ازدهار الشعر السياسي
(١) الأحزاب وشعراؤهم
تكلمنا على الشعر السياسي في الصدر الأول، وذكرنا الأسباب التي ساعدت على نشوئه وجعله فنًّا مستقلًا بنفسه، غير أن هذا الفن لم يتم ازدهاره إلا في الصدر الثاني؛ لأن الشعر الذي قيل في حياة النبي كان فاتحة لهذا الفن في صورته التامة، ولما قُبض الرسول أصاب الشعر السياسي شيء من الفتور كما أصاب غيره من الفنون الشعرية، فانصرف العرب إلى القرآن والجهاد، وكادوا يتناسون عصبيتهم الجاهلية، وما كان بين قبائلهم من منافرات ومخاصمات. على أن مقتل عثمان بن عفان أيقظ الفتنة من مضجعها، فاعصوصب الشر، وتفرقت الجماعة شيعًا وأحزابًا، وجرت الدماء أنهارًا بين عليٍّ وخصوم عليٍّ. ثم استقر الأمر في بني أُمية على كره من أعدائهم، فقبضوا على ناصية الملك بيد من حديد، وشددوا النكير على مناوئيهم، فأصلوهم حربًا عوانًا، فقاتلوا الشيعيين، وقاتلوا الخوارج، وقاتلوا الزبيريين حتى وطدوا دعائم دولتهم بشفار السيوف.
فهذه الأحزاب الثلاثة كانت تناوئ الحزب الأموي، والأمويون يناوئونها جميعًا، مدعين أنهم أحق بالخلافة من غيرهم؛ لأن الخليفة عثمان بن عفان الأموي قُتل ظلمًا ولم يؤخذ بثأره، فحق لهم المطالبة بدمه، والاستيلاء على الملك من بعده.
ولم يقتصر خصام هذه الأحزاب على الغزو والقتل، بل أخذ منه الشعر قسطًا كبيرًا، فكان لكل حزب شعراء يدافعون عنه ويؤيدون آراءه ويشتمون خصومه، فِعلَ الشعراء المخضرمين في الصدر الأول للإسلام.
والنعمان على مسايرته معاوية وآله كان شديد التعصب للأنصار، ولما دفع يزيد بن معاوية الأخطل لهجاء الأنصار فهجاهم بقوله:
دخل النعمان على معاوية غضبان، وأنشأ قصيدته التي يقول فيها:
ولعل من الخير أن نعرض لقصيدة النعمان بن بشير في الدفاع عن الأنصار؛ فإنها مظهر قوي لاستيقاظ العصبية في الإسلام، واشتداد الخصومة بين المضرية واليمانية، ثم ننتقل إلى درس الأخطل شاعر بني أمية الأكبر، فدرس الفرزدق وجرير، وما كان بين الثلاثة من هجاء مقذع؛ فإن الهجو في هذا العصر لم يكن مقصورًا على سياسة الأحزاب، بل تعداها إلى أغراض خاصة بالشعراء، منها ما يتصل بالعصبية القومية والمفاخرة بالآباء والجدود، ومنها ما يقصد منه إظهار قوة الشاعرية وبراعة الشاعر في هجو خصمه وإذلاله.
(٢) قصيدة النعمان
يستهلُّ النعمان قصيدته متوعدًا معاوية، ذاكرًا هجاء الأخطل للأنصار، ولكنه لا يعنى بالردِّ على شاعر تغلب، بل يجعل همته في تهديد الخليفة الأموي، ثم يفتخر عليه ويذكِّره يوم بدر وما فعلت الأنصار بقريش، ثم يختم ضاربًا على الوتر الحسَّاس الذي يُرجف وقعُه قلب السياسة الأموية، وهو مصير الخلافة إلى بني هاشم؛ لأنهم أحق بها وأولى.
فقصيدة النعمان بن بشير تظهر لنا سياسة الأنصار، ورأيهم في الخلافة، وسخطهم على الأمويين بعد أن استأثروا بها، وتظهر لنا خصوصًا سياسة النعمان في مصانعته معاوية وأبناء معاوية، وهي بما فيها من وعيد وتعيير وفخر وإنذار، تمثل ألم الأنصار لإخفاقهم في الحياة السياسية بعد أن استبدت قريش بالخلافة والسلطان، فهم ساخطون عليها لا يستثنون إلا بني هاشم آل البيت. بيد أنهم يؤثرون من الهاشميين أبناء علي، ويرونهم أحق من غيرهم بالخلافة؛ لأنهم أسباط الرسول وأبناء عمه. والنعمان بن بشير على مسايرته الأمويين، لم يشذ عن الأنصار في سياسته، بل كان يرى رأيهم، ولكنه يصانع معاوية رغبة في نواله:
ولا بد أن تُدهشك جرأة الشاعر على الخليفة، ومخاطبته إياه بتلك اللهجة الشديدة التي لا تليق بالملوك، ولا يسلم من يخاطبهم بها مهما عظم خطره. أجل، إن جرأة النعمان عجيبة غير مألوفة، ولكن أعجب منها حلم معاوية وأناته، بل سياسته ودهاؤه، فهو يعلم أن مُلكه قائم على كره من الأنصار وغير الأنصار، ولا يستطيع تأييده إلا بالحكمة والحلم وحسن تصريف الأمور. فبهذه الصفات السامية تمكن معاوية من تأسيس عرش بني أُمية وتوطيده.
فأما وقد عرفنا الآن شيئًا من الشعر السياسي الذي كان يناوئ به بني أمية خصومهم، فلننتقل إلى درس الشعر الذي كان يؤيد سياسة الأمويين ويرد على أعدائهم، إلى درس شعر الأخطل شاعر بني أُمية.
(٣) الأخطل١٠ (٧١٠م/٩٢ﻫ ؟)
(٣-١) حياته
نشأ الأخطل في قبيلة عزيزة الجانب شديدة البأس، حافل تاريخها بالمفاخر الكثيرة حتى قيل: «لو تأخر الإسلام لأكلت بنو تغلب الناس.» وكانت تدين بالنصرانية؛ فلما ظهر الإسلام وانتحله العرب، أبت تغلب أن تنزل عن دينها، ورضيت بالجزية تدفعها، فأقرَّها عمر بن الخطاب على نصرانيتها، وكانت منازلها في الجزيرة والعراق، فترعرع الأخطل مَزْهوًّا بمناقب قومه، حافظًا أخبارهم وأيامهم، يُعِد منها ذخائرَ وأُهبًا لشاعريته التي بدأت تظهر منذ نعومه أظفاره.
(٣-٢) حرب قيس وتغلب
(٣-٣) تمسك الأخطل بدينه
وقيل: كانت امرأته حاملًا، فمرَّ بها الأسقف يومًا، فقال لها: «الحقيه فتمسحي به.»
ومر بالكوفة في بني رؤاس ومؤذنهم ينادي بالصلاة، فقال له بعض فتيانهم: «ألا تدخل أبا مالك فتصلي؟» فقال:
وسمع هشامُ بن عبد الملك الأخطلَ يقول:
وعرض عليه عبد الملك الإسلام مرارًا، فكان يتخلص في جوابه إلى الهزل فِعْلَ من لا يريد أن يسيء إلى رجل أحسن إليه وآثره على جميع الشعراء المسلمين، ومن ذلك ما روي أن عبد الملك قال له يومًا: «لمَ لا تُسْلِم يا أخطل؟» قال: «إن أنتَ أحللتَ لي الخمر ووضعت عني صوم رمضان أسلمت.» فقال له عبد الملك: «إن أنتَ أسلمتَ ثم قصرت في شيء من الإسلام ضربتُ الذي فيه عنقك.» وقال له مرة: «ألا تُسلم فنفرض لك ألفين في عطائك، وتوصل بعشرة آلاف درهم؟» قال: «فكيف بالخمر؟» قال: «وما تصنع بها وإن أولها لَمُر وإن آخرها لَسُكْرٌ؟» قال: «أما أن قلت ذاك، فإن بينهما لمنزلة ما مُلكك فيها إلا كلعقةٍ من ماء الفرات بالإصبع.» فضحك عبد الملك.
(٣-٤) حبه الخمر
على أن الأخطل لم يكن كاذبًا في حبه الخمر، وإن قصد الهزل وحسن التخلص في جعله إياها حائلًا دون إسلامه، فقد أحبها كثيرًا وبالغ في شربها ووصفها بشعره، يوم كان الشعراء المسلمون في كثرتهم يعرضون عن ذكرها فَرَقًا من السلطان أو تورعًا من وصف شيء نهى عنه القرآن، وكان يرى أنها تنعش الفؤاد وتنطق الشعراء؛ وربما دعا غَيرَه إلى شربها لتجويد قريحته كما فعل بالمتوكل الليثي إذ سمع شعره فقال له: «ويحك يا متوكل، لو نَبَحَت الخمر في جوفك كنت أشعر الناس.»
وهذه الرواية على علاتها لا تقتصر على إظهار حب الأخطل للخمر بل تظهر لنا أيضًا دالته على عبد الملك بن مروان.
(٣-٥) حرمة الأخطل
ولا نعجب لدالة الشاعر النصراني على الخليفة المسلم حتى ليبلغُ به الأمر أن يستقيه الراح، فلقد كان الأخطل موفور الحرمة عند عبد الملك، مقربًا إليه دون سائر الشعراء، وكان يدخل عليه بغير إذن ولحيته تنفض خمرًا، والشعر هو الذي جعل للأخطل هذه الكرامة، فقد كان الخلفاء الأمويون مضطرين إلى اصطناع شعراء فحول يقاومون خصومهم، وكان الأخطل شاعرًا فحلًا يجيد مدح الملوك ويجيد الهجاء، فاصطنعه بنو أُمية ورموا به أعداءهم فسقط عليهم سقوط الداهية الدهياء، وأولع عبد الملك بشعره ولعًا عظيمًا فرفع قدره، ووالى نعمه عليه ولقبه بشاعر بني أُمية وشاعر أمير المؤمنين وأشعر العرب.
وقد بلغت الدالة بالأخطل أن يخاطب عبد الملك بقوله:
ثم بقوله:
ولم تكن دالته تقف عند هذا الحد؛ بل كانت تدفعه إلى التدخل في سياسة الخلافة من عقد صلح أو مجاهرة بعداء، فهو لا يقنع في شعره السياسي بالدفاع عن بني أُمية وهجو أعدائهم، ولكنه يطمح إلى أبعد من ذلك، إلى التأثير في مجرى السياسة الأموية، أي إلى الفائدة الأدبية مقرونة بالفائدة المادية، وربما سخَّر سياسة الخليفة لمصلحة قومه بني تغلب.
(٣-٦) الأخطل وزُفَر بن الحارث
وحسبك أن تعلم خبره مع زُفَر بن الحارث؛ لتتبين مبلغ دهائه السياسي، وتدخله في شئون الخليفة لمصلحة قبيلته، وزُفَر هذا رئيس القيسية، وكان قد أوقع بالتغلبيين في بعض الأيام، وتحزَّب لعبد الله بن الزبير على بني أُمية، ثم انقاد لهم بعد عصيانه، فقربه عبد الملك بغية استمالة قومه. فدخل ابن ذي الكلاع يومًا على الخليفة فرأى زفر معه على السرير فبكى، فقال له عبد الملك: «ما يبكيك؟» فقال: «يا أمير المؤمنين، وكيف لا أبكي وسيف هذا يقطر من دماء قومي في طاعتهم لك وخلافه عليك، ثم هو معك على السرير وأنا على الأرض!» قال: «إني لم أجلسه معي أن يكون أكرم علي منك، ولكن لسانه لساني وحديثه يعجبني.» فبلغت الأخطلَ وهو يشرب فقال: «أما والله لأقومن في ذلك مقامًا لم يقمه ابن ذي الكلاع!» ثم خرج حتى دخل على عبد الملك فلما ملأ عينه منه قال:
فقال عبد الملك: «ما أخرج هذا منك يا أبا مالك إلا خطة في رأسك!» قال: «أجل والله يا أمير المؤمنين حين تُجلِس عدو الله هذا معك على السرير، وهو القائل بالأمس:
فقبض عبد الملك رجله ثم ضرب بها صدر زُفَر فقلبه عن السرير، وقال: «أذهبَ الله حزازات تلك الصدور.» وكان زفر يقول: «ما أيقنتُ بالموت قط إلا تلك الساعة حين قال الأخطل ما قال.»
(٣-٧) تهاجي الأخطل وجرير
قال ابن سلام وغيره: لما بلغ الأخطل تهاجي جرير والفرزدق قال لابنه مالك: «انحدر إلى العراق حتى تسمع منهما وتأتيني بخبرهما.» فانحدر مالك حتى لقيهما وسمع منهما ثم أتى أباه، فقال له: «كيف وجدتهما؟» قال: «وجدت جريرًا يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر.» فقال الأخطل: «فجرير أشعرهما.» ثم قال:
فرد عليه جرير بقوله:
ثم استطار بينهما الهجاءُ واضطرمت نار العداوة، وأخبارهما كثيرة.
(٣-٨) موت الأخطل
ورب معترض يقول إن الأخطل مدح عمر بن عبد العزيز بأبيات مثبتة في ديوانه، ونحن لا ننكر ذلك، ولكننا نعلم أنه لم يمدحه بها وهو خليفة، بل مدحه وهو أمير من أمراء بني أمية ومدح معه أخاه أبا بكر فخصه بالقسم الأوفر من أبياته، ولم يذكر عمر إلا في البيت الأخير حيث يقول:
ومما يدلنا على أن الأخطل مات في خلافة الوليد ما رواه صاحب الأغاني من أن الوليد بن عبد الملك قال لجرير يومًا: «فما تقول في الأخطل؟» قال: «ما أخرج لسانُ ابن النصرانية ما في صدره من الشعر حتى مات.»
(٣-٩) آثاره
(٣-١٠) ميزته
كان الأئمة الأقدمون يشبهون الأخطل بالنابغة لصحة شعره، ولكننا نرى أن الصلة بين الشاعرين أقوى من ذلك، فكلاهما شاعر بلاط خص مدائحه بالملوك وحظي عندهم، وكلاهما أجاد المدح وتفنن في معانيه، بيد أن الأخطل كان يتوكأ أحيانًا على الشاعر الجاهلي، وتجد آثار هذا التوكؤ ظاهرة في مدحه وفي وصفه الثور الوحشي. فالأخطل يشبه النابغة بصحة شعره وبأشياء أخر — كما سترى — ولكنه ينفرد عنه بموقفه السياسي في المدح والهجاء. فالصفة السياسية هي الخاصة البارزة في الأخطل سواء كان مادحًا أو هاجيًا. فينبغي لنا أن ندرسه الآن شاعرًا سياسيًّا، ثم نلم بما بينه وبين النابغة من صلة، ونعرض لخاصته في وصف الخمر، فهو أشهر وصَّافيها في صدر الإسلام.
(٣-١١) شعره السياسي — المدح والهجاء
كان الأخطل يعلم أن الأمويين يهمهم أن يعرف لهم الناس حقهم بالخلافة، وكان يعلم أيضًا أنهم يستندون في تأييد هذا الحق إلى مقتل عثمان بن عفان زاعمين أنهم ورثته وأن لهم الحق بأن يطالبوا بدمه. فتراه إذا عرض للخلافة رمى إلى هذا الهدف، كقوله:
ويختمها مخاطبًا يزيد بن معاوية:
وإذا عرض لمدحهم وصفهم بأحسن ما توصف به الملوك، ثم انبرى إلى هجو القيسية أنصار الزبيريين وأعداء قبيلته فقذفهم بهجاء مقذع أليم، وهجا معهم أحلافهم بني كليب قوم جرير، ولعلَّ العداء السياسي هو الذي أثار الهجاء بين الشاعرين وجعله حامي الوطيس.
ويحسن بنا أن نعتمد في إظهار ميزة الأخطل على رائيته الشهيرة أولًا، ثم على غيرها من شعره. فإن الرائية تكاد تشتمل على أكثر خصائصه تفكيرًا وتعبيرًا، ومطلعها:
وهذه القصيدة من النقائض قالها في عبد الملك بن مروان بعد فتحه العراق وانتصاره على مصعب بن الزبير.
ولا يقصر مدحه على الخليفة بل يعنيه أن ترضى عنه أمية كلها، فإذا مدح أميرًا منها لا يغفل عن تخصيص جانب من مديحه بأسرته الأموية، وحُقَّ له أن يفعل ذلك وهو مقرب إليها جميعًا، واقف شعره للدفاع عنها، والإشادة بمكارمها، حتى إذا أرضى الخليفة وأرضاهم جميعًا يفرغ إلى نفسه وإلى قومه فيذكر ما لهم من الأيادي البيض على الأمويين، ويدس خلال ذلك رأيه السياسي لمصلحة قبيلته، فيحرِّض عبد الملك على إقصاء زُفر بن الحارث وترك الوثوق به.
فإذا تم له ما أراد من مدح وغرض سياسي يرمي إليه، انصرف إلى هجاء قيس عَيلان وأحلافهم الكليبيين قوم جرير، فيقذفهم بحميم من لواذع أقواله، وإذا أفحش لا يتورط في الخنى تورُّط جرير والفرزدق، بل يجعل همته في تعييرهم ووصف هزيمتهم، وما لقوا من مذلة وهوان. فيبدو لنا حينئذٍ مؤرِّخًا وسياسيًّا دقيق النظر يلقي الذنب على أعدائه الذين كفروا نعمة الخليفة فجازاهم بكفرهم، ونرى فيه مصوِّرًا بارعًا للحرب وللجيش عند الهزيمة والانكسار.
فبمثل هذا الهجاء المؤلم الممضِّ كان الأخطل يرمي أعداءه القيسيين، ويرمي جريرًا وقوم جرير فيجعلهم خشارة تميم بل خشارة مضر أجمعين، وينفِّر عليهم أبناء عمهم من دارم قبيلة الفرزدق:
وأشد الهجاء إقذاعًا عند العرب أن تُفضِّل قومًا على قوم ولا سيما إذا كانوا إخوانًا أو أبناء أعمام. فبنو نُمير لم يضعهم إلا قول جرير فيهم:
ونُمير وكعب وكلاب ثلاثة أبطن من عامر بن صعصعة، وقلما تخلو قصيدة للأخطل في جرير من مدح بني دارم وتفضيلهم على بني كليب بن يربوع:
وهو وإن مدح دارمًا وأطنب في ذكرهم، لا يغفل عن الافتخار بقومه بني تغلب وتعداد مآثرهم. فقد فاخر بهم وهو يمدح الخليفة، فأحرِ به أن يفاخر جريرًا عندما يريد هجو جرير:
(٣-١٢) صلته بالنابغة
فأما وقد عرفنا ما للشاعر السياسي من ميزة في المدح والهجاء وخصائص في التفكير والتعبير، فينبغي لنا أن نلتفت إلى تلك الصلة الوثيقة التي تربطه بالنابغة حتى جعلت الأدباء الأقدمين يشبهونه به، فليست هذه الصلة مقصورة على صحة شعره — كما ذكرنا — بل تتعداها إلى المعاني والتعابير، وقد تقع على بعض الأساليب فما تدري أشِعر النابغة تقرأ أم شعر الأخطل.
ونحن قبل أن نشرع في إظهار هذه الصلة نسلم أن شاعر أمية يمتاز في صحة شعره ورونق ألفاظه وتخير معانيه، كما امتاز في ذلك صاحبه النابغة؛ ولا بدع أن تظهر هذه الميزة على شعر الأخطل، فهو من الذين يتنخلون قوافيهم ويثقفون متونها، فقد حدثنا الرواة أنه كان يختار أجود ما ينظم، فإذا اجتمع له تسعون بيتًا انتخب منها ثلاثين؛ وأنه أقام سنة في مدحته: «خفَّ القطين …» ولكن هذه الصلة لا تكفي لتشبيهه بالنابغة؛ لأن صحة الشعر لا تجعل وجهًا حقيقيًّا للشبه، فعلينا أن نلتمس هذه الصلة في أسلوب الشاعر وفي ألفاظه ومعانيه.
وقد ذكرنا أن الأخطل يمتُّ إلى النابغة بصلة أدبية اجتماعية، فكلاهما مدح الملوك وحظي عندهم، ولعل هذه الصلة هي التي حملت الشاعر الإسلامي على النظر إلى صاحبه الجاهلي فأغار على بعض أساليبه في المدح ووصف الوحوش، مثال ذلك قوله:
ولا بد أنك تذكر هذه الصورة الشعرية في دالية النابغة التي اعتذر بها إلى النعمان؛ فالأسلوب واحد والألفاظ والمعاني متواطئة في أكثرها، وقد أُولع الأخطل بهذه الصورة فرددها غير مرة، فأنت تجدها في قصيدة أخرى إذ يقول:
وتجدها أيضًا في قصائد أُخر لا نرى حاجة إلى ذكرها، ولا بدع أن يكثر الأخطل من هذه الصورة الاستطرادية في شعره، فإنها منطبعة على مخيلته، وهو وإن يكن واطأ فيها النابغة فتكراره لها يدل على تأثيرها في نفسه، وهذا التأثير لم يحدثه شعر النابغة وحده، بل شاركه فيه نشوء الشاعر في الجزيرة على شط الفرات يشاهد أمواجه المتلاطمة ويسمع زمزمتها وهديرها، ونحن نعتقد أن نشأة الشاعر لها اليد الطولى في إثبات هذه الصورة بمخيلته؛ ولذلك أكثر من إيرادها وتفنن فيها فأبرزها لنا بأشكال جميلة مختلفة، ولكنه لا يُعد مبتكرًا لها بل كان مقلدًا. وكذلك وصفه الثور الوحشي فإنه يذكرك النابغة، وتتمثل لك رائيته التي يعدُّها بعضهم من المعلقات؛ فقد جاراه في البحر والقافية وترسَّم أسلوبه ناسجًا على منواله، وواطأه في معانيه وألفاظه.
فحسبك أن تراجع وصف الثور في رائية النابغة حتى تعلم مبلغ تأثر الأخطل له، ولشاعر أُمية قصائد غير هذه يصف بها الثيران وهي في أكثرها متشابهة الأسلوب، على أنها جعلت صاحبها أشهر وُصَّافي الوحش في الإسلام.
(٣-١٣) وصف الخمر
كان الأخطل سكِّيرًا يدمن الشراب ولا يجد عنه صبرًا فلا عجب أن تفوح رائحة الخمر من شعره، كما فاحت قبله من شعر الأعشى، فيسمعنا في وصفها ما تنطق به نفسه النشوى، وما تنطق النفس إلا عن هوى. وقد عرفنا في درسنا الأعشى أن الأخطل أخذ عنه بعض معانيه في الخمر؛ ولكن الشاعر الإسلامي لم يقف في وصفها عند حد الشاعر الجاهلي بل تخطاه بعيدًا، وأدخل على الشعر الخمري شيئًا جديدًا لم نعهده في الجاهلية. فهو أول من تفنن في وصف السكران. وأحسن تصوير دبيب الخمر في الأجسام، وشبَّه زقاق الخمر برجال من السودان عراة، ولسنا ننكر أن الأعشى وصف السكارى وصوَّر حالتهم، غير أن الأخطل كان في ذلك أكثر فنًّا وإبداعًا، وإليك وصفه للسَّكران:
ثم يصف زقاق الخمر فيقول:
ويصف تعبُّد الشَّرب لها فيقول:
ويصف مجلس الشراب والمغني فيوجز ولا يتعدى ما يقوله فيهما الأعشى:
ويصف فعلها في العظام فيرينا صورة رائعة لم يُسبق إليها:
فما أبدع هذا التشبيه الذي يصور لنا تمشي الخمرة في المفاصل، وما أجدر لفظة الدبيب بتأدية هذا المعنى، ولا شك في أن أبا نواس نظر إلى هذا البيت حين يقول:
ويشربها فلتذع لسانه فيخيل إليه أنه مصاب بالحمى فيقول:
وتهزه نشوتها فيناله منها زهو وخيلاء، فيقول:
أو يقول:
وقصارى القول إن الأخطل أحبَّ الخمر كما أحبَّها الأعشى ووصفها مثله، ولكنه وصف شاربها وتأثيرها فيه بما لم يسبقه إليه شاعر قبله.
(٣-١٤) منزلته
عدَّه ابن سلام في الطبقة الأولى بين الشعراء الإسلاميين، وكان حمَّاد الراوية يفضله على جرير والفرزدق فإذا سُئل عنه قال: «ما تسألوني عن شاعر حبَّب شعره إلي النصرانية!» وسأل جريرًا ابنُه: «يا أبتِ أأنتَ أشعر أم الأخطل؟» فقال: «يا بني أدركتُ الأخطل وله ناب، ولو أدركته وله ناب آخر لأكلني.» وقال فيه أيضًا: «الأخطل يجيد نعت الملوك ويصيب صفة الخمر.» وقال عبد الملك للفرزدق: «من أشعر الناس في الإسلام؟» فقال: «كفاك بابن النصرانية إذا مدح.» وقال الأصمعي وذكر جريرًا: «كان ينهشه ثلاثة وأربعون شاعرًا، فينبذهم وراء ظهره ويرمي بهم واحدًا واحدًا، وثبت له الفرزدق والأخطل.» وقال صاحب الأغاني في جرير: «هو والفرزدق والأخطل المقدمون على شعراء الإسلام الذين لم يدركوا الجاهلية جميعًا، ومختلَف في أيهم المتقدم ولم يبقَ أحد من شعراء عصرهم إلا تعرض لهم، فانفضح وسقط وبقوا يتصاولون.» وأخبر أبو عبيدة قال: «جاء رجل إلى يونس فقال له: «من أشعر الثلاثة؟» قال: «الأخطل.» قلنا: «من الثلاثة؟» قال: «أي ثلاثة ذكروا فهو أشعرهم.» فقيل له: «وبأيِّ شيء فضَّلوه؟» قال: «بأنه كان أكثرهم عدد قصائد طوال جياد ليس فيها سقط ولا فحش، وأشدهم تهذيبًا للشعر.» وسأل سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز: «أجرير أشعر أم الأخطل؟» قال: «إن الأخطل ضيَّق عليه كفره القول، وإن جريرًا أوسع عليه إسلامه قوله، وقد بلغ الأخطل منه حيث رأيت.» فقال له سليمان: «فضَّلت والله الأخطل.» وكان أبو عبيدة يقول: «شعراء الإسلام ثلاثة: الأخطل ثم جرير ثم الفرزدق.» وكان أبو عمرو يفضل الأخطل ويشبهه بالنابغة لصحة شعره، ويقول: «لو أدرك الأخطل يومًا واحدًا من الجاهلية ما فضلت عليه أحدًا.» وقال أبو عبيدة أيضًا: «الأخطل أشبه بالجاهلية وأشدهم أسر شعر وأقلهم سقطًا.» وحدث عمر بن شَبَّة قال: «كان مما يُقدَّم به الأخطل أنه كان أخبثهم هجاء في عفاف من الفحش.» وقال الأخطل: «ما هجوت أحدًا قط بما تستحي العذراءُ، أن تنشده أباها.» ولقبه عبد الملك بشاعر أمير المؤمنين، وشاعر بني أمية، وأشعر العرب.
والأقوال في الأخطل كثيرة متضاربة، نكتفى منها بهذا القدر الذي يدلنا على ما لشاعرنا من منزلة رفيعة عند الأقدمين، وبوسعنا أن نعتمد على بعضها في إظهار ميزة الشاعر وفضله على أقرانه. فقد رأيت أن علماء اللغة كأبي عمرو وأبي عبيدة ويونس وحماد كانوا يفضلون الأخطل ويشبهونه بشعراء الجاهلية، ولهذا التفضيل سبب: وهو أن هؤلاء الأئمة وغيرهم كانوا يميلون إلى جزالة اللفظ وشدة الأسر، فراقهم في الأخطل فخامة شعره أكثر من رقة شعر جرير وطبعه، وكانوا يغارون على صحة اللغة ويستنكرون اللحن ففضَّلوا الأخطل على الفرزدق؛ لأنه أصح شعرًا وأبعد به من الساقط المرذول، وكانوا معجبين بالسبع الطوال وغيرها من الشعر الجاهلي، فأحبوا الأخطل لطول نفَسه ومتانته. وكانوا يعدُّون له عشر قصائد طوال جياد ليس فيها سقط، وعشرًا غيرها إن لم تكن مثلها فليست بدونها؛ ولما يجدوا لجرير بهذه الصفة إلَّا ثلاثًا، وأجمعوا — أو كادوا — على أن الأخطل أحسنهم مدحًا، وشهد له الفرزدق بذلك.
ونحن نرى أنه لا يقل في الهجاء عن جرير، وإن قل عنه فحشًا، فهو في هجوه لاذع مؤلم؛ وإذا درسنا «نقائض جرير والأخطل» وموقف الشاعرين في ذلك العصر نعلم مبلغ براعة الشاعر التغلبي في هذا الفن. فالأخطل دخل بين جرير والفرزدق بعد أن أسن ونفد أكثر عمره، ومن المعلوم أن شاعرية الشيوخ أضعف من شاعرية الشباب، ولكن الأخطل على كبره استطاع أن يقاوم فحلًا من مضر هابته فحول الشعراء في الإسلام.
وإذا نظرنا إلى قول عمر بن عبد العزيز بدا لنا فضل الأخطل في مقارعته جريرًا، فقد قال عمر لسليمان بن عبد الملك: «إن الأخطل ضيق عليه كفره القول، وإن جريرًا أوسع عليه إسلامه قوله، وقد بلغ الأخطل منه حيث رأيت.» وهذا ما نستطيع أن نتبينه في تهاجي الشاعرين، فإن جريرًا يجول في عرض الأخطل جيئة وذهابًا فيناله من دينه ويعيره نصرانيته ويفتخر عليه بالإسلام، ويناله من قبيلته فينهش أعراض تغلب، وأعراض ربيعة بن نزار جميعًا، وأما الأخطل فلم يكن يجرؤ أن يقابل جريرًا بالمثل فيطعنه في ديانته وهو في كنف دولة إسلامية عزيزة الجانب، ولو حدَّثته نفسه بذلك لما سلم الذي بين كتفيه، وإن يكن شاعر بني أمية وشاعر أمير المؤمنين. وكان يقتصر على هجو كليب قوم جرير الأدنين فلا يجاوزهم إلى بني تميم، وهم قبيلة صاحبه الفرزدق وأخوال بني قريش، ولا يتناول مضر بكلمة سوء لأن قريشًا من مضر والنبوة والخلافة في قريش. فأنت ترى أن نطاق الأخطل كان ضيِّقًا في هجو جرير، وهذا ما أشار إليه عمر بن عبد العزيز في قوله: «إن الأخطل ضيَّق عليه كفره القول.» ويروي لنا صاحب الأغاني أن رجلًا من بني شيبان جاء إلى الأخطل فقال له: «يا أبا مالك إن لك عندي نصحًا.» قال: «هاته فما كذبت.» فقال: «إنك قد هجوت جريرًا ودخلت بينه وبين الفرزدق وأنت غني عن ذلك، ولا سيما أنه يبسط لسانه بما ينقبض عنه لسانك، ويسب ربيعة سبًّا لا تقدر على سب مضر بمثله، والملك فيهم والنبوة قبله، فلو شئت أمسكت عنه.» فقال: «صدقت في نُصحك وعرفتُ مرادك فوالصليب والقربان، لأتخلصن إلى كليب خاصةً دون مضر بما يلبسهم خزيه ويشملهم عاره، ثم اعلم أن العالم بالشعر لا يبالي، وحق الصليب، إذا مر به البيت السائر الجيد أمسلمٌ قاله أم نصراني!»
فالأخطل إذًا لم يكن مطلق العنان فيتصرف في هجو جرير تصرُّف جرير في هجوه، ومع ذلك فقد بلغ من خصمه مثل ما بلغ خصمه منه، وكان في هجائه فتاكًا ممضًّا فلم يترك شائنة إلا رمى بها بني كليب ورهط جرير.
وجماع القول إن الأخطل شاعر لعوب بالألفاظ والمعاني، وله في الابتكار باع طويل، وهو مبدع في مدحه وهجائه، متفنن في وصف الخمر، مقدَّم في الشعر السياسي على سائر الشعراء في صدر الإسلام.
(٤) الفرزدق٦٧ (٧٣٢م/١١٤ﻫ)
(٤-١) حياته
قيل: إنه اشترى ثلاثمئة وستين موءودة كل واحدة منهن بناقتين وجمل، وأُم الفرزدق ليلى بنت حابس أخت الصحابي الأقرع بن حابس.
ونظم الفرزدق الشعر صغيرًا فجاء به أبوه إلى الإمام علي وقال: «إن ابني هذا من شعراء مُضر فاسمع منه.» قال: «علِّمه القرآن.» فلما كبر الفرزدق تعلمه وهو مقيَّد لئلا يلهو عنه.
(٤-٢) تشيُّعه
وكان يتشيَّع لعلي وأبناء علي ويجاهر بحبه لهم، وإذا مدحهم تدفق شعره عاطفة وحماسة، فما ترى فيه أثرًا لتكلف المادح المتكسب، وخير دليل على صدق موالاته آل البيت قصيدته في زين العابدين، فهي من أبلغ الشعر وأخلصه عاطفة؛ أنشدها في وجه هشام بن عبد الملك لما حجَّ على عهد أبيه وطاف بالبيت، وجهد أن يستلم الحجر الأسود فلم يبلغه لكثرة الزحام، فنُصب له كرسي وجلس عليه ينظر إلى الناس وحوله جماعة من أهل الشام. فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان من أجمل الناس وجهًا، فطاف بالبيت حتى إذا انتهى إلى الحجر انشقت له الصفوف ومكنته من استلامه. فقال رجل من أهل الشام لابن عبد الملك: «من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟» فقال هشام: «لا أعرفه.» وخاف أن يذكر اسمه فيرغِّبهم فيه، وكان الفرزدق حاضرًا فقال: «أنا أعرفه.» فقال الشآمي: «ومن هو يا أبا فراس؟» فقال كلمته:
فغضب هشام فحبسه بين مكة والمدينة فهجاه الفرزدق بقوله:
فبلغ شعره هشامًا فأمر بإطلاقه خوفًا من لسانه.
(٤-٣) اتصاله بالأمويين
على أن تشيُّعه لآل البيت لم يصرفه عن التقرب إلى الأمويين، فمدحهم رهبةً منهم أو رغبةً في نوالهم، وأكثر مدائحه في سليمان بن عبد الملك، ولكنه لم ينل حظوة الأخطل عندهم ولا استقام له أن يمدحهم بمثل شعره. فهم كانوا يعلمون موضع هواه، وهو كان يتكلف مدحهم على كره منه، وربما مرت به ساعة لا يستطيع فيها أن يسخر عاطفته، فيدعوه الخليفة إلى مدحه فما يطيق ذلك، فيعمد إلى الافتخار بنفسه، فعله في حضرة سليمان بن عبد الملك لما استنشده فيه أو في أبيه فأنشده مفتخرًا عليه:
فتبين غضب سليمان، وكان نُصَيْبٌ الشاعر حاضرًا فأنشده أبياتًا يمدحه بها، فقال الخليفة: «يا غلام أعطِ نُصَيْبًا خمس مئة دينار، وألحِق الفرزدق بنار أبيه.» فخرج الفرزدق مُغْضَبًا يقول:
وقد يمدح عُمَّال بني أمية ثم يهجوهم إذا وجد سبيلًا إلى هجوهم، أو يهجوهم ثم يمدحهم إذا خشي شرهم. فقد رثى الحجَّاج بقوله:
فلما بويع بالخلافة سليمان بن عبد الملك بعد أخيه الوليد مدحه الفرزدق، وهجا الحجَّاج وقومه؛ فقيل له: كيف تهجوه وقد مدحته؟ فقال: «نكون مع الواحد منهم ما كان الله معه، فإذا تخلَّى منه انقلبنا عليه.»
وهجا آل المهلَّب فسخطوا عليه، فلما ولَّى سليمانُ بن عبد الملك يزيدَ بن المهلَّب خراسان والعراق خاف الفرزدق فمدحهم. فلا تعجب إذًا أن ترى الفرزدق مجفوًّا على سمو قدره في دولة الشعر، فبنو أمية وعمالهم لم يطمئنوا إلى ولائه ولطالما نالوا منه فحبسوه أو أبعدوه، وإذا أجازوه أحيانًا فتقيَّة للسانه أو رغبة في شعره ليمدحهم به.
(٤-٤) الفرزدق الطريد
وكَان خبث لسانه وتعهره يساعدان أولي الأمر على أذيته، فإذا هجا قومًا أو نال من حرماتهم، استعدوا عليه السلطان، فيطارده فيفر من وجهه، أو يحبسه أو ينفيه فيكفي الناس شرَّه ولو إلى حين.
ويحدثنا صاحب الأغاني أن الفرزدق كان يهاجي الأشهب بن رُمَيْلة النهشَلي وبني فُقَيم وكلاهما من دارم؛ فاستعدوا عليه زياد ابن أبيه وهو على البصرة من قِبَل معاوية، ففرَّ الفرزدق إلى المدينة مستجيرًا بعاملها سعيد بن العاص فأمَّنه. ثم ولي المدينة مروان بن الحَكَم فعلم أن الفرزدق يشرب الخمر ويدخل إلى القيان، فدعاه وتوعده وقال: «اخرج عني»، فعزم على الشخوص إلى مكة، فكتب مروان إلى بعض عماله ما بين مكَّة والمدينة بأن يصله بمئتي دينار، فارتاب بكتاب مروان فجاء إليه يقول:
ثم رمى بالصحيفة، فضحك مروان وقال: «ويحك إنك أميٌّ لا تقرأ، فاذهب بها إلى مَن يقرؤها ثم ردَّها حتى أختمها.» فذهب بها، فلما قُرئت له إذا فيها جائزة فردَّها إلى مروان فختمها.
وظل الفرزدق طريدًا عن البصرة حتى هلك زياد.
(٤-٥) خبره مع النوار
فشكته إلى جرير فهجاه وهجا حدراء.
ولم يطب للنوار عيش في كنف الفرزدق، فظلت ترققه وتستعطفه حتى أجابها إلى طلاقها، وأخذ عليها ألا تفارقه ولا تبرح من منزله ولا تتزوج رجلًا بعده، ولا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له، وأخذت عليه أن يُشهد الحسن البصري على طلاقها ففعل وطلقها ثلاثًا، ثم ندم وتحسَّر، وله فيها شعر كثير منه:
(٤-٦) جبنه
وكان الفرزدق على إعجابه بنفسه ومباهاته بأصله شديد الجبن لا يقاتل إلا بلسانه، وكان خصومه يتخذونه من جبنه ذريعة للضحك به والتشفي من غيظهم، وله معهم أخبار كثيرة نكتفي بواحدة منها رواها أبو عُبيدة عن رؤبة بن العَجَّاج قال: حج سليمان بن عبد الملك وحجَّت الشعراءُ معه، فلما جاء المدينة تلقوه بنحو أربع مئة أسير من الروم، فقعد يدفعهم إلى الوجوه وإلى الناس فيقتلونهم حتى دفع إلى جرير رجلًا منهم فدسَّت إليه بنو عبس سيفًا قاطعًا فضربه فأبان رأسه، ودفع إلى الفرزدق أسيرًا فلم يجد سيفًا فدسوا إليه سيفًا كليلًا فضرب الأسير فلم يصنع شيئًا، فضحك القوم به ومن سوء ضربته، وشمت بنو عبس، فغضب الفرزدق وأنشأ يقول:
وقال أيضًا:
ثم مضى وهو يقول:
فشمت به جرير وعيَّره بقوله:
فرد عليه الفرزدق بقوله:
(٤-٧) الفرزدق وجرير
وكان السبب في تهاجي الفرزدق وجرير أن شاعرًا من بني يَربوع يقال له غسَّان السليطي هجا جريرًا فرد عليه جرير فأخزاه، فشكا آل يَربوع إلى البَعيث المجاشعي قهر جرير صاحبهم، فجعل البعيث يقول: «وجدنا الشرف والشعرَ في بني النوار بنت مجاشع.» فبلغ ذلك جريرًا فهجا البَعيث وقومه، فجاء البعيث إلى بني الخطفي رهط جرير، وقال: «يا قومِ عَجِلْتُم عليَّ.» فقالوا: «بلغنا عنك أمر فإن شئت قُلت كما قلنا، وإن شئت صفحت.» فقال: «بل أصفح.» فأقام مجاورًا لهم ثلاث سنين ثم إنه فارقهم راضيًا، فقدم على ناس من بني مجاشع فسألوه عن بني الخطفي فأثنى عليهم خيرًا، فقال رجل منهم: «لحُسن ما جازيتهم على الذي قالوا لك.» ثم أنشده قول جرير فيه، ولم يزالوا به حتى أغضبوه، فهجا بني كليب. فقالت بنو كليب لعَطاء بن الخطفي: «اركب إلى بني مجاشع واستنههم من أنفسهم فقد قالوا كما قيل لهم.» فأتاهم عطاءٌ فقال: «أي بني مجاشع الإخوة والعشيرة، وقد قلتم كما قيل لكم فانتهوا عنا.» فأبى البعيث إلا هجاءهم. فلحم الهجاء بين جرير والبعيث فسقط غسان. ثم استطال جرير وأفحش القول في نساء مجاشع. فضجَّ البعيث إلى الفرزدق، وهو يومئذ بالبصرة، وقد قيَّد نفسه وآلى ألا يفك قيده حتى يقرأ القرآن، وأقبلت عليه نساء مجاشع وقلن له: «قبح الله قيدك وقد هتك جرير عورات نسائك فلحُيت شاعر قوم!» فأحفظنه ففض قيده وقال:
وهجا الفرزدق البعيث لعجزه عن مقاومة جرير فسقط البعيث. قال ابن سلام: «ولجَّ الهجاءُ بين جرير والفرزدق نحوًا من أربعين سنة لم يغلب واحد منهما على صاحبه، ولم يتهاجَ شاعران في الجاهلية ولا في الإسلام بمثل ما تهاجيا به.»
(٤-٨) موته
يحدثنا صاحب الأغاني أن لَبَطَة بن الفرزدق قال: «إن أباه أصابته ذات الجنب فكانت سبب وفاته، ووُصف له أن يشرب النفط الأبيض، فجعلوه في قدح وسقوه إياه فقال: «يا بني عجلت لأبيك شراب أهل النار.» وكان له عبيد فأوصى بعتقهم بعد موته وبدفع شيء من ماله إليهم، فلما احتضر جمع أهل بيته وأنشأ يقول:
فقال له بعض عبيده: «إلى الله.» فأمر ببيعه قبل وفاته وأبطل وصيته فيه.»
وكانت وفاته في خلافة هشام بن عبد الملك، وله قصيدة يمدحه بها ويهنئه بالخلافة، منها قوله:
وخلافة هشام تبتدئ في السنة الخمسين بعد المئة للهجرة، فإذا كان الفرزدق يومئذ في الثمانين من عمره كما ذكر في شعره، فلا يصح أن تكون سنه قد نيَّفت على التسعين يوم وفاته، هذا إذا حسبنا أن القصيدة قيلت في السنة الأولى لخلافة هشام وأن الشاعر كان في الثمانين دون زيادة أو نقصان، وفي أي حال فإن الفرزدق لم يبلغ المئة وإنما مات في التسعين أو دون التسعين أو أنه جاوزها قليلًا.
(٤-٩) آثاره
آثاره ديوان مطبوع أكثره في المدح والفخر والهجاء، وطبعت «نقائض جرير والفرزدق» في لَيدن فجاءت في مجلدين ضخمين، وهو من أصحاب الملحمات ومطلع ملحمته:
(٤-١٠) ميزته
لم يشغل الناسَ شاعرٌ في الجاهلية ولا في الإسلام كما شغلهم جرير والفرزدق بتهاجيهما، فقد لبثا أربعين سنة يتشاتمان، والناس تسمع لهما ولا تتفق على تفضيل الواحد منهما على الآخر، وكان يصح لنا أن نقتصر على درس خاصة الهجاء في الفرزدق، وما يتبع هذا الهجاء من فخر، لو لم تكن لشاعرنا خصائص أخرى لا ينبغي إغفالها، وإن تكن خاصة الهجاء أظهرها. فالفرزدق في تشيعه لآل البيت، وفي اتصاله بالخلفاء الأمويين وعمالهم شاعر مدَّاح ولكن مدحه لهؤلاء يختلف عن مدحه لأولئك، فهو في ذكر آل البيت صادق اللهجة، بيِّن الحماسة، متدفق العاطفة؛ وفي مدح الأمويين كذوب متكلف يظهر خلاف ما يبطن، والفرزدق في غزله يصطنع القصص الغرامي كابن أبي ربيعة ويتعهر مثله، غير أنه لا ينقاد له هذا الفن في الجودة والرقة انقياده لعمر، والفرزدق أول شاعر مسلم نظم في الزهد وخاطب إبليس وهجاه، وهو أكثر الشعراء الإسلاميين سرقة وانتحالًا. فعلينا أن ندرس به خاصة الهجاء في شيء من الإسهاب، ثم نلم بسائر خصائصه لنعرف من هو الفرزدق وما هي ميزة شعره.
(٤-١١) هجوه وفخره
ولسنا نعجب إذا رأينا للفرزدق شعرًا كثيرًا في الهجاء بعد أن علمنا أنه نتاج حرب عوان دارت بينه وبين جرير أربعين سنة؛ وكان فيها كلا الشاعرين يعنى بنقض أقوال خصمه لئلا يُعد مُغلَّبًا، فالهجاء صفة لازمة لشعر الفرزدق كما أنه صفة لازمة لشعر جرير.
وإذا أراد الفرزدق أن يهجو وضع نفسه في مرتبة يتضاءل دونها خصمه، وشرع يعدد مفاخر قومه، ويذكر ما لهم من الأيام، وما هم عليه من كرم وخير ونجدة وإباء، وكان له من شرف قبيلته ومآثر آبائه ما فسح له في مجال الفخر والاستعلاء.
وهو على شدة إعجابه بقومه لا يغفل عن الافتخار بنفسه، وأكثر فخره بشاعريته، وهي المفخرة الوحيدة التي نجدها فيه، ونرى أنه يحق له أن يباهي بها، ولا ينتهي الفرزدق من مفاخرة خصمه إلا ليحشوَه شتمًا وتعبيرًا، فيعلن مخازيَه ومخازي قبيلته، ويطعن في أعراضهم طعنًا قبيحًا مكثرًا من الألفاظ الفاحشة، والأخبار الشائنة، حتى ليصبح شعره بؤرة فجور وفساد، وإذا رأيته يفتخر بقوله:
فلا تتوهم أنه يؤثر الرحمة على الظلم، ولكنه أراد الرد على من عيَّره الجُبن فلم يجد غير هذه السبيل، وربما افتخر بالظلم فقال:
ولا يقتصر في هجاء جرير على الدفاع عن بني دارم، بل يدافع أيضًا عن تغلب قبيلة حليفه الأخطل، ويفاخر بهم جريرًا وقومه. كما فاخر الأخطل ببني دارم ودافع عنهم:
وهو على عنايته بهجو كليب لا يعف عن قيس عيلان بل يهجوهم هجاء خبيثًا وينفر عليهم التغلبيين:
ويندد بهم لمناصرتهم ابن الزبير على بني أمية، ويعيرهم انكساراتهم ويشتم جريرًا معهم لأنه كان يدافع عنهم.
(٤-١٢) مدحه
عرفنا أن الفرزدق كان يشايع آل البيت وأن الأمويين كانوا يعرفون ذلك فيه، فلم يحظَ عندهم كما حظي الأخطل النصراني، ولكنه مدحهم وأجازوه على مدحه، ونستدل من شعره أنه أخذ يتصل بهم في خلافة الوليد بن عبد الملك؛ إذ ليس له في أبيه ما يستحق الذكر. على أن مدحه لهم لم يكن إلَّا تكلفًا، وسنجد أثر هذا التكلف في شعره الذي مدحهم به إذا قابلناه بشعره الذي مدح به آل البيت. فهو في مدح الأمويين متكسب يستجدي أو راهب يستعطف، وفي مدح آل البيت عاطفي بحت ينطق عما في نفسه من هوى. فنحن لا نستطيع أن نصدق شاعرًا يتشيع لعلي وأبنائه حين نسمعه يخاطب الوليد بن عبد الملك:
أفيصح لنا أن نحسب الفرزدق مخلصًا في هذا المدح، صادقًا في جعله الخلافة حقًّا من الله لبنى أمية، وفى قوله إنهم أخذوها شورى لا غصبًا، وأن مقتل عثمان بن عفان أعطاهم هذا الحق الموروث؟ وقد علمنا أن أصحاب آل البيت ينكرون على الأمويين هذه الدعوى، ولا يرون أحدًا أحق بالخلافة من أبناء بنت الرسول، والفرزدق نفسه كان يأبى أحيانًا أن يمدح الأمويين على ما فيه من ميل إلى التكسب، وقد أوردنا خبره مع سليمان بن عبد الملك، ورأيناه في مكان آخر لا يحجم عن التعريض بهشام بن عبد الملك وهو حاضر لإنكاره زين العابدين. ثم رأيناه يهجو هشامًا بعد أن حبسه، فيقول فيه:
أفيمكن أن يخلص الفرزدق في مدحه لهشام، ويصدق في زعمه أنه أولى الناس بالخلافة، وهو القائل فيه: «تبين فيه الشؤم وهو غلام؟» وحسبك أن تقابل قوله في هشام بقوله في زين العابدين لترى الفرق بينهما، وتعلم أن الشاعر لم يمدح هشامًا إلا خائفًا، أو مستجديًا يستمطر الربيع لعياله، فكان شعره متكلفًا خاليًا من العاطفة؛ وأنه لم يمدح زين العابدين إلا مشغوفًا بمناقبه ومناقب آله، فجاء شعره عاطفيًّا صرفًا لا أثر للتكلف عليه، وأنَّى يكون التكلف في قصيدة جاش بها صدر الشاعر فقذفها بيتًا إثر بيت، والتأثر النفسي يملك عليه؟ ويختلف أسلوبه فيها عن أسلوبه في مدح هشام. فهو لا يسأل زين العابدين ولا يستجديه، ولكنه يبث عاطفة متقدة بحب آل البيت، عاطفة نفس تؤمن بكرامتهم وترجو بهم الثواب في الآخرة.
وإذا علمت أن زين العابدين أرسل إلى الفرزدق أربعة آلاف درهم لما بلغته القصيدة، فردها الفرزدق عليه وقال له: «إنما مدحتك بما أنت أهله» — إذا علمت ذلك — تبين لك صدق الفرزدق، وإخلاصه في مدحه أبناء بنت الرسول.
(٤-١٣) غزله
لم يكن الفرزدق على تعهره ممن يحسنون الغزل والتشبيب بالنساء، فإذا نسب جاء قوله غليظًا جافيًا لا ترتاح إليه النفوس، وكان يشعر بتصلب عاطفته وخشونة تشبيبه فيقول: «ما أحوج جريرًا مع عفته إلى صلابة شعري، وما أحوجني إلى رقة شعره مع شدة فسقي.»
وقد يخرج في غزله إلى المعاني الوحشية السمجة التي تنبو عنها الأذواق كقوله:
وتجد في ديوانه قصيدة من القصص الغرامي يروي فيها خبر زيارة ليلية هي أشبه بزيارة ابن أبي ربيعة أو زيارة امرئ القيس، ولكنه يقصر عنهما في السرد والحوار، ولا يجاريهما في الرقة ولطف التعبير. فمنها قوله:
فإذا بلغ إليها لا يسمعك حوارًا بينهما كما أسمعك الملك الضليل وفتى قريش، بل يلتقيها صامتة ما تنبس ببنت شفة، فيصف مجلسه بأبيات ثلاثة، ثم يقول ذاكرًا تخوفه الرجوع:
وهنا يسألها: «وكيف النزول؟» فتجيبه مظهرة له المصاعب التي تكتنفه، فيطلب إليها أن تدليه بالحبال كما أصعدته. فتفعل وتساعدها على إنزاله رفيقة لها:
(٤-١٤) رثاؤه
ولم تكن عاطفته في الرثاء أقل تصلبًا منها في الغزل، فقد مات أبوه فرثاه؛ فكان في رثائه إياه جافيًا، ومات ولداه فأراد رثاءهما فتصلبت عاطفته، فأخذ يعزي نفسه بذكر من مات قبلهما من كرام الرجال، وختم مرثاته بقوله:
وماتت زوجه، وكان يحبها، فلم يستطع رثاءها فبكتها النوادب بشعر جرير، وقيل له أن يزور قبرها فقال:
فكيف ترجو أن تلين عاطفته، فيرثي زوجه رثاءً حسنًا، وهو يرى أن المرأة أهون مفقود على الرجل؟
(٤-١٥) زهده
قد نكون مسرفين إذا وصفنا الفرزدق بالزهد، وجعلنا لشعره ميزة من هذه الناحية. فالزهد في حقيقته لم يعرفه الشعر العربي إلا في خلافة العباسيين؛ هذا بصرف النظر عما أضيف إلى علي بن أبي طالب من الأشعار الزهدية؛ لأن الإمام عليًّا لم ينظم الشعر وإنما كان خطيبًا بليغًا، وله في الزهد أقوال نثرية مشهورة، وليس له في الشعر شيء ثابت.
ولكن الفرزدق، على ضعف الخاصة الزهدية في شعره حتى نكاد لا نشعر بها، هو أول شاعر إسلامي أخذ بأهداب هذا الفن، فنظم قصيدة يهجو بها إبليس، ويتوب إلى ربه نادمًا على ذنوبه، وهي وإن تكن لا تستوعب شروط الشعر الزهدي من ذم الدنيا وملاذها، وإيراد المواعظ والحِكَم والأمثال، فإنها تنضم إليه بما فيها من إقرار بالخطيئة، وتوبة إلى الله، وخطاب للشيطان لم يُسْبَق إليه.
(٤-١٦) سرقاته
فقال: «والله لتتركن هذا البيت أو لتتركن عرضك!» قال: «خذه على كره مني!» فأخذه الفرزدق وهو في إحدى قصائده.
ومر بابن ميادة وهو ينشد:
فقال: «أما والله يا ابن الفارسية لتدعَنَّه لي أو لأنبشنَّ أمك من قبرها.» فقال له ابن ميادة: «خذه لا بارك الله لك فيه.» فانتحل الفرزدق البيتين ووضع دارمًا مكان ظالم فقال: «وجئت بجدي دارم وابن دارم.» وأخذ لملحمته من جميل بثينة أسير بيت فيها، وهو قوله:
(٤-١٧) مداخلته الكلام
وكان يداخل الكلام ويجوِّز في شعره ما لا يجوِّزه غيره، فرُويت له أبيات كثيرة خالف فيها القواعد النحوية والبيانية، فأخذها النحاة وعلماء البيان شواهد في مباحثهم، وسخط بعضهم عليه من أجلها وسُر بها بعضهم الآخر، ولا سيما أصحاب النحو؛ لأنها كانت تشغلهم في تمحل أوجه إعرابها. فمن ذلك قوله يمدح إبراهيم بن هشام المخزومي خال هشام بين عبد الملك:
والشاهد فيه التعقيد، وهو أن لا يكون الكلام ظاهر المراد، والمعنى: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملَّكًا أبو أمه أبوه، أي ابن أخته هشام. فالضمير في أمه يعود على المملَّك يعني هشامًا، والضمير في أبوه يعود على الممدوح يعني خاله إبراهيم. ففصل بين أبو أمه وهو مبتدأ؛ وأبوه وهو خبر بلفظ أجنبي وهو حي، وكذا فصل بين حي ويقاربه، وهو نعته، بأجنبي آخر وهو أبوه، وقدم المستثنى على المستثنى منه، فهو كما تراه في غاية التعقيد، وكان من حقه أن يقول: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملَّك أبو أمه أبوه، ورَفْع مملك أشهر؛ لأن ما يبطل عملها إذا انتقض خبرها بإلا، وعدم إبطاله لغة حجازية.
وقوله:
فنصب مسحتًا على أنه مفعول لم يدع، ورفع بعده مجرَّف مع أنه معطوف عليه، فجعله النحاة خبرًا لمبتدإ محذوف، وأما أبو عبيدة فإنه فسر لم يدَع بمعنى لم يثبت ويستقر من الدعة، فارتفع مسحت ومجرف بفعلهما، وفي ذلك ما فيه من تعسف وتمحل. وللفرزدق شعر كثير من هذا النوع.
(٤-١٨) مقلداته
قال ابن سلام: وكان الفرزدق أكثرهم بيتًا مقلدًا، والمقلد البيت المستغني بنفسه، المشهور الذي يضرب به المثل. فمن ذلك قوله:
وقوله:
وقوله:
وله غير ذلك كثير. ولعل مقلداته هي التي جعلت الأدباء الأقدمين يشبهونه بزهير بن أبى سُلمى.
(٤-١٩) قصاره وابتداءاته
وكان الفرزدق يُكثر من القصائد القصيرة ويفضلها على الطويلة، فسئل يومًا: «ما بال قصارك أكثر من طوالك؟» فقال: «لأني رأيتها أثبت في الصدور، وفي المحافل أجول.» وغلبت الجودة على قصاره ولم تخلُ طواله من الجميل الرائع.
(٤-٢٠) منزلته
وقال الفرزدق: «قد علم الناس أني أفحل الشعراء، وربما أتت عليَّ الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون عليَّ من قول بيت.» وقال مالك بن الأخطل: «جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت في صخر.»
وهذا الحكم يصف لنا أدق وصف صلابة شعر الفرزدق وخشونة ألفاظه، وفي كلام الفرزدق على نفسه ما يُعلمنا أن الشعر كان يعصيه أحيانًا فما ينقاد له إلا بعد نصَب، وإجهاد النفس في قرض الشعر يحتاج إلى النحت، والشعر المنحوت يكثر فيه التكلف اللفظي ويقل الطبع، وقد أفرط الفرزدق في استعمال الوحشي من الكلام حتى قال فيه أبو عبيدة: «لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب.» وحفظ لنا شعره كثيرًا من أيام العرب وعاداتهم وأخلاقهم، فقلما تقرأ له نقيضة إلا وجدتها حافلة بطائفة من الأخبار.
ومنزلة الفرزدق قائمة على نقائضه، فإن مهاجاته لجرير جعلت الناس في صدر الإسلام ينقسمون حزبين: حزبًا فرزدقيًّا وآخر جريريًّا، وكان كل واحد منهما يتعصب لشاعره ويفضله على قرنه، حتى بلغ من أحد الفرزدقيين أنه عقد جائزة قيمتها ٤٠٠٠ درهم وفرس لمن يفضل الفرزدق على جرير.
ومجمل القول أن الفرزدق لم يبلغ شأو الأخطل في المدح، غير أنه أناف عليه وعلى جرير بالفخر، وثبت لجرير في الهجاء، ولكنه تضاءل عنه بالغزل والرثاء لتصلب عاطفته، وفضله على الشعر لا يقل عن فضل صاحبيه.
(٥) جرير١٤٠ (٧٣٢م/١٤٤ﻫ ؟)
(٥-١) حياته
هو جرير بن عطية بن الخَطَفي، والخطفي لقب جده حذيفة بن بدر من كليب بن يربوع ثم من تميم، وأمه حُقة بنت مُعَيْد الكلبية، وكان يُكنَّى أبا حزْرة، وحزرة ولده؛ وله غيره سبعة ذكور وابنتان.
نشأ جرير في بادية اليمامة في أسرة دون أسرة الفرزدق جاهًا وثروة وشرفًا، وكان أبوه مضعوفًا لا يُقاس بأبي الفرزدق في الشهرة والجود وعلو القدر، وقد نستطيع أن نعرف مكانة والده من حديث لبلال بن جرير قال: «قال رجل لوالدي: «من أشعر الناس؟» قال: «قم حتى أعرفك الجواب.» فأخذه بيده وجاء به إلى أبيه عطية، وقد أخذ عنزًا له فاعتقلها وجعل يمص ضرعها، فصاح به: «يا أبت!» فخرج شيخ دميم رث الهيئة، وقد سال لبن العنز على لحيته. فقال أبي للرجل: «أترى هذا؟» قال: «نعم.» قال: «أفتدري لِمَ كان يشرب من ضرع العنز؟» قال: «لا.» قال: «مخافة أن يُسمع صوتُ الحلب فيُطلب منه لبن.» ثم قال: «أشعر الناس من فاخر بمثل هذا الأب ثمانين شاعرًا وقارعهم به وغلبهم جميعًا.»
فقال الفرزدق:
ولكن هذا الرجل الوضيع الحسب، الخشن العيش، الخامل الأبوين، أُعطي شاعريَّة بوأته أعلى مرتبة في الأدب العربي، وقد نظم الشعر صغيرًا كما نظمه الأخطل والفرزدق.
(٥-٢) صفاته وتدينه
(٥-٣) اتصاله بالأمويين
كان جرير حدثًا لما وفد إلى يزيد بن معاوية وهو خليفة في الشام. فلم يؤذن له بالدخول، وجاء الجواب: إن أمير المؤمنين يقول: «لا يصل إلينا شاعر لا نعرفه، ولا نسمع بشيء من شعره.» فقال جرير: «قولوا له: أنا القائل:
وكان يزيد في خلافة أبيه قد انتحل بضعة أبيات من قصيدة لجرير وعاتب بها أباه في غرض له، فاعتقد معاوية أن الأبيات لابنه. فلما أنشد يزيد البيت أذن لجرير فدخل عليه، فاستنشده القصيده فأنشده، فقال يزيد: «لقد فارق أبي الدنيا، وما يحسب إلا أني قائلها.» وأمر له بجائزة.
ولكن جريرًا لم يُعرف في بلاط الأمويين إلا بعد أن طارت شهرته في خلافة عبد الملك بن مروان، وكان اتصاله أولًا بالحجاج بن يوسف، وهو على العراقين، فمدحه ونال جوائزه، فأوفده الحجاج في صحبة ابنه محمد إلى عبد الملك، وكان لا يسمع لشعراء مضر، ولا يأذن لهم لأنهم كانوا زُبيرية.
فلما دخل عليه جرير بعد لأي، قال له عبد الملك: «ماذا عسى أن تقول فينا بعد قولك بالحجاج عاملنا:
إن الله لم ينصرنا بالحجاج، وإنما نصر دينه وخليفته!» وظهر الغضبُ في وجه عبد الملك، فتوسط ابن الحجاج في الرضى، فاستأذن جرير في الإنشاد، وأنشد كلمته التي يقول فيها:
فتبسم عبد الملك وقال: «كذلك نحن.» وأمر له بمئة من الإبل وثمانية أعبد لرعايتها، وكان بين يديه صحاف من فضة، فقال جرير: «والمِحلب يا أمير المؤمنين؟» فنبذ إليه بواحدة منهن، فلذلك يقول جرير في قصيدة يمدح بها يزيد بن عبد الملك:
وصار يفد إلى عبد الملك من ذلك الحين ويأخذ الجوائز، وكانت جائزته أربعة آلاف درهم وتوابعها من الحملان والكسوة. ومدح جرير من تولى بعد عبد الملك من الخلفاء فأجازوه. غير أنه لم يحظَ حظوة الأخطل عندهم.
(٥-٤) جرير وخصومه
وشاق الأخطل وقعُ الألسنة حدادًا فبعث ابنه مالكًا يكشف عن الخبر. فانحدر إلى العراق، ثم عاد إليه بحكمه: «جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر.» فقضى الأخطل لجرير ونعى الفرزدق، ولكن بني مجاشع تداركوه وأكرموه واستعانوه على خصمهم، ولم يشأ جرير أن يقول له كلمة خير بعد أن فضله على الفرزدق، فغيَّر أبو مالك رأيه وتحرش بجرير، فزادت النار به اشتعالًا.
ولقي عمر بن عطية أخا جرير فقال له: «قل له: ويلك ائت التيمي من عَل كما أصنع بك أنا.»
ويحدثنا ابن سلام أن رجال تميم مشت بين جرير والتيمي، وقالوا: «والله ما شعراؤنا إلا بلاءٌ علينا، يثيرون مساوئنا، ويهجون أحياءنا وأمواتنا.»
فلم يزالوا بهما حتى أصلحوا بينهما بالعهود والمواثيق المغلظة، أن لا يعودا في هجاء. فكف التيمي، وكان جرير لا يزال يسل الواحدة بعد الواحدة، فيقول التيمي: «والله ما نقضت هذه ولا سمعتها.» فيقول جرير: «هذه كانت قبل الصلح.»
وقد رأينا في درسنا الأخطل والفرزدق أن أشد الهجاء كان بينهما وبين جرير، ولا سيما جرير والفرزدق، فقد علمت كيف انقسم الناس حزبين معهما، فناصر كل حزب شاعره وفضله على الآخر، وبلغ من اشتغال الناس بهما أن جعلوا لهما شيطانًا واحدًا يلقنهما، ولكل شاعر عند العرب شيطان يوحي إليه، ونقل الرواة لنا أخبارًا كثيرة عن وحدة شيطانهما، نكتفي منها بواحد نورده لا إيمانًا بصحته، ولكن لنظهر ما كان لشعرهما من التأثير في نفوس أبناء عصرهما.
زعموا أن جريرًا والفرزدق خرجا من العراق يطلبان الرصافة لهشام بن عبد الملك، وقد مدحاه، فلما كانا ببعض الطريق نزل جرير في حاجة له، فتلفتت ناقة الفرزدق فضربها بالسوط وقال:
فرجع جرير فوجد القوم يضحكون فقال: «ما الخبر؟» فقال أحد الرواة: «يا أبا حزرة إن أخاك أبا فِراس وقع له كيت وكيت.» وأنشده البيتين الأولين. فارتجل البيتين الآخرين، فتعجب القوم من ذلك الاتفاق وقالوا: «والله يا أبا حزرة لهكذا زعم أنك تقول.» فقال: «أوما علمتم أن شيطاننا واحد؟»
فالاصطناع في هذه الرواية ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وأما البيتان الآخران فهما لجرير من قصيدة نقض بها قصيدة قالها الفرزدق في هشام بن عبد الملك.
(٥-٥) موته
عُمِّر جرير حتى أربت سنه على الثمانين، وكانت وفاته باليمامة وفيها قبره، وقد هلك بعد أن شهد هُلك خصميه: الأخطل والفرزدق. فلما مات الأخطل هجاه بقوله:
ولما مات الفرزدق قال فيه:
فقيل له: «لبئس ما قلت، أتهجو ابن عمك بعدما مات! لو رثيته كان أحسن بك.» فقال: «والله إني لأعلم أن بقائي بعده لقليل، وإن كان نجمي موافقًا لنجمه فلأرثينه!» ثم قال فيه:
وبين وفاة الفرزدق ووفاة جرير بضعة أشهر، وعدها بعضهم ستة.
(٥-٦) آثاره
ديوان طُبع في القاهرة في جزأين أكثره في الهجاء والمدح، «ونقائض جرير والفرزدق» طُبعت في مجلدين كبيرين بلَيدن، «ونقائض جرير والأخطل» نشرها الأب صالحاني اليسوعي في بيروت، وهو من أصحاب الملحمات، ومطلع ملحمته:
(٥-٧) ميزته
ألا وإن الشاعر الذي تتألب عليه جمهرة من الشعراء تنهشه نهشًا، وهو لا يبالي، ولا يعجز أن يرد عليهم جميعا، فيسلقهم واحدًا بعد واحد، دون أن تنضب قريحته أو يجف معينها، إن هذا الشاعر لكما قال فيه مالك بن الأخطل: «يغرف من بحر.» فجرير كان ينظم الشعر بطبعه لا يحككه كالأخطل، ولا يدحرج ألفاظه كالفرزدق، فغلبت عليه السهولة، والشاعر المطبوع لا يأنس بالتكلف، وإنما يرخي العنان لقوافيه فتنطلق إرسالًا.
وأُوتي جرير من الرقة والهلهلة ما جعل لشعره علوقًا في الحافظة أكثر من شعر صاحبيه، فسارت قصائده كل مسير في بوادي العرب وأمصارها.
ورقة جرير فضَّلته على الأخطل والفرزدق بالغزل والرثاء، ولو لم يكن همه مقارعة الشعراء الذين يهاجونه لما ترك بابًا من الشعر إلا فتحه، ولكنهم «هرُّوه فوجدوه عند الهراش نابحًا.» فشغلوه عن كثير من فنون الشعر: كالوصف والقصص، ولم ينظم في الغزل إلا ما كان يوطِّئ به قصائد المدح والهجاء، على أن ما نظمه كافٍ للدلالة على مهارته في هذا الفن، وتمكنه من التأثير في النفس. فغزله اللطيف يختلف عن غزل الفرزدق الجافي، وعن غزل الأخطل الذي هو أقرب إلى الأسلوب الجاهلي منه إلى الأسلوب الإسلامي.
ونحن في درسنا شعر جرير، سنحلل أولًا خاصته في الهجاء وما يتبعها من فخر، وهي أظهر خاصة فيه، ثم نتناول مدحه فغزله فرثاءه.
(٥-٨) هجاؤه
قد يُخيَّل إليك، وأنت تقرأ ما كتبناه عن تعفف جرير وتدينه، أن جريرًا في هجائه أطهر لسانًا من الفرزدق أو أقل إفحاشا وإقذاعًا، في حين أن الفرزدق على تعهره يكاد لا يجاريه في حومة الخنى، وربما كان هجو جرير أفحش وأفجر من هجو الفرزدق، ونقول: ربما، لأننا نزعم ذلك في شيء من الاحتياط.
ولا تعجَب لجرير أن يقذع في كلامه ويفحش على ما عرفت من تحرجه وصدق إسلامه؛ فالرواة يحدثوننا بأن الناس في ذلك العهد لم يكونوا يتأثمون من رواية الشعر أو نظمه، وإن خبثت ألفاظه. ولابن سيرين خبر يؤيد هذا القول، تجده في طبقات الشعراء لابن سلام وفى العمدة لابن رشيق، ويؤيد ذلك أيضًا ما نعلم من أن طائفة من نقائض جرير والفرزدق مُدح بها الخلفاء، وسمعوها دون أن يتحرَّجوا من سماعها على ما فيها من هجر في القول، وتمزيق للأعراض. فهجو جرير بؤرة فجور وفساد كهجو الفرزدق، ولكن أسلوبه يختلف عن أسلوب صاحبه. فقد عرفت أن أبا فراس يأتي خصمه من عَلُ فيرفع نفسه إلى الذروة العليا، ويحط مهجوَّه في الحضيض. وأما أبو حزرة فإنه يتتبع مثالب عدوه واحدة واحدة، فيعلنها، ويبالغ في تقبيحها، وإذا أعياه وجودها لم يعيِه الاختلاق، فهو أقدر الشعراء على اصطناع العيوب في خصومه، فتراه ينشر عنهم أخبارًا مخزية لا مصدر لها إلا قريحته الجهنمية.
(٥-٩) هجوه الفرزدق
وجرير كثير الافتخار بدينه، شديد التعصب له، لا يوقِّر غير الإسلام. وكان له من صداقة الفرزدق والأخطل وسيلة لاتهام الفرزدق بالنصرانية وتعييره الكفر، فيقول:
أو يتهمه بالنصرانية واليهودية معًا فيقول:
ولا يفتأ يتتبع زلاته ليندد به ويعيره إياها؛ فاذا نبا سيفه شهَّره واستهزأ منه، وقد مرَّ بك شيء من ذلك في بحث الفرزدق، وإذا طُرد من مكان لفجوره أو لخبث لسانه، أخذه بالصيحة من ورائه وراح ينعته بأقبح النعوت، ويلذعه بأحرِّ الشتائم. فمن ذلك قوله فيه بعد أن طُرد من المدينة:
(٥-١٠) هجوه الأخطل
واذا انبرى جرير لهجاء الأخطل تناول تغلب بالمخزيات حتى يصل بهم إلى ربيعة بن نزار، فما يدع يومًا عليهم إلا عيَّرهم إياه، وكثيرًا ما يعيرهم مقتل كليب وائل، وينفر عليهم بني بكر، أو يذكر لهم الأيام التي قهرتهم فيها قيس عيلان، ثم ينفر عليهم قيس عيلان، ويدافع عنها ناقضًا ما قال الأخطل في هجائها.
وأشد ما يعنى به جرير في هجو الأخطل وقبيلته تعييرهم النصرانية والافتخار عليهم بإسلامه، فهم الخنانيص، وهم الأذلاء الذين يؤدون الجزية، ويشربون الخمر، ويأكلون لحم الخنزير، ويمعن أحيانًا في ذكر الصليب والقديسين والقسيسين مُعرِّضًا ومُصرحًا، وأكثر ما يدعو الأخطل بصيغة التصغير، أو يلقبه بدَوبَل أو بذي الصليب.
ولا تخلو قصيدة لجرير في الأخطل من الطعن على ديانته، والدفاع عن قيس عيلان وتنفيرهم على تغلب.
(٥-١١) فخره
وجرير شديد الافتخار ببني تميم، يباهي بهم الشعراء، ويعدد أيامهم مزهوًّا بمفاخرهم، وما أكثر ما لتميم من المفاخر، وهي من أكرم القبائل وأكثرها حصى، وإذا هاجى الفرزدق، وهو مثله من تميم، افتخر عليه بقومه بني كليب بن يربوع، وذكر أيامهم، وعيَّره الأيام التي خُذلت فيها بنو دارم، والأيام التي خُذلت فيها بنو ضبة أخواله، ولكنه يقصر عنه فما يستطيع أن يجاريه في هذا الميدان.
على أننا إذا أردنا أن نتبين الخاصة التي يمتاز بها جرير في الفخر، فإننا نجدها في استخفافه بالشعراء المتألبين عليه، فتراه يردد أسماءهم مباهيًا بقهره إياهم، وهو لا يهجو شاعرًا إلا نعى إليه نفسه، وجعله مغلَّبًا مشدودًا في حبل واحد مع سائر الشعراء الذين هاجاهم.
(٥-١٢) مدحه
علمنا أن عبد الملك بن مروان كان لا يأذن لشعراء مضر لأنهم زبيرية، وعلمنا أيضًا أن جريرًا لم يتصل ببني أمية إلا بشفاعة الحجاج، فهو إذًا لم يكن بجاهل سخط الأمويين عليه وعلى قومه، فتراه يلح في الاعتذار كلما أنشأ يمدح أمراء أمية، ولا يحجم عن التعريض بعبد الله بن الزبير وأخيه مصعب، وإنكار حق عبد الله في الخلافة مع أنه في هجو الفرزدق والأخطل يؤيد قيس عيلان ويدافع عنها؛ وقيس عيلان كانت في حروبها تناصر أبناء الزبير. فيتبين لنا من ذلك أن لجرير خطتين متباينتين: إحداهما ترمي إلى الدفاع عن القيسية وتنفيرها على أعدائها، والرد على الشعراء الذين يهجونها، ويطعنون في أعراضها، فهو من هذا النحو شاعر ذو سياسة قبلية لا يستطيع إلا إظهارها. والأخرى ترمي إلى التكسب والانتفاع، وما من سبيل إليهما إلا في الاتصال بالأمويين والتملق لهم، إذ لم يكن للشعراء منهل أغزر من منهلهم، ولا ماء أعذب من مائهم، وخصوصًا بعدما انهارت خلافة ابن الزبير وأصبح شعراء مضر لا يرتجون نجعة إلا في بني أمية.
وحسبك أن تقرأ شيئًا من مدح جرير لهم لتعلم أسلوبه في استرضائهم، والاعتذار إليهم، وترى أن مدحه لهم ديني أكثر مما هو دنيوي حتى ليكاد يشغلهم بالآخرة عن الأولى، والعاطفة الدينية شديدة الظهور في شعر جرير.
(٥-١٣) غزله
وقد يعجبك أن تسمع هذا الشاعر يتعفف بغزله بعدما سمعته يهتك الأعراض بهجوه. فجرير على شدة فحشه في الهجاء لا ينطق في نسيبه إلا بأطهر من ماء الغمام، وهو أول غزلٍ طرد الحبيب الزائر ليلًا خوفًا من الريبة، فقال:
وهو في غزله رقيق العاطفة، لطيف المعاني، لين الألفاظ، يخلط الفن القديم بالجديد، فيجيد كل الإجادة، حتى لتحسبه أحد أولئك المتيمين الذين نشئوا في البادية واشتهروا بغزلهم العفيف. على حين أنه لم يكن في عداد المتيمين، ولكنه أُوتي من الرقة وبراعة الفن ما جعل لشعره ميزة في الغزل فاق بها صاحبيه.
وإنا، وإن قلنا إن جريرًا لم يكن في عداد المتيمين، لنأبى أن نجاري بعض الرواة في زعمهم أنه لم يعشق، فمثل هذا الغزل الناعم، لا يصح صدوره إلا عن قلب متأثر ملتاع، ونجد في رثائه لامرأته أنه كان يهواها ويتألم لفراقها.
أجل إن صاحبنا لم يَهِم على وجهه كجميل بثينة وقيس بن ذريح، ولم يتهتك كابن أبي ربيعة والعَرجي، ولكنه أحب حبًّا صادقًا، وتغزل غزلًا صادقًا لا تكلف فيه. فأحبب به متغزلًا حين يقول:
فهل رأيت ما في عجز البيت الثاني من لوعة لم تستطع صاحبته الإفصاح عنها، فاكتفت باستفهام حائر ملؤه يأس وتحسر وتأنيب: «ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟»
فغزل جرير عاطفي رقيق في أكثره، روحاني متعفف، مع ما فيه من وصف مادي أحيانًا. يريك من الشاعر صورة جديدة لطيفة تحجب عنك تلك الصورة الرهيبة التي طبعها هجاؤه في نفسك، فتحسب أنك أمام بدوي رقيق الشعور عفيف النفس، لا أمام أعرابي فاجر يهتك الحرمات وينهش الأعراض.
(٥-١٤) رثاؤه
وجرير في رثائه مثله في غزله، يذوب رقة وعاطفة إذا كان الميت من أهله، فترى على شعره مسحة من الكآبة والحزن تترك في نفسك أثرًا بليغًا، فيخيل إليك أن القوافي تُساعد الشاعر على بكائه.
وهو يرى المرأة بغير العين التي يراها بها الفرزدق، فما يحسبها أهون فقيد على الرجل، ولا يأنف من التولُّه على زوجه بعد موتها، وقد تحدثه نفسه بزيارة قبرها فيمسكه الحياء؛ ولا تعجب لحيائه، فالبكاء على قبور النساء غير مألوف عندهم، فيرتد عن قصده وهو يقول:
(٥-١٥) منزلته
فقد حكم للفرزدق بالفخار، وللأخطل بالمدح والهجاء، وبجميع فنون الشعر لجرير، وقال بعضهم: «كان جرير ميدان الشعر، من لم يجرِ فيه لم يروِ شيئًا، وكان من هاجى جريرًا فغلبه جرير أرجح عندهم ممن هاجى شاعرًا آخر فغُلِب.» وهجا بشار جريرًا وكان حدثًا فاستصغره جرير فلم يجِبه، فقال بشار: «لم أهجه لأغلبه ولكن ليجيبني فأكون من طبقته، ولو هجاني لكنت أشعر الناس.»
فمن كلام بشار نعلم كيف كان الشعراء يتحرشون بجرير طمعًا في الشهرة لا طمعًا في التغلب عليه، ولا سيما أن مغلَّب جرير أرجح عندهم من مغلَّب سواه، وفي حكم ابن أبي حفصة ما يؤيد زعمنا من أن جريرًا أقدرهم على التصرف في جميع فنون الشعر، وهو بشهادة الأخطل أسْيَرهم شعرًا، ونرى أن تشبيهه بالأعشى يتناول سيرورة شعره من ناحية، ثم رقته وطبعه من ناحية أخرى، ولا ينبغي أن ننسى أن كلا الشاعرين هجَّاء مدَّاح، وأن كليهما من اليمامة، ولعل السهولة والانسجام من خصائص الشعر اليمامي، فإن في نعومة لغة جرير ووضوح معانيه وسلاسة قوافيه ما يذكرنا بالشاعر الجاهلي، بالأعشى الأكبر، ولكن رقة جرير قد تنحدر به إلى اللين في بعض قصائده الطويلة فتضطرب قوافيه ويسف شعره، وهذا ما نستطيع أن نفسر به قول الفرزدق: «وتضرب دلاؤه عند طول النهر.» على أن ذلك لا يضير شاعريته، وله من بدائع الشعر ما يرفعه إلى أعلى ذروة في الأدب، ويمكننا أن نعزو هذا الاضطراب أو اللين إلى الإكثار من النظم، فقد كان مضطرًّا إليه ليرد على خصومه. هذا وإن رقة الشعر نفسها لا تخلو أحيانًا من لين وإسفاف.
وبعد، فإن الشاعر الذي يهاجي أربعين شاعرًا ونيفًا، ويرمي بهم واحدًا واحدًا، ولا ينكص عن مقارعة قرمين كالأخطل والفرزدق تضافرا عليه وهما لا يقلان شاعرية عنه، إن هذا الشاعر لأخصب الشعراء قريحة، وأقدرهم على الاختراع، والتلاعب بالمعاني، وأبعدهم من تكلف، وهو وإن يكن قصر عن الأخطل في المدح والوصف، وعن الفرزدق في الفخر، فقد كاد يبذهما في الهجاء، وفاقهما بالغزل والرثاء، وإنه لأجمعهم لأبواب الشعر بلا مراء.
هوامش
وابن يوسف هو الحجاج، توفي في أواخر خلافة الوليد بن عبد الملك في سنة ٧١٣م/٩٥ﻫ، وكان والي العراقين وخراسان، ومدة ولايته عشرون سنة.