رحلتي إلى أوربا وإلى المدينة المنورة
(١) فوائد السفر
في السفر ما يملأ العقل راحة، والنفس رضا، ويفرج عن القلب همًّا، وما أكثر هموم المصري، وكيف يرتاح ويسري عنه الهم والنظام الاجتماعي مختل، والأمة تشقى بأمراضها الثلاثة: الفقر، والجهل، والمرض، ومصر ما زالت محتلة بالأجنبي، والحكم غير مستقر؟!
في السفر ما ذكرت من الرضا، ولكن فيه أيضًا ما يميت القلب، ويشغل الفهم إذا قارن المصري بين ما كان يراه في بلده من فشل الأمة في حقها، وبين ما يراه في غير مصر من ديمقراطية صحيحة كاملة، فيها الفرد يساوي الفرد حقيقة، ولا فضل لأحد على أحد إلا بمقدار نفعه لقومه، وليس لأحد من السلطة إلا ما أرادت الأمة أن تعطيه لا هبة ولا مكافأة، بل واجبًا وفرضًا يحاسب عليه حسابًا عسيرًا.
في السفر ما رويت في الحالين، وكذلك في الحياة، لا شيء إلا يدور بين النفع والضرر، ولا حال بين النعيم والشفاء.
ليس عليَّ أن أدخل للقارئ من باب الشعراء، فأتكلف له وصف السماء وما تفعل الريح في وجه الماء، ولكن عليَّ أن أنقل له الوقائع في رحلتي إلى باريس سنة ١٩٠٩ كما رأيتها منذ نحو ثلاثة وخمسين عامًا.
في البحر كما في البر الناس هم الناس، لا ينزلون عن شيء من طبائعهم الأصلية، ولا ما صار لهم بحكم العادة والتقاليد، فإذا جاء الغروب نزلوا جميعًا كلٌّ إلى مخدعه؛ ليمضي وقتًا غير قليل في تنظيف وجهه وما علاه من غبار، وفرق شعره، ثم لبس السواد المعروف «بالإسموكن» للرجال، وتلبس النساء خير ما لديهن، وخيره واسع الطوق، وليس هذا عندي بمنتقد في ذاته، فما كانت النظافة إثمًا، ولا التجميل عيبًا، ولكني أرى بوجه عام أن فكرة الزينة تأخذ من الناس مأخذها حتى لقد يفضلها المرء على راحته، ويغلو في المحافظة عليها حتى لقد أصبحت من حاجاته، وما هي منها في شيء، ولكن الغلو في الزينة، وإرضاء شهوة التجمل بالعريض تجعل للإنسان حاجيًا ما ليس بحاجي، فتزيد في مقدار أسره، وتقوي حلقات القيود والعادات التي يربط بها نفسه في هذه الحياة.
حكم العادة
اختلف منا اثنان قال أحدهما: «إن العادة القومية هي جزء مهم من مقومات الفرد من حيث كونه فردًا في أمة معينة، فالتنازل عن العادة هو تنازل عن إحدى المقومات، وليس من عادتنا أن نلبسَ ملابسَ خاصةً للعشاء، فما أنا بمغير ملابسي.»
قال الآخر: «إنَّا بين قوم نعيش فيهم الآن، فمن اللياقة أن نشاكلهم فيما يصنعون بما لا يذهب بالمروءة أو تحرمه العادات الشرقية، ولو أن لنا شركات ملاحة مصرية تنقل الناس من قارة إلى قارة والتزمنا فيها عاداتنا لاتبعها الذين يركبون مراكبنا.»
على ذلك كانت أغلبيتنا — نحن المصريين — تتراوح في العمل بين هذا الرأي وهذا الرأي، أعجبني هذا التسامح من الفريقين إلا أن المبادئ التي يطرقها لنا العلماء والكتاب كل يوم؛ لتكون لنا أصلًا للسلوك في هذه الحياة، قل أن تخلو من خطأ، بل من النادر جدًّا أن تخلو قاعدة عامة من الاستثناء والتخصيص، صدق الإمام الشافعي إذ يقول: «ما من عام إلا وخصص، حتى هذه القاعدة!»
وإني أسوق هذا الحديث لبيان ما استطرد إليه بحث المتناظرين من الأسف على فقدان ما كان لمصر من بحارة وبحرية لو كانت دامت وتبعت الرقي الزمني لولدت كفاءات بحرية تكون مصدرًا لتأسيس شركات الملاحة والنقل.
وصلنا إلى «مرسيليا»، فإذا هي هادئة على ما فيها من الاعتصاب الذي يدعو إلى الأسف؛ لما يسببه من الخسائر، ولكنه من جهة يدعو إلى الإعجاب بقوة التضامن بين عمال البحر، وتضافرهم على الوصول إلى حقهم مهما مسهم من جراء الاعتصاب من الفقر والعذاب.
وبعد ذلك وصلنا إلى مدينة «ليون» مهد الجد والعمل، وموطن الحرير وكثير من صنوف المصنوعات الفرنسية، وأهم ما لفت نظري في هذه المدينة هذه المرة ملاحظة بسيطة جدًّا أجعلها أساسًا للمقابلة بين ما تعمل حكومة الأمة، وما تعمل حكومة الفرد:
هذه المدينة العظيمة تخللها جنات كثيرة في معظم ميادينها، بعضها صغير، وإن كان وارف الظل، نافعًا جدًّا ليكون ملعبًا للأطفال آخر النهار، وبعضها كبير جدًّا «كالروضة الكبرى»، دخلت في كثير من هذه الرياض الجميلة التي يظهر من تخطيطها وتقسيمها أنه ينفق لحفظها مبالغ طائلة، فما رأيت على أبوابها بوابًا يعترضني، فيطالبني بدفع رسم كما كان يقف بواب الأزبكية يطالب الصغير والكبير والغني والفقير بدفع رسم معلوم! إن حكومتنا غنية عن جمع رسم ضئيل، مثل هذا الرسم لا ينفعها، ولكنه يضر الفقراء، وهم الأغلبية العظمى من الشعب، الذين يحتاجون إلى التمتع بالحدائق التي أنشئت من أموال الشعب.
(٢) ما كل باريس لهو
وصلت إلى باريس، وفي هذه المدينة كثير من الأشياء غير أسباب اللهو، ودواعي الطرب، وميادين اللعب، ولكن بعض كتاب الشرق قد اعتادوا أن يصفوا ما ظهر لأعينهم لأول وهلة في شوارع الزينة دون ما بطن في جوف المصانع الكبيرة والصغيرة من المخترعات، وما امتلأت به معاهد العلم من التقريرات والبحوث في العلوم والفنون، فما كل باريس لهو، ولا عيب عليها فيما به يرمونها، ولكن العيب على من يكتفي من النظر إلى الأشياء بلمحة، وفي الحكم عليها بمسحة من الظاهر.
كذلك كان يصنع بعض كتابنا، وكذلك كان يطبق أغلب كتاب الغرب علينا الحكم بالظواهر، وقد يكون ذلك بغلو وببعد عن حدود المعقول، ويقرب سياحاتهم من قصص ألف ليلة وليلة؛ يتفق لأحدهم أن يرى جماعة يصلون على النبي، فينقل عن مصر أن معبودها «محمد بن عبد الله»!
•••
لا يظنني القارئ أنني قد وقعت من المبالغة فيما أحذر منه، ولكن بين يدي كتاب من صديق فرنسي جاء فيه أنه قابل إنكليزيًّا على ظهر الباخرة، انتقل بهما الحديث من موضوع إلى موضوع حتى وصل العرب، قال الإنكليزي وأكد تأكيد ذي الرابطة بين قومه وبين العرب: «إن العرب يعبدون الشمس!»
واستدل على ذلك بأنهم يصلون لها عند الشروق وعند الغروب!
وزارتني في باريس سيدة تشتغل بتحضير محاضرة عن وصف مصر، ومن جملة ما أشكل عليها من المسائل الاجتماعية بل المسائل المتعلقة بتحديد مركز مصر السياسي، هو: كيف أن النساء المصريات محجوبات عن الرجال غير المحارم، ومع ذلك فإنهن غير محجوبات عن الخدم والأتباع الذين هم بالضرورة أجانب عنهن؟! واستنتجت فكرتها هذه من كونها رأت في أبواب البيوت المصرية وأفنيتها رجالًا يروحون ويغدون، ولما لم تكن تدخل إلى باطن البيوت لتعرف أن هناك «حرملكًا» خَدَمُه نساء، و«سلاملكًا» خدمه رجال؛ فقد حكمت حكمها على الظاهر.
انظر كيف كان يجني الظاهر على أمانة النقل وعلى الناس في الحكم، لا أنكر أن السائح من مشارق الأرض أو مغاربها إذا سألته عن قصده وكان من أهل اللهو أجابك أنه يقصد باريس، ولكني لا أنكر أيضًا أن السائح يأتي من اليابان والصين وغيرهما ليتتلمذ على أساتذة باريس، ويعرف منهم أسرار الحكمة وقواعد الحق والواجب وسبيل الاقتصاد.
أجل إن باريس تؤخذ عنها مُودة الأزياء، ولكنها تؤخذ عنها أيضًا أسعار البورصة في جميع أنحاء العالم، وإذا كانت الأولمب، والمولان روج وما بينهما من محلات اللهو، فإنها مدينة السوربون والكليات، ومدينة التجارة والصناعات.
ولئن اشتهرت بجمال النساء وتبرجهن؛ فقد اشتهرت أيضًا بكاتباتها الفضليات، ولا يغرنك خفة روح الباريسي وميله إلى النكات والمزاح؛ فإن في نفسه ذكاء يتأجج لتحصيل العلم والنبوغ فيه.
ولا يدلك على ذلك أكثر من أن باريس تملك شهرتها هذه من مئات من السنين، فلم يتقلص مجدها، ولم تسبقها غيرها من المدائن إلى صفتها الجامعة بين دواعي الجد ودواعي الهزل!
•••
وقد زرت باريس في سنة ١٨٩٦ و٩٧ و١٩٠٦ وفي غير هذه المرات، ويهمني أن أشير هنا أنني كنت في أول مرة زرت فيها هذه المدينة أختلط بطلبتنا المصريين وأناقشهم وأتحرى معلوماتهم وأتسمع على حالة أخلاقهم وسلوكهم الشخصي من مخالطيهم، وأشهد أني وجدتهم هذه المرة أكثر إقبالًا على العلم وأشد اقتناعًا بالمسئولية التي يحملونها أمام ضمائرهم وأهليهم وأمتهم.
آنست منهم أنهم يعلمون جيدًا أنهم ما جاءوا باريس إلا لينقلوا العلم إلى القاهرة، وما تغربوا عن أوطانهم إلا ليشرفوها ويجعلوها قوية محترمة، لمحت في وجوههم آمالًا كبارًا من حيث نشر العلم في مصر وزرع المبادئ العالية في بقاعها الخصبة، وأقل همومهم فيما يحاولون المسألة السياسية، لذلك عجبت من مقدار جهل حكامنا في ذلك الزمان بسير هؤلاء الطلبة الراشدين، وكيف كانوا يظنون أن طلب العلم بباريس بركان الهياج والقلاقل، وما هو إلا خير ونور وسلام!
(٣) الإنجليز في بلادهم
سافرت إلى لندرة وأنا لا أعرف من الإنجليزية ما يكفي لاستبقاء أبسط الأحاديث موضوعًا، ولكني مع ذلك كنت معتمدًا على أن اللغة الفرنسية معروفة هناك في كثير من الطبقات؛ خصوصًا طبقة الكتاب والطبقة التي لا غنى للسائح عن محادثتها، فإن أمثالهم في الفنادق الكبرى يتكلمون لغتين أو ثلاثًا؛ إحداها الفرنسية، وكان يذهب عني الحيرة بعد ذلك أن لي في لندرة وغيرها من المدن الإنجليزية أصدقاء من المصريين.
فلما كنا في كاليه الميناء الفرنسية انقلبت الحال فجأة حتى إن الحالمين الفرنسيين أخذوا يخاطبوننا باللغة الإنجليزية، وكانت الفرنسية قد غسلت من الوجود على شاطئ المانش، فشق ذلك على رجل فرنسي كان معي في العربة، وقد قال للحمال الذي بادرنا بالإنجليزية: «نحن نعرف من الفرنسية ما يكفينا للحديث عند الضرورة!» قالها ساخرًا معنفًا هذا الحمال الذي يعدل عن لغته لغير ضرورة، فانقلب الحمال بفضل هذه الجملة فرنسيًّا يفهمنا ونفهمه!
وقد ذكرني ذلك ببعض المصريين الذين يتكلمون الفرنسية أو الإنجليزية بينهم في بلادهم وما هم بذلك بمحتقري لغتهم، ولكنهم يتراطنون باللغة الأجنبية حتى يظنهم سامعهم أنهم قليلو الاعتداد بلغتهم وقوميتهم.
أنانية الإنجليز
فرغنا من الحمال بهذه الملاحظة، ودخلنا السفينة التي تجوز بنا المانش إلى دوفر، فأذكر أنني رأيت في الركب رجلًا هنديًّا يجتنب الناس، ويقترب مني، وكان كلانا يشعر بجاذبية نحو الآخر، ولم يكن في المركب من اللون الأسمر سوانا، وكفى بالتقارب في اللون، وبالشرقية جامعًا بيننا نحن الاثنين، وكانت حادثة الشاب الهندي «دنجرا» الذي قتل السير كورزون في لندرة جديدة العهد وقتذاك، فوقع في نفسي أني سأشارك جاري الهندي في استقبال النظر الشزر من الإنجليز الذين اشتهروا في العالم بأنانيتهم حتى اضطر حكيمهم «هوبز» إلى أن يقول: إن أصل الخير والشر في هذا العالم هو حب الذات، وإنه هو أساس علم الأخلاق عنده، كما اشتهروا بالتضامن الشديد وحبهم لكبار رجالهم مثل السير كورزون القتيل.
عولت على ألَّا أبعد عن جاري الهندي وقلت في نفسي: «إن عادة المصري أن يكون ضحية لغيره، وما كانت بلادنا أيضًا إلا ضحية يضحى بها على مصالحة القوي!» للإنجليز مصلحة في أقرب طريق إلى الهند، فماذا جنت مصر حتى تكون هي الضحية لتلك المصلحة؛ فقد قال أحد ساستهم يوم فتح قناة السويس: «الآن لزم احتلال مصر.»
وقد كان … وعلى هذا القياس كان أمر بلادنا الجميلة الخصبة في التاريخ القديم، لما ذكرت ذلك أني من قوم هم ضحايا الكرم والصبر، توقعت أن يضايقني الإنجليز بصفتي هنديًّا مع صاحبي الهندي، ولكن لم يكن مما توقعت شيء، فلم أر أحدًا بان عليه أثر لما قد ظننت من تأففهم لرؤية الهندي، فأكبرت أخلاقهم، غير أني لما خرجت بعد ذلك إلى البر، وكان يوم المرافعة في قضية الهندي صرت أسمع نقلًا عن المجالس صحة ما كنت أظن، فإن الهنود كانوا مضايقين من البوليس السري، وإن كثيرًا من الإنجليز كانوا يكررون ما قاله بعض كبرائهم أن طرائق التربية الغربية — تربية الحرية والعلم — مفسدة للشرقيين، وأنه لا بد لصلاحهم (يعنون بالصلاح: رضاهم عن حكم الغربي فيهم وتسلطة على بلادهم) تركهم على ما هم عليه، فإن ذلك خير طريق لسعادتهم أو (دوام استعمار الأوربيين لبلادهم).
أمة صنعت مجدها
وجست خلال إنجلترا، وكان أطول ما قطعت مسافة من لندرة إلى ليفربول، يمر القطار فيها بقرى ومدائنَ لا يدل منظرها على حب الشذوذ، ولا على الابتكار الذي أخذ من فكرة الأوربيين مأخذًا عظيمًا حتى صار مقياسًا لشخصية الفرد وعلامة على النبوغ، فإن الكاتب الذي لا يولد لغته أسلوبًا جديدًا لا يعد كاتبًا، وكذلك الشاعر الذي لا يأخذ خياله من الطبيعة أفكارًا حديثة ومقاصد أبكارًا لا يعد شاعرًا عاديًّا، كذلك لا يلفت النظر إلى شيء إلا غرابته وجدته، ولكن على الرغم من ذلك رأيت المدن والقرى الإنجليزية وقتئذ متشابهة جدًّا في تخطيط الشوارع وارتفاع الأبنية وألوانها حتى كان يخيل للرائي أنها بنيت على فكرة المحافظة، أو في حكومة المحافظين، على أن الفرد الإنجليزي في فكره وعمله مبتكر طبعًا أو كما يسميه أوربيو القارة «أوريجينال».
مر بنا القطار بغير المدائن، مر بحقول جميلة فسيحة قليلة الغلة معظمها كلأ ترعاه الأنعام، والقليل مزروع حنطة، والأقل منه مزروع خضرًا وفواكه، فخطر في نفسي لمشهد هذه الأرض القليلة الغلة كيف أن الإنجليز بهذه الأرض أغنياء؟
خطر لي هذا الخاطر السريع غير الناضج؛ لأني فلاح من قوم كل ثروتهم مما تنبت الأرض، ولم ألبث أن لحظت موارد الثروة الإنجليزية الطائلة من الصناعة التي كنا — نحن المصريين — نحتقرها بعض الشيء، والتجارة التي كنا نأباها بعض الشيء؛ بسمت لهذا الخاطر، وذكرت ذلك المثري المصري الذي كان لا يجلس إليه أحد إلا سأله: كم فدانًا يملك؟ أو كم فدانًا من القطن يزرع هذا العام؟ وأمثال ذلك مما يشف عن فكرته في أن قيمة الرجل في ثروته، وأن كل الثروة هو ما يملك من الأرض وما يزرع فيها من القطن، فلقد كان مثلي مثل ذلك المثري المصري، وذهلت عن حقيقة اجتماعية من أكبر الحقائق؛ وهي: أن غنى الأمة وسعادتها ليسا في خصب أرضها ولا في صفاء جوها، واعتدال منطقتها، وليس بضخامة مدائنها، بل بمقدار عدد المهذبين من أبنائها، فهم الذين يبنون مجدها، وهم الذين يخلقون غناها، نعم إذا أعوزتها خصوبة الأرض خلقوا لأمتهم بعقولهم وعلمهم من الصناعة والتجارة والاعتماد على الذات والمخاطرة في سبيل المنفعة ثروة تفوق الثروة الزراعية أضعافًا ومجدًا طارفًا لا يطاوله المجد التليد.
تمثال نلسون
دخلت لندرة، وأول ما يلفت النظر فيها تمثال نلسون؛ تمثال أقيم على قاعدة عالية جدًّا على غير المألوف بحيث لا يطاوله في مكانه الرفيع تمثال أمير من الأمراء أو ملك من الملوك، فإن رءوس أولئك مهما علت لا تطول ربع القاعدة التي يقف عليها نلسون بقدميه، أجل إنه كان في الحياة رجلًا عاليًا، فأعلى قومه مكانته في الممات على كل من عداه.
كذلك يجل الإنجليز رجالهم ما دامت أعمالهم تشرفهم وترفع أقدارهم على أقدار الذين نالوا الشرف بمجرد الميلاد.
لا يغشى السائح مجلسًا من مجالس السمر في الأدب إلا ترى الإنجليز يتحدثون عن شاعرهم شكسبير بلسان الفخر، والإجلال والاحترام؛ ترى تمثاله في المتاحف، وتسمع ذكره في الأندية، وتشهد رواياته على المسارح، ولم يمنعه أنه كان ممثلًا من أن يكون في قلوب الإنجليز أعلى مكانة من ملوكهم الأولين.
هايدبارك والأزبكية
في أبناء الإنجليز عادات تأصلت في نفوسهم، وصارت لهم أخلاقًا، أزعم أنها هي وحدها السبب في قوتهم؛ تلك القومة المستفادة من جدهم في العمل وتقديسهم لمعنى الواجب، ومن أخص ما لاحظت من تلك الصفات حرية القول والاستماع لكل قائل من غير أن يصادر أحد حريته، من ذلك أني رأيت خطباء كثيرين يخطبون في حديقة «هايدبارك» بعضهم واقف على الأرض، وبعضهم يعلو منبرًا متنقلًا، منهم الشيخ ومنهم الشاب، بعضهم على مقربة من بعض حتى نقدت عليهم سوء اختيارهم لهذه المزاحمة المادية للمكان، والمسرح فسيح الأرجاء لا يضيق بآلاف الخطباء، وتمر جماهير الناس بهؤلاء الخطباء، ويقف كل واحد منهم على الخطيب الذي يعجبه، فيصفق له مع المصفقين.
ليس الهايدبارك هذا منبرًا خاصًّا بأولئك الخطباء العاديين الذين قد يبدأ الواحد منهم خطابته على فرد أو فردين أو ثلاثة، بل هو أيضًا منبر عام لكبار الساسة والخطباء المفوهين؛ فقد كان غلادستون كلما ضاقت قاعة البرلمان بصوته العالي وأغراضه الكبيرة عمد إلى هذه الروضة العامة يخطب فيها الألوف من الناس ساعات متوالية فيحول الأمة من فكرة إلى فكرة، ويخرجها من مقصد إلى مقصد، وكذلك كان «كرهاردي» ونحوه من خطباء الإنجليز إلى اليوم يخطبون في الناس من غير ملاحظة رسوم أو نظام أو اشتراط دعوة حتى تكون الأمة واقفة بواسطة هذه الألسن الرسمية على أحوال الحكومة، فلا يفوت فردًا من الأفراد أي مقصد من المقاصد الكبيرة للحكومة، كإعلان حرب أو سلم، أو تقريب بين أمتهم وأمة أخرى أو ضرب ضريبة عامة، أو إعطاء النساء حق الانتخابات بحيث إن العامل البسيط في لندن يعرف من خطب الوزراء والنواب في «الهايدبارك» طرفًا أو نتفًا من قواعد مصالح الأمة التي مصلحته الشخصية بعض منها، ولكن كان وزراؤنا ونوابنا — سامحهم الله — يجتنبون الكلام حتى في سياستنا الداخلية إلا ما يكون من التهامس في الآذان في الخلوات والنوادي بينهم وبين أخصائهم الأقربين.
هذا كله إذا عرفوا جليًّا مقصد الإنجليز أو مقصد السراي في مشروع من المشروعات، فهل منهم من يقف يوم الجمعة في حديقة الأزبكية فيبين للناس مقاصد الحكومة في أي أمر من الأمور العامة؟
كلا! إن رجال حكومتنا لم يكن يهمهم إيقاف الأمة على مشروع أو إقناعها برأي أو فكرة ولكن الذي كان يهمهم أن يكسبوا من مجلس الشورى كل مشروع يريدونه بأية طريق.
إذا كانت أمتنا ليست كأمة الإنجليز، فإن من وزرائنا من تعلموا مع وزراء الإنجليز في مدرسة واحدة، فهل من رأيهم أيضًا أن «الشرق شرق والغرب غرب»؟ أم هم في القربى من الأمة لوزراء الإنجليز — زملائهم في المدنية الحديثة — مقلدون؟
(٤) إلى المدينة المنورة
في سنة ١٩١١ وقبيل الحرب التركية الإيطالية بليبيا سافرت مع أبي إلى المدينة المنورة، وإن أنس لا أنس وقفتي في مكتبي لوداع ولديَّ؛ إذ وقف كلاهما على كرسي ليستطيع عناقي من غير كلفة على هواه، ولئن أنكر على الرجل أن يصف المشاهد التافهة العادية التي تقع لجميع الناس، فإني من الذين يعطون المقام الأول لمشاعر الحنان بين الآباء والأبناء، وآلام الفراق والشوق إلى التلاقي وحب الأوطان، والميل إلى مسامرة الأشباه ومودة الأقرباء والأصدقاء، ورحمة الفقراء، ومواساة الضعفاء، ومداراة السفهاء، واحترام الكبراء، تعجبني روايات هذه المشاعر، ولا أجد حقًّا للذين يحتقرونها بجانب مشاعر البسالة ووصف آثار القدرة والشجاعة، ومآزق الخوف والفزع والصفات الاستثنائية التي لا تتفق إلا لعدد محدود جدًّا من بني آدم لا يخطئهم العد، وإن الناس لمعذورون في الولع بقصص مشاعر البسالة؛ لأنها غير عادية، وقليل أن يجد المرء في العادة لذة، ولكن تلك المشاعر العامية المتواضعة لا ذنب لها إلا أنها عادية، وإن كانت في الحقيقة هي المؤلفة لحياتنا اليومية، وهي التي بها، ولها نحيا ونحب الحياة.
فما أنس وقفة وداع ابني؛ إذ ينظر أكبرهما إلي بملء عينيه مفتوحتين جامدتين، يسألني كم يومًا أغيب في هذه السياحة؟ فأجبته: ثلاثين. فإذا أنا بابنتي الصغرى وهي لا تجهل عد الأيام تجول في عينيها قطرات الدمع، فقلت: لا؛ بل شهرًا واحدًا. ولولا أني كنت عزمت نهائيًّا على السفر وارتبطت به لأرجأته إلى أن يعتاد ولداي على خبره فيخف عليهما أمره؛ لأنه كان فجائيًّا لا يعلمانه إلا يوم سفري، تركتهما ولا شغل لي في الساعات التالية إلا تدبر هذا الشعور واستقصاء أصله في نفس الحي، ومقدار فائدة الطبيعة من إيجاده في قلوبنا الضعيفة.
جعلت أتساءل: كيف يغفل والد عن ولده المحبوب بهذا المقدار، فيتركه في معترك الحياة البشرية أعزل لا سلاح له من العلم والتربية؟ عجبت لرجل يحب ولده حبًّا جمًّا، فيجعل حبه وقفًا على ما يضره دون ما ينفعه، يأمره بالكذب لتحصيل خير مزعوم أو دفع شر موهوم، والكذب مهلكة، يطبعه على الملق والرياء والنفاق، وكلها مهالك، يضرب له بفعله شر الأمثال من الاستهانة بالكرامة وحب البقاء إلى حد الجبن، والتبرم بالعهود إلى حد اللؤم، فأَخْلِقْ بهذا الحب الأبوي أن يسمى «الكره الأبوي»!
أبناؤنا أجزاؤنا وصنع أيدينا، هم بررة إذا أردنا، وهم على ما عودناهم، والمرء أسير عاداته، إنهم إن قست قلوبهم، وفسدت طباعهم، وكسدت عقولهم؛ فالمسئولية في ذلك على ما أورثناهم إياه من دمائهم وأمزجتهم، وما دعوناهم إياه بعد ذلك من انتهاك حرمات الفضيلة، وما قصرنا عنه من تصحيح عقولهم بتعليم العلم، وإذا نحن تدبرنا وتحرينا الأصلح لمستقبلهم، فربيناهم على الفضيلة، وصححنا بالعلم أحكامهم على الأشياء، وهذبنا أذواقهم، وقوينا في نفوسهم ملكة الأخذ عن الغير وملكة الفهم وملكة الإنتاج، أخرجناهم إلى الحياة العملية مسلحين يَغلبون ولا يُغلبون.
ما أنس لا أنس تلك الوقفة وذكراها يثيرها في نفسي نداء الصغار «يا بابا» و«يا أبي» و«يا أباه» تبعًا للهجات البلاد، فأشعر بفيض من الحنان لا يدع لغيره من المشاعر محلًّا من قلبي إلى أن أرجع النظر في هذه الحقيقة المعنوية الحسية معًا، فلا أفهم معنًى ولا أرى وجهًا لأولئك الذين يدعون الله لأنفسهم أو عليها بالعقم أو بقلة الولد؛ لأنهم يخافون الإملاق، وما يتمنونه أقبح من الإملاق، وما ضر أحدهم أن يبقى فقيرًا بماله غنيًّا بولده، فيا طالما كان الولد قرة العين ومدفع الفقر ومناط الراحة والهناء، أوَليس من الحمق أن يخشى الفقير كثرة الولد ليخسر زينة الحياة الدنيا بطرفيها: المال والبنين؟! ذلك هو الخسران المبين.
من هؤلاء أيضًا المتفلسفة المتطيرون الذين يأخذون على ظاهره قول ملك المفكرين أبي العلاء المعري، يجأرون بالشكوى من سوء العيش، يغلون في تقدير متاعب الزواج، ويجبنون على احتمال العناية بالأولاد، ويفضلون الرهبنة والعقم، لا خوفًا من الفقر، ولا فرارًا من الذل، بل حرصًا على راحتهم وإرضاء لأنانيتهم، يأخذون من الوجود ولا يعطون، يستدينون ولا يؤدون، كأني بأولئك لا يرون الولد إلا ثمرة لذة طائفة، ولا يشعرون بمكانة الأبوة وطهارتها ولذتها التي لا تعدلها لذة عند الذين أوتوا قلوبًا تعرف أن تحب، وصدورًا رحبة تسع اللذائذ والآلام على السواء، ونفوسًا كبيرة تستحي أن تكون مدينة للوجود لا دائنة، مستهلكة غير منتجة، أولئك هم الآباء الأكفاء لشرف الأبوة، وأولئك هم أسعد الإنسانية الأكرمون.
في مقام الرسول ﷺ
ولا أريد في الحديث عن زيارتي للمدينة المنورة أن أتصدى لوصف معاهدها؛ قديمها وحديثها، ولا أخوض في وصف الحرم المدني والحجرة الشريفة، ولا أنقل طرفًا من العادات؛ لأني إذا فعلت لا أكون إلا مكررًا لما ذكره الأستاذ الفاضل لبيب البتانوني في رحلته المعروفة، غير أني أنقل هنا بعض ما شعرت به نفسي في مقام الرسول محمد عيه الصلاة والسلام، فأقول:
متى خرج المسافر من «تبوك» مستقبلًا الحجاز، موجهًا وجهه نحو المدينة موطن الهجرة، ومهبط الوحي، ومقام الرسول ﷺ، تنفعل نفسه انفعالات شتى، مرجعها إلى طبيعة الأرض التي يمر فيها من «تبوك» إلى مدائن صالح إلى المدينة المنورة، سهول قليلة مجدبة، وجبال كثيرة جرد مختلف ألوانها، لا ترى عليها شجرًا قائمًا، ولا نابتًا، ولا طائرًا، ولا شيء إلا الفضاء والسكون، منها جبال حمر وسود وزرق ضاربة إلى الخضرة كلها موحشة لا يؤنسها إلا محطة السكة الحديد المسافة بعد المسافة، إن تجردت عن جمال الطبيعة المعروف لدينا، والمصطلح عليه بيننا، كجنات دمشق، أو مزارع سهل البقاع، أو مختلف مناظر لبنان؛ فقد بقي لها من الطبيعة جلالها، ولا شك في أن الجلال قد يكون له في النفس ما يفضل أثر الجمال، تعطيك هذه الطبيعة الجرداء المهيبة إكبار الصعوبات التي لاقاها النبي العربي محمد بن عبد الله في سبيل القيام بتبليغ رسالته في هذه المناطق المترامية الأطراف العديمة الماء، النادرة العشب، الكثيرة الأوعار والأجبال، فإذا وصلت إلى مدخل المدينة تكتنفها الجبال، ولحظت على الشمال دار عثمان بن عفان، ثم رأيت مقام سيدنا حمزة تحت جبل أحد، على قرب من مصرعه، ثم شرفت على المدينة ورأيت القبة الخضراء المضروبة فوق مقام المصطفى — عليه الصلاة والسلام — ثار في نفسك ثائر ذكرى ذلك المجد العربي القديم، وأشرق على روحك نور تلك المبادئ الشريفة التي كان هذا الحرم مهدها، ومصدر تشععها على أطراف العالم من أقصاه إلى أقصاه، هنالك تعذر الذين يقولون: رأينا النور من المدينة فوق القبة الخضراء يشق طبقات الهواء إلى السماء. لم نر ذلك النور الحسي بالعين الباصرة، ولكن هناك نورًا لا يحتاج في انبعاثه إلى هواء يحرك ذراته وينقلها، ولا إلى أجسام ينعكس عليها نور العلم والفضل، نُورَيِ الهدى، إنهم لا يرون نورًا حسيًّا كما يقال وكأنهم يرون نور الهدى يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا، واغفر لنا إنك على كل شيء قدير.
دخلنا الحرم المدني لأول مرة من باب السلام في زحام الزائرين مختلفي اللغات والألوان والأزياء والأجناس، دخلنا ذلك الفناء الرحب، فناء الرجل العظيم، والنبي الكريم، والرسول الأمين، فما هي إلا نظرة إلى ما نحن فيه، وتذكرة لما مضى من الأثر حتى يمتلئ القلب هيبة من الحضرة العالية، ويأخذ النفس الخضوع حتى يبتل الجبين عرقًا من الوقوف أمام مقام من لا يطاوله في مجده مطاول، ولا يضارعه في مقامه واحد من بني حواء، فكلهم لديه سواء، مغترف من بحر علمه، ومستنير بهديه، أو معترف له بسؤدده ورفعة مقامه، فالذين آمنوا بمحمد وما أُنزل عليه، يرونه بحق سيد الخلق على الإطلاق، والذين لم يؤمنوا، لا يجادلون في أنه الرجل كل الرجل فضلًا وكرمًا، والشارع الحكيم أحاط بالعظائم والدقائق من أحوال الناس، والشجاع عديم المثال، هاجر إلى المدينة وهو لا يملك من الدنيا إلا نفسه وصحبة صديقه وهو على هذه الحال، وفي تلك البلاد المجدبة وبين الأعراب لد الخصام، على هذه الحال قد أخاف الأكاسرة والجبابرة أصحاب الأموال والعروش والجنود أولي القوة بكل أسبابها ومظاهرها، ولم يكن له مما في أيديهم شيء، ولكن الله آتاه العلم والحكمة والنبوة والرسالة، فكان له النصر، وما النصر إلا من عند الله.
فمن ذا الذي يعرف تقدير النسب بين الأشخاص والأشياء، ثم يزور قبر محمد، ولا تخضع نفسه لهيبته، أو لا يقصيه الأدب عن مس المقصورة أو إطالة المكث على مقربة منها، إلا على نحو ما يصنع فقيه المسلمين عبد الله بن عمر؛ إذ كان يعقل بعيره في خارج الحرم، ثم يدخل فيقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبي حفصة، ثم يقفل راجعًا من حيث أتى! على أني مع ذلك أجد عذرًا لهؤلاء العوام الذين يقتربون من الحجرة، ويخرون على الأعتاب للأذقان سجدًا، ثم يتمسحون بقوائمها، ويدخلون شفاههم من الشباك يسرون كلامًا طويلًا أو قصيرًا؛ فإن المحبة قد تَجُبُّ كلَّ ما عداها من الملكات في تلك العقول، التي نمت في أحضان القلوب لا في أحضان العلوم، فيذهلون عن تقدير النسب، ويجاوزون حدود اللياقة، ومع ذلك فإن من الأعراب من لاحظت من هيئتهم الوقوف عند حدود التأدُّب، سواء كان ذلك في زيارة قبر الرسول، أو في زيارة الشهداء.
من ذلك أننا زرنا نحن وأصحابنا مقام سيدنا حمزة صبح يوم زيارته، فلما فرغنا من زيارتنا وقطعنا ميدانًا فسيحًا من الرمل، حيث كانت عرباتنا تنتظرنا في الجهة المقابلة، إذا بنا نرى الأعراب زمرًا راكبين جمالهم حاملين أسلحتهم، كلهم يعلق في كتفه بندقية، ويشد في وسطه خراطيش رصاص، وقد يكون إلى جانبه غدارة أو خنجر، وسيفه إلى جانبه، مع ذلك كله وقفنا ننظر ماذا يفعلون، فإذا هم يفدون من المدينة جماعة جماعة، ينتظر بعضهم بعضًا في ذلك الميدان الفسيح تحت مسجد سيدي حمزة حتى كملوا أربعمائة هجان وقفوا وأمامهم علم أخضر يظل رجلًا منهم هو خليفة السنوسي في مكة والحادي يحدو لهم شعرًا بصوت جميل، وهم يرددون عليه هذين البيتين:
يردد هذا الجمع الكبير هذين البيتين في آن واحد على نغمة ما أجملها، فما علمت غناء في مثل هذا الظرف أشجى نغمة ولا آخذ بالقلب من هذا الغناء الذي سمعته، يفعلون ذلك على بعد من المسجد تحية القدوم، ثم يترجلون فيدخلون للزيارة، وسألت عنهم، فقيل لي: إن الخليفة السنوسي حضر من مكة للزيارة في هذا الموسم، مولد سيدي حمزة، وليلة المعراج، فلا يحل بأرض قبيلة من قبائل الطرق إلا دعوه للاستراحة عندهم، ثم يتبعه من مريديه جماعة، فلا يصل المدينة إلا وهو في مثل هذا الجيش من العربان المسلحين من تلاميذ الطريقة السنوسية، يالله، ما أفعل الاعتقاد في القلوب، وما أقرب البدوي من السير وراء اعتقاده!
على هذا الحرم الشريف تخيم السكينة، فتزيده هيبة على هيبته، ووقارًا على وقاره، ومع أنه غاص دائمًا بالناس من مختلفي الأجناس، لا تسمع فيه صوتًا فيما بين أوقات الصلاة إلا تقريرات المدرسين في زوايا الحرم، وحفيف الحمائم تنتقل من الحصباء إلى ذرى الحرم لا يهولها كثرة الناس، فهي في غاية الأنس، لا تعرف كيف يهاج الطائر، ولا تتصور الوقوع في حبائل الصيادين، نواعم لا تعرف بؤس العيش، آمنة لا يأتيها فيما حرمه النبي خوف، فإنه حرم من دخله كان آمنًا، فإذا جاء وقت الصلاة انقلب السكون ضجة، وهرع كل من في المدينة رجالًا ونساء إلى الحرم؛ لشهود صلاة الجماعة.
وللنساء هناك مصلى خاص بهنَّ لا يتعدينه إلا إذا كثر عنه عددهن، وضاق عن احتوائهن كما كان ذلك وقت صلاة العصر التي بعدها، احتفل في صحن الحرم بقراءة قصة المعراج، وقتئذ كان كثير من الناس في المسجد إلى جانب الرجال، على كره من أغوات الحرم على ما نظن، فإني رأيت بعضهم يحتفظ جدًّا بجعل النساء لا يتجاوزن حدود مصلاهن إلا للزيارة، ولما قرئت قصة المعراج قام بعض الأعراب الجالسين على الحصباء في صحن المسجد يحصب بعضهم بعضًا وهو يقول: «حجينا حجينا» كأنه يشهد الناس أيضًا على زيارته للرسول في هذا الموسم.
وللناس في المدينة عناية بحضور الدروس؛ فقد تجد في الحلقة، من غير الطلبة، كثيرًا من المستمعين، أما نحن فقد كنا نغشى الوقت بعد الوقت درس الأستاذ الكبير الشيخ حمدان الونيسي مدرس الحديث والبيان بالحرم الشريف، ولمناسبة ذكر المدرسين يمكننا أن نصرح بأنهم يدرسون هناك التماسًا للبركة، لا يطلبون على عملهم جزاءً ولا شكورًا.
غير أن من ألزم الأشياء تشجيع العلم في منبته، أي في الحرم المدني، وذلك قل أن يكون إلا بمكافأة أولئك المدرسين، لا ليزيد اجتهادهم في تعليم الناس شريعة محمد حول مقامه الكريم، ولكن لتستمر مجاورتهم؛ لأن المدرس مهما كثر اجتهاده إذا ضاق به العيش في المكان الذي يقطنه اضطر اضطرارًا لهجرته، وليس ذلك من مصلحة العلم، حقيقة أنهم يؤتون بعض الرواتب سواء من الدولة أو من الوقف، ولكنها رواتب زهيدة جدًّا لا تفي بشيء من حاجات المدرس المنقطع للتدريس، بحثت في ذلك فتلقفت أطرافًا من الروايات مرجعها جميعًا إلى أن المزورين المطوفين وهم الذين يتصدرون لتعليم الناس كيف يزورون، وماذا يقولون وبماذا يدعون، هؤلاء وهم من غير العلماء بالدين ولا بالتاريخ، ولا بغيرهما، يأخذون هذه الوظائف بالوراثة، ومما بلغنا من غير سند، أنه إذا جاء الحرم رزق يخصص للعلماء، قال المطوفون: إنهم هم العلماء، فإذا كان للأشراف قالوا: إنهم هم الأشراف!
مصر والحرب التركية الإيطالية
وما كدنا نعود من المدينة المنورة — أبي وأنا — حتى كانت الحرب التركية الإيطالية قد نشبت في ليبيا، وأغارت إيطاليا على طرابلس، فظننت أن هذه فرصة لتحقيق ما كنت أدعو إليه من أن مصر يجب أن تكون للمصريين، وقد أخذت أنبه — على استحياء — إلى واجب مصر في هذه الحرب، وهو أن تكون على الحياد، وأن سيادة تركيا لا تجلب لمصر منفعة ولا تدفع عنها مضرة، ولا تستطيع أن تنقذها من الاحتلال البريطاني الذي لا يمكن الخلاص منه إلا بتضافرنا والاعتماد على أنفسنا.
وقد أغضب هذا الموقف بعض الناس، ولكني لم ألتفت إلى غضبهم، واتفق أن جاءني كتاب من تاجر بدمياط لا أعرفه، يقول فيه: إن الطليان احتجزوا له سفينة محملة بالأرز في عرض البحر؛ لأنها تحمل العلم التركي، وهو علم مصر، فذهبت إلى حسين رشدي باشا وزير الخارجية وقتئذ وأطلعته على الخطاب، وطلبت إليه التوسط للإفراج عن السفينة، فخابر ممثل إيطاليا في مصر، فأفرج الطليان عنها، وعادت السفينة إلى صاحبها.