الأخلاق وكيف ينبغي أن تكون لتحقيق سلام عالمي
(١) التعاون في سبيل السلام١
التعاون العام بين أمم العالم موجود على وجه متقطع وكيفما اتفق أن يكون، ليس خاضعًا لنظام معين، غير أن هذا ليس هو التعاون الذي يقصد إليه ميثاق الأطلنطي بل التعاون المقصود بهذا الميثاق هو التعاون المستمر الذي يمنع الاعتداء ويؤدي إلى السلام الدائم.
بادئ بدء لا ينبغي أن نخدع أنفسنا فيما يعترض هذا التعاون من صعوبات أعسرها تذليلًا هو الإيمان به. فإذا نحن تشبثنا بسنن الماضي وما ألفناه من أخلاق الناس على العموم وأخلاق قادة الشعوب على الخصوص، وما سجل التاريخ من ألاعيب السياسة وغدرها وقدرنا قوة أنصار الحرب والعاملين عليها والمنتفعين من ورائها ويئسنا من أن نقطع الصلة بين ماضي الإنسانية وبين مستقبلها في هذا الصدد، فما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه التعاون الذي ندعو إليه بنظام جمعية الأمم الماضية! ولا يرى أنصار الاعتداء على كل هذه الجلية إلا أنها صلف تحت الراعدة.
أما إذا رجونا الخير وقدرنا ما نحن فيه اليوم من الضرورات الاجتماعية والحرج السياسي وقدرنا أن العالم أصبح لا يطيق بعد الآن حروبًا على غرار الحرب الحاضرة، وقدرنا حق قدره الارتقاء الاجتماعي في العالم، ثم قدرنا أن هذا التعاون المرجو لم يأتِ طفرة بل هو فكرة اختمرت في ضمير العالم وتداولتها بالبحث وبالتجربة عدة أجيال، وقدرنا أن التجربة القاسية للأخطاء الماضية ستنفع العالم في تسديد خطاه إلى الخير؛ متى قدرنا كل ذلك وجب أن نتقبل مشروع التعاون المانع من الاعتداء والمفضي إلى السلام الدائم بغاية الارتياح وآمنا به وعملنا على تحقيق وسائله، فلقد آن لضمير العالم أن ينتبه ويجعل الإخاء الإنساني حقيقة واقعة بعد أن لم يكن إلى الآن إلا لفظًا ليس له ما يدل عليه.
الواقع من أمر الناس في الأمم المختلفة وفي المدنيات المتعاقبة أنهم بوازع من قانون الأخلاق الذي نشأ بنشوء الدولة، وبوازع من سلطان البوليس والقضاء، وقد اعتادوا أن يتعاونوا في معيشاتهم المدنية بالحسنى وتركوا عاداتهم الأولى في العدوان والجري على أحكام «حق الأقوى» التي ألفوها أزمانًا طوالًا فيما قبل المدنيات المنظمة، هذا هو حال أفراد الناس الآن في الأمم المتمدنة؛ منازعاتهم يفصل فيها القضاء ويزع سلطان البوليس بعضهم عن الاعتداء على بعض، فأصبحوا يرون جريمة داعية إلى الاحتقار ومستحقة للعقاب ما كانوا في حال البداوة يتمدحون به ويجعلونه مناطًا للعزة ومجلبة للشرف والفخار.
إذًا ليس الظلم والعنف في الناس أمرًا طبيعيًّا لا مناص منه كما قد يظن، إنما كان ذلك فيهم قبل نظام الدول عادة اعتادها آلافًا لا تحصى من السنين، كان الأفراد في كل لحظة محلًّا لافتراس السباع، اقتضاهم ذلك أن تكون حياتهم في حرب متصلة ودفاع مستمر، فلما اطمأنوا من هذه الناحية استمرت عادة الهجوم والدفاع في أنفسهم غير أنها تحولت إلى أن تكون حربًا بينهم حتى قضت عليها المدنية المنظمة بالبوليس والقضاء.
تلك حال الأفراد، وأما حال الأمم — أو بالأولى حال الحكومات — فلم تجد كما وجد الأفراد تحت ضغط الضرورات الاجتماعية قانونًا للأخلاق ولا محاكم تفض النزاع بينها ولا بوليسًا يمنع الحكومات من اعتداء بعضها على بعض، بقي فيها روح الفرد الأولى، روح القبيلة، روح الاعتداء على الغير؛ استعلاءً عليه، واستعبادًا له، وطمعًا في أرضه ومرافقه، وبالجملة بقيت كل حكومة حتى في هذه المدنية الحاضرة تضمر أن تنتزع بالقوة من أمة أخرى ما لها من المرافق من غير وازع ولا حياء، وإذًا فقد ظفرنا من المدنيات القديمة بأدب للأفراد ولم نظفر بأدب لحكوماتها يمنعها من الاعتداء والطغيان.
(٢) هل الحرب طبيعية؟
ومن العجيب أن الفلسفة اليونانية مع أنها استوعبت بحث الأشياء الإنسانية لم تتعرض ولا عن طريق التخيل إلى إمكان القضاء على الحرب بين الأمم، ولم تفكر في تحقيق الإخاء الإنساني العام، ولا في السلام الدائم، بل لعلها شجعت الحرب تارة، وقست في نتائجها تارة أخرى، كذلك الفلسفة الرومانية والفلسفة العربية لم يكن فيهما نظرة في ذلك الإخاء بين الأمم المختلفة كما نظرت كلتاهما في الإخاء بين أفراد الأمة الواحدة إلا ما سموه «السلم الروماني»، ومن الخير ألا نتعرض لذكره؛ لأنه لا يفيد شيئًا في موضوع التعاون العالمي المنشود.
فأما الحرب من طبع الإنسان؛ فتلك فكرة انتزعها كتاب وفلاسفة مما هو الواقع، ومن طريف ما يؤثر عن أنصار الحرب ما نقله إيميل فاجي عن أحد التيازقة أو الصوفية القائلين بوحدة الوجود قال: «الحرب إلاهية في ذاتها؛ لأنها قانون العالم.» «الحرب إلاهية في المجد الخفي الذي يحيط بها وفي الجاذبية الخفية أيضًا التي تجذبنا إليها.» و«الحرب إلاهية في الحماية الموهوبة للقواد العظام.» … إلى أن قال: «الحرب إلاهية بنتائجها التي تعزب عن تقديرات الناس.» قال إميل فاجي كل هذه الجمل، تساوي أنه يقول: «الحرب إلاهية؛ لأنها سخيفة.»
وبالجملة فإن أهم دليل على طبيعتها هو قدمها، والدم من حيث هو لا يصحح فاسدًا ولا يفسد صحيحًا، والذي يراه أنصار السلام هو أن الحرب ليست من طبع الإنسان؛ كالعائلة والأبوة والعمل، بل هي عادة تأصلت في نفوس الناس يمكن القضاء عليها كما قضي على الرق ونحوه بوسائلِ التربية التي لا شك في أن العالم يتقدم في أمرها بنسبة ضميره على إثر تفكير المفكرين فيما يصلح حال الإنسان.
إذن كان لا بد من ثورة على القديم في هذه الناحية أيضًا، وقد كانت هذه الثورة أول خاطر في موضوع السلام الدائم خطر لسوللي وزير هنري الرابع، ولكن سلامه الدائم لو أنه تحقق لما شمل إلا أوربا فقط، وكذلك كان مشروع الأب سان بير في أوائل القرن الثامن عشر، ولم تكن تلك إلا بوادر لم تفد شيئًا، حتى كان آخر القرن الثامن عشر؛ إذ انبعث صوت الإخاء الإنساني من جامعة كونجسبرج؛ حين اقترح أستاذ الفلسفة فيها إيمانويل كنت إنشاء حكومة أمم تمنع اعتداء بعضها على بعض؛ وجه نداء للأمم والملوك قال فيه: «ينبغي أن تنظم الأمم سلوكها في كل دولة على قواعد الأخلاق والقانون، كما يجب على الدول أن ترعى هذه القواعد المتبادلة مهما يكن من تمويه الاعتراضات التي تستنتجها السياسة من التجربة، وحينئذ لا تستطيع السياسة الحقة أن تخطو خطوة واحدة من غير أن تتبع فيها أوامر على الأخلاق، فإن السياسة متى اتحدت بعلم الأخلاق، لم تعد بعد ذلك فنًّا صعبًا ولا معقدًا.
إن الأدب يفك العقدة التي لا تستطيع السياسة حلها، يجب اعتبار حقوق الإنسان مقدسة ولو ضحى في ذلك الملوك بأكبر الضحايا، لا يمكن في هذا الصدد التنازع بين الحق وبين المنفعة، وإن السياسة يجب أن تركع أمام الأدب.
إن أولئك الذين اجتمعوا في المؤتمر وكانوا يعلمون حق العلم طبيعته وأغراضه لا يكادون يخدعون على تطوره أيًّا كان رأيهم في نتائجه، إن الكلمات الفخمة مثل «إعادة النظام الاجتماعي»، و«تجديد المذهب السياسي لأوربا» و«السلام الدائم المؤسس على توزيع للسلطان» إلخ، إنما نطق بها لتطمين الناس ولتفيض على هذا الاجتماع الحافل كرامة وعظمة، لكن الغرض الحقيقي للمؤتمر، قد كان توزيع أسلاب المقهورين بين القاهرين.
(٣) أدب السياسة الدولية
هذا نموذج من أدب السياسة الدولية يتخذه الساسة لمجدهم ومجد ملوكهم وليلقوا به دروسًا في الشر والظلم على الناس أجمعين، أفكان الذين اجتمعوا حول مائدة الصلح في فرساي أصلح نيةً وأصدق قولًا من زملائهم في فينا من قبلهم بقرن كامل؟ لقد كان كتاب التاريخ السياسي يظنون أن مؤتمر فينا قد أخفق في مهمته مع أنه وقى العالم شر الحروب ٣٩ سنة.
فهل كان مؤتمر فرساي أسعد حظًّا وأجدى على الإنسانية نفعًا، مع أن سلامه لم يزد عمره على العشرين عامًا حتى أمكن لأحد الساسة في الخريف الماضي أن يجمع بين الحرب ويسميها حرب الثلاثين من سنة ١٤ إلى سنة ٤٤، وإذا لم يتغير الأدب السياسي عما كان في القرن الماضي، قال الكاتب المعروف «الدس هكسلي» عشية هذه الحرب الحاضرة: «إن أدب السياسة الدولية هو أدب القرصان، أدب الخداع، أدب الشيخ الفيكونت الفاست، بل لم يتغير هذا الأدب منذ عشرين قرنًا حين قال الفيلسوف سنيك، هذا هو قانون الإنسانية: كل ما هو محرم عليك إتيانه وأنت فرد، مطلوب منك إتيانه وأنت مدافع عن الدولة.»
لقد أعلن كنت هذه المبادئ القديمة منذ ستين عامًا، ولكننا على رغم ما قطعت الأفكار العامة من مراحل التقدم في هذه المدة، ما أبعدنا إلى الآن عن الغرض الذي ترمي إليه حكمة الفيلسوف، والظاهر أن الملوك والأمم لم تتلقَّ بعدُ دروسًا قاسية.
نظن الآن أن العالم قد تلقَّى هذه الدروس القاسية منذ الحرب الماضية فشرع فعلًا في إنشاء جمعية الأمم، ولكنها لما تنجح؛ لأنه عند تنفيذها كان الساسة قد نسوا ويلات الحرب، ورجعوا إلى أخلاق السياسة الدولية، فلم تنجح تجربتها وجاءت الحرب الحاضرة بويلاتها التي لا تطاق، تلقاء هذه التجربة القاسية صدر ميثاق الأطلنطي في أغسطس سنة ١٩٤١.
وهنا يتساءل أنصار السلام: هل إنشاء عصبة أمم جديدة خير من عصبة الأمم القديمة يمكن أن يوصل إلى الغاية النبيلة التي أشار إليها المستر إيدن بقوله: «إن غايتنا هي إنشاء نظام عالمي يحقق التقدم السلمي لجميع الشعوب.»
العقل والتجربة متفقان على أن عصبة الأمم التي لها قوة مسلحة لتنفيذ قراراتها ليس خير أداة للسلام الدائم وبالتبع للتعاون العالمي؛ لأن هذه الأداة متى كمل نظامها كانت كما يقول المستر الدس هكسلي: «كأنها عصبة مؤلفة للحرب لا للسلام.» والواقع أن العنف يولد العنف، ومع ذلك ليس أمام العمليين من أنصار السلام وسيلة سواها في الحال الراهنة.
غير أن هذه الوسيلة لا توصل إلى الغاية إلا إذا اقترن بها أبطال الاستعمار بجميع أسمائه وألوانه، على هذا الوضع يمكن أن تستل من نفوس الأمم الصغيرة تلك الأحقاد التي ولدها استعلاء قوم على قوم، وذلك هو أفسد ما يكون للأخلاق التي ينبغي أن تتخلق بها الأمم لتحقيق تعاون عالمي، وفي هذه الحالة الشعوب التي لا تستطيع أن تقوم بنفسها لا تتبع إدارة النظام العالمي الذي أشار إليه وزير الخارجية البريطانية تأخذ هذه الإدارة بيدها حتى تستكمل مشخصات الأمم التي تستطيع أن تكون عضوًا مستقلًّا نافعًا في التعاون العالمي.
(٤) يجب القضاء على الاستعمار
ما دام غرض التعاون العالمي هو القضاء على نظرية حق الأقوى مع فسادها في نظر المنطق القانوني، وما دام الاستعمار هو أظهر آثار حق الأقوى، فلا بد للتعاون العالمي من القضاء عليه بجميع أسمائه.
كما أن الفلسفات القديمة لم تتعرض لفكرة السلام الدائم كما ذكرت آنفًا، كذلك هي لم تتعرض لفكرة استنكار الاستعمار، وأول من تعرض لها من الفلاسفة على وجه بين هو الفيلسوف بنتام؛ فإنه هو وأنصار مذهبه يبغضون الاستعمار ويرونه غير نافع للأمم المستعمرة، فوق أنه مفسد لأخلاق الأمم المستعمرة، قال برتران رسل: «إذ كانت الثورة الفرنسية في الصميم من أمرها، كتب بنتام رسالة إلى تالران عنوانها «حرروا مستعمراتكم»، ولم يكن ذلك رأيه في المستعمرات الفرنسية فحسب، بل رأيه كذلك في المستعمرات البريطانية، وأنه حمل صديقه اللورد لندون على اعتناق مذهبه فقال في مجلس اللوردات في سنة ١٧٩٧: لا يمكن أن يسدى إلى إسبانيا خير؛ أفضل من تخليصها من لعنة مستعمراتها.»
وأخيرًا في عهد جمعية الأمم السابقة عرض على الأمم المستعمرة في فرص عدة أن تنزل عن مستعمراتها؛ لتضعها تحت السيادة الدولية فرفضت كلها بلا استثناء، غير أنه ما دام على ظهرها أمم غالبة وأمم مغلوبة، فلا رجاءَ في التعاون بإخلاص، وكأني بالأمم المغلوبة على أمرها تقول للقاهرين دعاة السلام: أنظرونا نتحلل من ذل التبعية، ثم شأنكم والسلام الدائم؛ قرروا فيه ما تشاءون.
بقي أن نشير إلى أن بعض الكتاب السياسيين يرون أن الاستعمار والوطنية أمران متلازمان، وأن من العسير أن يحب قوم وطنهم دون أن يقترن هذا الحب بالاستعلاء على الأمم الضعيفة، أو دون أن يبغضوا غيرهم، هذا قد يكون حقًّا في أمر الوطنية الحادة الجامحة التي هي من سلالة عصبية القبيلة، أما الوطنية المدنية أو وطنية المستقبل التي يسيطر عليها التدبر العقلي فإنها لا تتنافى مع حب الإنسانية جمعاء، والواقع أننا نرى الرجل الفاضل مع حبه لنفسه يسعى إلى سعادة غيره، فلا مانع إذًا يمنع قومًا يحبون وطنهم، من أن يسعوا في إسعاد الأوطان الأخرى!
(٥) التعاون العالمي ممكن
- الأولى: أن التعاون العالمي ممكن متى اقترن به إلغاء الاستعمار على الوجه الذي ذكرناه.
- الثانية: أن أدب السياسة الدولية الذي جرى عليه العرف إلى الآن بعيد عليه أن يحقق التعاون العالمي، بل لا بد لهذا التعاون من أدب دولي جديد.
ونظرًا لأن أسباب الحروب مهما اختلفت مردها كلها إلى الحالة البسيكولوجية للأمم وعلى الخصوص الحالة الأخلاقية لقادة الأمم، نظرًا إلى ذلك قد بحث أنصار السلام في الوسائل التي تؤدي إلى منع الاعتداء من جانب أمة على أخرى، وإن أوفى بحث أعرفه في هذا الصدد تلك المحاولة الجريئة الموفقة التي حاولها الكاتب المعروف الدس هكسلي في كتابه «الغاية والوسائل»، لم يقنع هكسلي بطريقة «كنت» التي لا يزال الساسة يسيرون عليها سواء أكان ذلك في جمعية الأمم السابقة أم في النظام العالمي المستقبل، بل هو يرمي إلى أعمق من ذلك أثرًا وأبقى على الزمان بقاءً، وهو أن يسعى الأفراد والجماعات والحكومات إلى تربية الجيل على صورة تتدرج نتائجها للوصول إلى الإنسان المثالي، جعل هكسلي هذا المثل الأعلى في الإنسان الذي سماه «الإنسان اللامرتبط» في ذلك الإنسان غير المرتبط بإحساساته ورغباته الجسمية غير المرتبط بشهوته في السلطة والحيازات المختلفة، غير مرتبط بموضوعات هذه الرغبات المختلفة، غير مرتبط بغضبه وحقده، غير مرتبط بحياته الخاصة، غير مرتبط بالثروة ولا بالمجد ولا بالوضع الاجتماعي، غير مرتبط حتى بالعلم وبالفن وبالتأمل المجرد وبحب الإنسانية، بذلك يصل المرء إلى حيازة جميع الفضائل، وإن عالمًا مؤلفًا كله أو جله أو على الأقل قادته من أفراد لهم هذه الفضائل، لجدير بأن يسمى العالم الكامل، غير أن هكسلي لم يخدع نفسه على إمكان الوصول إلى تلك الوسائل التي تربط نظريات السياسة الداخلية والسياسة الدولية والحرب والاقتصاد والتربية والدين والأدب؛ كل أولئك بنظرية الطبيعة الآخرة للحقيقة، بل قال في آخر كتابه: «لا شك أن هذه المهمة قد نفذت على وجه ناقص، على أني لا أعتذر عن محاولتي إياها فإن رسم مذهب ولو رسمًا جزئيًّا خير من العدم الكلي.»
ونحن من جانبنا نترك إلى الزمان الطويل تحقيق الرغبات الشريفة لهذا المؤلف، ونقبل على مذهب أقرب تناولًا ونقنع بالهدف الحاضر، وهو التعاون العالمي الذي ارتضته السياسة الدولية للأمم المتحدة، فماذا ينبغي أن تكون الأخلاق لتحقيق هذا التعاون؟
إذا كان هكسلي يعتد هكذا بسمو النفس الإنسانية في طبيعتها إلى حد أنه يرى من الممكن أن تتحقق نظرياته، فليس في ذلك إلا قريبًا جدًّا من رأي الفيلسوف «كنت» في سمو الطبيعة الإنسانية حين يقول: «ليس في الاستعدادات الطبيعية للإنسان شيء من مبدأ للشر، وإن السبب الوحيد للشر هو ألا يرد الطبع إلى قواعدَ، إلا أن الإنسان ليس فيه من أصل إلا للخير، ليس لهذا المعنى فقط أرى أن أختار منهاج «كنت» مرجعًا لصورة هذا البحث الذي بحثه، بل أيضًا لأنه صاحب فكرة الحكومة الدولية العامة، وبهذه المثابة قد يكون منهاجه الأخلاقي أقرب المناهج نسبًا للتعاون العالمي، وقد يكون فوق ذلك هو المناسب لاعتقادات الناس في هذا الزمان.
لتحقيق التعاون العالمي ينبغي أن تقوم كل أمة بواجباتها نحو ذاتها، وواجباتها نحو الأمم الأخرى.
فأما فضائلها الذاتية أو واجباتها نحو ذاتها فالقيام بها أظهر ما يكون في التربية وفي صور الحكم.
أما التربية فإنها في كل العصور وسيلة لتحقيق غاية معينة، فترون الدكتاتوريات تنشئ أجيالها تنشئة إسبرطية محضة؛ لأن غايتها استكمال ما تستطيع من قوة لتبسط سلطانها على العالم كله أو بعضه، فتجردهم من حرية التفكير الشخصي وحرية النقد وحرية الاجتماع لتبادل الآراء وتنمي في أنفسهم مبادئ القومية الحادة والاستهانة بحقوق الغير والطاعة العمياء، وبالجملة تكون غاية التربية غاية حربية صرفة أو بعبارة أدق غاية الاعتداء على الأغيار وما في أيديهم، وليست الديمقراطيات مع الأسف بأحسن حالًا من ذلك إلا قليلًا؛ فإن التربية فيها مع ما بها من الحريات الفردية موجهة إلى الحرب أيضًا، وفي مثلها العليا نماذج من أبطال الحروب الأولين والآخرين، فمناط المثل الأعلى في التربية الحاضرة بطل قتل في ساحة الحرب من إخوانه في الإنسانية أكبر عدد ممكن، لا شك في أن هذه التربية لا يمكن أن تكون غايتها التعاون العام أو السلام الدائم، بل لا بد للعالم، وقد اعتزم التعاون العام، أن يغير غاية التربية، فيستن نوعًا من التربية يؤدي إلى حب السلام لا إلى حب الحرب، يؤدي إلى تحقيق الإخاء الإنساني، يؤدي إلى ترك المبالغة في الاعتزاز بالأجناس وترتيبها ترتيبًا تحكميًّا عسى أن يكون الجنس الأخير منها خيرًا من الجنس الأول المزعوم، وبالجملة ينبغي أن تترك إلى جانب عصبية الإنسان الأولى للقبيلة ولمعبودها المحلي الذي صنعه الإنسان بيده، إلى ما يقتضيه الإخاء الإنساني والتعاون العالمي من احترام لجميع الأجناس وسعي في إسعاد من قضت عليه المصادفات الشقية بأن يكون في سلم المدنية متأخرًا عن سواه.
الإنسان المثقف
على هذا يجب على الأمة في تربية أبنائها أن تكون غايتها «الإنسان المثقف» ووسيلتها إلى ذلك:
-
(١)
تثقيف ملكات الفرد الطبيعية: ملكات الجسم والعقل والنفس؛ بأن يقوم بمقتضيات حفظ الذات وحفظ النوع بالاعتدال التام ثم بواجب الصدق الذي يسبب له الاقتناع بكرامته، وواجب السخاء الشخصي بأن لا يقتر ولا يسرف، بل ينفق بالمعروف، وواجب كرامته من حيث هو إنسان فيرفض أن يكون تبعًا لغيره في غير الحدود المفروضة عليه من جهة كونه عضوًا في جمعية مدنية لها قوانين مرعية الأداء وواجب محاسبة نفسه على كل ما يخطر له من فكر أو يلفظ من قول أو يأتي من عمل، وضابط ذلك كلمة أفلاطون المعروفة «تعرف نفسك بنفسك» أن تعرفها بالدرس الدائم لحالها وسبر غورها في أعمق طياتها، ثم ينبغي أن يؤخذ الناشئ بتثقيف ملكات عقله بأن يتعلم ما هو ميسر له من العلوم والفنون، قال «كنت»: من ليس مثقفًا فهو بهيمة، ومن ليس مؤدبًا فهو متوحش.
-
(٢)
كذلك ينبغي أن تؤخذ الأفراد في التربية بتعلم القيام بواجباتهم نحو الغير، مثل حب الإنسانية ويعنى به العدل ورعاية الغير وعرفان الجميل والسخاء والمواساة في الضراء واحترام الأغيار في أشخاصهم وشرفهم وأموالهم، واحترام قوانين البلاد سرًّا وعلانية، وينبغي في تثقيف هذه الثلاثة الأنواع من الملكات الطبيعية أن يكون ذلك على يد أساتذة أحرار في مدارس حرة ليست تابعة مباشرة لسياسة الحكم كلما أمكن ذلك.
وأما واجبات الأمة من حيث صورة الحكم لتكميل ذاتها فينبغي أن تكون الأمة دائمًا مصدر السلطات في وطنها وأن يشترك أفرادها في حكمها على الطرق الديمقراطية وأن يكون الحكم فيها لمنفعة المحكومين لا لمنفعة الحكام، وأن تكون ولايات الحكم ضرائب يؤديها الأكفاء من أبنائها لا مزايا يختص بها المقربون من السلطات، ويتفرع على ذلك أن طالب التولية لا يولى.
هذا ما ينبغي من فضائل الأمة أو واجباتها نحو ذاتها.
وأما واجبات الأمم بعضها نحو بعض، فأول ما ينبغي هو إبطال هذا المذهب العتيق للسياسة الدولية مذهب الارتياب والدسائس والتجسس، وأن يستبدل به نقيضه؛ بأن تحل محل هذا المذهب الواجبات الأدبية التي يفرضها قانون الأخلاق على الفرد نحو غيره، وهي تتلخص في احترام حقوق الغير والسعي في إسعاده.
على هذا النحو — وعلى هذا النحو وحده — يتحقق التعاون العالمي، وتشملُ نعمةُ السلامِ كلَّ بني الإنسانِ.