عرفت تولستوي وفتحي زغلول
(١) ليو تولستوي
في نوفمبر سنة ١٩١٠ توفي رجل الإنسانية والسلام ليو تولستوي، وكنت وقتئذ في قريتي، فبعثت إلى الجريدة برأي في هذا الرجل العظيم بمناسبة وفاته في ذلك الحين فقلت: أحاول أن أكتب كلمة عن تولستوي؛ حيث أنا الآن في قريتي، تحيط بي أشباه المناظر التي كان يحبها تولستوي، يحبهم ويتفطر قلبه إشفاقًا عليهم، رحمة بهم أن يقتربوا من المدائن فتحرقهم نار الشهوات، وتلعب بقلوبهم البريئة شياطين الأطماع الخسيسة، فتغير مجرى فطرتهم الصالحة إلى عادات البذخ والترف، وتجري ألسنتهم على الكذب وتسكن أمزجتهم إلى رؤية الزور، وسماع الهجر من القول والصبر على الباطل.
أكتب عن هذا الرجل الكبير، حيث أنا فيما كان يحبه، رحمه الله من السكينة، لا أسمع إلا حفيف الهواء، وصهيل الخيل، وصياح الدجاج، ونعيق الغراب، وصفير العصافير، فلا شك أني في أليق ظرف من الزمان والمكان.
أحاول الكتابة عن تولستوي، وإن لم يكن تحت يدي ولا مؤلف واحد من مؤلفاته الكثيرة، وإني على ذلك لا أجدني برثائه خليقًا، إلا كما يرثي امرؤ هذه الأرض الواسعة قد خلت من أحد مصابيحها ذوات الضوء الساطع، أو كما يشفق أحد بني آدم من فقد هاد من هداة الفضيلة، وواعظ من أكبر الواعظين.
أشعر بأن مصيبة العالم في هذا الرجل ليست كالمصائب التي تفجع لها القلوب، وتألم لها الأنفس بحزن حار، يجري الدموع ويسلم اللسان لهذيان من فرط الجزع، لا أشعر بذلك، بل أشعر بأن المصيبة بفقد هذا الحكيم مصيبة كبيرة، واقعة في النفوس وقعًا فاترًا، لا تدمع عينًا ولا تخفق قلبًا، ولا تحرك ألمًا من آلام الأحزان، كأنما هي تقع على العقول لا على القلوب.
فأولى بوفاة تولستوي أن تشبه بكسوف الشمس أو بخسوف القمر، أو بأية ظاهرة من تلك الظواهر الطبيعية، التي أكثر ما تهتم لها عقولنا لتدبرها، وتعرف آثارها في الوجود.
لم يكن هذا الرجل روسيًّا فقط، بل كان إنسانًا قبل كل شيء، يحب أمته، ويحب أعداء أمته، يحب السلام على الدوام، يحب أيام السلام وأيام الحرب على السواء، يكره الحرب سواء كانت الغلبة فيها لقومه أو على قومه!
ولم يكن كذلك مسيحيًّا محدود المشاعر بحدود النصوص أو التقاليد، بل كان مسيحيًّا لا حد لتسامحه، يسع صدره الرحيب آراء موافقيه في الدين ومخالفيه، يرى في الدين أنه طهر للنفس والمشاعر، وحب القريب والغريب، ويرى في العمل به السعادة في هذه الدار الدنيا والآخرة.
فإذا كان تولستوي رجل روسيا وحدها، بل رجل العالم والسلام، وإذا كان تولستوي ليس مسيحيًّا محدودًا بمذهب معين متعصبًا له، بل متسامحًا يقبل دين الفضيلة حيثما وجد من غير تحرج بحدود مذهب غير مذهبه الواسع، فَأَخْلِقْ بمصيبة تولستوي أن تكون كما قدمنا خسارة عالمية، لا خسارة روسية، أو خسارة مسيحية!
إن الله يبعث الجيل بعد الجيل على هذه الكرة رجالًا من الناس يؤتيهم طرفًا من حكمته وقبسًا من نور أسراره ينصرون الحق على الباطل، ويشعرون بنور هديه في الأزمة المظلمة والمكان القفر، يتبعون سنن الأنبياء في إرشاد الناس، ويقفون نفوسهم وملكاتهم على بلوغ ما يريدون من خير للإنسانية، فإذا مات أحدهم كان موته خسارة تتأثر لها الحقائق العلمية ومكارم الأخلاق، ولم يكن تولستوي إلا أحد هؤلاء، فمن بعده للفقراء والمساكين يقف لهم في وجه الظلم والبؤس والنفي والعقاب على غير جريرة، ومن للدين ينصره بشجاعة فائقة لا تقف أمامها انتقادات المنتقدين، ورمي الرامين له بالزندقة والخروج عن القصد، بل من للمساواة والمعاملة بالعدل ينصرها من تعدي الطبقات القوية عليها في كل مظاهرها السياسية والاجتماعة والاقتصادية، بل من يهدي الرجال إلى العمل الصالح، وقد مات الرجل؟!
اشتغل تولستوي بالفلسفة، فلم ير رأي النظريين بجملته، ولا رأي الماديين أو الوضعيين، كان عقله الواسع يأبى، دائمًا، وفي كل شيء، أن يتقيد بالقيود المذهبية التي يستحيل أن تخلو من التعسف.
اشتغل بالسياسة فكان يكره الاستبداد، وينفر منه، ويغلب إرادة الجماعة على إرادة الفرد، يقول بسلطة الأمة، ويعمل بنفسه وبأنصاره وتلاميذه (وهم أكثر من الكثير) على تحقيقها وقد تحققت في بلاده أو كاد يتم تحققها بالفعل.
اشتغل علمًا وعملًا بالاقتصاد، فكان مذهبه اجتماعيًّا قريبًا جدًّا من الاشتراكية أو كان هي بعينها، وهو وإن كان لم ينجح في تجربة، إلا أن ذلك لَيدل كثيرًا على عقله المرتب الذي ظهرت آثاره متجانسة في جميع الفروع المختلفة التي اشتغل بها.
اشتغل بالدين، فنفى منه كثيرًا جدًّا من التقاليد الكنائسية المادية على الأخص، واتخذ له إنجيلًا خاصًّا به اتبعه كثيرون في تعاليمه.
وقد كان تولستوي على ذلك كله يجب أن يحسب في كتاب الحقيقة (كتاب الواقع) لا كتاب الخيال (الذين يكتبون عن الإنسان باعتبار ما يجب أن يكون لا باعتبار ما هو في الواقع)، فإني أذكر أن قصته الموسومة ﺑ «البعث» لم يكن فيها عن الشهوات إلا حقائق عريانة، لاحظ فيها تغليب الشهوة على النبل في نفس بطل الرواية، ثم أظهر فيها أغلاط العدل الإنساني على صورتها التي كانت قد فارقته مؤقتًا عند استحكام الشهوة، وذلك ما نجده عامًّا في الإنسان كل يوم، ثم رجع إلى تأثير الوسط، وتغلب ميول النساء مما لا يشذ كثيرًا عن الأمثلة اليومية التي يجدها مخالطهن، ولو كان غير عمار ذي كناز الذي قال فيهن:
كذلك كان وصفه لحال الزوجية في قصصه «لاسونانت اكرتزر» غير ناب عن الواقع، وإن وصفه فيه غير عام في العائلات مع السرور، ولقد سبب له هذا الكتاب امتعاض السيدات منه، واتهامهن له فيما كتب، وأرسلن له خطابات الانتقاد والشتم، وعندنا أنه في هذا الكتاب لم يكن خياليًّا، ولا كاتب واقع إلا كما كان (إميل زولا) في كتاب: (الاسوموار)؛ فإن عيشة الناس ليست كلها سكرًا، وليست كل الأبنية، ولا غالبها في المدائن حانات وخمارات! كما أن جميع النساء لسن على تلك الحال التي وصفها، ولا ريب في أن تولستوي أراد أن يبين عيوب التربية الحاضرة وقتئذ، وأنماطها المتخَذة لتعليم البنين والبنات، فكتب هذا الكتاب؛ ليجعل الناس يلمسون بالحس نقص تلك التربية؛ ليلفتهم إلى التربية التي لها قاعدة من الاعتقاد الديني ترتكز عليها لتأتي بنتائجِ السعادة المنشودة في العائلة، أقول: إن هذا النظر لا يخرج تولستوي من كتَّاب الواقع، كذلك يؤكد زعمنا سؤاله: «ما العمل؟» و«الذي يجب عمله»، وإن كان له ما يصح أن يجعله من كتَّاب الخيال كبعض قطع «الايمبتاسيون» و«حرب وسلام»، فكذلك لا يكون إلا لأن عادة عدم التقيد بالمذاهب الضيقة التي اتخذها شعارًا له قد غلبت عليه، وليس لنا أن ندخل في بحث موضوعاته الدينية، وتعاليمه اللاهوتية، بل نترك الحكم على ذلك لغيرنا.
(٢) فتحي زغلول
أرى من الوفاء لمبادئ الحرية وخادميها أن اذكر صديقًا عظيمًا عمل لنشر هذه المبادئ، هو المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا؛ فقد نظر نظرة صادقة إلى حال الأمة المصرية وحكومتها، فرأى أنها أحوج ما تكون إلى معرفة المثل الأعلى الذي تبغي الوصول إليه من نظمها السياسية والاجتماعية حتى تتحد أطماعها الوطنية على طريقة عامة واضحة، ورأى فوق ذلك أن أول خطوة يخطوها المصلحون العلماء هي نقل العلم إلى أوطانهم بالترجمة … إن هذه الطريقة كانت هي ألف باء النهضة العلمية في كل أمة وفي كل زمان.
هذه النظرية الصادقة كانت رائد فتحي باشا في خدمته لوطنه منذ خرج من المدرسة إلى أن مات، فإنه في سنة ١٨٨٨ أخذ يترجم كتاب «العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو، فلم يتمه، ولكنه ترجم بعد ذلك «أصول الشرائع» لبنتام، و«خواطر وسوانح في الإسلام» للكونت هنري دي كلترى، و«روح الاجتماع» و«سر تطور الأمم» لجوستاف لوبون، و«جوامع الكلم» لجوستاف لوبون، وقد نشرت هذه الكتب كلها، وله فوق ذلك كتاب «بورجار» في الاقتصاد السياسي، و«تمدن العرب» لجوستاف لوبون، و«جمهورية أفلاطون» و«الفرد ضد المملكة» لسبنسر.
أما مؤلفاته، فهي كتاب المحاماة، ورسالة في التزوير، وشرح القانون المدني، وقد ألف قبيل وفاته كتابًا في «التربية العامة».
نابغة في الترجمة
عرفت مترجماته وقرأت المنشور منها، وتصفحت غير المنشور، وأستطيع أن أقول من غير تردد: إن فتحي زغلول كما كان نابغة في الفقه، كان نابغة في الترجمة يمسك الكتاب يقرؤه أولًا، ثم يدخل بنظره الحاد في طيات نفس الكاتب، فيظهر أسرارها بقلمه العربي المبين، ومن التراجم ما تترجم الألفاظ تحمل معانيها خالية من روح الكاتب وحرارته، فلا يكون لها تأثير، أما مترجمات فتحي زغلول، فإنك تقرأ فيها المعاني والأغراض كأنك تقرأ كاتبها من غير فرق.
دخلت عليه في بيته يومًا بمصر الجديدة في يوم حر شديد، فألفيته يضع شرح القانون المدني، وإلى جانبه «سر تطور الأمم» وقد فرغ من ترجمته في بضعة أسابيع لازم بيته فيها لمرض أصابه، فأشفقت عليه من هذا الجهد الشاق في ذلك الجو المحرق، على ما نعهده فيه من رقة في الصحة وعمل دائم طول سنة العمل، وقلت له: «أبهذا ترتاض يا سيدي الباشا؟!» فأجاب: «نعم، هذه هي رياضتي!»
فعجبت لجلده وصبره وتفانيه في خدمة العلم وخدمة بلاده.
شخصية ممتازة
كان لفتحي باشا شخصية ممتازة في طريقة أسلوبه البياني، ولم يكن يترجم ليترجم، ولا طلبًا للشهرة والمال من وراء ذلك، وكان حسبه شهرة مناصبه العالية وكفاءته التي ما كانت يومًا موضعًا للشك من أحد، سواء في ذلك أصدقاؤه وحساده، وعارفوه وغير عارفيه، ولكننا إذا أجملنا مترجماته دلنا مجموعها على أنه كان له غرض ثابت يرمي إليه من وراء نشر هذه الكتب.
غرضه نشر مبادئ الحرية: حرية الفرد، وحرية الأمة، وتنبيه أطماع الأفراد والأمة جميعًا إلى اتخاذ مثل أعلى قبلة لهم في آمالهم الوطنية.
منذ سنة ١٨٨٢ كان يرى الأمة تتقلب في أحوال متناقضة مبهمة، فكانت تسوءه هذه الأحوال، ويود لو أن الشعور الوطني الذي كان وقتئذ في حذر مستمر ولى وجهه قبل الاستقلال على نحو منتج، كان يود لو تدرك الأمة أن إبهام الغرض وعدم إدراكه بوضوح يجعله مستحيل المنال، لذلك أراد أن يقدم للجمهور «العقد الاجتماعي» لروسو حتى يتبين الجمهور حق الأمة وما يجب أن يكون لها من السلطان.
وللأسف لم يظهر هذا الكتاب مع أنه بلغ من ترجمته مبلغًا كبيرًا، ولكنه أصدر بعد ذلك ترجمة بنتام في أصول الحقوق والواجبات، حتى جاء الزمن الأخير فظهر الشعور الوطني بمظهر جميل، ولكنه لا يزال في مقاصده بعض اللبس حتى فيما هو مكتوب من المبادئ في الصحف، وما الصحف إلا ترجمان الرأي العام.
إيمانه بالاشتراكية الديمقراطية
ولعل فتحي باشا أمام هذه المشاهد أشفق على حرية الأفراد، وتربية الأمة من الميل الظاهر إلى ما يشبه الاشتراكية؛ فإن الناس لم يقتصروا في طلبهم على حقوق الأفراد من الحرية وحق الشعب من السلطة، بل أخذوا مع ذلك يطالبون الحكومة أن تقوم لهم بكل شيء، ومهما كان في أساليب هذه المطالب من الانتقاد الضمني إلا أن مثل هذه الحركة من شأنها أن تجعل الحكومة هي كل شيء، والفرد لا شيء!
الاشتراكية قد تكون معقولة إذا كان للشعب شأن في تنصيب الحكومة، وإلا فهي اشتراكية معكوسة النتائج، فأخذ فتحي زغلول عن بعد يهدي الأفراد إلى وجوب الاستمساك بشخصيتهم، ويبين لهم أن التربية الشخصية هي التي كانت سر تقدم الإنجليز السكسون، فطلب إلى المصريين أن يتشبهوا بهؤلاء، وألا يفنوا شخصيتهم، فيفني وجودهم، واستطرادًا في هذا النظر تصدى لترجمة «الفرد ضد الأمة» و«روح الاجتماع»، و«سر تطور الأمم»، كل ذلك لينشر في الجمهور الأسس العلمية للرقي حتى يطبق الناس حالهم على هذه الأصول، فينتفعوا بتجارب الأمم.
إن توفيقَ فتحي باشا في اختيار مترجماته يدل فوق ما قدمت على أنه كان يعتنق مذهب الاشتراكيين الديمقراطيين، سواء أكان ذلك في التربية والتعليم أم في الأصول الاجتماعية والسياسية بل الاقتصادية أيضًا.
ولو شئنا أن عقائده من منتجاته وأحاديثه لضاق بنا المقام، ولكني أكتفي بالإشارة إلى أن بين اختياره لتلك المؤلفات، وبين مذهبه الديمقراطي الاشتراكي في محاولة الإصلاح الاجتماعي والسياسي نسبًا متصلًا جدَّ الاتصال.
رجل تطور
من ذلك نعلم أن فتحي زغلول كان رجل تقدم تطوري، فكما أنه كان يرى أن خير القوانين ليس هو القانون الحسن في ذاته، ولكنه القانون الذي يحتمل الشعب تطبيقه، كذلك كان يرى أن خير المبادئ الاجتماعية والسياسية ما كان بينه وبين طبائع الشعب وعاداته نسب يكمل ما فيها من نقص، ويقوِّم ما بها من اعوجاج.
كان فتحي يسترشد بهذه الآراء الحرة، فإذا لم يكن نشرها يتفق مع مركزه في الحكومة؛ فقد نشرها بالترجمة ليرضي دواعي ضميره، وليثابر على تربية قومه تربية صالحة على قواعدَ ثابتةٍ مع معرفة الحقوق والواجبات، فليس فتحي على ذلك من أصحاب المناصب، بل هو من أرباب المذاهب.
ومن كان كذلك من شأنه أن يكون شقيًّا معذبًا، يكاد لا يكون له من راحته ووقته نصيب، فهو مقسم بين الأعمال الرسمية الشاقة، وبين خدمة العلم، يعمل في التأليف والترجمة شطرًا من الليل، وأحيانًا طول الليل ومدة العطلة، فإذا لامه في ذلك أصدقاؤه هز كتفه هزة الفيلسوف لا يبالي مات اليوم أو مات غدًا.
نعم، كان العالم المفكر فتحي زغلول يرى أن الحياة تقدر بما يتم فيها من العمل الصالح، لا بعدد السنين والأيام.
مثال الموظف المتفاني
وقد كان فتحي زغلول أصغر أنجال المرحوم الشيخ إبراهيم زغلول من أعيان أبيانة، ولد في تلك القرية في ربيع الأول سنة ١٢٧٩ﻫ، ومات أبوه إذ كان رضيعًا، وكان شقيقه سعد زغلول فطيمًا، خلفهما أبوهما في حضانة والدتهما التي هي إحدى عقائل عائلة بركات الشهيرة بالغربية، وكانت وقت وفاة زوجها لا يتجاوز عمرها العشرين، فقامت على ولديها، ووقفت نفسها على تربيتهما تحت إشراف أخيهما الكبير لأبيهما المرحوم الشناوي أفندي زغلول الذي عني بتعليمهما على أحسن ما تعلم به أبناء الأعيان.
تعلم «فتح الله» الصغير في كتاب البلد، ثم في مدرسة رشيد، ثم في المدرسة التجهيزية، ثم في مدرسة الألسن، فاتفق أن زارها المرحوم أحمد خيري باشا ناظر المعارف العمومية، فأعجب بذكاء الشاب «فتح الله» وأعطاه اسم أحمد، ونحت من فتح الله «فتحي» وأصدر أمرًا رسميًّا إلى المدرسة بتسميته أحمد فتحي، وبأن يرد إليه ما دفع من المصاريف المدرسية، وبأن يتعلم بالمجان، فلما كانت سنة ١٨٨٤ أرسلته نظارة المعارف إلى فرنسا لدرس الحقوق، فحصل على شهادة الليسانس ورجع سنة ١٨٨٧، فوظف بقلم قضايا الحكومة، ثم رئيسًا لنيابة أسيوط، ثم رئيسًا لنيابة الإسكندرية، ثم مفتشًا بلجنة المراقبة فرئيسًا لمحكمة الزقازيق، ثم رئيسًا لمحكمة مصر، ثم وكيلًا لنظارة الحقانية، وهي الوظيفة الأخيرة التي مات وهو قائم بها.
كان فتحي مثال الموظف المتفاني في أداء واجباته، القائم بعمله وعمل غيره أحيانًا، ولم يمنعه ذلك من أن يكون مترجمًا أمينًا ومؤلفًا كبيرًا.
إن شدة الذكاء وقوة النفس وحسن الإخلاص — تلك الصفات التي ظهرت آثارها على فتحي باشا منذ شبابه الغض — راجع معظمها إلى التأثر الوراثي من أبويه، وعلى الأخص والدته التي أفاضت عليه من صفاتها بما يفيض الأصل وبما غرست من المبادئ الصالحة مما جعل لفتحي شخصية ممتازة منذ صباه.
ولا عجب فأمهاتنا نحن القرويين منهن مع بساطة في المدارك العقلية وبعد عن العلوم والمعارف على جانب عظيم من الذكاء الفطري ورفعة الأخلاق، وعزة النفس، والذوق السليم في الحكم، والطيبة والتقوى في المعاملات، ينقلن هذه الصفات لأبنائهن بحكم قانون الانتقال الوراثي، فتكون لهم رأس مال في الحياة العملية، ولولا هذه الصفات لهلك القرويون غير المتعلمين بما هم فيه من جهل عميق.
فللأمهات القرويات أن يقبلن شكر الجيل الحاضر، وعلينا أن نعترف علنًا بما للأمهات من الأهمية العظمى في توريث البنين والقيام على تربيتهم الأولى.
وأمامنا المثل الحسي: إن هذه الوالدة القروية ينسب إليها الفضل الأكبر في أنها أخرجت لمصر نابغتين عظيمين: سعد زغلول وشقيقه فتحي زغلول.