نشأتي الأولى
(١) في قرية مصرية
نشأت في أسرة مصرية صميمة لا تعرف لها إلا الوطن المصري، ولا تعتز إلا بالمصرية، ولا تنتمي إلا إلى مصر؛ ذلك البلد الطيب الذي نشأ التمدن فيه منذ أقدم العصور، وله من الثروة الطبيعية والشرف القديم ما يكفل له الرقي والمجد.
وقد ولدت في ١٥ يناير سنة ١٨٧٢م بقرية «برقين» من أعمال مركز السنبلاوين بمديرية الدقهلية، وهي قرية صغيرة كان تعدادها في ذلك الحين يبلغ مائة نفس، ويشاع بين أهل الريف أن اسمها «النزلة» وربما سميت باسم «برقين» الفلسطينية، وقد تضاعف سكانها، فأصبح عددهم الآن نحو ألفي نفس، وهم زراع ماهرون مشهورون بالجد والنشاط والاستقامة، وقد اعتادوا أن ينطقوا القاف «جافًا»، والجيم جيمًا معطشة كسائر أهالي مركز السنبلاوين، وما زالت هذه اللهجة تغلب عليَّ في حديثي.
وكان والدي «السيد باشا أبو علي» عمدة هذه القرية كوالده «علي أبو سيد أحمد»، وقد كان يجيد حفظ القرآن الكريم كله، وعرف بشخصيته المهيبة، وقوة شكيمته، وعدالته في معاملته، وعطفه على أهل قريته وغيرهم، وأذكر أنه ما قسا يومًا عليَّ، ولا وجه إليَّ كلمة نابية أو عبارة تؤلم نفسي، بل كان — طيب الله ثراه — عطوفًا حكيمًا في تربية أبنائه، يعتني بالقدوة الحسنة، وحسن التوجيه والإرشاد.
ولما بلغت الرابعة من عمري أدخلني كتاب القرية، وكانت صاحبته سيدة تدعى «الشيخة فاطمة»، فمكثت فيه ست سنوات تعلمت فيها القراءة والكتابة، وحفظت القرآن كله، وكنت أجلس مع زملائي على الحصير، ونصنع الحبر بأيدينا، وإلى هذه السيدة يرجع فضل تنشئتي الأولى في تلك السنين.
ضرب العمد والأعيان
وقد كنت في العاشرة حينما أتممت حفظ القرآن في هذا الكتاب، فاشترى لي والدي «مهرة» من بادية الشام لم تألف رؤية قطار السكة الحديدية، فكنت أركبها للنزهة ولقضاء بعض الأعمال، وقد نصحني والدي بالابتعاد عن السكة الحديدية حتى لا يمسسني مكروه، وذات يوم امتطيت المهرة وذهبت إلى عزبة لنا في «طرانيس العرب»، وفاتني أن أعمل بنصيحة والدي، فسرت بها على طريق السكة الحديدية، وبينما أنا سائر بها؛ إذ فاجأني القطار فوثبت من فوقها وتركتها وحدها فجرت مسرعة حتى عادت إلى برقين، فذعر أهلي، وهاجت القرية، وظن الجميع أني أصبت بمكروه، وكنت وقتئذ وحيد والدي، فزاد ذلك من اهتمامهم وقلقهم، وما كاد القطار يقترب منهم حتى رأوا السائق يشير إليهم بمنديل أبيض، فاطمأن بالهم، ثم أخبرهم السائق بما فعلت، فبعثوا إلي بحمار عدت عليه إلى بلدتي، غير أني خشيت أن يعاقبني والدي، فهربت خوفًا من «علقة» تصيبني، وجاء رجل من أهل القرية يدعى «عوض بدران» يهنئه بسلامتي ويقول له: «بركة عيشك يا بو علي»، وهو يعني «الحمد لله على السلامة»!
وجيء بي إلى والدي وأنا خائف أترقب، ولكنه — كعادته معي رحمه الله — ربت على كتفي قائلًا: «لا تخالف أمري يا ولدي، ولا تسر مرة أخرى على السكة الحديد.» فأثر ذلك في نفسي، وازددت إعجابًا به وحبًّا له.
وعلى ذكر «العلقة»، أذكر أن الضرب في ذلك الزمان كان مباحًا، حتى ضرب العمد والأعيان! وكان هذا بعض ما يحدث في القرى المصرية من القسوة والاستبداد، وقد رأيت بنفسي غير مرة؛ إذ كان لوالدي صديق يدعى أحمد كامل بك، وكان مفتش «تفنيش شاوى»، فكنت — وأنا بمدرسة المنصورة — أذهب إلى بيته يوم الجمعة، فأرى حوش التفنيش مرشوشًا، والبيك المفتش قاعدًا في صدره وقد وقف اثنان من «القواسة» يحملان الكرباج و«الفلقة» لضرب العمد الذين يتأخر أهالي قراهم في دفع الإيجار، وكانت هذه طريقتهم في ذلك الحين، فانظر كيف كانت الحال بالأمس، وكيف هي اليوم!
نوبار باشا: مسلم!
بعد أن أتممت حفظ القرآن الكريم رغب والدي في أن يبعثني للدراسة في الأزهر، وصادف في ذلك الوقت أن جاء يتغدى عندنا إبراهيم باشا أدهم — مدير الدقهلية سابقًا — فدخلت لتحيته، فسأل والدي إلى أين يبعث بي للدراسة، فأجاب: «إلى الأزهر الشريف إن شاء الله»، فأشار عليه أن يبعث بي إلى مدرسة المنصورة الابتدائية، وكانت المدرسة الحكومية الوحيدة في الدقهلية كلها، وقد عين المرحوم أمين سامي باشا ناظرًا لها، وكان معروفًا بالدقة والنظام والشدة وعدم التسامح في أي تقصير يبدو من أحد التلاميذ، ومع ذلك فقد كنا نحبه ونحترمه ونشعر بأبوته الرحيمة، وكان بالمدرسة قسم داخلي، فالتحقت بالسنة الثانية بامتحان؛ لأني كنت — عدا حفظي للقرآن الكريم — أعرف قواعد الحساب الأربعة، و«سورة الفدان» من صراف بلدنا «المعلم حنين» وكان يلبس جبة وقفطانًا.
وأذكر على سبيل الفكاهة أن أحدهم سأله يومًا عن رئيس الوزارة نوبار باشا، فقال له: «قول لي يا معلم حنين، نوبار باشا مسلم؟»
فأجابه خبثًا أو بسلامة نية: «نعم، مسلم وموحد بالله»!
(٢) العدس والفول فقط!
وكانت سنة ١٨٨٢م حينما التحقت بمدرسة المنصورة الابتدائية، ولما اختطلت بزملائي التلاميذ شعرت بعد أيام بشيء من القلق؛ لأنهم كانوا يضحكون مني حينما أنطق القاف جافًا كأهل بلدتي! هذا إلى أن الضرب والحبس في «الزنزانة» كانا من أنواع العقاب في هذه المدرسة، وقد رأيت في الأيام الأولى تلميذًا وضعت رجلاه في الحديد؛ لأنه ارتكب ذنبًا، وكانت روح الجندية هي السائدة على نظام المدارس في ذلك الحين، وكنا نخرج كل يوم جمعة «طوابير» نطوف في شوارع المدينة ثم نعود إلى عنابرنا، وكانت عيشة المدرسة عيشة شظف وخشونة، وقد كانوا في وجبة الفطور يقدمون لكل تلميذ رغيفًا فقط، وعليه أن يشتري من جيبه الخاص ما يأتدم به من جبن أو حلاوة، وكان العدس أو الفول هو وجبة الغداء والعشاء، وفي بعض أيام الأسبوع يقدمون لنا شيئًا من اللحم والفاكهة.
وجاء والدي كعادته لزيارتي يوم الجمعة، فأبديت له أسباب تعبي وضيقي من هذه المدرسة، وقلت: «إنني غير مبسوط، وأخشى أن أنسى فيها القرآن الكريم فيعاقبني الله بالنسيان، وقد قال تعالى: كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ …» فابتسم رحمه الله وقال لي: «وانت تنسى القرآن ليه؟! اقرأ كل يوم جزءًا منه وأنت لا تنساه، وخليك في المدرسة»، فاستمعت لنصيحة والدي، ومكثت بالمدرسة، وقد حبب إليَّ البقاء فيها أستاذ اللغة العربية «سيد أفندي محمد»، وكان مشهورًا بالقدرة والتفوق في تربيته وتعليمه، وكان تلاميذه أقوى زملائهم في اللغة العربية، وعلى يديه نبغ كثيرون.
(٣) من المنصورة إلى الخديوية
أمضيت ثلاث سنوات في مدرسة المنصورة الابتدائية، وأتممت تعليمي الابتدائي في سنة ١٨٨٥م، ولم تكن شهادة الابتدائية ولا البكالوريا قد وجدتا بعد، بل كان الانتقال من مرحلة إلى أخرى بالنجاح في امتحان المدرسة، وكان بمدرسة المنصورة فرقة تجهيزية واحدة فألغيت في ذلك العام، واضطررت للسفر إلى مصر لألتحق بالمدرسة الخديوية.
ولقد أصبت نعمة كبرى في هذه المدرسة بصحبة صديقي وأخي عبد العزيز فهمي، من أول يوم التقيت به في عنبر المدرسة، وذلك في مناقشة أُثيرت بيننا وبين بعض الطلبة في النحو، فاتفق رأيه ورأيي ضد الآخرين، ومن تلك الليلة صرنا صديقين حميمين، ولا أذكر أن أحدنا قصر في حق صديقه أو قال عنه ما يسوؤه، أو وجه إليه كلمة تؤلمه، ولو على سبيل المزاح.
ولما انتظمنا في المدرسة رتبونا بالطول، فقصار القامة في السنة الأولى، والأطول منهم في السنة الثانية، وهكذا، وكان وزير المعارف يومئذ عبد الرحمن رشدي باشا، ووكيلها يعقوب باشا أرتين وناظر المدرسة صادق بك شنن، وكان هذا الناظر معروفًا بحبه لأهل البيت، وإذا وبخ أحدًا قال له: «يا يزيد!» وقد عز على صديقي عبد العزيز فهمي باشا — وقد أمضى سنة في تجهيزية مدرسة طنطا — أن يكون تلميذًا في السنة الأولى، فاحتج على هذا الوضع، فقبل احتجاجه بصعوبة ونقل إلى السنة الثانية، ولما لم تكن شهادة البكالوريا قد وجدت في ذلك الحين؛ فقد شاء عبد العزيز فهمي، وهو في السنة الثالثة، أن ينتقل إلى مدرسة الحقوق، فذاكر في الإجازة لامتحان القبول بها ونجح، أما أنا فبقيت في الخديوية إلى أن حصلت على البكالوريا سنة ١٨٨٩م وكان نظام الشهادات العامة قد وضع قبل ذلك بعام.
(٤) عصر «الفتوات»!
وفي المدرسة الخديوية عرفت عيشة الترف بالنسبة لمدرسة المنصورة، فكنا نأكل بيضًا ولحمًا وحلوى وفاكهة كل يوم، ولم تكن نفقاتها تزيد على نفقات مدرسة المنصورة، وكانت في سراي مصطفى باشا بدرب الجماميز، هي ومدرسة الترجمة والمهندسخانة ووزارة المعارف، وكان طلبة المهندسخانة يختلفون عنا بزيهم العسكري الكامل، ويحملون إلى جانبهم سيوفًا، فكانوا يشيعون بمنظرهم الرهبة في نفوس الطلبة الآخرين وبخاصة الغرباء، وكان مما يخيفني بالقاهرة حوادث «الفتوات» في ذلك الزمان؛ فقد كان في كل حارة عصابة على رأسها «فتوة»، وكثيرًا ما كانت تحدث معارك دامية بين هذه العصابات، وقد امتدت عدوى الفتوة إلى الطلبة أنفسهم حتى ظهر بيننا طالب «فتوة» يدعى «منصور» كان يعلم زملاءه «التحطيب»، ولهذا كنت أوثر البقاء في المدرسة أيام العطلة الأسبوعية، وقد مكثت في أول عهدي بالقاهرة ثلاثة أشهر لا أخرج من الخديوية، قرأت فيها كتاب «أصل الإنسان» لداروين، الذي ترجمه المرحوم «شبلي شميل»، وحفظت كثيرًا من المعلقات وأشعار بعض كبار الشعراء، وكان من مدرسى اللغة العربية في هذه المدرسة: الشيخ حسين والي، والشيخ محمد حسنين البولاقي والد المرحوم أحمد حسنين باشا، وكنا وقتئذ نقرأ كتابًا مطولًا في النحو لمؤلف يدعى الشيخ محمود العالم.
وكانت مدرسة الخديوية تجري كل شهر اختبارًا لتلامذتها، فرغب تلامذة البكالوريا أن تعفيهم المدرسة من الاختبارات الشهرية؛ لينصرفوا إلى المذاكرة للامتحان العام، وأجمع رأيهم على أن يطلبوا إلى وزير المعارف علي باشا مبارك إعفاءهم منها، واختاروني للذهاب لمقابلته، فذهبت إليه، وكان من عادته أن يضع سبورة في مكتبه لاختبار كل من يتقدم إليه من الطلبة في حاجة يريدها، ولا يجيبه إلى حاجته إلا إذا أجابه إجابةً صحيحة فيما يختبره فيه من المسائل الرياضية أو العلمية، فلما مثلت بين يديه طلب مني أن أقف أمام السبورة لأبرهن على النظرية الهندسية التي حاصلها «أن مربع وتر المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين»، فأثبتُّها أمامه، فأجابني إلى الرغبة التي أوفدني إليه زملائي من أجلها، وقد كان رحمه الله أبًا للتلاميذ، محبًّا لهم، عطوفًا عليهم، وكثيرًا ما كان يختلط بهم في وقت الفراغ، ويفسح لهم منزله للزيارة، وكان منزله في الحلمية الجديدة بشارع «نور الظلام» مقصدًا لأهل العلم وطلابه.
(٥) إلى مدرسة الحقوق
وقد كنت في التعليم الثانوي متوسطًا، فلم أكن من المتقدمين ولا من المتأخرين، على أني كنت متفوقًا في العلوم العربية والرياضيات حتى لفت ذلك صابر باشا صبري، وأحمد كمال بك، في اللجنة الشفوية لامتحان الرياضة في البكالوريا، فنصحاني أن أدخل المهندسخانة، فأجبتهما إلى ذلك، غير أني قرأت في الإجازة أن المهندسخانة تقبل ساقطي البكالوريا فلم أجد من كراماتي أن ألتحق بهذه المدرسة، وتغلب في نفسي نزق الشباب والعزة الكذابة على حبي للرياضيات، فقلت لأبي: «أنا لا أرغب في المهندسخانة، ولا أعرف أية مدرسة توافقني، وأجدني في حيرة من ذلك.» فقال والدي: «علينا بالقرعة.» فأجرينا فخرجت مرتين على مدرسة الحقوق!
التحقت بمدرسة الحقوق سنة ١٨٨٩م، وكانت المدرسة وقتذاك يمكن أن تسمى «كلية حقوق» و«كلية آداب» معًا؛ فقد كان الطلبة يدرسون فيها إلى جانب العلوم القانونية علومًا أدبية كآداب اللغة العربية، وقواعد النحو والصرف والبيان والمعاني والبديع والعروض والقوافي، وتفسير القرآن الكريم، وآداب البحث والمناظرة، والمنطق، وكانت مدة الدراسة بها خمس سنوات، وكان وكيلها عمر لطفي بك، وكان يدرس لنا قانون العقوبات، ومن أساتذتها مسيو تستو مدرس القانون المدني والأستاذ شارل ولوزينا والشيخ حسونة النواوي الذي تولى بعد ذلك مشيخة الأزهر، وحفني ناصف بك وسلطان بك محمد، وكنت في ذلك الحين أسكن في حارة (عمر شاه) التي يسكن بها الشيخ حسونة النواوي، وكنت أتردد على منزله، وكثيرًا ما يبعث إلي لأقرأ له درس الفقه الذي كان يلقيه في الأزهر في بكرة الغد.
وفي مدرسة الحقوق عرفني الشيخ محمد عبده والشيخ حسن الطويل، وكانا مع الشيخ عبد الكريم سليمان في لجنة امتحان العلوم العربية، وأذكر أنه في لجنة امتحان السنة الثالثة طلب منا أن نكتب في موضوع «حق الحكومة في معاقبة الجاني»، فتناولت الموضوع من جميع نواحيه، فكتبت المذاهب الأربعة التي أنشأها علماء الجنايات في شروحهم على قانون العقوبات، ثم نقضت كل مذهب منها، وخلصت في النهاية إلى أن الحكومة ليس لها حق معاقبة الجاني؛ لأن كل حكومة نشأت بالقوة، والقوة لا تعطي الحق وإنما الذي يعطيه هو العقد فقط، وليس هناك أي عقد بين أية حكومة وبين أمتها!
ولما خرجنا من الامتحان، وذكرت ذلك لزميلي محمود عبد الغفار، أسف جدًّا لما فعلت، وقال لي: «يا لطفي أنا مش عارف فلسفتك دي حاتودينا فين!»
وقد ألقى في روعي أني أخطأت في هذا العمل ووثقت أني سآخذ «صفرًا» على هذا الجواب، ولكن حينما دخلت الامتحان الشفهي وجلست أمام اللجنة قال لي الشيخ محمد عبده: «إني أهنئك بما كتبت وقد أعطيناك أعلى درجة، لا على ثورتك على الحكومات، ولكن على الإنشاء!»
وأظن أن هذه الكلمة هي التي شجعتني على أن أنشئ فيما بعد «مجلة التشريع» بالاشتراك مع المغفور لهم إسماعيل صدقي (باشا)، وإسماعيل الحكيم (بك)، وعبد الهادي الجندي (بك)، وعبد الخالق ثروت (باشا) ومحمود عبد الغفار.
ولقد هويت منذ كنت طالبًا في الحقوق الكتابة في الصحف، فعاونت في جريدة «المؤيد»، بترجمة تلغرافاتها الخارجية، عندما كان الأستاذ محمد مسعود بك مريضًا.
(٦) معركة لغوية
وأذكر أن المرحوم الشيخ حمزة فتح الله اللغوي المعروف استشهد يومًا على صرف اسم «عمر» ببيت هو:
فاستنكر ذلك اللغوي الكبير الشيخ محمد الشنقيطي هو وجماعته ومنهم الشيخ البكري، وأحمد زكي باشا، وكتب الشنقيطي مقالًا في جريدة «المقطم» يتحدى فيها الشيخ حمزة فتح الله، وينفي وجوده في الشعر العربي، ويقول: «لو دلني أحد على مكان هذا البيت واسم قائله لأهديت إليه عشر نسخ من لسان العرب.» وكان هذا الكتاب قد طبع حديثًا، فرد عليه الشيخ حسن الطويل، وكان أستاذًا بدار العلوم، فقال له إن صحة البيت هكذا:
وإن قائله صخر الهذلي، وأنه في صفحة كذا من لسان العرب، وطالب الشنقيطي بالجائزة، فكتب الشيخ الشنقيطي يقول: «وقف لنا الشيخ حسن الطويل بين السماطين يطالبنا بالجائزة كأنما أعددنا الجائزة لمن يخطئ لا لمن يصيب.» فكتب الطويل يقول: «روي البيت خطأ فصححناه، وزيد الصحيح هو عينه زيد المريض.»
فكتب أحمد زكي باشا ينصر الشيخ الشنقيطي على الشيخ الطويل، وفي ذلك الحين قابلت الشيخ الطويل ومعه سلطان بك محمد، فسلمت عليهما، فقال لي الشيخ الطويل: «لماذا لم تنصرني؟» فكتبت رسالة في «المقطم» نظرت فيها إلى النزاع من ناحيته القانونية، وانتصرت فيها للشيخ الطويل وقلت: إنه يستحق الجائزة. ولكن الشنقيطي أبى أن يدفعها!
(٧) في إستانبول
وفي صيف سنة ١٨٩٣م سافرت إلى إستانبول، وكنت ما أزال طالبًا بالحقوق، فالتقيت بزميلي وصديقي المغفور له إسماعيل صدقي (باشا)، وكان الخديو عباس حلمي الثاني يزور وقتئذ العاصمة العثمانية، فكنا فيها نحن الاثنين كأنما نمثل الطلبة المصريين في الاحتفال بالخديو.
وذات يوم كنت سائرًا مع «إسماعيل صدقي» نتنزه على «كوبري غَلَطَةَ»، وكان به شيء من القدم والتهدم، فأخذ «إسماعيل» يتساءل: أين ميزانية الدولة؟ وينتقد بطء التعمير والإصلاح، ويظهر أنه كان يسير وراءنا — دون أن نشعر — جاسوس عثماني، كما كانت الحال في ذلك الزمان، فأبلغ رؤساءه هذا الانتقاد.
وبعد بضعة أيام ركبنا معًا حصانين، وذهبنا للتفرج في «بيوكدره» ولما عدنا إلى المرفأ لنركب «الحميدية» إلى إستانبول قال لي إسماعيل صدقي: «أرجو أن تنتظرني حتى أمر بأمين باشا.» فانتظرته على ضفة البوسفور حتى عاد من زيارته، فوجدته ممتقع اللون واجمًا حزينًا، فسألته عن أمره، فأجاب: «سأقول لك متى دخلت المركب.» ثم قال لي ونحن في «الحميدية»: «إن أمين باشا كان في «المابين» (المعية السنية) فسمع من رجاله أن شابًّا مصريًّا اسمه إسماعيل صدقي تكلم ضد الدولة العلية وسياستها.» وكان جزاء من يثبت عليه ذلك أن ينفى في بغداد حتى يموت، ولكن أمين باشا أجابهم: «إن هذا الشاب الذي تعنونه ليس غير تلميذ صغير في المدرسة لا يعبأ بكلامه.»
فقالوا له: «إذن ما دام يهمك، فليسافر في أول سفينة تقوم من إستانبول.» فسافر إسماعيل صدقي في صباح اليوم التالي، ووصل إلى مصر في ١٢ يومًا.
أما أنا فبقيت في إستانبول مدة إجازة الصيف أتتلمذ على جمال الدين الأفغاني.