من الجامعة إلى الوزارة
(١) كيف أسسنا الجامعة
ذكرت أن الملك فؤاد قال لي: إن الحكومة عازمة على إنشاء جامعة تضم المعاهد والمدارس العليا، وإنه يمكن اعتبار الجامعة المصرية كلية آداب فيها.
على هذا الوعد عقدنا مجلس إدارة الجامعة في ١٢ ديسمبر سنة ١٩٢٣ لتسليم الجامعة المصرية إلى وزارة المعارف العمومية، وكتبنا بذلك عقدًا أمضاه أحمد زكي أبو السعود باشا وزير المعارف في ذلك الحين، وحسين رشدي باشا رئيس الجامعة، وعنيت بأن أذكر في شروط هذا العقد أن يكون الدكتور طه حسين أستاذًا في الجامعة الجديدة.
محضر الجلسة
نظرًا إلى أن الجامعة المصرية طلبت إلى وزارة المعارف العمومية أن تعتبر شهادتها كشهادات المدارس العالية التي تخول التوظف في الحكومة، فأجابت الوزارة بما يأتي: «ليس في وسع وزارة المعارف الاعتراف بالشهادة التي تمنحها الجامعة لمتخرجيها بالكيفية المرغوبة ما دامت بعيدة عن الإشراف على الدراسة فيها.»
ولما كانت الوزارة معتزمة إنشاء جامعة أميرية فسيكون بالضرورة بين أقسامها كلية للآداب قد تنافس كلية الآداب للجامعة المصرية، فإذا رأيتم — تلافيًا لهذا التنافس — ضم كلية الآداب بالجامعة المصرية إلى وزارة المعارف، فإن النظام العام الذي يوضع للجامعة الأميرية سيكون شاملًا لها فتصبح نواة لقسم الآداب بها.
ومتى تم هذا الضم شرعت الوزارة في فحص منهج الدراسة بهذه الكلية ونظام الامتحان بها؛ ليكون ذلك توطئة لتقدير درجة الشهادة التي تمنحها.
فإذا ما وافقت إدارة الجامعة على وجهة النظر هذه فإن وزارة المعارف مستعدة للنظر فيما يلزم لتحقيق هذا الغرض.
ونظرًا إلى أن الجامعة المصرية المؤسسة في سنة ١٩٠٨ تحت رئاسة سمو الأمير أحمد فؤاد — جلالة الملك فؤاد الأول — إنما كان الغرض منها القيام بأمر التعليم العالي الحر مقام الحكومة التي لم تكن وقتئذ لتوجه العناية الكافية إلى هذا الأمر.
ونظرًا إلى أن الجامعة المصرية لقلة مواردها، ولعدم اعتبار شهادتها في التوظف بوظائف الحكومة، لا تستطيع أن تتم تكوينها بإنشاء الأقسام المختلفة للعلوم، بل هي بحيث لا تستطيع بسهولة أن توسع كلية الآداب إلى الحد المرغوب فيه.
ونظرًا إلى أن الذي يهم القائمين بالجامعة، هو أن توجد بالبلاد جامعة مستقلة حرة يرتقي فيها التعليم العالي إلى المستوى الذي يأتلف مع أطماع البلاد في الارتقاء العلمي، لذلك رحبوا بفكرة توحيد الجهود التعليمية واندماج الجامعة المصرية في الجامعة الجديدة، وأهم ما اشترطوا لذلك ضمانة حرية الجامعة الجديدة في إدارتها المالية ووضع برامجها وتنفيذها، ثم استيفاء آثار الحركة القومية المباركة التي أوجدت الجامعة المصرية، ولهذا اقترح أحد عشر عضوًا من أعضاء الجامعة المصرية على جمعيتهم العمومية أن تفوض مجلس إدارتها في تسليم الجامعة إلى وزارة المعارف بالشروط التي لا تخرج في شيء عن ضمانة حرية التعليم واستقلاله واستبقاء الحركة القومية نحو التعليم في سنة ١٩٠٨، فقررت الجمعية العمومية ذلك بالإجماع وندب مجلس الإدارة إلى تحقيق هذه الغاية حضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا رئيس الجامعة المصرية.
بناء على هذه الاعتبارات
اجتمع حضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا رئيس الجامعة المصرية وحضرة صاحب المعالي أحمد زكي أبو السعود باشا وزير المعارف في يوم الأربعاء ١٢ ديسمبر سنة ١٩٢٣ بوزارة المعارف العمومية لتحقيق هذه الغاية.
وبعد الاطلاع على الوثائق الآتية:
- (١)
كتاب وكيل الجامعة المصرية إلى وزارة المعارف العمومية المؤرخ في ١٤ نوفمبر سنة ١٩٢٣.
- (٢)
جواب وزارة المعارف العمومية المؤرخ في ٢٠ نوفمبر سنة ١٩٢٣ ردًّا على ذلك الكتاب.
- (٣)
الاقتراح المقدم من أحد عشر عضوًا من أعضاء الجامعة المصرية إلى جمعيتها العمومية.
- (٤)
محضر جلسة الجمعية العمومية للجامعة المصرية المنعقدة في ٩ ديسمبر سنة ١٩٢٣.
- (٥)
محضر جلسة مجلس إدارة الجامعة المصرية المنعقدة في ٩ ديسمبر سنة ١٩٢٣.
- (٦)
مشروع لائحة الجامعة الجديدة.
- (٧)
مشروع الأمر العالي بتأليف الجامعة المذكورة.
بعد الاطلاع على هذه الوثائق وإرفاق صورها بهذا المحضر.
وبعد تبادل النظر في كل جهة من جهاته بين الطرفين، تم الاتفاق على ما يأتي:
- المادة الأولى: قد تنازل باسم الجامعة المصرية حضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا
رئيسها عن هذه الجامعة مع كل ما تمتلكه من منقول وعقار إلى وزارة
المعارف العمومية على الشروط الآتية:
- (١) تكون الجامعة المصرية معهدًا عامًّا محتفظة بشخصيتها المعنوية وتدير شئونها بنفسها بكيفية مستقلة تحت إشراف وزارة المعارف العمومية كما هي الحال في جامعات أوربا.
- (٢) أن تقوم الحكومة بإتمام النظام الحالي الذي لا يشمل سوى كلية في الآداب بأن تدمج في الجامعة مدرستي الحقوق والطب بعد تحويلهما إلى كليتين، وأن تضم إليها كلية للعلوم، ويجوز أن تضم إليها كليات أخرى فيما بعد.
- (٣) أن تستعمل نقود الجامعة البالغ قدرها نحو ستة وأربعين ألف جنيه في البناء؛ احترامًا لشروط بعض الواقفين.
- (٤) أن تحترم تعهدات الجامعة نحو أساتذتها وموظفيها الحاليين. أما فيما يتعلق بالدكتور طه حسين فقد رئي نظرًا لحالته الشخصية أن يبقى أستاذًا بكلية الآداب.
- (٥) أن يكون من مجلس إدارة الجامعة المصرية الحالي عضو أو أكثر في مجلس إدارة قسم الآداب وفي مجلس إدارة الجامعة، وذلك في الدور الأول من التشكيل؛ استيفاء لآثار النهضة القومية التي أوجدت الجامعة المصرية.
- المادة الثانية: قبل حضرة صاحب المعالي أحمد زكي أبو السعود باشا وزير المعارف العمومية باسم هذه الوزارة هذا التنازل واستلام الجامعة المصرية وما تملك من منقول وعقار لإدماجها في الجامعة الجديدة بالشروط الخمسة المبينة بالمادة الأولى.
- المادة الثالثة: ينفذ هذا الاتفاق بعد التصديق عليه من مجلس إدارة الجامعة المصرية الحالي.
- المادة الرابعة: كتب من هذا الاتفاق نسختان؛ تحفظ إحداهما في وزارة المعارف العمومية، وتحفظ الثانية في محفوظات كلية الآداب التابعة للجامعة.
تحريرًا بوزارة المعارف العمومية في ١٢ ديسمبر سنة ١٩٢٣.
(٢) رسالة الجامعة
وعلى إثر تكوين الجامعة الجديدة وضعنا لها قانونًا رأى الشارع فيه أن رسالة الجامعة يجب أن تكون أوسع مجالًا من أن تحد بحدود معينة، فجاء نص رسالتها مرنًا يتسع لكل ما تقدر عليه من الألوان المختلفة لخدمة العلم والقيام بالتعليم، وقد جاء في مادته الثانية: «إن اختصاص الجامعة يشمل كل ما يتعلق بالتعليم العالي الذي تقوم به الكليات التابعة لها، وعلى وجه العموم، فإن عليها مهمة تشجيع البحوث العلمية والعمل لرقي الآداب والعلوم في البلاد.»
واعتمادًا على هذا النص المرن، الذي يتناول كل تطور جامعي لخدمة العلم والتعليم والآداب والفنون المختلفة في البلاد؛ اعتمادًا على هذا النص كانت رسالة الجامعة متعددة النواحي.
فمن رسالة الجامعة أن تقوم البحوث العلمية في العلوم وفي الآداب التي تنتج عندنا كما أنتجت عند غيرنا الزيادة في النظريات العلمية التي هي في تطور مستمر، والتي تنتج الوصول إلى اكتشافات جديدة تضاف إلى ما اكتشفته الجامعات الأخرى مما له صبغة علمية بحتة، ومما له تطبيقات عملية تنفع الناس في أن تسخر لهم قوى الطبيعة وموارد الطبيعة، وليس خافيًا أن الجامعة إذ تقوم بهذه الرسالة تحمل عن مصر واجبها من المشاركة العامة في رقي العلوم والمعارف في العالم.
ومن رسالة الجامعة تربية شبيبة الأجيال المتعاقبة لتهيئ للبلاد قادتها في جميع مرافقها، ولا شك أن قوة الأمة ومنعتها واحتمالها صنوف المزاحمة على الحياة ليست آخر الأمر إلا نتيجة لتربيتها الجامعية.
ومن رسالة الجامعة نشر الثقافة العلمية والأدبية في جميع الطبقات سواء أكان ذلك بإباحة الانتساب إلى معاهدها المختلفة من غير قيد ولا شرط، أم بإلقاء المحاضرات العامة في العلوم والآداب والفنون، أم بنشر المؤلفات في كل فرع من الفروع.
ومن رسالة الجامعة مساعدة التطور الاجتماعي بكل ما في وسعها من ضروب التجديد في اللغة، التجديد في النثر والشعر، التجديد في نظرة الناس إلى الفنون الجميلة، والبحث في وجوه ترقيتها وشيوعها، ولا يفوتني أن أنبه إلى أن هذه الرسالة تتناول أيضًا الموسيقى والغناء؛ لما لهما من الأثر الطيب في الأخلاق، بل لأنهما كذلك لهو جميل لا بد منه، وعلى كل أمة أن ترقي أسباب لهوها المرح كما عليها أن ترقي أسباب جدها العابس.
وأخيرًا، فإن الجامعة بما هي من أكبر الوحدات الاجتماعية عددًا وأسماها مكانة، وأخطرها مسئولية، وأشملها رسالة؛ هي بكل أولئك مصدر إشعاع يشع منه التضامن القومي، ففي العائلة يولد التضامن، وفي المدرسة ينشأ، وفي الجامعة يشب ويؤتي كل ثمراته، ويضرب المثل الأعلى للتضامن في جميع طبقات الشعب.
(٣) البنات: كيف التحقن بالجامعة؟
وبهذه المناسبة أنبه على سبيل الاستطراد أن خطأ الجمهور في فهم رسالة الجامعة من أنها تنحصر في تحضير موظفين لإدارة الحكومة، والواقع أن هذا الفهم لا ينبعي أن يكون من أغراض الجامعة إلا عرضًا.
ويتصل بخطأ الجماهير في فهم أغراض الجامعة، تلك المسألة التي كانت شائكة قليلة الأنصار في الرأي العام، وهي مسألة قبول الفتيات المصريات طالبات في الجامعة؛ لَهُنَّ ما لإخوانهن الطلبة من الحقوق، وعليهن ما عليهم من واجبات، ولا أخفي أننا قبلنا الطالبات أعضاء في الأسرة الجامعية في غفلة من الذين من شأنهم أن ينكروا علينا اختلاط الشابات بإخوانهن في الدرس؛ فقد حدث أن طلب إلي بعض عمداء الكليات في أول سنة لافتتاح جامعة فؤاد أن نقبل فيها البنات الحائزات للبكالوريا، فأسررت لهم في ذلك الحين أن هذه المسألة شائكة، وأني أشك في رضا الحكومة عنها، وعلى ذلك قررنا فيما بيننا أن نقبل البنات الحائزات على البكالوريا، من غير أن تثار هذه المسألة في الصحف أو في الخطب، حتى نضع الرأي العام والحكومة معًا أمام الأمر الواقع، وقد نجحنا في ذلك، وبعد أن سرنا في هذا النهج عشر سنوات حدث ما كنا نتوقعه؛ فقد قامت ضجة تنكر علينا هذا الاختلاط، فلم نأبه لها؛ لأننا على يقين من أن التطور الاجتماعي معنا، وأن التطور لا غالب له، ومعنا العدل الذي يسوي بين الأخ وأخته في أن يحصل كلاهما على أسباب كماله الخاص على السواء، ومعنا فوق ذلك منفعة الأمة من تمهيد الأسباب لتكوين العائلة المصرية على وجه يأتلف مع أطماعنا في الارتقاء القومي؛ كل أولئك جعلنا لا نحفل بهذه الضجة التي ما لبثت أن ذهب بها الزمان!
(٤) فكرة أصبحت حقيقة
وفي ٧ فبراير سنة ١٩٢٨ احتفلت الجامعة بوضع الحجر الأساسي لمبانيها الحالية بحضور جلالة الملك فؤاد وكان هذا اليوم تاريخًا مشهورًا، ففي منتصف الساعة الثانية عشرة أقيم احتفال كبير في المكان الجديد بالجيزة؛ دعي إليه عِلية القوم من الأمراء ورجال الدين والوزراء والآداب، وبعد أن وصل الملك فؤاد، وقف وزير المعارف في ذلك الحين علي الشمسي باشا، فألقى خطبة بين يديه، ودعا الملك لوضع الحجر الأساسي بيده، وألقيت أنا خطبتي كمدير للجامعة، وقد سجلت فيها الأدوار التي مر بها التعليم في مصر، وهي ثلاثة أدوار: دور الدعاية، ودور البدء في التنفيذ، ودور التمام، فأما الدور الأول فيبتدئ من يوم ١٢ أكتوبر سنة ١٩٠٦؛ إذ اجتمع نخبة من أهل الغيرة على التربية في دار المرحوم سعد زغلول باشا وتعاقدوا على الدعوة لإنشاء الجامعة، وقرروا فيما قرروا أن تكون الجامعة بمعزل عن السياسة، وقد أقبل الناس على الاكتتاب فيها والتبرع لها، واجتمعت جمعية المكتتبين في ديوان الأوقاف في ٢٠ مايو سنة ١٩٠٨ تحت رياسة الأمير أحمد فؤاد (الملك فؤاد الأول) وسموها الجامعة المصرية، ونفحتها الحكومة إعانة سنوية، كما نفحتها الأوقاف خمسمائة جنيه إعانة سنوية أيضًا.
أما دور التمهيد، فكانت بمحاضرات الثقافة العامة التي كان يشرف عليها يوميًّا رئيس الجامعة، وبإرسال بعثات علمية للجامعة بلغ عددها أربعة وعشرين للتخرج في العلوم، وليحضروا أنفسهم ليكونوا معلمين فيها.
وأما دور التمام، فكان بنقل الجامعة القديمة إلى الجامعة الجديدة على نحو ما وصفت في السطور السابقة، وقد بلغ عدد طلبة الجامعة في سنة ١٩٢٨ ويوم تأسيس مبانيها ٢٣٤١ طالبًا، وقد تضاعف هذا العدد بعد ذلك حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن.