اشتغالي بالصحافة ورأيي في الخديو عباس
(١) أصحاب المصالح الحقيقية
وفي ذلك الحين وجدت مشكلة «العقبة» بين مصر وتركيا، وكان الأتراك يدعون أنها لهم، والإنجليز يقولون: إنها ملك لمصر، وكانت الجرائد الوطنية تنصر الأتراك على الإنجليز في هذه المشكلة، كما كانت الحال في مسألة «فاشودة»، فإن المصريين كان ضلعهم مع الفرنسيين ضد الإنجليز الذين كانوا يطالبون بفاشودة باسم مصر، وهذا المعنى لا يمكن تفسيره إلا بأن البلاد ثقل عليها الاحتلال فأصبحت تبغضه وتبغض معه ما يأتي به، ولو كان فيه الخير لمصر.
(٢) فكرة إنشاء «الجريدة»
وفي هذه الأثناء تحدثت في حالنا السياسية مع صديقي محمد محمود باشا — وكان وقتئذ سكرتيرًا لمستشار نظارة الداخلية — وكان حديثي يتناول مسألة «العقبة» وما يجب لمصر في ظروفها السياسية من إنشاء جريدة مصرية حرة، تنطق بلسان مصر وحدها، دون أن يكون لها ميل خاص إلى تركيا أو إحدى السلطتين الشرعية والفعلية في البلاد، وقد رأينا أن تكون هذه الجريدة ملكًا لشركة من الأعيان أصحاب المصالح الحقيقية الذين كان يصفهم اللورد كرومر وغيره من الإنجليز بأنهم راضون عن الاحتلال، ساكتون عن حقوق مصر، وأن الحركة المعارضة للاحتلال إنما يقوم بها من ليس لهم مصالح حقيقية في البلاد كالشبان الأفندية والباشوات الأتراك!
لهذا الغرض دعوت في «الكونتننتال» أصدقاءنا: محمد محمود، وعمر سلطان وأحمد حجازي، ومحمود عبد الغفار، وتحدثنا في الأمر، وقد لاحظنا في حديثنا وأبحاثنا أن الأمل الذي كان المصريون يعقدونه على فرنسا في المساعدة على زوال الاحتلال قد تبدد وانتهى أمره بالاتفاق الودي بين فرنسا وإنجلترا الذي عقد في أبريل سنة ١٩٠٤، وكانت السياسة الفرنسية قبل هذا الاتفاق ترمي إلى مناوأة السياسة الإنجليزية في مصر بعد أن فازت إنجلترا دونها باحتلال وادي النيل، وكانت فرنسا تعاني في ذلك الحين مصاعب في مراكش، وخشيت أن يؤدي فشل إدارتها هناك إلى تدخل الدول وبخاصة إنجلترا وإسبانيا.
أن تعترف الحكومة الإنجليزية أنها لا ترغب في تغيير نظام مصر السياسي، وتعترف الحكومة الفرنسية من جانبها أنها لا تعرقل أعمال إنجلترا في مصر بسؤالها أن تحدد موعد الجلاء أو بأية طريقة أخرى.
وبعبارة أخرى اعترفت فرنسا بالاحتلال الإنجليزي لمصر، وتركت لإنجلترا حرية أكثر مما كان لها في الشئون المصرية، وكان من نتيجة ذلك أن انهار أمل المصريين في فرنسا، وتحققوا أنه لا يمكن الاعتماد عليها، ولا على أية دولة في المسألة المصرية، وأن على مصر أن تعتمد على نفسها في المطالبة بالحرية والاستقلال.
تأليف شركة «الجريدة»
تبادلنا الرأي نحن المجتمعين في هذا الموقف، ووضعنا الخطة التي نسير عليها، وعينا المبادئ التي تقوم عليها جريدة حرة مستقلة غير متصلة بسراي الخديو، ولا بالوكالة البريطانية، وأخذنا نسعى في إقناع أصدقائنا ومعارفنا من أعيان البلاد، وألفنا في بيت محمود باشا سليمان شركة «الجريدة»، وانتخبت أنا مديرًا لها ورئيسًا لتحريرها لمدة عشر سنوات.
وكان رئيس الشركة محمود باشا سليمان، ووكيلها حسن باشا عبد الرازق الكبير.
وبعد تأليف هذه الشركة أخذت الجرائد المتصلة بالخديو عباس تتهمنا بأننا متصلون بالإنجليز، وأننا نمالئهم ضد الخديو، وقد كان لهم عذر في هذا الاتهام؛ لأنه كان بين شركائنا في «الجريدة» — عدا الأعيان — طائفة من كبار الموظفين المصريين في الوقت الذي سيطر فيه الإنجليز على الحكومة، ومن هؤلاء أحمد فتحي زغلول باشا رئيس محكمة مصر، وأحمد عفيفي باشا المستشار بالاستئناف، وعبد الخالق ثروت باشا عضو لجنة المراقبة وصاحب الأثر الكبير في وزارة العدل.
ومن الطريف أن كانت هناك جريدة يصدرها وقتئذ حافظ عوض باسم «خيال الظل» فنشرت أبياتًا ينسبها بعضهم إلى أحمد شوقي جاء فيها:
وقد بقيت هذه التهمة عالقة بالجريدة حتى ظهرت بعد ستة أشهر من تأليف الشركاء في ٩ مارس سنة ١٩٠٧.
ما الجريدة إلا صحيفة مصرية، شعارها الاعتدال الصريح، ومراميها إرشاد الأمة المصرية إلى أسباب الرقي الصحيح، والحض على الأخذ بها، وإخلاص النصح للحكومة والأمة بتبيين ما هو خير وأولى، تنقد أعمال الأفراد وأعمال الحكومة بحرية تامة، أساسها حسن الظن من غير تعرض للموظفين والأفراد في أشخاصهم وأعمالهم التي لا مساس لها بجسم الكل الذي لا ينقسم، وهو الأمة.
لا يكون من أهل الوطن الواحد أمة إلا إذا ضاقت دائرة الفروق بين أفرادها واتسعت دائرة المشابهات بينهم، وإن أظهر المشابهات في حالة الأمة السياسية هو التشابه في الرأي بين الأفراد وهذا ما يسمونه بالرأي العام.
والناس بطبائعهم أشتات في الرأي، كما قيل: «للناس عدد رءوسهم آراء» وهم في البلاد الحديثة العهد بالرقي، ينصرف كل منهم غالبًا عن التفكير في الأمور العامة إلى تدبير حاجتهم الخاصة، حتى ترشدهم الصحف كل يوم إلى أن لهم فوق وجودهم الخاص وجودًا عامًّا، وأن بهذا الوجود العام كما لا يجب أن يرقى إليه بعمل الأفراد … إلخ.
وكان من عادتي أن أكتب افتتاحيات الجريدة، ما كاد يمضي على صدورها غير أيام، حتى انتهت مهمة اللورد كرومر في مصر، فخطب خطبته المشهورة في «الأوبرا»، وعلقت «الجريدة» عليها تعليقًا لا يقل عنفًا عن الجرائد المتصلة بالخديو عباس، وسارت في طريقتها وعلى مبادئها تنقد أعمال السلطة الفعلية التي كانت للإنجليز، كما تنقد أعمال السلطة الشرعية؛ سلطة الخديو عباس.
وقد يحسن هنا أن أتحدث بإيجاز عن هاتين السلطتين ليقف القارئ على حالة مصر، ومركز كل من الخديو واللورد كرومر في ذلك الحين.
(٣) الخديو عباس
كان الخديو عباس حلمي الثاني قوي الإرادة لا يحتمل أن يرى غيره يتصرف في حقه، فعندما ولي الخديوية المصرية أظهر صفات القوة الشخصية والشجاعة الأدبية والعزة اللائقة بالملوك، فأنكر على الإنجليز تصرفهم في حقوقه واستئثارهم بالأمر دونه، وعز عليه أن يصدر كل شيء باسمه على غير ما يختار، فنفر من معاملتهم إياه معاملة المغفور له والده، وعارض في كثير من المسائل بشدة، فتنبه لذلك الشعور الوطني، وقال الناس: «إن هذا الأمير سيعيد لنفسه مجد أبيه الأكبر محمد علي باشا.»
وقد رأى أن وزارة مصطفى فهمي باشا هي من أكبر وزارات «الوفاق» أو «الاستسلام»، فأسقطها، ونصب وزارة حسين فخري باشا في ١٦ يناير سنة ١٨٩٣، ولكن إنجلترا أرغت لهذا التصرف وأزبدت وعارضت في تنصيب الوزارة الجديدة، وأكرهت «الخديو» على إسقاطها، فلم تلبث في الحكم غير ثلاثة أيام! ولكن ذلك لم يفل من عزم الأمير المطالب بحقه، فسار في سياسة الخلاف كلما حانت الفرصة، حتى انتقد الجيش في بعض نظمه، وكان على رأسه «كتشنر» حينما تفقده الخديو في الحدود المصرية، فغضبت الحكومة الإنجليزية، وطلبت الترضية فوقف سموه موقف المتمسك بحقه من إبداء رأيه في جيشه، ولكن الوزارة المصرية الجديدة برياسة مصطفى رياض باشا قد اضطرت يومئذ إلى إجابة مطالب إنجلترا، فكانت النتيجة أن شكر سموه الجيش ترضية للسردار كتشنر!
وبعد ذلك جاءت سياسة «شبه الوفاق» من سنة ١٨٩٤، فأكثر الإنجليز من عدد مستشاريهم وموظفيهم في النظارات، وأخذت «عابدين» و«قصر الدوبارة» كلتاهما تحمي من يلجأ إليهما من الموظفين من الجهة الأخرى، وترتب على حادثة الحدود وما سبقها نتيجة مساوية للنتيجة التي ترتبت على رضا الخديو السابق توفيق باشا بإلغاء قرار مجلس انتظار القاضي بالاستغناء عن خدمات «مستر سكوت»، ثم أعقب ذلك إمضاء اتفاقية السودان التي جعلت إدارته شركة بين الحكومة المصرية والحكومة الإنجليزية، ولكن المصريين فطنوا إزاء تلك الحوادث، إلى أنه يستحيل عليهم أن يتقدموا في سبيل المدنية خطوة إلى الأمام إلا بمشاركة الأمة المحكومة في الأعمال العامة، فأخذ كتابنا وكبراؤنا يشعرون بضرورة طلب الدستور عن طريق التدريج، فحنق الإنجليز — رغم إشادتهم بالحرية — من هذه المطالب، ولم يقتصروا على مناوأتهم للأمير الذي لا يريد أن يكون الاتفاق معهم سببًا في انتقاص سلطته الشخصية، بل نالوا من الأمة أيضًا بالتشهير، فلما أن جاءت حادثة «العقبة» رأى الإنجليز أن المصريين يتبرمون بهم، فأرادوا أن يعطوهم درسًا أليمًا بأحكام حادثة دنشواي سنة ١٩٠٦؛ ظنًّا منهم أن تلك السياسة — سياسة القسر — تصرف المصريين عن آمالهم في الدستور، وتقطع ألسنة الخاطبين، وتكسر أقلام الكاتبين لترشيح الأمة للدستور، ولكن النتيجة جاءت على العكس مما قدروا؛ فإن هذه الحادثة جعلت مصر تزيد اقتناعًا بأن حياتها موقوفة على نيل الدستور بقدر ما يسمح به مركزها السياسي، فازدادوا طلبًا له وتشبثًا به، فقلل الإنجليز من حدتهم، وألانوا من جانبهم، وجنحوا إلى استرضاء الخديو عباس بسياسة الوفاق.
وفي أثناء تلك الحرب السجال بين السلطة الشرعية والسلطة الفعلية — أو بين الخديو واللورد كرومر واختلافهما على أيهما يكون له الأثر الفعلي في الأمة المصرية — قامت «الأمة» بين السلطتين تثبت شخصيتها غير المعترف بها من الفريقين، وتؤدي في سياسة البلاد واجبها حتى لا تكون متاعًا لكل غالب، ملتزمة في ذلك طريق الحكمة والسلام.