لمحة تاريخية
(١) ديار العرب
إذا قيل ديار العرب تبادرت إلى الذهن خيالات جزيرتهم الصحراوية العارية، مع أنه كان لقوم منهم مواطن في الربوع الشامية والعراقية، إلا أن هذه المواطن — على جمالها وتحضر بعضها — لم تكن إلا غديرًا من غدران الجزيرة، وطللًا من أطلال البادية. فالجزيرة مهد العروبة الخالصة، وكل عربي صحيح النِّجار يعتزي إليها، وإن شطَّت به الدار عنها.
وسُميت جزيرة من قبيل التوسع؛ لأن البحر لا يكتنفها إلا من ثلاث نواحيها: من الغرب البحر الأحمر؛ ومن الشرق بحر فارس أو خليج العجم؛ ومن الجنوب المحيط الهندي؛ وأما الشمال فمتصل بأرض الشام والعراق.
والجزيرة خمسة أقسام: الأول: اليمن في الجنوب، ويقال لها الخضراء؛ لما فيها من المزارع والأشجار والمراعي والمياه، وهي خمسة أصقاع: حَضْرَمَوْت، وَمَهْرَة، والشِّحْر، وعُمَان، ونَجْران، ومدنها الشهيرة: صَنْعاء، وكانت سرير ملوك اليمن، وفيها قصر غُمْدان؛ ومأرِب، ويقال لها سَبَأ، وفيها العَرِم؛ وزَبيد، وعَدَن، وظفَار قاعدة بلاد الشِّحْر.
والقسم الثاني: العروض، وتشمل البحرين واليمامة، سُمِّيت كذلك لاعتراضها بين اليمن ونجد.
والقسم الثالث: تِهامة، على شاطئ البحر الأحمر، بين اليمن والحجاز، وفيها طريق القوافل إلى الشام، ومن مدنها مكة، وفيها البيت، والكعبة، وغار حِراء.
والقسم الرابع: الحجاز، بين نجد وتهامة، أشهر مدنه يثرب (مدينة الرسول)، والطائف، وخَيْبَر، وفيه سوق عُكاظ، وماء بدر.
والقسم الخامس: نجد، بين العراق شرقًا، وبادية الشام شمالًا، والحجاز غربًا، واليمامة جنوبًا: صقع مرتفع، طيِّب الهواء، يلهج بذكره الشعراء، وفيه أرض العالية التي كان يحميها كليب.
وهواء الجزيرة يختلف باختلاف ارتفاعها وانبساطها؛ ففي الجبال وعلى شاطئ البحر الجنوبي ينسم معتدلًا؛ وفي السهول يلفح حارًّا؛ وتهب ريح محرقة من الجنوب والغرب تعرف بالسَّموم.
(١-١) مراجع
-
ياقوت: معجم البلدان.
-
الألوسي: بلوغ الأرب.
-
نوفل الطرابلسي: صناجة الطرب.
-
Henri Lammens. Le berceau de l’lslam.
(٢) الجيل العربي
(٢-١) العرب البائدة
المراد بالعرب البائدة القبائل التي محتها الحروب كطَسْم وجَديس، أو أهلكها الله بغضب منه كعاد وثمود. ولا نعلم عن هذه القبائل إلا أخبارًا موجزة ذكرها القرآن، وأساطير مستملحة وشَّاها الرواة: منها أن طسمًا كانت تسكن البحرين، وأن جديسًا كانت تسكن اليمامة، وكان على طسم ملك غاشم يقال له عملاق، فغلب على جديس، واستبدَّ بها، وهتك حرمة نسائها. فثارت جديس على طسم، وبطشت بها وهي غافلة في وليمة أهدتها إليها، ونجا طسمي فلجأ إلى اليمن واستغاث تُبَّع حسان، فأمدَّه بجيش من قحطان فأفنى جديسًا.
ومنها أن عادًا كانت تسكن حضرموت، فبغت في الأرض وعبدت الأصنام؛ فبعث الله إليهم نبيًّا اسمه هود ليصلح فسادهم، فكذَّبوه، فدعا عليهم، فاحتبس المطر عنهم ثلاث سنوات، وأمحلت الأرض، فأوفدوا إلى مكة نفرًا يستسقون لهم، فأرسل الله عليهم ريحًا عاتية فلم تبقِ منهم أحدًا.
ومنها أن ثمود كانت تسكن الحِجْر من وادي القرى، فسخرت بنبيها صالح، وأبت أن تطيعه أو يصنع لها معجزة. فأخرج من الصخر ناقة وفصيلها، وأوصاهم ألَّا يمسوها بسوء، فاجترأ أحدهم — قُدار الأحمر — وعقرها؛ فغضب الله على ثمود كما غضب على عاد، فأبادهم بالزلزال، وضرب المثل بشؤم عاقر الناقة؛ أحمر ثمود.
ولم تخلُ أساطير العرب البائدة من الشعر، ولكنه منحول وضعه الرواة تزيينًا لأقاصيصهم فما يصحُّ التعويل عليه.
(٢-٢) العرب القحطانيَّة
نزلت العرب القحطانية في الجنوب، واتخذت اليمن موطنًا لها. وقيل إن أول من نزلها يَعرُب بن قحطان وأولاده، وتزعم الرواية العربية أنه أول من نطق باللسان العربي، وأول من جُعلت له التحايا الملوكية. قال حسان بن ثابت:
وكانت أرض سبأ طيبة الترب، خصبة العشب، فنمت زراعتها، وأثمرت غلالها، وزادها الله خيرًا بإحياء تجارتها، فكانت السفن تُقِلُّ حمولة الهند إلى حضرموت، ومنها إلى مصر، منذ القرن العاشر قبل المسيح. وكانت الملاحة في البحر الأحمر عسيرة شاقة، فعُدل عنها إلى البر، وتعهدت القوافل حمل بضائع الهند وحضرموت إلى مأرب فمكة، ففلسطين فمصر.
ولا شيء يدل على أن ذا نواس استطاع أن يستأصل شأفة النصارى، ولكن نعلم أن جماعة منهم فزعوا إلى يوستين الأول — قيصر الروم — يستغيثونه، فكتب إلى النجاشي هيلستيوس أو الأصبح — وكان من غلاة النصارى — بأن ينوب عنه في غزو اليمن، والإثئار لقتلى نجران، فأغزاها قائده أرياط بسبعين ألفًا من الحبشان، فانهزم أمامهم ذو نواس، وخاض البحر بفرسه، فلم يظهر له أثر. وصارت اليمن إمارة حبشية في نحو سنة ٥٢٥م، تولاها أرياط ثم أبرهة الأشرم من بعده.
وفي نحو سنة ٥٧٠م سار أبرهة بجيشه إلى مكة يريد هدم البيت الحرام، فدهاهم وباء الجدري، وسرى فيهم يفتك فتكًا ذريعًا، ولم يسلم منه أبرهة، فارتدَّ عن الكعبة بمن نجا من جيشه، ومات في صنعاء. وتعرف غزوة أبرهة بعام الفيل؛ لأن الرواية العربية تقول إنَّه جاء مكَّة راكبًا على الفيل.
وظل الحبش مستولين على اليمن حتى قام سيف ذو يزن سنة ٥٧٥م يعمل لتحرير بلاده، واسترجاع ملك آبائه، فاستنجد كسرى، فأمدَّه بجيش من أهل السجون، يقودهم وهرز الديلمي، وكان على اليمن مسروق بن أبرهة، فانكشفت الحبشان وقُتل مسروق، ومَلَكَ ذو يزن، أو خلفه ابنه معدي كرب، وهو آخر ملوك اليمن من القحطانيين. ثم ثار على معدي كرب عبيدُه الأحابش فقتلوه، فاستولت الفرس على اليمن سنة ٥٩٧م، وجعلتها بعض ولاياتها، فلم يتحقق لها استقلال حتى ظهر الإسلام.
وفي أساطير العرب القحطانيَّة وأخبارهم شعر موضوع لا يصحُّ الركون إليه؛ لأنه جاءنا باللغة العدنانية، ولم تكن يومئذ لغة أهل اليمن، بل كانت الحميرية لغتهم، وبينها وبين لسان عدنان اختلاف عظيم.
(٢-٣) اليمانية المهاجرة
تفرقت القبائل القحطانية في وسط الجزيرة وشمالها بعدما نبت بها اليمن. فمنها من سكن البادية وعاش فيها عيشة الأعراب الجفاة؛ ومنها من نزل القرى وأطراف الشام والعراق. وكان الذين هاجروا من حمير قبائل قُضاعة، فاستوطنت تنوخ العراق، وكلب بادية الشام، وعُذرة وادي القُرى في الحجاز. وكان الذين هاجروا من كهلان قبائل الأزد فنزلوا عُمان. ومنهم الغساسنة في الشام، وخزاعة بمكَّة، والأوس والخزرج بيثرب. ومن كهلان بنو لخم ملوك العراق، ومنهم المناذرة، وبنو طيِّئ في جبليْ أجأ وسلمى، وبنو عاملة وبنو جُذام في بادية الشام، وبنو كندة، وكانوا أقيالًا في حضرموت يخضعون للتبابعة، فاتسع سلطانهم إلى الأنحاء الشمالية، فسادوا قبائل غطفان وأسد في نجد، وقبائل بكر وتغلب في ديار ربيعة، حتى بلغ الأمر بأحد ملوكهم الحارث بن عمرو أن ينافس المناذرة والغساسنة، وأغار مرة على الحيرة فشرَّد ملكها المنذر الثالث ابن ماء السماء. فلما عاد المنذر إلى ملكه، أوقع بالكنديين، فأخذ منهم نحو خمسين أميرًا وذبحهم بجفر الأملاك في ديار بني مَرينا بين دير هند والكوفة، وفيهم يقول امرؤ القيس:
ثمَّ قتل الحارث في أرض بني كلب، وقتل بعده ابنه حُجر والد امرئ القيس الشاعر. فتحلحل بناءُ كندة منذ اليوم، وكر بعضهم إلى مواطنه الأولى في حضرموت.
وكانت اللغة العدنانية صاحبة السلطان على القبائل القحطانيَّة المهاجرة إلى الشمال؛ ذلك بأنها لغة البلاد التي استوطنوها، فاصطلحوا عليها في أدبهم، ونظموا بها شعرهم، ونبغَ منهم شعراء مجيدون، هدهدوا البادية بأنغامهم، وتبوَّءوا سدَّة الرئاسة بشاعرهم امرئ القيس أمير بني كندة.
(٢-٤) ملوك العراق
وكان ملوك الحيرة وثنيين، مع انتشار النصرانية في العراق، ومنهم مَن كان مزدكيًّا كالمنذر الثالث، ويزعم بعضهم أنه تنصَّر، وليس هذا بثابت، وربما تنصَّر غيره من أمراء الحيرة.
(٢-٥) ملوك الشام
هاجرت القبائل اليمانية إلى أطراف الشام، كما هاجرت إلى أطراف العراق، واتخذ القياصرة منها عمالًا لحماية الحدود؛ كما اتخذ منها الأكاسرة. فكان الضجاعم من بني سَليح يلون البلقاء في عبر الأردن، ويرجعون بأُمورهم إلى ملك الروم، حتى جاء الغساسنة بنو جَفنة، فزاحموهم في عقر دارهم وأزعجوهم عنها في أواخر القرن الخامس، واستولوا على البلقاء وما يليها من الأردن وحوران وغوطة دمشق. ولم يجد العاهل البيزنطي بأسًا في استعمال الغسانيين بدلًا من الضجاعمة، فأقطعهم تلك البلاد، ومنح أمراءهم الألقاب السَّنية، وألبسهم الأكاليل والتيجان.
ووفد شعراء البادية على قصورهم، كما وفدوا على قصور ملوك العراق، ومدحوهم بأحاسن الأشعار، فرجعوا من عندهم بأحاسن الصلات، وأشهر مدَّاحيهم: علقمة الفحل، والنابغة، وحسَّان بن ثابت.
وكان الغساسنة يدينون بالنصرانية، على مذهب اليعقوبية المبتدعة، فأسخطوا عليهم — غير مرة — قياصرةَ الروم الكاثوليكيين، ولكن حاجة هؤلاء إليهم كانت تحملهم على أخذهم بالحسنى والتساهل. وربما كانت عقيدتهم المخالفة من أسباب سقوط بعض ملوكهم، كما سقط المنذر بن الحارث بعدما أمر القيصر باعتقاله ونفيه.
(٢-٦) العرب العدنانية المستعربة
يعود المؤرخون بنَسَب العرب العدنانيَّة إلى إسماعيل بن إبراهيم من جاريته هاجر، ويروون على ذلك أنه لما ولد إسماعيل أمر الله إبراهيم أن يذهب به وبأمه إلى مكة، ففعل. وجاءت جُرهُم وقَطُوراء، وهما قبيلتان من اليمن، فنزلوا مكَّة، فتزوج إسماعيل من جرهم، وكان من ذريته عدنان أبو العرب المستعربة، ومن عدنان كانت القبائل النزارية بشعبيها الكبيرين ربيعة ومُضَر. ولا تخلو سلسلة الأنساب — كما يرتبها النسابون متحدرة من عدنان إلى مَعدّ، إلى نزار، إلى ربيعة ومضر، إلى البطون والأفخاذ المتفرعة — من وَهْمٍ واختلاط.
وكان الشمال موطن العرب العدنانيَّة، كما كان الجنوب موطن العرب القحطانية، وهذا لا يعني أن الشمال استأثر بالعدنانيَّة وحدها، ولا أن العدنانية لم يتخذ بعض قبائلها موطنه في الجنوب، أو في أطراف الشام والعراق.
وغلبت البداوة الخشنة وسكنى الخيام على عرب الشمال، فكان العدنانيون في كثرتهم بدوًا رُحَّلًا لا يأنسون بقرية، ولا يتفيَّئون ظلًّا معمورًا إلا أقلهم كبني قريش في مكة، وبني ثقيف في الطائف.
على أن هؤلاء البدو الجفاة هم الذين أنبتوا فحول الشعراء، وجاءنا عنهم الشعر الكثير.
(٢-٧) مراجع
-
المسعودي: مروج الذهب ١.
-
البلاذري: فتوح البلدان.
-
الألوسي: بلوغ الأرب ١-٢-٣.
-
نولدكه: أمراء غسان، الترجمة العربية، زريق وجوزي.
-
أحمد أمين: فجر الإسلام.
-
الأصفهاني: الأغاني.
-
ابن عبد ربه: العقد الفريد ٣.
-
نيكلسون: تاريخ الأدب العربي.
-
الطبري: تاريخ الأمم والملوك.
-
ابن رشيق: العمدة.
-
الأب شيخو: النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية.
(٣) أحوال العرب الاجتماعية
عُرف الشعر الجاهلي بأنه ديوان العرب؛ لاشتماله على أخبارهم، وسائر أحوالهم، فجدير بنا، ونحن نمهِّد لهذا الشعر بلمحة تاريخيَّة، أن نلمَّ بأخلاقهم وصفاتهم، وما لهم من عادات وعقائد ونُظم وعلوم؛ وإن الإلمام بهذه الشئون لمِمَّا يساعد على دراسة شعرهم واستجلاء مراميه.
(٣-١) شخصيَّة العربي
للعربي شخصية قوية تظهر بأنانيته، ونزوعه إلى الحرية والاستقلال، وحبه الخير لنفسه دون غيره، والاستئثار بالجاه والذكر الحسن وحميد الصفات. وتظهر في جلَده وصبره على الفقر والجوع والظمأ ومغالبة الطبيعة في صحرائه العاتية، تلك الصحراء التي لفحته بحرِّها فتركته أسمر اللون يابس الجلد خفيف اللحم، أسود العينين والشعر؛ واستولت على إحساسه بوحشتها، فجعلته حديد السمع والبصر، سريع التأثر، متوتر الأعصاب، مذعنًا للقضاء والقدر؛ وعلمته بقحطها الغزو والترحُّل في طلب الماء والكلأ؛ وصيرته كريمًا مقدامًا يقري الضيوف ويلتقي الأهوال، ويمنع الجار ويغيث الملهوف، لتعرضه في ترحاله إلى أن ينزل ضيفًا على غيره؛ وفي مخاوفه إلى أن يستغيث قومًا يجيرونه، ويدفعون الضر عنه، حتى أصبح حبُّ القِرى وحسن الجوار من طبائعه، يفاخر بهما، ويرى من العار عليه ألا يكرم الضيف ويحامي عن الجار.
(٣-٢) القبيلة
كانت عرب البادية تعيش قبائل متقاطعة، لا يجتمع بعضها إلى بعض إلا في حِلفٍ موقوت. فلم يستطيعوا في صحرائهم، وما يقتضي لها من حياة قبلية، أن ينشئوا مجتمعًا راقيًا، وقومية شاملة، ودولة موحدة، ولم تبتعد عصبيتهم عن القبيلة، وإن فاخروا بجنسهم واعتدُّوا به على سائر الأمم.
(٣-٣) السيد
والعرب في استقلالهم القبلي ينكرون سيطرة الغريب عليهم، ولا يقبلونها إلَّا على كره، حتى إذا أصابوا فرصة، انتقضوا عليه وأزالوه، كما انتقضت بنو أسد على الملك الكندي، وعمرو بن كلثوم على عمرو بن هند. ولكنهم يذعنون لسيد منهم، إذا رأوا في سيادته خيرًا لهم، فكان لكل قبيلة سيدها يجمع شملها ويقودها في الملمِّ العصيب.
والبدوي في عُنجهيته وحبِّه للرئاسة لا يخضع لمساوٍ له، وإنما يخضع لمن هو أقوى منه، وينبغي أن يتحلى الرئيس بصفات محمودة عندهم، لتحقَّ له السيادة في قبيلته، وأجلُّ هذه الصفات: الغنى والكرم والحلم والشجاعة والفصاحة. وإذا قالوا: سيِّد معمَّم، أرادوا أنَّ كلَّ جناية في العشيرة معصوبة برأسه. قال دُريد بن الصمَّة:
(٣-٤) المرأة
وكان يهمهم تزويج الحرَّة البيضاء؛ لأنها عرضة للسبي، فإذا صارت في كنف زوج، وضمها حماه كانت غلًّا في عنقه. وقد تُخيَّر في أمر زواجها، إذا كانت فطنة رشيدة، كما خُيِّرت الخنساء في دُريد بن الصمَّة.
والبدو يتزوجون صغارًا لطبيعة أرضهم، ولرغبتهم في البنين. فالفتى يتزوج في الخامسة عشرة، والفتاة في العاشرة. وكانوا يرغبون في زواج البعداء؛ ليتألفوا أعداءَهم بالمصاهرة، ويكثروا الأحلاف، وهم إلى ذلك يعتقدون أنه أنجب للولد وأبهى للخِلقة، ويجتنبون زواج الأهل والأقارب، ويرونه مضرًّا بخَلق الولد ونجابته.
ويخطب الرجل إلى الآخر ابنته، فيصدقها ثم يُعقد له عليها. وله أن يعدِّد الزوجات مقدار طاقته، إلَّا إذا اشترطت المرأة عدم التعدُّد، وتعاقدا عليه.
وكانوا لا يجمعون في الزواج بين الأختين، ولا بين المرأة وابنتها، ولكنهم استحلُّوا زواج امرأة الأب، فأبطله الإسلام، وسمَّاه زواج المقت لأنه ممقوت.
وربما تزوج بعضهم نساء بعض في غاراتهم بلا عقد، أو ذهبت المرأة إلى عدة رجال، فيأتي الولد لا يدري مَن أبوه، فتلحقه أمه بمن تريد من الرجال الذين عرفتهم، ولا يرفضه الرجل إذا كان ذكرًا؛ أو يلجئون إلى القيافة ويلحقونه بأقربهم إليه شبهًا.
وللزوج عندهم حقُّ الطلاق دون المرأة، إلا إذا اشترطته في عقد الزواج، ولا يحقُّ للزوج أن يسترجع امرأته بعد تطليقها ثلاثًا، ولكنه يسترجعها بعد تطليقها مرة أو مرتين. وإذا كانت المرأة في بيت من شعر، وأرادت الطلاق، حوَّلت بابه إلى الجهة المقابلة، فيعلم زوجها أنها طلقته، فلا يدخل الخباء، شأن حاتم الطائي عندما طلقته زوجه ماويَّة.
ونساء العرب يصحبن رجالهن إلى الحرب، فيحضضنهم على الصبر في مواقف القتال، ويمنعنهم أن يلوذوا بالفرار، ويداوين الجرحى، ويحملن قِرَب الماء، ويقُتن الخيول، قال عمرو بن كلثوم:
ولهن حقُّ الجوار كما للرجال، وعلى الرجل أن يحمي جار امرأته وأخته وأُمَّه وجارته كما يحمي جاره.
وعُرف منهن غير واحدة بالشجاعة، والفصاحة والشعر، وحسن الرأي والحكمة والعرافة. على أنهن مضعوفات في الجملة، يحتقر الرجال مكانهن، ويتشاءمون بولادتهن، ويسيئون الظن بأخلاقهن، فينعتونهن بالكيد والمكر والخيانة والخداع.
(٣-٥) غزواتهم
كان للعرب حروب كثيرة، أو هي غزوات غير منظمة، يجعلون من أيامها مادةً لفخرهم وإخزاء أعدائهم. وكثيرًا ما كانت تقع من أجل النهب والسلب، أو مزاحمة على الماء والكلأ؛ ومنها ما كان يحدث لأسباب تافهة تعظمها عنجهية البدوي كحرب البسوس التي نشبت لمقتل ناقة، وكان الدافع إليها الحفاظ على الجوار؛ وحرب داحس والغبراء التي أفضى إليها التنافس في الرهان بين سيدي القبيلتين، وقلما وقعت حرب لدفع عدو غريب كحرب ذي قار بين الفرس وبني بكر، وحروب اليمن والأحابش، وإنما كانت حروبهم في الغالب داخلية قبلية، وإذا خرجوا بها عن شبه جزيرتهم فإلى تخوم العراق والشام ليتقاتلوا في سبيل كسرى وقيصر.
وهذه الحروب — على كثرتها — لم تكن تفجع البدو بالعدد الجمِّ من الضحايا؛ لأن معظمها قائم على النهب والفرار بالغنيمة، حتى إن حرب البسوس التي تعاود القتال فيها بنو بكر وبنو تغلب أربعين سنة لم يقتل بها سوى قليل من الرجال. فقد كان البدوي يتحامى القتل جهده؛ لأن تقاليدهم تقضي بأخذ الثأر أو دفع الديات الثقيلة، وربما لا تغسل الديات الأحقاد؛ لما في قبولها وترك الدم من غضاضة، ثم لاعتقادهم أنه إذا قُتل الرجل، ولم يُدرَك بثأره، خرج من رأسه طائر يشبه البوم يسمونه الهامة والصدى، فلا يزال يصيح: اسقوني اسقوني! حتى يقتل القاتل أو أحد أقاربه. قال ذو الإصبع العدواني:
وكان سلاحهم السيف والرمح والقوس والمِجَنُّ، ويلبس فرسانهم الدروع والمغافر. وكانوا يرفعون الرايات، وربما اتخذوها من عمائم ساداتهم، ويتغنون بالشعر ويرتجزون محمِّسين أنفسهم؛ فإذا تمَّ لهم النصر، عادوا بالأسلاب والسبايا فاقتسموها أنصبة، وأما الأسرى فمصيرهم إلى القتل أو يقدموا الفداء، ولا يطلقونهم إلا بعد أن يجزُّوا نواصيهم، فتُحفظ في كنائنهم لأيام المفاخرات. قال الحطيئة:
(٣-٦) معايشهم
كان عرب البادية يعتمدون في عيشهم على رعاية الإبل، ثم على الغزو والصيد وحراسة القوافل. وأما أهل الحواضر فإن وسائل الرزق اتسعت عليهم، وعرفوا أركان العمران الثلاثة: التجارة والزراعة والصناعة. وكانت اليمن في مقدمة البلاد العربية تحضرًا وخصبًا، فانبسطت تجارتها، ونمت زراعتها، وتوافرت لها الصنائع، ولا سيما الوشي والحياكة. وعرب الشمال — على بداوتهم وخشونة عيشهم — لم يحرموا التجارة في حواضرهم؛ فقد كانت مكة — في توسطها الطبيعي ومقامها الديني — محطة لقوافل اليمن والشام، وسوقًا رائجة تُعرض فيها بضائع التجار، واشتهر أهلها القرشيون برحلاتهم التجارية، فكانت لهم في السنة رحلتان: رحلة الصيف، ورحلة الشتاء. وكذلك أهل يثرب عرفوا بالتجارة، ولا سيما اليهود.
وهناك أسواق كانت تقام في أوقات معلومة للبيع والشراء، وأعظمها سوق عكاظ، وكان عرب الحيرة يتَّجرون مع الفرس، ويتولون حماية قوافلهم في عرض القفار.
وكذلك كان للزراعة شأن في بعض الحواضر الشمالية كالطائف ويثرب وخَيبر ووادي القرى وتيماء. أما الصناعة فإن الأعراب كانوا يحتقرونها ويعيِّرون صاحبها، فهم أبعد الناس عنها كما يقول ابن خلدون، ومع ذلك ألمُّوا بأشياء كالحدادة والنجارة والخياطة والصباغة، وكانت في القرى المعمورة، كمكة ويثرب والطائف.
وعلى الجملة فعرب الشمال لم يبلغوا شأو عرب الجنوب في الحضارة والأخذ بأسباب العمران، فصرفوا همهم إلى الغزو ينهبون الأموال، ويسبون النساء والأولاد، فيسترقُّونهم أو يبيعونهم في أسواق النخاسة؛ وإلى رعاية الإبل وحسن القيام على تربيتها؛ لأنها تقضي جميع حاجاتهم: تحملهم وتحمل أثقالهم، وتغذيهم بلحمها ولبنها، وتكسوهم وتبني بيوتهم بأوبارها؛ وبها يفتدون أسراهم، وعليها يقايضون في المبايعات، ومنها يؤدون المهور والديات والغرامات.
(٣-٧) أديانهم
وكانوا في جاهليتهم على أديان مختلفة، ومذاهب متعددة، يؤلهون الأصنام والكواكب، ويعبدون الله، ويخلطون المذاهب بعضها ببعض، مازجين التوحيد بالشرك، والعقائد السماوية بالعقائد الوثنية. وهم إلى ذلك ليسوا على دين ثابت، أو عقيدة مكينة، شأنهم في حياتهم المتنقلة المضطربة.
وكان اليونان والرومان قد حملوا آلهتهم إلى بادية الشام، فأخذت العرب عنهم عبادة الأصنام، وأخذت المجوسية عن الفرس، واليهودية عن الذين هاجروا من بني إسرائيل هاربين من وجه الأشوريين، ثم من وجه الرومان بعد خراب الهيكل في السنة السبعين، وأخذوا النصرانية عن الرسل الذين دخلوا مبشرين بالمسيح، ثم عن أهل الشام زمن البيزنطيين، ثم عن الحبش في غاراتهم على اليمن واستقرارهم فيها.
والكعبة مزار لأكثر القبائل، يحجونها، ويعتمرون إليها، ويُحرِمون عندها، ويطوفون حولها سبعًا، ويلثمون حجرها الأسود، ويكسونها الحلل والديباج، ويهدون إليها الهَدْي، وينحرونه متقربين، ويريقون دمه على أوثانها، ويسعون بين الصفا والمروة، ويرمون الجِمار في مِنى، وكانت السيادة لقريش دون غيرهم، فهم سَدنة البيت ورفَدته وسقاته.
ومنهم من عَبَد النار، أو قال بالثنوية، أو بالدهرية. ومنهم من أحلَّ زواج الأب بابنته. وهذه العقائد سرت إليهم من الفرس والمجوس وما عندهم من معتقدات مزدكيَّة ومانويَّة. قيل إن المجوسية كانت في تميم، وقد تزوج حاجب بن زُرارة ابنته مخالفًا سنَّة العرب، متَّبعًا سنَّة مزدك. وقيل إن الزندقة في قريش، ولعلها المانوية التي تقول بإله النور وإله الظلام، أو لعلها الدهرية التي تنكر الخالق والآخرة.
على أن العرب — مع إشراكهم وتعدُّد معبوداتهم — كانوا يميلون في جملتهم إلى التوحيد، ويتقربون إلى الله بعبادة الأصنام والكواكب كأنهم يجعلونها ذرائع للوصول إليه، ولا ريب أن اليهودية والنصرانية كان لهما يد فعالة في توجيه الفكر العربي إلى الوحدانية.
وكانت اليهودية في يثرب وفَدك ووادي القُرى وخَيبر وتَيماء واليمن؛ فمنها قبائل عبرانية استعربت كالنَّضِير وقُرَيْظة وقَيْنُقاع؛ ومنها قبائل عربيَّة تهوَّدت أو تهوَّد بعضها كحمير وكِندة وكِنانة والحارث بن كعب.
وكانت النصرانية في حوران وبادية الشام وبين النهرين والعراق والبحرين وعُمان واليمن ومكَّة والطائف، وانتشرت في قبائل ربيعة وكِندة وقُضاعة وجُذام وغسان وتميم. وكانت كعبة نجران مزارًا للمتنصرة وحرمًا كمكة لا يحلُّ انتهاكه. ولكن النصرانية التي شاعت في قبائل العرب لم تكن صافيةً خالصةً؛ لأنهم أخذوها — في الغالب — عن المبتدعة المارقين، فمنهم النساطرة القائلون بأقنومين في المسيح، وهم نصارى حوران وبادية الشام وبين النهرين واليمن، ومنهم المريميُّون، وهم الذين يؤلِّهون مريم العذراء، وقد ورد ذكرهم في القرآن؛ ومنهم الحنيفية، ومذهبهم خليط من النصرانية واليهودية، وكان منهم أُميَّة بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نُفيل.
(٣-٨) عقائدهم
كانت العرب تؤمن بوجود الجن والعفاريت، وبمخالطتها للإنس في السكنى والاستهواء والمؤاكلة والزواج، ولهم فيها شعر وأخبار كثيرة. ويؤمنون بزجر الطائر. يتفاءلون به إذا سنح، ويتشاءمون إذا برح؛ وبالكهانة والعرافة والهامة؛ ويعوِّذون أطفالهم بسنِّ ثعلب وسنِّ هرة خوفًا من الخطفة والنظرة، ويتعوذون من الجن بالأدعية وسواها، ويتطيَّرون من الغراب، كما قال النابغة:
ولهم غير ذلك عقائد كثيرة سيمر شيء منها في دراستنا لأشعارهم.
(٣-٩) علومهم
وعرفوا شيئًا من علم النجوم ومهابِّ الرياح بكثرة تتبُّعها والنظر إليها؛ لأنهم كانوا يهتدون بها في أسفارهم، ويستدلُّون على سقوط الغيث.
وكان عرب اليمن والحواضر المتاخمة أوسع علمًا وحضارةً من عرب البادية؛ لاتصالهم بالفرس والروم والسريان.
(٣-١٠) مراجع
-
المسعودي: مروج الذهب.
-
ابن الكلبي: كتاب الأصنام.
-
ابن خلدون: كتاب العبر.
-
نيكلسون: تاريخ الأدب العربي (الترجمة العربية لحسن حبشي في مجلة الرسالة المصرية).
-
نوفل الطرابلسي: صناجة الطرب.
-
ياقوت: معجم البلدان.
-
ابن خلدون: المقدمة.
-
الأب شيخو: النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية.
-
الألوسي: بلوغ الأرب.
-
جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية.
-
أحمد أمين: فجر الإسلام. (Henri Lemmens, le Berceau de l’Islam).
(٤) لغة العرب وأدبهم
(٤-١) العربيَّة
العربية هي إحدى اللغات المشتقة من الأصل السامي، وبينها وبين شقيقاتها مشابهات كثيرة. وكانت في العصر الجاهلي منقسمة على لسانين: الحِميري في الجنوب، والعدناني في الشمال، وكلاهما يغاير الآخر في أوضاعه وأحكامه، وإن تشابها في كثير من الألفاظ والتراكيب. وكان عمرو بن العلاء يقول: «ما لسان حِمير وأقاصي اليمن بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا.» وقال ابن خلدون في مقدمته: «ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في كثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها.» ويرى المستشرق نيكلسون أنَّ الحروف الهجائية في لغة الجنوب أقرب إلى الحبشية منها إلى لغة أهل الشمال.
واللسان العدناني هو الذي نستعمله اليوم في الكتابة، على ما لحقه من تحضُّر وتبدُّل، وبه جاء الأدب الجاهلي، ولم يأتِنا أدب بلسان حِمير؛ لأن لغة الجنوب فقدت سيادتها بعد كساد التجارة هناك، وسيل العَرِم في مأرب، وتشتت أهلها وهجرتهم إلى الشمال؛ ثم أفضى بها إلى الضعف غزوات الحبش والفرس ونزولهم في اليمن.
وكانت مكة بما لها من تأثير ديني وتجاري، مجتمعًا للقبائل العربية، على اختلاف لغاتها، يحضرون المواسم، ويحجون البيت، ويتقارضون الشعر. وكانت تقام الأسواق في عكاظ وغيرها، فيؤمها الناس من كل صوب، يبيعون ويشترون حتى إذا انتهوا من متاجرهم، انصرفوا إلى اللهو والطرب، فينشد شعراؤهم على مسمع من الجماهير المحتشدة، ويتناظرون ويتفاخرون.
فهذه المجامع بما لها من صبغة أدبية على حالتيها الدينية والتجارية، مشت محمودة الخطى إلى توحيد لسان عدنان. فصار الشعراء والخطباء يختارون الألفاظ التي يألفها القبائل على اختلاف لهجاتهم، ويهملون مستقبح الكلمات والانحرافات، فنشأت عن ذلك لغة أدبية مهذبة عُرفت بلغة قُريش؛ لما لتلك القبيلة من نفوذ ديني واقتصادي في مكة وعكاظ، واقتصر انحراف اللهجات أو كاد يقتصر على لغة التخاطب، وامتدَّ سلطان الأدب إلى الجنوب؛ لاختلاط القبائل بعضها ببعض في مهاجراتها وأسفارها وشهودها المواسم؛ ثم لسيادة لسان عدنان بعد ضعف لسان حِمير؛ ولذلك استطاعت وفود اليمن أن تفهم القرآن، وتجادل النبي فيه، ونزول القرآن بلغة قريش وطَّد سلطانها، وجعل كلَّ لهجة تغايرها تنهزم أمامها.
ولسان العرب في جاهليتهم يمثل حالتهم الفطرية أصدق تمثيل بما له من ثروة متسعة في الألفاظ الدالة على حياة البداوة، وحدود مرافقها المادية، وبما به من فقر إلى أوضاع تعبر عن الشئون الحضرية المتنوعة، وفوارق الحالات النفسية الدقيقة، ومختلف العلوم والآداب والفنون.
ومع أن العرب اختلطوا في أسفارهم بالأمم المتحضرة، وشاهدوا عن كثب أسباب عمرانها، لم يتأثروا بها تأثرًا بليغًا؛ لأنهم لم يطلبوا العلم عندها لما هم عليه من الأمية والبداوة، بل اجتزءوا بالبيع والشراء، فكان ما أخذوه من الألفاظ العجمية وعرَّبوه ليسدُّوا به ثلمة لغتهم، قليلًا جدًّا بالإضافة إلى كثرة حاجاتها.
والألفاظ الدخيلة على اللغة أُخذت في الغالب من الفارسية والرومية والهندية، وأكثرها يختص بالأدوات والمنسوجات والشجر والعقاقير، جاءت بها قوافل التجار وأصحاب الرحلات؛ ومن العبرانية والسريانية والحبشية، ولا سيما الألفاظ التي لها علاقة بالدين، أدخلها اليهود والنصارى الذين خالطوا العرب في الحجاز واليمن وأمصار الشام والعراق.
واللغه الجاهليَّة قوية التعبير، لا تخلو من خشونة البداوة وغرابة اللفظ، كثيرة الإيجاز، حافلة بضروب الكناية والمجاز، تسلس للشعر والوصف والاندفاعات الخطابية، ولا تلين للعلوم والآداب والفنون.
(٤-٢) الكتابة
(٤-٣) الأدب
كان الأدب الجاهلي شفهيًّا يحفظ في الذاكرة لا في الأوراق، والشعوب الفطرية أحدُّ ذاكرةً من الشعوب المتحضِّرة التي شاعت الكتابة عندها؛ لأن الشعب الذي لا يملك الكتابة لِيعتمدَ عليها في حفظ آثاره، يضطر إلى استخدام ذاكرته للحفظ، فتقوى بالاستعمال، ويسهل عليها اختزان مختلف الآثار، وتكثر الرواة في العصور الشفهية، فتقوم مقام الكتب والدفاتر.
وكان لكل شاعر في الجاهلية راوية يحفظ شعره، ويروِّيه الناس، وربما روى الشعراء بعضهم لبعض، فقد كان زهير راوية لأوس بن حجر، والحطيئة راوية لزهير. وقد تشتهر قصيدة لشاعر فترويها قبيلته، كما اشتهرت معلقة عمرو بن كلثوم، فكانت بنو تغلب تعظمها، ويرويها كبارها وصغارها.
على أن هذا النَّحل لا يجعل سبيلًا لتعميم الشك في الشعر الجاهلي، ولا سيما القصائد التي أجمع الأدباء العباسيون على روايتها، ولم يختلفوا في نسبتها إلى أصحابها. وكثير من الشعر المنحول أشار إليه النقاد الأقدمون كابن سلام والأصفهاني، وكذبوا رواته. وأما ما جاء به العلماء من الشواهد الشعرية، فإذا كان في بعضه من اصطناع فإنما هو مقتصر على أبيات متفرقة لا يتعداها إلى القصائد.
والأدب الجاهلي في معظمه قائم على الشعر؛ لأن أكثر ما جاءنا من النثر مشكوك فيه. حتي لو صحت الخطب التي خلصت إلينا، لما رأينا فيها مادة كافية للدرس، وهكذا يصح القول في الأمثال وسجع الكهان.
ولا ريب أن الحروب لها أثر بليغ في إذكاء القرائح، وعلى الأخص بعد انطفاء جذوتها، وسكون النفوس المضطربة؛ إذ لا يأتي عمل فني محكم، والنفس جائشة لا قرار لها. فإذا اطمأنت الخواطر ظهر الشعر فخرًا ومنافسةً ووصفًا للمعارك يتغنى به المنتصرون، وندبًا ورثاءً للسادة المقتولين، وحضًّا على الأخذ بالثأر، تنوح به النادبات ويترنَّم الموتورون.
على أن أسباب النهضة لم تقتصر على الحروب. فهناك هجرة اليمنيين واختلاطهم بالعدنانيين، فهذا الاختلاط في السُّكْنَى والزواج أحدث — ولا بد — تفاعلًا في الأذهان، وولَّد منافسات حزبيَّة لا نهاية لها، وكذلك الأسواق — وعلى رأسها عكاظ — فإنها استحثَّت قرائح الشعراء؛ لاحتشاد القبائل فيها للبيع والشراء، والمفاخرة والمنافرة. والشاعر عند العرب له تأثير عظيم ومقام سامٍ، فهو محامي القبيلة وخطيبها ومؤرخها، وقد يكون كاهنها أيضًا؛ لما له — في اعتقادهم — من صلة بالأرواح؛ إذ جعلوا له شيطانًا أو تابعًا من الجن يوحي إليه الشعر، ويلقنه الآراء والحِكَم والمواعظ. فهذه المنزلة الرفيعة في مجتمعه جعلته ينشط للقيام بمهمته كلما دعاه الأمر إليها. فكثر الشعر وقائلوه، وتبارت القبائل في تقريب الشعراء وإكرامهم، ولا سيما الغرباء منهم، ليمدحوهم ويشيدوا بذكرهم، وكانت قصور المناذرة والغساسنة تستقبل شعراء البادية، وتحسن لهم الصلات، فأثرت في نهضة الشعر تأثيرًا بليغًا.
ويتفق المؤرخون الأقدمون على أن الشعر نهض أولًا في ربيعة، ويعود ذلك — ولا ريب — إلى حروبها الكثيرة، سواء بينها وبين اليمن، أو بين قبيلتيها بكر وتغلب، أو بين بكر والفرس، أو بين تغلب واللخميين. ثم تحول الشعر في قيس عيلان، وعرف شعراؤها في سوق عكاظ، وفي حرب داحس والغبراء. ثم صار زمن النبوة إلى قريش والأنصار بعامل الحروب التي حدثت بين المسلمين الأُوَل والمشركين.
ولبث الشعر طوال العصر الجاهلي محصورًا في البادية لا يتنفس في خارج الجزيرة إلا بشعراء منها يقصدون الشام أو العراق لمدح الغساسنة والمناذرة، ولم يُعرف في الحيرة غير شاعر واحد هو عدي بن زيد، وأصله من عرب الجزيرة من تميم. والظاهر أن اختلاف لغة مضر عن لغة الشام والعراق — وهي غير خالصة العروبة؛ لما شابها من الآرامية — صرف الرواة المسلمين عن جمع أشعارها كما صرف اللغويين عن نقل ألفاظها وتراكيبها؛ لمخالفتها لغة القرآن، وهذا لا يمنع أن يكون بنو جفنة وبنو لخم قد عرفوا لغة مضر وفهموها، واستقدموا شعراءها إلى قصورهم وأجازوهم لكي يشيدوا بذكرهم في القبائل العربية، لحاجتهم إلى بسط سلطانهم عليها، والإفادة منها في حروبهم، فكانوا لذلك مضطرين إلى معرفة اللغة العدنانية؛ وربما استرضعوا أطفالهم في البادية ليأخذوا اللسان عن الأعراب.
(٤-٤) مراجع
-
ابن سلام: طبقات الشعراء.
-
أبو زيد القرشي: جمهرة أشعار العرب.
-
نيكلسون: تاريخ الأدب العربي.
-
المسعودي: مروج الذهب.
-
طه حسين: الأدب الجاهلي.
-
ابن خلدون: المقدمة.
-
ابن هشام: السيرة النبوية.
-
ابن قتيبة: الشعر والشعراء.
-
الألوسي: بلوغ الأرب ٢-٣.
-
جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية ١.
-
أحمد أمين: فجر الإسلام.
-
السيوطي: المزهر.
-
الأب شيخو: النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية.
هوامش
تي نفس مر القيس بر عمرو ملك العرب كله ذو أسر التاج.
وذكر الأب لويس شيخو أنه وجد أثر في حران من أعمال حوران مكتوب باليونانية والعربية، تاريخه سنة ٤٦٣ لبصرى، أي سنة ٥٦٨ للمسيح، جاء فيه أن هناك مشهدًا للقديس يوحنا المعمدان، وهذا أوله بالعربية المتنبطة: