصميم الهندسي) من أجل بحث مشكلات علم الدراسة الحيوية للحفريات، والتوصُّل إلى ملاحظات جديدة ومثيرة للاهتمام.
الأنسجة والجزيئات الحيوية القديمة
لا أستطيع إنهاءَ هذا الفصل دون التطرُّق إلى سيناريو فيلم «الحديقة الجوراسية»؛ من حيث اكتشاف الحمض النووي للديناصورات، واستخدام التكنولوجيا الحيوية الحديثة في إعادة تكوين هذا الحمض النووي، واستخدام هذا في إعادة الديناصور إلى الحياة.
ظهرت تقاريرُ متفرِّقة عن اكتشاف أجزاء من الحمض النووي للديناصورات في مؤلَّفات علمية على مدار العقد الماضي، ثم استخدام التقنية الحيوية «تفاعل البوليميراز المتسلسل» في تكبير الأجزاء بحيث يمكن دراستها بيُسْرٍ أكبر. ومع الأسف، بالنسبة إلى مَنْ يرغبون في تصديق السيناريو الهوليوودي، لم تتأكَّد على الإطلاق صحة أيٍّ من هذه التقارير، وفي الحقيقة من غير المحتمَل إطلاقًا عزل أي حمض نووي حقيقي لديناصور من عظامه؛ فالأمر ببساطة أن الحمض النووي عبارة عن جزيء حيوي طويل ومعقَّد يتحلَّل بمرور الوقت مع غياب آلية الأيض التي تحافِظ عليه وتُصلِحه، كما يحدث داخل الخلايا الحية. لذا، فإن فُرَصَ هذه المادة في البقاء دون تغيُّر لأكثر من ٦٥ مليون سنة، وهي مدفونة داخل الأرض (وعُرضة لكل مخاطر التلوث التي تمثِّلها الكائنات المجهرية وغيرها من المصادر الحيوية والكيميائية، والمياه الجوفية)؛ معدومةٌ فعليًّا.
لقد ثبت أن كل التقارير الموضوعة عن حمض الديناصورات النووي حتى وقتنا هذا، هي تسجيل لأحماض نووية دخيلة. وفي الواقع، فإن حفريةَ الحمض النووي الوحيدة الموثوق بها التي تعرَّفَ عليها العلماءُ، حديثةٌ للغاية، وحتى هذه الاكتشافات أصبحت متاحةً بسبب ظروف الحفظ الاستثنائية؛ على سبيل المثال: إن حفريات الدب البني الذي ترجع بقاياه إلى نحو ٦٠ ألف سنة، استُخرِجت منها سلاسلُ قصيرةٌ من حمض نووي لميتوكوندريا، لكن هذه الحفريات كانت قد تجمَّدت في طبقة متجمِّدة عميقة منذ وفاة هذه الحيوانات، مما وفَّرَ أفضلَ فرصةٍ لتقليل معدَّل تحلُّل الجزيئات؛ أما بقايا الديناصورات، فهي بالطبع أقدم بنحو ألف مرة من هذه الدِّببة البنية القطبية. وبالرغم من أنه ربما يمكن التعرُّف على بعض الجينات التي تشبه جينات الديناصورات، في الحمض النووي للطيور الموجودة حاليًّا، فإن إعادة إحياء الديناصورات تتخطَّى حدودَ العلم.
تتعلَّق مجموعة أخيرة من الملاحظات — وإن كانت مثيرة جدًّا للاهتمام — بتحليل شكل الجزء الداخلي لبعض عظام التيرانوصور المُستخرَج من مونتانا، وتكوينها الكيميائي. تمكَّنت ماري شفايتسر وزملاؤها من جامعة ولاية نورث كارولينا، من الوصول إلى بعض عظام التيرانوصور ريكس المحفوظة جيدًا على نحوٍ استثنائي، وهي التي استخرَجَها جاك هورنر (التجسيد الواقعي لشخصية «دكتور آلن جرانت» في فيلم الحديقة الجوراسية). وأشار الفحص المفصَّل لبقايا الهيكل العظمي إلى وجود تغيُّر طفيف للغاية في التكوين الداخلي للعظام الطويلة؛ في الواقع لم تكن قد تغيَّرت على الإطلاق، لدرجة أن كثافة العظام الفردية للتيرانوصور كانت تشبه كثافةَ العظام الحديثة التي تُرِكت ببساطة لتجفَّ.
كانت شفايتسر تبحث عن جزيئات حيوية قديمة، أو على الأقل الإشارات الكيميائية المتبقية التي ربما تركتها وراءها. وهكذا بعد أن استخلصت المادة من داخل العظام، طحنتها وأجرت عليها كمًّا كبيرًا من التحليلات الفيزيائية والكيميائية والحيوية؛ لم تكن الفكرة وراء هذا الأسلوب مجرد الحصول على أفضل فرصة «لالتقاط» بعض الآثار، وإنما أيضًا الحصول على طيف من الأدلة شبه المستقلة التي تؤيِّد الإشارة، إذا صدرَتْ. في الواقع، يتحمَّل الباحثُ دومًا عبءَ العثور على بعض الأدلة الإيجابية على وجود مثل هذه الجزيئات الحيوية؛ فالوقت الطويل المنقضي منذ وفاة الكائن ودفنه، والاحتمال الغالب بأن تكون بقايا مثل هذه الجزيئات قد دُمِّرت بالكامل أو جُرِفَت، قد يكون لهما أثر بالغ. أظهر كلٌّ من الرنين المغناطيسي النووي والرنين المغزلي للإلكترون وجودَ بقايا جزيئية تشبه الهيموجلوبين (المكوِّن الكيميائي الأساسي لخلايا الدم الحمراء)؛ ونتجت عن التحليل الطيفي والكروماتوجرافيا السائلة العالية الأداء، بياناتٌ تتفق أيضًا مع وجود بقايا لتكوين مادة الهيم. أخيرًا، غُسِلت أنسجةُ عظام الديناصور بمواد مذيبة لاستخراج أجزاء البروتين المتبقية، ثم حُقِنت فئرانُ التجارب بهذه المادة المستخلَصة، لرؤية ما إذا كانت ستؤدِّي إلى صدور استجابةٍ مناعية، وهذا ما حدث؛ فقد تفاعَلَ المصلُ المضاد الذي صنعَتْه الفئرانُ على نحوٍ إيجابي مع الهيموجلوبين المنقَّى للطيور والثدييات. ويبدو من هذه المجموعة من التحليلات وجودُ احتمالٍ كبير أن تكون البقايا الكيميائية لمركبات الهيموجلوبين لدى الديناصورات قد حُفِظَت داخل أنسجة التيرانوصور ريكس هذه.
الاكتشاف الأكثر إثارةً هو أنه عندما فُحِصت مقاطعُ رفيعة من أجزاء من العظام تحت المجهر، ظهرت تكوينات مجهرية صغيرة ومستديرة داخل القنوات الوعائية (الأوعية الدموية) الموجودة داخل العظام؛ وعند تحليل هذه التكوينات المجهرية اتضح أنها غنية بالحديد على نحوٍ ملحوظ مقارَنةً بالأنسجة المحيطة بها (الحديد هو المكوِّن الرئيسي لجزيء الهيم)، وكذلك كان حجمها وشكلها العام يشبهان إلى حدٍّ كبير خلايا دم الطيور ذات النواة. وعلى الرغم من أن هذه التكوينات ليست خلايا دم حقيقية، فإنها تبدو بالتأكيد مثل «نماذج شاحبة» معدَّلة كيميائيًّا للخلايا الأصلية. وتظل كيفية بقاء هذه التكوينات على هذه الحالة طوال ٦٥ مليون سنة لغزًا كبيرًا.
بالإضافة إلى ذلك، تمكَّنَتْ شفايتسر وزملاؤها — باستخدام تقنيات التحصين المشابهة المذكورة آنفًا — من اكتشاف بقايا جزيئية حيوية لبروتينات «صلبة» تُسمَّى الكولاجين (المكوِّن الرئيسي للعظام الطبيعية، والأربطة والأوتار) والكرياتين (المادة التي تكوِّن الحراشف والريش والشعر والمخالب).
على الرغم من تعامل المجتمع البحثي بأكمله مع هذه النتائج بقدر كبير من الشك — ولديهم الحقُّ في ذلك للأسباب المذكورة سابقًا — فإن كمَّ المنهجيات المستخدَمة في دعم هذه الاستنتاجات، والحذرَ الشديد الذي أُعلِنت به هذه الملاحظات، يمثِّلان نموذجًا يُحتذَى به في الوضوح وتطبيق المنهجيات العلمية في مجال الدراسة الحيوية للحفريات.