النثر الإسلامي
(١) القرآن
(١-١) نزوله وكتابته
وكان كلما نزل شيء منه تلاه النبي على من حضر من صحابته فيحفظه بعضهم، ويكتبه بعضهم الآخر في سعف النخل، أو في رقاع من الجلود، أو في عظام مسطحة، أو حجارة رقيقة.
ولما مات النبي واستعرت الحرب بين المسلمين والمرتدين، قُتل كثير من حفظة القرآن، فخاف عمر بن الخطاب عليه من الضياع، فأشار على أبي بكر بجمع الرقاع المكتوبة، وكتابة ما حُفظ في صدور الرجال ولم يكتب في الرقاع. فعهد أبو بكر في ذلك إلى زيد بن ثابت أحد كتبة الوحي، فجمع الآيات المكتوبة، وكتب الآيات المحفوظة في صدور الرجال، وسلمها إلى أبي بكر فحفظها في بيته، فلما توفي حُفظت في بيت عمر، فلما تُوفي حُفظت في بيت حفصة زوج النبي وبنت عمر.
وفي خلافة عثمان انتشر حفظة القرآن في حواضر البلاد المفتوحة، وعند بعضهم نسخ رتبها كل واحد على هواه. فاختلفوا في قراءة بعض آياته، فبلغ ذلك عثمان، فتلافى الأمر وجاء بالرقاع المحفوظة عند حفصة، وعهد إلى زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام في نسخها، وقال لهم: «إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء فاكتبوه بلسان قريش، فإنما أُنزل بلسانهم.» ففعلوا ذلك، وكتبوا أربعة مصاحف، أرسلها عثمان إلى مكة والبصرة والكوفة والشام، واثنين أبقاهما في المدينة: واحدًا لأهلها وواحدًا لنفسه. ثم أمر بإحراق ما كان قبل ذلك من المصاحف والصحف، فأُحرقت جميعًا إلا بعض نسخ ذكر منها صاحب الفهرست مصحف علي، ومصحف عبد الله بن مسعود، ومصحف أُبَي بن كعب، وكان لكل واحد منها ترتيب خاص في سوره. أما القرآن اليوم فنسخة عن مصحف عثمان المعروف بالإمام.
(١-٢) أقسامه
ويقسم المسلمون القرآن ثلاثين جزءًا يقرءون منه قسمًا في كل حفلة، أو صلاة.
(١-٣) أغراضه
يخاطب القرآن في سوره المكية شعبًا غير مؤمن، فيدعوه إلى ترك عبادة الأصنام، وأن يعبد الله وحده، ويؤمن بالرسول والكتاب المنزَّل. فيظهر له عظمة الخالق، ويحثه على التأمل بعجيبة خلق الإنسان وسائر المخلوقات: كالشمس والقمر والنجوم والرياح والليل والنهار، ويرشده أن في الآخرة لثوابًا وأن في الآخرة لعقابًا؛ فيقص عليه أخبار الأنبياء والمرسلين وأخبار شعوبهم، وكيف كان جزاء المؤمنين، وكيف كان عقاب الكافرين، وهو في أثناء ذلك يتناول صناديد قريش فيسفه آراءهم، ويرد على الذين يجادلون النبي أو يستهزئون منه فيهددهم، ويحقر أصنامهم، ويبين لهم أنها لا تجدي عابدها نفعًا، ولا تضر من يكفر بها. ويفيض في وصف الجنة، وما أعد فيها للذين آمنوا من نعيم خالد؛ ويفيض في وصف النار، وما أعد فيها للذين كفروا من عذاب خالد. فترى في وصف الجنة أرغب تأميل، وترى في وصف النار أرهب تهويل.
ويخاطب في سوره المدنية جماعة مسلمة تؤمن بالله ورسوله، وبكتابه المنزل، ولكنها تجهل شرائعها وطرق عبادتها، فيعلمها ما لم تعلم، ويفرض عليها الصوم والزكاة والحج، ويبين لها ما حُرِّم عليها وما أُحل لها، ويسُن نظم الزواج والطلاق والميراث، وحجاب المرأة، والجهاد في سبيل الله ورسوله، وكان في المدينة يهود يجاهدون النبي ويؤلبون عليه، ويغرون ضعيفي الإيمان بالارتداد عن الإسلام، فتعرض لهم القرآن، وذكَّرهم ما أنعم الله على آبائهم بني إسرائيل، وتوعدهم لتكذيبهم بالرسول، ودعاهم إلى تصديق دعوته.
وكان فيها منافقون يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، وكانوا يذيعون الأخبار عن حروب المسلمين فيتأذى النبي، وتضعف قلوب المؤمنين؛ فتناولهم القرآن وندد بهم وهددهم.
وإذا رأى في المسلمين تقهقرًا، أو ضعفًا، أو شقاقًا، دعاهم إلى الألفة، وأنَّبهم على الانهزام، وحضهم على القتال، وذكَّرهم أن الموت في الجهاد مغفرة ورحمة.
ولم يكن في الحجاز نصارى يقاومون الدعوة، فلم يتعرض لهم القرآن كثيرًا، وهو في كلامه عليهم أرفق بهم منه باليهود.
والقرآن في السور المدنية كما في السور المكية يردد ذكر الأنبياء وأخبارهم، وما أُنزل إليهم، ويدعو الناس إلى الإيمان، واصفًا لهم الجنة والجحيم، مظهرًا قدرة الله في مخلوقاته.
(١-٤) إنشاؤه
القرآن هو المثال الأعلى للبلاغة، سواء في إيجازه، أو في قوة تعبيره، أو في ائتلاف ألفاظه وانسجام كلماتها، ويمتاز برقته وسهولته، وبُعده من الغريب المستهجن، ولمقاطعه رنة لذيذة، ظنها الأعراب في أول أمرهم شعرًا، حتى نزلت الآية: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ، وقد يوازن القرآن ويسجع، ولكنه لا يتكلف السجع ولا الموازنة.
وهو في غير المواقف العاطفية طويل الآيات، قليل السجع، خفيف الرنة عند المقاطع. وأغلب ما يكون ذلك في السور المدنية، ولا سيما آيات الشرع، وما كان منها في غير الغزوات، وفي غير الوعد والوعيد، كقوله يشرع الصوم في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ٥ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ٦ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا٧ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ٨ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ.
(١-٥) تأثيره
للقرآن فضل عظيم على اللغة العربية، فهو الذي هذب عبارتها، ووحد لهجاتها، ونشرها شرقًا وغربًا بانتشار الدين الإسلامي.
وسَحَر الناس ببيانه فحفظوه، وأثَّر فيهم أسلوبه، فرقت ألفاظهم، ولطفت معانيهم، وظهر هذا التأثير في الشعر والنثر معًا ولا سيما الإنشاء الخطابي.
ومن فضله على اللغة أن علم النحو وضع خدمة له وإشفاقًا من اللحن في قراءته، وأن علم المعاني وضع توصلًا لمعرفة أسراره، وأن أشعار العرب في الجاهلية وصدر الإسلام جُمعت ليُستعان بها على تفسير آياته.
ولولا القرآن لتلاشت العربية بغارات التتر والأتراك، بعدما أُديل من سلطان بني العباس، ولكنه وقف في وجه الفاتحين والمكتسحين، يدافع عن لغته الفصحى، فلم يجرؤوا أن يتعرضوا لها بسوء بعد أن أسلموا فظلت لغه الدين والدواوين والمراسلات، ولم يؤثر فيها انتشار اللهجات العامية، وطُمطُمانية الأعاجم. فاللغة — كما ترى — مدينة بآدابها وحياتها للقرآن.
(٢) الخطابة
(٢-١) أسباب ازدهارها
لم تزدهر الخطابة العربية في عصر من العصور مثل ازدهارها في صدر الإسلام، فقد كانت العوامل متوافرة لشيوع هذا الفن وتقدمه، فمن فصاحة فطرية في العربي، إلى براعة التصرف في ضروب الكلام، ومن انقلاب ديني عظيم، إلى انقلاب سياسي عظيم، ومن حروب وفتوح، إلى خروج وعصيان وأحزاب.
فقد جاء الإسلام، وهو دين جماعي، فكانت الخطب الدينية تلقى في الجوامع. ثم استعرت حروب الفتح والحروب الداخلية، وانقسمت الجماعة أحزابًا من أجل الخلافة، فكانت الخطب العسكرية تُضرم بها الحماسة في صدور الرجال؛ وكانت الخطب السياسية يلقيها الزعماء على أحزابهم لتشد أزرهم، أو يردوا بها على خصومهم ليدحضوا أقوالهم، أو يخاطبوا بها بلدًا عاصيًا ليدعوه إلى الطاعة. فلا عجب إذًا أن يكون للخطابة شأن عظيم في ذاك العهد وهي تعتمد على الدين من ناحية، وعلى السياسة من ناحية أخرى، ولا عجب أيضًا أن تكون الحاجة إلى الخطيب أشد منها إلى الشاعر، فيعنى الخلفاء باختيار ولاتهم ممن عُرفوا بالفصاحة ومضاء اللسان؛ لأن الخطيب المِصْقع يستطيع أن يستفيض في غرضه منطلقًا من القيود، فيتوصل إلى غايته من إقناع الجمهور أكثر مما يستطيع الشاعر المكبل بالوزن والقافية.
(٢-٢) عاداتهم في الخطابة
وصُنع للنبي أول منبر في مسجد، صنعه تميم الداري، وكان قد رأى منابر الكنائس في الشام.
وروي أن الوليد بن عبد الملك أول من جلس خطيبًا في الناس، واقتدى به بعض الخلفاء والعمال، ولكن عادة الوقوف ظلت أكثر شيوعًا واتباعًا.
وكان العرب إذا خطبوا يشيرون برفع اليد ووضعها على غير إكثار، ولا يبالغون في الاهتزاز.
(٢-٣) ميزة الخطابة
تمتاز الخطابة في صدر الإسلام بطلاوة أسلوبها، وقِصر جملها، وتخير ألفاظها.
وكثر عدد الخطباء في هذا العصر لكثرة الحاجة إليهم، وكان النبي خطيبًا، والخلفاء الراشدون جميعًا وأخطبهم الإمام علي، واشتهر الخوارج بجزالة ألفاظهم، وبلاغة منطقهم، ومنهم قَطَريُّ بن الفجاءة، وله خطبة بليغة في ذم الدنيا.
وضُرب المثل بفصاحة سحبان وائل، ولكن لم يصل إلينا من آثاره إلا شيء قليل، وكان يطيل الخطبة حتى يسيل عرقًا ولا يتوقف ولا يقعد حتى يفرغ من غرضه.
ونكتفي بدرس خطيبين شهيرين يمثلان ميزة الخطابة في عصرهما أحسن تمثيل، ألا وهما زياد ابن أبيه والحجاج.
(٣) زياد ابن أبيه (٦٧٢م/٥٣ﻫ ؟)
(٣-١) حياته
وظهرت النجابة على زياد منذ حداثته فعُرف بالفصاحة والدهاء، والحزم والشدة. ولما نشأ استكتبه أبو موسى الأشعري، وهو على البصرة من قِبَل عمر، فأُعجب به الناس. ثم عهد إليه عمر في مهمة فأحسن القيام بها، ولما عاد خطب في حضرة عمر، وعنده المهاجرون والأنصار، فدُهشوا لفصاحته وقال عمرو بن العاص، وكان حاضرًا: «لله در هذا الغلام! لو كان أبوه قرشيًّا لساق العرب بعصاه!» فقال أبو سفيان: «إني أعرف أباه.» فقال عمر: «من هو؟» قال: «أنا هو.» وبهذا القول تمسك معاوية حين استلحق زيادًا بأبيه.
(٣-٢) ولايته على فارس
ولما استُخلف علي استعمل زيادًا على فارس فأخمد ثورتها وضبطها وحمى قلاعها. فساء ذلك معاوية فكتب إلى زياد يتوعده ويعرِّض بولادة أبي سفيان إياه.
وبلغ ذلك عليًّا فكتب إليه: إني وليتُك ما وليتك وأنا أراك له أهلًا، وقد كانت من أبي سفيان فلتةٌ من أمانيِّ الباطل، وكذِب النفس، لا توجب له ميراثًا، ولا تُحل له نسبًا، وإن معاوية يأتي الإنسان من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، فاحذر ثم احذر والسلام!
(٣-٣) ولايته على البصرة
(٣-٤) ولايته على الكوفة
ولما مات المغيرة بن شعبة أمير الكوفة استعمل معاوية زيادًا عليها فكان أول من جُمع له العراقان، فكان يقيم في البصرة ستة أشهر وفي الكوفة مثلها.
ولما دخل الكوفة وخطب في الناس، حصبوه، فأمسك حتى فرغوا. ثم أسرَّ إلى أصحابه أن يمسكوا الأبواب، وأخذ كرسيًّا وجلس على باب المسجد، وقبض على من وقعت الشبهة عليهم وقطع أيديهم.
(٣-٥) موته
فلما بلغ موته عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: «اذهب ابن سمية! لا الآخرة أدركت، ولا الدنيا بقيت عليك.»
ورثاه مسكين الدارمي، فرد عليه الفرزدق هاجيًا، وكان يومئذ طريد زياد، ولكنه لم يجسر أن يهجوه في حياته لشده سطوته وطول يده.
وظل أبناء زياد يُعدُّون من قريش حتى استخلف المهدي العباسي فردهم على عُبيد.
(٣-٦) آثاره
خطب سياسية، وإدارية، متفرقة في كتب الأدب، أشهرها الخطبة البتراء.
(٣-٧) ميزته — الخطبة البتراء
يبدأ زياد خطبته بذكر ما يأتي أهل البصرة من المنكرات في عصيانهم الله، فيعدد لهم مساوئهم، ويؤنبهم على فسوقهم.
ثم يعلن قانونًا جديدًا للعقوبات، فكان فيها أول والٍ مسلم جاوز الحدود في أحكامه.
ثم يظهر لهم أنه لا يحمل الحقد لأحد ممن كان بينه وبينهم عداء، وأنه لا يبالي مبغضيه ولا يناظرهم، ويدعوهم إلى معاودة أعمالهم.
ثم يدعوهم إلى طاعة بني أمية، والإذعان إلى سلطان الله الذي أعطاهم.
وكانت هذه الخطبة كافية لإرهاب البصريين، فإن ألفاظها انقضت على رءوسهم انقضاض الصواعق، فوجموا لها وفُتَّ في عضدهم، وهالهم ما فيها من تهديد ووعيد، وما إن همس هامس: «أنبأنا الله بغير ما قلت.» وأراد بذلك الأحكام التي جاوز فيها السُّنة، حتى سمعه زياد فقال: «إنا لا نبلغ المراد فيك وفي صحابك حتى نخوض إليكم الباطل خوضًا.»
ولم يكن زياد هازلًا في كلامه، فإنه لم يلبث أن قرن القول بالعمل، فكان رهيبًا في خطبته، ورهيبًا في تنفيذ أحكامه.
وتمتاز خطبته بما في معانيها من جلاء وبلاغة، وعلى إيجاز كثير في اللفظ، وما في تنسيقها من فنٍّ وجمال. فإنه وقف في القسم الأول منها موقف واعظ يذكر للقوم ذنوبهم، ويذكِّرهم كتاب الله وما فيه من وعد طيب للمتقين، ووعيد راعب للفاسقين.
ثم إنه وقف في القسم الثاني موقف القاضي الشارع، فبين للقوم أنهم أحدثوا في الإسلام أحداثًا غير مألوفة، فأحدث لهم عقوبات غير مألوفة. ونستدل من هذا القسم أن العرب في صدر الإسلام ظلوا يحنُّون إلى جاهليتهم ويدعون بها؛ لأنهم رأوا في الإسلام نُظمًا وقيودًا لم يتعودوها، وأراد زياد أن يفهم البصريين أنه جاد في تنفيذ شرائعه، فأحل لهم معصيته إن تعلقوا عليه بكذبة: «إن كذبة المنبر بلقاء …!» ويختم هذا القسم بدعوتهم إلى الاقتداء به وإلا ضرب أعناقهم.
ووقف في القسم الثالث موقف الحَكم النزيه العادل، المصفَّى من الحزازات والضغائن، المرتفع عن الأحزاب: «فرُب مبتئسٍ بقدومنا سيُسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس.»
ووقف في القسم الأخير موقف سياسي داهية يبث الدعوة للأمويين، فطلب من البصريين السمع والطاعة، ووعدهم بقضاء حاجاتهم، وإعطائهم الرزق في وقته، وعدم حبس الجيش في أرض العدو.
ثم أفهمهم أنهم أعجز من أن يبلغوا مأربًا من أئمتهم إذا أبوا الخضوع لهم، وأن بني أمية خير لهم من غيرهم، وكان ختام خطبته وعيدًا ليظل صوت التهديد يطنُّ في آذانهم: «إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرئٍ منكم أن يكون من صرعاي …!»
(٣-٨) منزلته
قال الشعبي: «ما سمعتُ متكلمًا على منبر قط تكلم فأحسن إلا أحببت أن يسكت خوفًا من أن يسيء، إلا زيادًا، فإنه كان كلما أكثر كان أجود كلامًا.» وقال الحسن البصري: «أوعد عمر فعفا، وأوعد زياد فابتلى.» وقال عمرو بن العاص، وقد سمعه يخطب وهو فتى: «لله در هذا الغلام! لو كان أبوه قرشيًّا لساق العرب بعصاه!» وكأن الأقدار أرادت أن تحقق قول ابن العاص فيه فما استلحقه معاوية وولاه البصرة حتى لمعت عبقريته، فصاحةً وحزمًا ودهاءً، فساق العرب بعصاه …!
(٤) الحجاج (٧١٣م/٩٥ﻫ ؟)
(٤-١) حياته
هو الحجاج بن يوسف الثقفي؛ وُلد في أيام معاوية سنة ٤١ هجرية، وقيل بل سنة ٤٢، ونشأ في الطائف، وعلم فيها الغلمان، ثم جاء الشام واتصل برَوح بن زِنباع الجذامي وزير عبد الملك بن مروان، فكان في شرطته.
(٤-٢) ولايته على الحجاز
(٤-٣) ولايته على العراقين
وخطب الحجاج يومئذ خطبته المشهورة في أهل العراق، ثم أمر كاتبه بأن يتلو عليهم كتاب الخليفة، فقرأ: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى مَن بالعراق من المؤمنين سلام! فإني أحمد الله إليكم …» فصاح الحجاج: «اسكت يا غلام!» ثم قال مغضبًا: «يا أهل العراق، يا عبيد العصا! يسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون عليه السلام! أما والله لأؤدبنكم أدبًا سوى هذا الأدب.» ثم التفت إلى الكاتب وقال: «اقرأ يا غلام الكتاب.» فلما بلغ الكاتب السلام رد أهل المجلس: «وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته.»
إني لأحسبُ أن في قتلك صلاح المِصرَين.» وأمر به فضُرب عنقه وأُنهب ماله.
ثم سار الحجاج إلى البصرة وخطبهم، وتوعد من لا يلحق منهم بالمهلب بعد ثلاثة أيام. فأتاه شريك بن عمر اليَشكُريُّ وكان أعور وبه فتق، فقال «أصلح الله الأمير، إن بي فتقًا وقد رآه بشر بن مروان فعذرني.» فأمر به فضُرب عنقه. فلم يبقَ بالبصرة أحد من عسكر المهلب إلا لحق به. فقال المهلب: «لقد أتى العراق رجل ذكر. اليوم قوتل العدو!» فثبتت مهابة الحجاج في قلوب أهل العراق فدانوا له.
ثم شغب عليه أهل البصرة وعلى رأسهم عبد الله بن الجارود، فأخضعهم وقتل ابن الجارود، وخرج عليه شبيبٌ الخارجي فكانت بينهما وقائع كثيرة كُتب النصر في نهايتها للحجاج. فتفرقت أنصار شبيب عنه، وتردى به فرسه من فوق جسر فسقط في الماء وغرق.
ولما حضرت عبدَ الملك الوفاة قال لبنيه: «أكرموا الحجاج فإنه الذي وطأ لكم المنابر، ودوَّخ لكم البلاد وأذل الأعداء.» فأقره الوليد بعد أبيه على إمارته في العراقين والمشرق.
(٤-٤) موته
وقد ضُرب المثل بجور الحجاج. وروي أنه أُحصي من قتلهم فكانوا عشرين ألفًا ومائة ألف، وكان في سجنه بعد موته خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة.
(٤-٥) آثاره
طائفة من الخطب أكثرها في التهديد، وأشهرها خطبة عند قدومه العراق، وأخرى بعد واقعة دير الجماجم، ومن مآثره أنه أكثر من نسخ مصحف عثمان، وأوعز إلى كاتبه نصر بن عاصم بإعجام الحروف للتمييز بين المتشابه منها.
(٤-٦) ميزته
ليست حجارة المنجنيق بأشد وقعًا على الناس من خطب الحجاج في تهديده ووعيده. فلقد أوتي براعة عجيبة في تصريف الكلام، على جرأة نادرة تتضاءل دونها جرأة زياد، فترى في جمله المقطعة القصيرة قوة لا تراها في غيره، ويبدو لك في ألفاظه شيء من خشونة البداوة يزيد تعابيره عنفًا على عنف.
وهو في خطبه كثير الاقتباس من القرآن، كثير الاستشهاد بالأشعار، ظاهر الحجة، يستهوي سامعيه ويملك إرادتهم، فيريهم ظلمه عدلًا، وعقابه رحمة، ويصور لأهل العراق مساوئهم الكثيرة وتغاضيه عنها، وإحسانه إليهم، حتى يخلبهم، فيتوهموا أنه مصيب في دعواه، وأنهم هم القوم الظالمون.
فإذا أردت أن تتبين بلاغة الحجاج ودهاءه وشدة بأسه، فعليك بخطبه في أهل العراق فإنها أصدق صور لنفس ذلك الطاغية الداهية الملسان. وما قولك برجل قدم الكوفة في اثني عشر راكبًا على النجائب، فجمع الناس في مسجدها، وقام على المنبر يخطبهم مهددًا متوعدًا، على ما في ألفاظه من قوة وبداوة، معتمدًا على الشعر آنًا وعلى الآيات آنًا آخر. وكذلك خطبته بعد دير الجماجم، وفيها يذكِّر أهل العراق غدرهم، وانضمامهم إلى الخوارج، ويذكر لهم الوقائع التي خانوا فيها الخليفة، وساعدوا أعداءه كافرين بنعمته. فهذه وتلك تشتملان على أكثر خصائص الحجاج في تفكيره وتعبيره. فقد صور لأهل العراق غدرهم ونفاقهم، فجعل الشيطان يستبطنهم ويعشش فيهم ويفرخ، فهم لا يذكرون حسنةً، ولا يشكرون نعمة. وما أكثر نِعم الحجاج على أهل العراق، بعد أن أرهقهم تقتيلًا وحبسًا! ولكنه كان يسحرهم بفصاحته، ويذهلهم بمثل هذه الأقوال، فيريهم نقمته نعمة.
ولا ينبغي أن تغفل عن تأثره الشديد بأسلوب القرآن ولا سيما حين يقول: «ثم يوم الزاوية، وما يوم الزاوية … ثم يوم دير الجماجم، وما يوم دير الجماجم؟»
(٤-٧) منزلته
(٥) الكتابة
قلنا في كلامنا على النثر الجاهلي: إن الإنسان الفطري لم يحتَج إلى الكتابة؛ لأن هذا الفن إنما ينشأ بنشوء الجماعات المنظمة، وينمو بنمو القوى المفكرة، ويعظم بعظم الحاجة إليه، وقد ظل العرب في جاهليتهم لا يصطنعون الكتابة إلا قليلًا، حتى جاء الإسلام بفتوحاته، وأنشأ دولة منظمة مترامية الأطراف، فمست الحاجة إلى الكتابة؛ لأن مصالح المملكة قضت بأن يكون لها دواوين تضبط شئونها، وأن يكون الخلفاء على اتصال بعمالهم، والعمال بخلفائهم، وما من سبيل إلى ذلك إلا بالكتابة، فجُعل للدواوين كتاب يتوفرون على تنظيمها. ولم يكن للعرب يومئذ من الثقافة ما يمكنهم من الاضطلاع بهذه الأمور، فجعلت الدواوين على عاتق الموالي أبناء الشعوب الأعجمية المتحضرة التي قهرها المسلمون وافتتحوا بلادها، وكان هؤلاء الموالي لا يحسنون العربية في أول أمرهم، فنظموا شئون الدولة بلغاتهم، فكانت اليونانية في الشام، والقبطية في مصر، والفارسية في العراق وفارس.
وظلت كذلك حتى خلافة عبد الملك بن مروان، فشُرع في نقلها إلى العربية شيئًا فشيئًا، وكان الموالي قد تعلموا لغة العرب وأتقنوها، فاستمرت إدارة الدواوين في أيديهم لبراعتهم في تنظيمها؛ ولأن العرب كانوا لا يرتاحون إلى هذه الصناعات، وربما أنفوا منها.
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي ابن العاصي سلام. أما بعد، فلعمري، يا عمرو، ما تبالي إذا شبِعت أنت ومن معك أن أهلك أنا ومن معي. فيا غوثاه! ثم يا غوثاه!
ولم تطل الرسائل، وتوضع لها الأصول إلا بعد أن نبغ عبد الحميد بن يحيى وكتب لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، فكان هذا المولى طليعة المترسلين البلغاء.
(٦) عبد الحميد الكاتب (٧٤٩م/١٣٢ﻫ)
(٦-١) حياته
هو أبو غالب عبد الحميد بن يحيى الملقب بالكاتب. شامي الأصل، نشأ بين العرب ولم يكن عربيًّا، وقيل: إن ولاءه في بني عامر، وكان في أول أمره يعلِّم الصبية وينتقل في البلدان، وحكي أنه علم في الكوفة حتى اتصل بمروان بن محمد الأموي، وكان أميرًا على أرمينية، فكتب له. فلما بويع بالخلافة أخذه معه إلى الشام. فبقي ملازمًا له لا يفارقه، مع اشتداد الثورة الخراسانية وضعفه عن إخمادها، واشتد الطلب على مروان وتتابعت هزائمه، فقال لعبد الحميد: «القوم محتاجون إليك لأدبك، وإن إعجابهم بك يدعوهم إلى حسن الظن بك، فاستأمن إليهم وأظهر الغدر بي، فلعلك تنفعني في حياتي أو بعد مماتي.»
فقال عبد الحميد:
ثم قال: «يا أمير المؤمنين، إن الذي أمرتني به أنفع الأمرين لك وأقبحهما لي، ولكن أصبرُ حتى يفتح الله عليك أو أُقتل معك.» فلما قُتل مروان استخفى عبد الحميد عند صديقه ابن المقفع، وفاجأهما الطلب وهما في بيت واحد. فقال الذين دخلوا: «أيكما عبد الحميد؟» فقال كل واحد منهما: «أنا» — خوفًا على صاحبه —، إلى أن عُرف عبد الحميد فأُخذ، وسلمه السفاح إلى عبد الجبار صاحب شرطته، فكان يحمي له طشتًا ويضعه على رأسه إلى أن مات سنة ١٣٢ﻫ. وقيل: إنه قُتل مع مروان في مصر، وذكر المسعودي أنه رأى له عقبًا بفسطاط مصر يُعرفون ببني مهاجر، وقد كان منهم عدة يكتبون لآل طولون.
(٦-٢) آثاره
كان عبد الحميد كاتب دواوين، ولم يُعرف عنه أنه عني بتصنيف الكتب كصديقه ابن المقفع. بيد أنه نظم الشعر مثله على قلَّة، فرويت له أبيات لا تعدوها الجودة، وإن كانت لا تجعله في طبقات الشعراء. فإن صاحبنا توفر على إنشاء الرسائل دون غيرها، فبرع فيها، وكان له أثر بيِّن في تبديل أسلوبها القديم. قال ابن خلكان: «إن مجموع رسائله مقدار ألف ورقة.» ولكن لم يصل إلينا منها سوى رسالة ولي العهد، ورسالة الشطرنج، ورسالة الكتَّاب، ورسائل أخرى قصيرة، أو هي قطع من رسائل لم تبلغ إلينا تامة، منها رسالة في وصف الإخاء، ورسالة إلى أهله وهو منهزم مع مروان، وانتهى إلينا عنه عدة تحميدات مستقلة أو متقطعة من صدور كتبه.
وقيل: إنه لما ظهر أبو مسلم الخراساني بدعوة بني العباس كتب إليه عن مروان كتابًا يستميله ويضمنه ما لو قرئ لأوقع الاختلاف بين أصحاب أبي مسلم. وكان من عظمه يُحمل على جمل. ثم قال لمروان: «قد كتبت كتابًا متى قرأه بطل تدبيره. فإن يكن ذلك وإلا فالهلاك.» فلما ورد الكتاب على أبي مسلم لم يقرأه، وأمر بنار فأحرقه، وكتب على جُزازة منه إلى مروان:
ومهما يكن من أمر هذه الرسالة التي حُملت على جمل، وخشية أبي مسلم منها حتى أمر بإحراقها، فإنها تشير — على علاتها — إلى أن الإيجاز الذي تعودناه في رسائل صدر الإسلام قد حل محله الإسهاب؛ وأن عبد الحميد أول من شذ عنه وأطال الرسائل فبلغ بها عدة صفحات، ودليلنا على ذلك رسالة ولي العهد، فإنها تزيد على خمس وعشرين صفحة من القطع المألوف، وآثاره متفرقة في كتب الأدب، جمعها محمد كرد علي في كتاب «رسائل البلغاء».
(٦-٣) السياسة والاجتماع: بين الشعر والنثر
كانت المباحث السياسية، قبل عبد الحميد، تكاد تُقصر على الشعر والشعراء، وإذا عرض لها الخطباء في خطبهم فبلُغة تشبه لغة الشعر، وبإيجاز لا يختلف عن إيجازه، إذا استثنينا ما أضيف إلى علي بن أبي طالب من الخطب الطويلة والعهود المسهبة المفصلة. مع أن هذه المباحث خليقة بالنثر أكثر منها بالشعر، والمنثور خليق بها أكثر من المنظوم. فتناول عبد الحميد المسائل السياسية والاجتماعية بإسهاب وتفصيل ولغة مختلفة عن اللغة الشعرية التي عُرف بها الخطباء في الجاهلية وصدر الإسلام، فجاء كلامهم نثرًا له من الشعر إيقاعه ومجازه وإيجازه، ولكن ليس هو الشعر الفني بصفاء جوهره، وله من النثر تصرفه في الأوزان والقوافي، ونزوعه إلى المنطق والإيضاح والتعليل، ولكن ليس هو النثر الفني بخالص صفاته. ففصل عبد الحميد برسائله بين الشعر والنثر، وميز بأسلوبه أحدهما عن الآخر، وجعل المباحث السياسية في موطنها الصحيح، وإن يكن الشعراء بعده لم يتخلوا عنها أصلًا، فكان فيهم من له في السياسة جولات، ولكن النثر استطاع أن يوفيها حقها عند ابن المقفع والجاحظ والفارابي وابن سينا، ومن جاء معهم أو بعدهم من الكتَّاب الذين ذلَّلوا أوضاع اللغة للأغراض العلمية والفلسفية، فلانت لهم أصلاب متونها، وأسلست قيادها في حقيقتها ومجازها، وكان لعبد الحميد فضل المتقدم في تخطيط طرائقها، وتأسيس بنيَّاتها، فله من أصله العجمي ما يصدفه عن التقليد العربي الموروث، ومن ثقافته الحضرية ما يغريه بأُسلوب طريف تقتضيه الحياة الاجتماعية الجديدة، فإنه لم يقتصر على العربية وآدابها بل كانت له مشاركة في العلوم الدخيلة كغيره من أبناء الموالي المثقفين، وبوسعنا أن نعلم ما ينبغي للكاتب من العلوم في عصره من رسالته التي وجهها إلى الكتَّاب، وبيَّن لهم فيها آداب الكتابة وثقافتها فقال: «فتنافسوا، يا معشر الكتَّاب، في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله — عز وجل — والفرائض؛ ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم وسيرها، فإن ذلك مُعين لكم على ما تسمو إليه هممكم؛ ولا تضيعوا النظر في الحساب فإنه قِوام كتَّاب الخراج.»
فإذا كانت عامة الكتَّاب لا تستغني عن هذه العلوم، فأولى بكاتب الخليفة ووزيره أن يكون واقفًا عليها، متزيِّدًا في غيرها لما نجد في رسائله من أثر اليونانية والفارسية تنم عليه أقسامها المنطقية إلى أغراض وشُعَب مفصلة، وما تشتمل عليه من الآداب السياسية؛ لتقويم ولاة الأمور ورجال الدولة، وتنظيم الخطط والحركات العسكرية في الحروب، وما إلى ذلك من المواعظ والحِكَم التي تصلح بها الشئون الاجتماعية، وتتهذب الأخلاق.
وقد يكون عبد الحميد استفاد من سالم كاتب هشام بن عبد الملك، فإنه كان مقربًا إليه متصلًا به، وربما كلفه الخليفة أن يكتب إلى بعض عماله، فلدينا من آثاره الباقية رسالة كتب بها عن هشام إلى يوسف بن عمر عامله في اليمن، وكان سالم يعرف اليونانية؛ لأن صاحب الفهرست يخبرنا عنه أنه نقل إلى العربية رسائل أرسطو إلى الإسكندر، ولكن لم يبلغنا من آثار هذا المولى ما يتيح لنا أن نحكم على مبلغ تأثيره في كاتب مروان، ولا على مقدار جهده في تجديد النثر، بيد أن المؤرخين القدماء يجمعون على أن الفضل في تطويل الرسائل ووضع أصولها وتنويع فصولها يعود إلى عبد الحميد دون سواه.
(٦-٤) أثر الدين
تصطبغ رسائل عبد الحميد بصبغه دينية ظاهرة؛ لما للقرآن من تأثير في نفوس المسلمين، وكانت آثاره في النثر أبلغ منها في الشعر، كما تبدو في خطب الإسلاميين؛ لأن الخطيب يتوخى — في الغالب — غايتين وهما إثارة العواطف والإقناع، ولا يتوخى الشاعر — في الغالب — غير الغاية الأولى، فكانت حاجة الخطباء إلى الدين أشد من حاجة الشعراء، لأنه ليس كالقرآن من كفيل بإثارة عواطف المؤمن وإقناعه، إذا دُعي إلى جهاد أو طاعة أو عصيان.
وجرى عبد الحميد في رسائله على سنة الخطباء؛ لأنه كان يقصد بها إلى ما يقصدون بخطبهم، وهو — إلى ذلك — كاتب أمير المؤمنين، ناطق بلسانه، فلا ينبغي أن تبتعد كتبه عن روح القرآن. ففيها التحميدات الطويلة، وفيها المواعظ والوصايا الدينية، وفيها الآيات الكثيرة يستشهد بها أو يتوسع في تفصيلها وتحليل معانيها، مثل قوله في الرسالة التي كتبها عن هشام إلى يوسف بن عمر، ناظرًا إلى الآية التي تقول: لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ: «لتحمد الله وتشكره به. فإن الشكر من الله بأحسن المواضع، وأعظم المنازل. فازدد منه تزدد به، وحافظ عليه وتحفَّظ به، وارغب فيه يهد إليك مزيد الخير، ونفائس المواهب، وبقاء النعم. فأقرئ على من قِبَلَك كتاب أمير المؤمنين إليك ليسر به جندك ورعيتك، ومن حمله الله النعم بأمير المؤمنين؛ ليحمدوا ربهم على ما رزق الله عباده من سلامة أمير المؤمنين في بدنه، ورأفته بهم، واعتنائه بأمورهم. فإن زيادة الله تعلو شكر الشاكرين، والسلام!»
على أننا لا نعلم شيئًا عن حياته الدينية لنتبين مبلغ ائتلافها بكتاباته، وإنما نعلم أنه صديق حميم لابن المقفع، ولم يكن هذا الفارسي على شيء من الإسلام، بل كان مجوسيًّا على دين آبائه وأجداده، وأسلم في بني العباس إرضاءً للأمراء الذين حظي عندهم، وظل — مع ذلك — متهمًا بعقيدته. فهل جمعت الصداقة بين المؤمن والكافر دون أن تتفاعل العاطفة الدينية في قلبيهما معًا، فيجتمعا على كفر أو على إيمان، كما اجتمعا على المودة والوفاء؟ أوَلم يكن يجري بينهما ما يجري عادة بين صديقين مثقفين، يميلان إلى الحياة العقلية، من مجادلات فلسفية تقودهما إلى البحث في العقائد والأديان، وكلاهما مرتاض بالآداب الفارسية والحكمة اليونانية، فيحاول أن يؤثر في صاحبه ويقنعه ويجتذبه إلى رأيه ومذهبه؟
لا نستطيع أن نقطع في الجواب عن هذين السؤالين، وإن كنا نعلم أن ابن المقفع لم يجحد مجوسيته في بني أمية، وأن عبد الحميد لم يُغمز في عقيدته الإسلامية، مع تأثير الفكر الأعجمي فيه، حتى إنه ما كان يستشهد بشعر ولا مثل عربي، شأنه — في ذلك — شأن ابن المقفع، وإنما يؤثر مثله الأمثال التي تذكِّرنا بالحكمة الفارسية الهندية، مثل قوله في رسالة الكتَّاب: «وقد علمتم أن سائس البهيمة، إذا كان بصيرًا بسياستها، التمس معرفة أخلاقها. فإن كانت جَموحًا لم يَهِجها إذا ركبها، وإن كانت شَبوبًا اتقاها من قِبَل يديها، وإن خاف منها شرودًا توقاها من ناحية رأسها، وإن كانت حَرونًا قمع برفق هواها في طرقها. فإن استمرت عطفها يسيرًا فيَسلَس له قيادها. وفى هذا الوصف من السياسة دليل لمن ساس الناس وعاملهم وخدمهم وداخلهم.»
فكل ما نستطيع أن نقوله هو أن الإسلام أبلغ أثرًا في كتاباته منه في كتابات ابن المقفع بعد إسلامه، فإن صح فيه أن الإنشاء صورة لصاحبه، فخليق به أن يكون مسلمًا راسخ الإيمان.
(٦-٥) الأهل
وكأنه كان ينظر إليه وهو يتحرك ويصيح، فيكاد لا يصدق حلول هذه النعمة عليه، مع ما وهبه الله من النعم السالفة، فيخشى زوالها عنه، فيقول: «ما يُدركني به من رقة الشفقة عليه مخافة مجاذبة المنايا إياه، ووجلًا من عواصف الأيام عليه.» ويسأل الله أن يجعل ما يَهَب من سلامته والمدة في عمره موصولًا بالزيادة، مقرونًا بالعافية، محوطًا من المكروه.
فهذه الرسالة ناطقة بحب الوالد الشفيق وحنوه على أولاده، ومثلها رسالة أخرى كتبها وهو منهزم مع مروان، تطارده الأعداء، وترهقه الكوارث، فلم تشغله الهموم والأحزان عن تحبيرها إلى أهله، يذكر لهم فيها مصائب الدنيا وكرائهها، وما يلقى من الأسى في ابتعاده عنهم؛ ويبين لهم حرج الموقف وما يحدق به من خطر الأسر المهين، أو خطر الهجرة الطويلة لا رجوع بعدها إليهم، ولكنه لا يقنط من رحمة الله ومعونته. قال فيها: «وقد كتبت والأيام تزيدنا منكم بعدًا، وإليكم وجدًا، فإن تتم البلية إلى أقصى مدتها، يكن آخر العهد بكم وبنا، وإن يلحقنا ظُفْر جارح من أظفار من يليكم، نرجع إليكم بذل الإسار، والذل شر جار. نسأل الله الذي يُعز من يشاء ويذل من يشاء أن يهب لنا ولكم ألفة جامعة في دار آمنة، تجمع سلامة الأبدان والأديان، فإنه رب العالمين وأرحم الراحمين!»
فإذا كان المؤرخون قد أهملوا أمر الكلام على حياته في أسرته، فمن هاتين الرسالتين نتنسم آصرة الكاتب على أهله وولده.
(٦-٦) الصديق
فلا تمكنوا ناصية الدولة العربية من يد الفئة الأعجمية، واثبتوا ريثما تنجلي هذه الغمرة، ونصحو من هذه السكرة، فسينضب السيل، وتمحى آية الليل، والله مع الصابرين، والعاقبة للمتقين.
ولو شاء أن يستأمن إلى العباسيين ملبيًا صوت عجميته لرأى من إعجابهم بأدبه، وحاجتهم إلى براعته ما يحملهم على تأمينه وتقريبه وحسن الظن به، كما قال له مروان. فصوت الشعوبية كان أخف وقعًا في أذنيه من صوت الصداقة والوفاء، فسار في ركب الأمويين حتى تقطعت الآمال وقُطِّعت الأعناق.
ولم تقتصر آراؤه في الصداقة على ما أوردنا من أقواله المقتطفة بل هناك رسالة له، في الإخاء، يبين فيها أسباب المودات الخالصة ودعائمها بأسلوب خطابي تكثر فيه الأوصاف المجازية التي تلمس المعنى عن بعد وترسله مطلق الجناح بدون تقييد، وهي — في جملتها — لا تعدو أقواله وأفعاله التي تقدَم ذكرها، مع ما فيها من اتساع التعبير وتقليب الجمل على المعاني المتقاربة. فأهل المودات يصلون إلى الإخاء بصدق التقوى، ويبنون دعائمه على أساس البر، يشيِّده مستعذب العِشرة، فيكون قويًّا صافيًا من الكدر: «تسكن به القلوب، وتسمو من مواصلته الهمم عن كل زائغ معتاف ومخوف عارض.» لا يدخل على صاحبه سآمة ولا ضعف عند عوارض الأقدار وحوادث الزمان بل يؤاسي في الأزمات، مقتحمًا غمرات المهالك: «حتى تصير به الأقدار إلى تناهيها، ويبلغ به القضاء مقداره، غير منَّان النصرة، ولا بَرِم التعب. يرى تعبه غُنمًا، ونَصبه دَعة، وكَلَفه فائدة، وعمله مقصِّرًا.»
بمثل هذه الأوصاف حدد عبد الحميد إخاء أهل المودات في رسالة كتبها إلى صديق جوابًا عن سؤال له عرض فيه لهذه العلاقة الاجتماعية، وكان يود لو توسع في الموضوع، فشعب الكلام في تصنيف طبقات الرجال، ومن أين دخل عليهم نقص الإخاء؛ ولكن ورد عليه سؤال صديقه، وهو محصور العقل، متقسم الذهن في مشاغل الدولة، وما يكلفه الأمير من تدبير شئونها، والاهتمام بأحوال الخزر وبعث الرسل إلى جبال اللان والطبران وما والاهما بنوافذ أمره. فلم يتسنَّ له أن يحقق رغبته، فاكتفى بهذا القدر من صفات الإخاء، ومودة أهل الحجى، فكان فيه صادق التعبير عما يشعر به من جلال الصداقة الفاضلة وقداسة حرمتها، كما ميزها أرسطو، لا صداقة المنفعة التي ليس لها بقاء إلا ببقاء عائدتها.
(٦-٧) الرئيس والمرءوس
يجعل عبد الحميد للفضائل الدينية والخلقية مكان الصدارة في سياسة الدولة، فينبغي للرئيس والمرءوس أن يتزينا بها في أعمالهما وعلائقهما. فرسالة ولي العهد عظة بليغة في آداب الملوك، تطلعنا على مدى معرفته بالصفات التي تلزم الأمراء في تدبير الملك وتصريف أموره، وما يتصل بها من خصال يأخذون بها نفوسهم، وخصال يأخذون بها مَن دونهم. كتب بها إلى الأمير عبد الله عن أبيه مروان سنة ١٢٨ﻫ يأمره بأن يسير إلى ملاقاة الضحاك بن قيس الشيباني الخارجي، وكان قد استولى على الموصل وكُوَرها، وعبد الله يومئذ نائبه على الجزيرة. فجاءت الرسالة على قسمين كبيرين، أحدهما يتعلق بالسياسة المدنية، والآخر بالسياسة العسكرية، وفي كليهما ظهرت حنكة الكاتب، وشمول ثقافته، وسعة اطلاعه، وحسن تدبيره، وغرضنا الآن القسم الأول منها، فإنه يشتمل على ما يحتاج إليه ولي العهد من أمور دينه ودنياه، فيذكره أن الخليفة لم يندبه إلى هذه المهمة الخطيرة إلا لثقته بمزاياه الدينية والخلقية، فيدعوه إلى التوكل على الله، وأن يقرأ كل يوم جزءًا من القرآن مهتديًا بهديه، ويحذره من الغفلة وغيرها من دخائل النقص التي يخشى عليه منها.
ويشير عليه أن تكون حاشيته وجلساؤه من المجربين الذين عرفوا بالفقه والورع والطاعة وصدق النصيحة؛ وألا يأذن لأهل مجلسه بالاسترسال في الحكايات والمضاحك التي يأنس بها ذوو الجهالة، حفاظًا على الشرف ودفعًا لمثالب الحاسدين.
ومن عيوب ذوي السلطان، وعلى الأمير أن يبرأ منها، ضعفهم عن ضبط أنفسهم في مواكبهم. إذا سايروا العامة، يستخفهم اجتماع الناس حولهم، فيكثرون من التلفت زهوًا وأشرًا، وربما أقبل أحدهم على مداعبة مسايره، مع أنه يحسن بالسلطان أن يظل مطرق النظر لا يتلفت إلى محدثه في موكبه، ولا يُقبل عليه بوجهه، ولا يخف في السير فيقلقل أعضاءه بالتحريك.
وعليه أن يتحرَّز من أصحاب السعاية الذين يتظاهرون بالنصيحة، وغايتهم إغراؤه بغيرهم من الناس ليوقع بهم. فينبغي أن يكلف صاحب شرطته أو بعض قواده استماع أقاويلهم والفحص عنها، ليتبين صادقها من كاذبها، فإذا حقَّت العقوبة تولاها الفاحص بنفسه، فإن أخطأ نسب الخطأ إليه، ولا يجري مكروه على يد الأمير، وأما العفو والرحمة وإخلاء السبيل فيتولاها الأمير دون غيره، وبذلك يقرن خصلتين: ثواب الله في الآخرة، ومحمود الذكر في العاجلة.
ولا ينبغي أن يصل إليه أحد من جنده وخاصته وبطانته أو من الوفود والرسل بمسألة إلا بواسطة كاتبه، فإن أراد قضاءها استقبله وقضاها له، وإلَّم يُرِد قضاءها، جعل رده على يد كاتبه، فيحمل اللوم عنه.
ويجمل به أن يمنع أهل بطانته وسواهم من اغتياب الناس وتمزيق أعراضهم في حضرته، وأن يستقبل محدثه والناظر إليه بإطراق جميل وسكون، فذلك أدعى للهيبة والوقار، وأن يتصفح وجوه قواده ليعرف من حضر منهم ومن غاب، فيسألهم عن أشغالهم التي منعتهم عن الحضور.
وعليه أن يتجنب حشو الكلام وترديد فضوله من نحو: اسمع، أو اعجل، أو ألا ترى، فإنها تُزري بالعاقل وتنسبه إلى العي، ومن معايب الملوك والسوقة كثرة التنخم، والتبزق، والتنحنح، والتثاؤب، والجشاء، والتمطي، وتنقيض الأصابع وتحريكها، والعبث باللحية والشارب، والمِخصرة، وذؤابة السيف، والإيماض بالنظر والإشارة بالطرف إلى أحد الخدم، والسرار في المجلس، والاستعجال في الأكل والشرب.
ويختم هذا القسم بقوله: «وهذه جوامع من خصال قد لخصها أمير المؤمنين، وجمع شواهدها مؤلفًا وأهداها لك مرشدًا، تقف عند أوامرها، وتنتهي عند زواجرها، إلخ.» لأن الرسالة — في مجموعها — أمر ونهي وترغيب وترهيب، فلا يصح أن يخاطب بها وليَّ العهد إلا أبوه، وهي — إلى ذلك — تناسب الحكم المطلق بالممالك الأوتوقراطية في تصنيف الرعية ثلاث طبقات، أرفعها الأشراف ورجال الدين، وأدناها طبقة العامة؛ وفي ضرورة تحمل المرءوس تبعات الخطأ ومساوئه، ونسبة الصلاح والصواب إلى الرئيس، وهذا ما نجده — بعد عبد الحميد — في رسالة السياسة المدنية المأثورة عن الفارابي. على أنها لا تغفل الشورى، ولا تهمل النظر في أحوال السوقة وإصلاح أمورها، وإقامة قسطاس العدل في قضاياها، وفتح باب الرحمة عليها، فكانت رسالة جامعة للآداب العامة والآداب الخاصة بالملوك.
ومثلها الرسالة التي وجهها إلى كتَّاب الدواوين، يوصيهم فيها بأن يلتزموا الخلال التي ينبغي أن يتحلوا بها ليكونوا خلقاء بالعمل الموكول إليهم، مبينًا لهم قيمة الكتابة وشرفها. فعلى الكاتب: «أن يكون حليمًا في موضع الحلم، فهيمًا في موضع الفهم، مقدامًا في موضع الإقدام، محجامًا في موضع الإحجام.» وأن يُعرف بالعفاف فلا يختلس من مال الدولة ولا يرتشي؛ وبالعدل فلا يجور على الرعية؛ وبكتم الأسرار فلا يذيعها؛ وبالوفاء عند الشدائد وأن تكون له ثقافة عامة ومعرفة بالعلوم التي لا يستغني عنها في حرفته، وقد تقدم ذكرها في كلام سابق.
وإذا كان سائس البهيمة بصيرًا بسياستها التمس معرفة أخلاقها ليحسن قيادها ومداراتها، والكاتب بفضل أدبه وشريف صنعته، أولى بالرفق من سائس البهيمة: «فليكن على الضعيف رفيقًا، وللمظلوم منصفًا، فإن الخلق عيال الله، وأحبهم إليه أرفقهم بعياله. ثم ليكن بالعدل حاكمًا، وللأشراف مكرمًا، وللفيء موفرًا، وللبلاد عامرًا، وللرعية متألفًا، وعن أذاهم متخلفًا، وليكن في مجلسه متواضعًا حليمًا، وفي سجلات خراجه واستقصاء حقوقه رفيقًا.»
ومراده بالرفق ألا يتحيف بيت المال في جباية الضرائب، وألا يعنف على الشعب في استئدائها.
ويدعوهم إلى التعاون في الملمات، كما تتعاون النقابات في زماننا: «فإن نبا الزمان برجل منهم عطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله؛ وإن أقعد أحدًا منهم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه، زاروه وعظموه، واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته، وإن عرضت في الشغل محمدة، فعلى الكاتب أن يصرفها إلى صاحبه؛ وإن عرضت مذمة، فليحملها هو من دونه.» إلى ما هنالك من الوصايا التي تليق بشرف الكتابة، وتحث على التزين بمكارم الأخلاق.
وكذلك رسالة الشِّطْرَنج، فإنها تطلعنا على مبلغ عناية الراعي بتقويم أود رعيته إذا جارت عن النهج السوي، فقد كتب بها إلى بعض الولاة يعلمه فيها أنه بلغ أمير المؤمنين أن جماعة من المسلمين في ناحيته ينصرفون إلى لعب الشطرنج، ملتهين به عن الصلوات، تاركين أعمالهم، لا ينفكون عنه من الصبح إلى المساء، مع ما يتخلله من مداعبات سمجة وألفاظ قبيحة يظهرون بها في الأندية والمجالس؛ فاستفظع أمير المؤمنين ذلك منهم، فأحب أن ينذرهم متقدمًا إليه بأن يأمر عامل شرطته في إنزال العقوبة بهم، وإطالة حبس من يؤخذ منهم وهو مظهر اللعب معتكف عليه، ويوصيه بأن يطرح اسمه من ديوان أمير المؤمنين.
وهناك رسائل قصيرة أو قطع رسائل تتصل بسياسة الدولة في ما ينبغي أن تعرفه الرعية من الأنباء التي تطلعها على عظمة الملك وقوته، وفتوحه، أو على اهتمام السلطان بأمورها، وتفقُّد أحوالها، وتبشيرها بسلامته عندما تدعو الحاجة، توددًا إليها، وإشعارًا لها أنه واثق بإخلاصها ومحبتها، وسرورها بهذه البشرى، لعلمها أنه لا خير لها يرجى إلا في دولته وبقاء عرشه، ويقطع بذلك قالة السوء على الذين يذيعون الأخبار الكاذبة أو الصادقة، وخصوصًا بعد انشقاق البيت المالك بعضه على بعض، مع تألب الأحزاب والخوارج، وتفاقم خطر الدعوة العباسية في خراسان، ولو انتهت إلينا رسائل عبد الحميد بأجمعها لأمكننا أن نتبين فيها من أثر السياسة المتقلبة وحالة العصر شيئًا أكثر وأوضح، وإن يكن ما بقي منها كافيًا للدلالة على ما قام به في السياسة المدنية من العمل الصالح للخير والإصلاح.
(٦-٨) السياسة العسكرية
يطلعنا القسم الثاني من رسالة ولي العهد على ما بلغ إليه عبد الحميد من ثقافة عسكرية، وعلم بفنون القتال، وعلى ما للأعاجم المستعربين من فضل في تنظيم الجيوش العربية وحسن تدريبها، إذا نظرنا إلى حالتها في الجاهلية وأوائل صدر الإسلام، ونرى ذلك ظاهرًا في أنواع السلاح، ثم في الآداب العسكرية التي تُعرف اليوم عندنا بالانضباط، ثم في الخطط الحربية، ثم في حركات القتال.
(٦-٩) السلاح
(٦-١٠) الآداب العسكرية
تكلم عبد الحميد على الآداب العسكرية في مواضع شتى من رسالته، فألمَّ بالنظام والطاعة والتهذيب، وما إليها من الخصال الكريمة التي تُطلب من الجندي ليستكمل مزاياه الرفيعة، فكان فيها المؤدب الفاضل للجيش العربي القديم، يسنُّ له النظم الصالحة لتدريبه وإزكاء خصاله العسكرية، وهي في جملتها توافق الأنظمة الحديثة في عصرنا، وإن تكن دونها دقة وشمولًا واتساعًا، ولها قيمة تاريخية لا تُنكر، لدلالتها على أفضل الصفات العسكرية في العصور الخالية، وعناية الأمويين بتقويم جنودهم ورياضة أخلاقهم. فالقواد مسئولون عن آداب رجالهم، مفوض إليهم الأخذ على أيديهم وتدريبهم على السمع والطاعة لأمرائهم؛ حتى يتبعوا أمرهم، ويقفوا عند نهيهم؛ لأن استخفافهم بقوادهم استخفاف بولي العهد القائد الأكبر، وتضييعهم لأوامرهم دخول الضياع على أعماله. فيجب أن يُقمَعوا عن الإخلال بمراكزهم لشيء ما وُكِّلوا به من أعمالهم، فإن ذلك مفسدة للجند، معيٍّ للقواد من الجد والمناصحة والتقدم في الأحكام، ولا يُؤذن لهم في الحرب أن ينتشروا ويضطربوا ويتقدموا طائفتهم، لئلا تصاب منهم غرة يجترئ بها العدو ويقوى ويداخله الطمع.
فعلى القواد أن لا يتوانوا في قمعهم وتقويمهم ورياضتهم على الطاعة، ويحق لهم أن يعاقبوهم عقوبة تأديب وتثقيف أود، ولكن لا يجوز لهم أن يبلغوا بها تلف المهجة وإقامة الحد في قطعٍ أو إفراط في ضرب، أو أخذ مال، أو عقوبة في سفر. فهذه الأحكام يقوم بها ولي العهد بنفسه، أو صاحب شرطته بأمره، وعن رأيه وإذنه. فإنه لا ينبغي أن يذل الجنود لقوادهم. فإذا ذل الجند صعب على الأمير — بعد ذلك — أن يعنف القواد ويعاقبهم إذا أخطئوا، أو فرط منهم تقصير في شيء أسنده إليهم.
ومن فضائل الجندي أن يكف معرته عمن يمر به من أهل الذمة أو من المسلمين، فيكون معهم حسن السيرة، عفيف النفس، متحليًا بالوقار.
وإذا تدانى الصفَّان، واحتضرت الحرب، فعلى الجند أن يلزموا الصمت وقلة التلفُّت إلى المشار له، وكثرة التكبير في نفوسهم، والتسبيح بضمائرهم، لا يظهرون تكبيرًا إلا في الحملات والكرات والاقتراب من العدو؛ فأما وهم وقوف فإن ذلك من الفشل والجبن.
وإن فاجأهم العدو وبيَّتهم ليلًا، فلا ينبغي أن يرفع أحد صوته بالتكبير، معلنًا للإرهاب، إلا الناحية التي وقع فيها العدو، ويظل سائر الجند هادئين.
وإذا اتبعوا العدو — بعد كسره — فليكونوا في سكون ريح، لا يتلفظون بالكلام القبيح، بل يكثرون التسبيح والتهليل بلا لجب وضجة ولا ارتفاع ضوضاء.
فهذا مجمل ما جاء في الرسالة من تبيان فضائل الجندي المدرب، وهي، على إيجازها في هذا الموضوع، محيطة بنواحٍ مختلفة من الآداب العسكرية، أو نظام الانضباط.
(٦-١١) الخطط الحربية
عني عبد الحميد بأن يبين لولي العهد الخطط التي يحسن به أن يترسمها في مقاتلة العدو ليأمن الكسرة، وينال النصر عليه، وإنها، وإن لم تكن خططًا واسعة النطاق، لَتُلائم السلاح الذي يحاربون به، والأرض التي تتحرك العساكر عليها، وأسباب المواصلات في الزمان الخالي. فقد أوصاه بأن يكون موضع نزول الجند مستديرًا ضامًّا جامعًا، وألا يكون منتشرًا ولا ممتدًّا، فيشق ذلك على صاحب الأحراس الذي يتولى رعاية الجيش من المفاجآت، ويكون فيه النهزة للعدو، والبعد عن المادة إن طرق طارق في الليل.
وينبغي له أن يتعرف المواضع والمياه التي ينزل بها، فربما كان الموضع ضيقًا والمياه قليلة، فلا يمكنه القيام به ولا مطاولة العدو ومكايدته، ولا يأمن هجومه عليه لإزعاجه منه، ومن الخير أن يجعل نزوله في خندق أو حصن يأمن به البيات، فيقطع لكل قائد ذرعًا من الأرض بقدر أصحابه، يحتفرونه عليهم ويطرحون له الحسك دون الرماح والتِّرسَة، لتنشب في أرجل من يدوسها من الخيل والناس الطارقين، على أن يكون له بابان يحرس كل واحد منهما قائد في مئة من أصحابه.
ويحسن بالأمير أن يجعل الحيل والخدع في مقدمة خططه المرسومة، فإن الحرب خدعة كما جاء في الحديث، والجواسيس رأس المكيدة، فعليه أن يبثهم في معسكر العدو متطلِّعًا لعلم أحوالهم ومنازلهم ومطامعهم، وإذا تناقضوا في الأخبار، فلا يعجل إليهم بسوء الظن والعقوبة؛ لأنه لا يدري صادقهم من كاذبهم، ولعل أمورًا جرت فجعلتهم يتناقضون، وليحذر أن يعرف بعضهم بعضًا لئلا يتواطئوا عليه ويمالئوا العدو؛ أو أن يُعرَفوا في معسكره، وللعدو عيون راصدة، فلا يأمن أن يُبلغوا خبرهم إلى صاحبهم فيُنزل بهم العقوبة، ويكسر من نشاطهم، فيعدلوا عن استقصاء الأخبار إلى أخذها عن عُرُضٍ من غير ثقة ولا معاينة.
ويفيض في الحديث عن الجواسيس وما يترتب على أخبارهم وصدقهم وغشهم من النتائج مما يدل على أن شأنهم في العصور القديمة لا يقل عن شأنهم في عصرنا الحاضر.
ومن المكايد أن يغتمد الحيلة لشق عسكر العدو وإخراج القواد عن رئيسهم، وذلك بأن يكاتبهم ويعدهم المنالات والولايات لعلهم ينتقضون عليه؛ أو أن يطرح إلى بعضهم كتبًا كأنها جوابات عن كتب جاءته منهم؛ وأن يكتب على ألسنتهم كتبًا تبلغ صاحبهم، فتحمله على اتهامهم، فقد تفضي هذه المكيدة إلى افتراق كلمتهم، وتشتت جمعهم.
وعلى الجملة فالأمير مسئول عن جميع الخطط الحربية التي تمهد طريق النصر، وتساند الحركات العسكرية إذا كان لا مخلِّص له من القتال.
(٦-١٢) الحركات العسكرية
كان قواد العرب يرتبون الجيش صفًّا صفًّا في أوائل الإسلام، ثم عمدوا إلى تقسيمه كراديس فعلهم في واقعة اليرموك، ثم أخذوا الطريقة الفضلى التي أُطلق بها على الجيش اسم الخميس لترتيبه على أقسام خمسة، وهي المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب، على أشكال مختلفة من مربع أو هلالي، وهذه الطريقة يوصي بها عبد الحميد ولي العهد في رسالته إليه. فإذا كان من عدوه على مسافة دانية، سار بالجيش على هذه الأهبة، قد شهروا السلاح ونشروا البنود والأعلام، ويولي شرطته وأمر عسكره أوثق قواده، ويحسن أن يكون معروف البيت مشهور الحسب، فذلك أضمن لهيبته ومناصرة عشيرته له.
ويرى أن الطلائع أول مكيدة المحارب، لأنها تسعى إلى جس نبض العدو واستدراجه، والكشف عن أحواله، فيشير على الأمير أن ينتخب لها رجالًا ذوي نجدة وبأس وخبرة، كما يشير عليه أن يعنى بإقامة الأحراس، وإذكاء العيون، وحفظ الأطراف؛ وأن يجعل على الساقة أوثق أهل عسكره ليعاقب الهارب، ويعطف على الضعيف والمريض، وخلف الساقة رجلًا من وجوه القواد في خمسين فارسًا جليدًا، ليُلحق من يتخلف من الجند بعد عقوبته، وليلقى الكمين إذا ظهر في مؤخرة الجيش.
وعليه أن يوكل بخزائنه ودواوينه رجلًا أمينًا ذا ورع، ومعه فرسان ترافق الخزائن، ويكون العسكر مجانبًا لها، متخلفًا عنها من تحوله إليها عند الجولة والفزعة.
وينبغي أن يكون الرحيل إبَّانًا واحدًا، ووقتًا معلومًا، لتخف المؤنة على الجند في معالجة أطعمتهم وأعلاف دوابهم، متى عرفوا أوان رحيلهم، ولا ينادى بالرحيل حتى يأمر صاحب التعبية العسكر بالاستعداد لكل مفاجأة واعتداء، فيرحل الناس والخيل واقفة، والأهبة معدَّة، ويسيرون بسكون ريح وهدوء، ولا ينزلون في موضع إلا بعد الفحص عنه والتوثُّق فيه، والتحصين له، ونشر الدبابات والأحراس حوله؛ لئلا يطرقهم العدو وهم على غير منعة ووقاية.
فإن ابتلي ببيات عدوه، ظلت الناحية المطروقة لازمة مراكزها، لا تتقدم للمجالدة بالسيوف، بل تمد الرماح وترشق بالنبال، وتكبِّر ثلاثًا ليعرف مكانها فيرسل إليها المدد ليفرج عنها برماحه ونشابه.
وعندما يتواقف الجمعان للقتال فليس إلا الصمت، وقلة الجزع، والتوكل على الله، والتسبيح والتكبير في القلوب.
وأوصى الأمير أن يبعث مكبِّرين بالليل والنهار يطوفون على العسكر قبل المواقعة، يحضونهم على القتال، ويحرضونهم على عدوهم، ويصفون لهم منازل الشهداء وثوابهم، ويذكرونهم الجنة ورخاء أهلها وسكانها، ويجمل به — إذا استطاع — أن يباشر تعبية الجند بنفسه مع رجال من ثقات فرسانه ذوي سن وتجربة؛ وينبغي ألا يخوض غمار الحرب إلا بعد أن يدعو العدو إلى الطاعة وترك العصيان.
فرسالة ولي العهد وثيقة تاريخية تطلعنا على ما بلغت إليه العرب، في فنون الحرب، من التنظيم والارتقاء زمن الأمويين.
(٦-١٣) أسلوب عبد الحميد
بلغت صناعة الترسُّل عند عبد الحميد درجة رفيعة من البلاغة، وخرج بها النثر الفني إلى ميزته التي استقل أو كاد يستقل بها عن الشعر، فلم تغلب عليه النغمات والنبرات الصوتية التي نجدها في خطب علي وزياد والحجاج، ولا تلك الصور الشعرية المتلألئة في التشابيه والكنايات والاستعارات؛ ولا ذاك الخيال المغرب الذي يرين على الحقيقة فيموهها بإغرائه وفتونه؛ ولا ذلك الإيجاز الذي يكثر فيه الحذف والتلويح، ولا يخلو بعض الأحيان عن الإخلال. فقد كتب عبد الحميد رسائله بلغة أدبية رصينة، متينة على غير خشونة، خالية من العبث والمضاحك على غير جفاف، تنبض الحياة فيها على غير خفة وأشر، وعالج المباحث السياسية والاجتماعية بروية العاقل وأسلوب الأديب، لا ينتقص الفكر، ولا يتحيف الفن، يؤثر الإسهاب على الإيجاز، ويميل إلى التفصيل أكثر منه إلى الإجمال. يتوخى بلوغ الحقيقة، ولا يعرض عن المجاز، فيكثر من الكنايات والاستعارات، ولكنها قريبة المدلول لا تجنح إلى الإغراب، وتقل عنده الصور التشبيهية، فنكاد لا نرى منها إلا ما جاء من باب المحاكاة والمماثلة مثل قوله: «وسيحتال لك كاحتيالك له، ويُعدُّ لك كاعتدادك له.» ولا نظفر بالتشبيه التصويري إلا نادرًا حيث يقول: «مبهمة السرد، وافية الوزن، كتريك النعام في الصنعة.» بيد أنه يعنى بالنعوت عناية ظاهرة، وقد يتوالى بعضها إثر بعض، فلا تثقل ولا تتنافر لما بينها من إضافات فاصلة كقوله: «فليول عليهم رجلًا ركينًا مجربًا، جريء الإقدام، ذكي الصرامة، جلد الجوارح، بصيرًا بموضع أحراسه، غير مصانع، ولا مشفِّع للناس.»
وتتوافر المنصوبات متتابعة في الجمل المقطعة المتوازنة، فهنا المصادر والمفاعيل، وهناك الحال والتمييز، تتداعى أصواتها متجاوبة، فتُحدث في السمع وقعًا جميلًا لا يُجحَد تأثيره في التعبير الأدبي.
وموازنة الجمل لها مكان الصدارة في أسلوبه، يؤثر القصيرة منها، فإذا طالت لا تسرف في الطول، ويمدها بواو العطف، فتتعاقب موصولة الأطراف. متعاشقة الأجزاء، وربما وردت مترادفة، يقلبها على المعاني المتشابهة والمتقاربة، رغبة في الإسهاب والتبليغ، واستطرابًا لائتلافها وحسن موقعها. فيقول: «جريئًا على مخاطر التلف، متقدمًا على ادِّراع الموت، مكابرًا لمرهوب الهول، متقحمًا مخشي الحتوف، خائضًا غمرات المهالك.»
وهذه المماثلات والمترادفات لم ينهكها التعمل وفساد الذوق. فإن له من سلامة الطبع ورهافة الحس الفني ما يقصيه عن التكلف الممقوت. فأتت هذه الأشياء ونظائرها جارية على سجية النفس، ملبية صوت البلاغة، حرة مطمئنة في منازلها، لا مقودة مُكرهة متعبة، ولم تكن الصناعة البديعية من طلباته، فقلت أسجاعه ومجانساته، فلا تشعر بها إلا إذا تلمستها؛ لأنها تمر خفيفة عى الأسماع، خفية عن الأنظار، كأن بها حياء، فلا تُرنن خلاخيلها ودمالجها، ولا تعرض زينتها وتبرجها.
ومع ما في رسائله من تقسيمات منطقية لأغراضها وأجزائها، ومع ما فيها من مباحث عقلية في السياسة والاجتماع، فإنه لم يأنس بالقياس المنطقي الذي حفلت به مصنفات صديقه ابن المقفع، وقلما ضرب الأمثال لتأييد حجته كمثل سائس البهيمة. فليس في رسائله سوى أدلة خطابية وأوصاف أدبية تحدث تأثيرًا في النفس، ولا يصح أن تُعد دعامة عقلية لآرائه، وهي إلى ذلك مطلقة العنان محطمة القيود؛ والأمثلة عليها كثيرة، ولا سيما تحديده للإخاء.
ولعل ذلك يعود إلى أن اللغة لم تكتسب في بني أمية دقة التعبير العلمي الذي أحرزته في بني العباس، على ما في طبيعة اللسان العربي نفسه من السعة والاحتمال، في استشفاف التعابير ومعاني الألفاظ، فكثر في كلامهم التأويل واختلفت الشروح والتفاسير.
وعلى الجملة، فعبد الحميد من أصحاب الأساليب الشخصية التي تعرف بها أصحابها، وإنشاؤه صورة جلية على الارتياح إلى التأمل في آداب نفسه وأخلاقه الإنسانية.
(٦-١٤) منزلته
إذا ذُكر عبد الحميد قيل إنه أول من وضع أصول الرسائل وأطالها وفصلها، وأكثر من التحميدات، واستعمل في بعض كتبه الإيجاز البليغ، وفي بعضها الإسهاب المفرط على ما اقتضاه الحال، وقيل: «فُتحت الرسائل بعبد الحميد وخُتمت بابن العميد.» وقال ابن خلكان: «وكان في الكتابة وفي كل فن من العلم والأدب إمامًا، وعنه أخذ المترسلون ولطريقته لزموا، ولآثاره اقتفوا، وهو الذي سهل سبيل البلاغة في الترسل.» وضُرب المثل به فقيل: أبلغ من عبد الحميد، وكان أحمد بن يوسف يقول في رسائله: «ألفاظ محككة وتجارب محنكة.» وقال ابن نُباتة: «إنه البالغ إلى أعلى المراتب في الكتابة البليغة.» وقال جعفر بن يحيى البرمكي: «عبد الحميد أصل، وسهل بن هارون فرع، وابن المقفع ثمر، وأحمد بن يوسف زهر.» وكان أبو جعفر المنصور يقول: «غلبنا بنو أمية بثلاثة أشياء: بالحجاج وعبد الحميد والمؤذن البعلبكي.»
فمن هذه الأقوال تظهر منزلة الكاتب الوزير عند الأقدمين، واتفاقهم على الإعجاب به، والإشادة ببلاغته، وتقديمه في الترسل ووضع أصوله وتنويع فصوله.
ومن كلام له نستدل على رأيه في الكتابة وما فيه من ملاءمة لأسلوبه، قال: «القلم شجرة، ثمرتها الألفاظ، والفكر بحر، لؤلؤه الحكمة.» ومن أقواله: «خير الكلام ما كان لفظه فحلًا، ومعناه بكرًا.»
وسئل مرة: «ما الذي مكنك من البلاغة؟» فقال: «حفظ كلام الأصلع.» يعني علي بن أبي طالب، ولا خلاف أن كلام الإمام قدوة البلغاء. وإذا وجد التشابه بينه وبين عبد الحميد في بعض النواحي، فهما يفترقان في سائرها، وكلاهما بلغ الدرجة العليا في إنشائه على طريقته وأسلوبه. فإن كان الإمام أفخم لفظًا، وأعرق تعبيرًا، وأظهر حكمة، وأقوى شخصية؛ فعبد الحميد أكثر تفصيلًا وإيضاحًا، وأبرع سياسة، وأوسع تدبيرًا، وله الفضل الذي لا يُنكر في تعبيد طريق النثر الفني، وفي ابتداع سنة الرسائل على نهجها الجديد.
(٧) العلوم
كان من أثر اختلاط العرب بالموالي وتزاوجهم، أن فسدت ملَكة اللغة، وفشا اللحن في الكلام، وكان الخلفاء جد حِراصٍ على صحة قراءة القرآن؛ فأشفقوا من أن يفضي هذا اللحن في اللفظ إلى إفساد المعنى؛ فشرعوا في ضبط إعراب الكلمات، وتحريك الحروف وإعجامها. وأول من نظر في النحو أبو الأسود الدؤلي، ويقال إن أول باب وضعه كان التعجب. وهو أيضًا أول من وضع الحركات على شكل نقط؛ فجعل الفتحة نقطة فوق الحرف، والضمة نقطة بين يدي الحرف، والكسرة نقطة من تحت الحرف، وكانوا ينقطون هذه الحركات بمداد من غير لون المداد الذي يكتبون به الكلمات.
وظلت الحركات كذلك حتى زمن الحجاج بن يوسف فجُعلت النقط لإعجام الحروف المتشابهة، ثم كتبت الحركات بصورتها المعروفة الآن.
ولم يقتصر اختلاط العرب بالموالي على وضع النحو والحركات والنقط، بل تعداه إلى أبعد من ذلك؛ فإن هؤلاء الأعاجم من روم وفرس حملوا إلى الأمة العربية حضارة عادية، وعلومًا مزدهرة، فنبهت بها كامن الفكر على طلب العلم، وكان لها من القرآن والحديث حافزٌ على ذلك، فتولَّد في نفسها نزوع إلى التحضر والاشتغال بالعلوم. فعُنيت أولًا بدراسة القرآن وتفهم أسراره، واستنباط الأحكام منه، فنشأ علم التفسير ممهدًا طريق علم اللغة، وقد اشتهر من علماء التفسير طائفة من الصحابة وغير الصحابة، وكان للموالي حظ وافر منه، من بينهم أئمة كبار كالحسن البصري، وابن سيرين، ومجاهد بن جبر وغيرهم.
ثم عُنيت بالتاريخ رغبة في الاطلاع على أحوال الأمم القديمة، فكان القصاصون من عربٍ وموالٍ يروون لها أخبار الملوك والعظماء. ذكر المسعودي: «أن معاوية كان يجلس لأصحاب الأخبار في كل ليلة بعد العشاء، فيقصون عليه أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياستها في رعيتها، وسائر ملوك الأمم وحروبها ومكايدها. ثم ينام ثلث الليل ويقوم فيأتيه غلمان وعندهم كتب قد وكلوا بحفظها وقراءتها. فيقرءون عليه ما في تلك الكتب من سِيَر الملوك، وأخبار الحروب ومكايدها، وأنواع السياسات. وعني المسلمون أيضا بتدوين سيرة النبي، وأعمال صحابته. وكان يعرف علم التاريخ عندهم «بعلم أخبار الماضين.»
وعرف العرب في العصر الأموي شيئًا من العلوم الدخيلة كالفلسفة، والطب، والنجوم، والكيمياء. ويرجع الفضل في ذلك إلى المدارس السريانية كمدرسة الرُّها ونصيبين، فإن المسلمين بعد أن افتتحوا تلك البلاد تركوا هذه المدارس تتابع أعمالها فاستفادوا من علومها، وأخرجت لهم أطباء عُرفوا في ذلك العهد كابن أثال النصراني وكان طبيبًا لمعاوية، وماسرجويه، وكان سرياني الجنس يهودي المذهب. قيل: إنه نقل كتابًا في الطب في أيام مروان بن الحكم.
وكان أول من اشتغل بهذه العلوم من العرب خالد بن يزيد بن معاوية فإنه درس صناعة الكيمياء على راهب رومي يدعى مريانوس، فلما تعلمها أمر بنقلها إلى العربية، فنقلها له رجل اسمه اسطفان، وذكر صاحب الفهرست أن سالمًا كاتب هشام بن عبد الملك نقل رسائل أرسطو إلى الإسكندر.
بيد أن صدر الإسلام لم يترك لنا من العلوم الدخيلة وغير الدخيلة، إلا أخبارها فلا يصح لنا أن نبحث عنها في هذا العصر، ولكن في عصر بني العباس.
(٨) الرواة
كان لكل شاعر في الجاهلية راوية يروي شعره ويرويه غيره؛ لأن الكتابة لم تكن شائعة في ذلك العصر، ولولا الرواة لما وصل إلينا شيء من الشعر الجاهلي. ثم شاعت الكتابة في الإسلام بعد أن تم الأمر لبني أمية، ولكن الشعر ظل محفوظًا في صدور الرواة أو في أوراق خاصة بهم، ولم يعم تدوينه إلا في العصر العباسي الأول. على أن الرواة كثر عددهم في العصر الأموي، لأن المسلمين لما شرعوا بتفسير القرآن وضبط ألفاظه، اضطروا إلى جمع أشعار العرب وأمثالهم؛ ليستعينوا بها على تفهم الآيات وإدراك أسرارها، وكان ابن عباس يقول: «إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله لم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب؛ لأن الشعر ديوان العرب.»
وكان لتنافس الأحزاب السياسية يدٌ في ازدياد الرواية، فكانت كل فئة تفاخر الأخرى بشعرائها وعظمائها، وتروي أخبارهم وأقوالهم، وآنس الرواة من الأمويين ارتياحًا إلى معرفة نوادر الأعراب وأشعارهم، فراحوا يتلقفونها بين الخيام من كل قبيلة خالصة البداوة، ويأتون بها إليهم فيصيبون عليها نوالًا عظيمًا.
غير أن هذه الروايات لم تسلم من النحل والكذب؛ لأن الرواة لم يتورعوا من إضافة شعر إلى غير قائله، واختراع قصة لا أصل لها؛ إما للإتيان بشاهد يُعتمد عليه في المعاني أو في النحو، وإما لإرضاء شخص أو حزب بذكر مآثر من ينتمي إليه، أو لمفاكهة الخلفاء والأمراء وسواهم من الناس. فنشأ عن ذلك الشعر المنحول، ونشأ أيضًا فن القصص الخيالية كأخبار مجنون ليلى، وجميل بثينة، وعنترة وسواهم.
وإذا كان الرواة أساءوا إلى التاريخ بما اصطنعوه من الأشعار والأخبار، فقد خدموه أجلَّ خدمة بما حفظوا من أقوال أهل الخيام وعاداتهم وأخلاقهم.
(٩) حماد (٧٧٢م/١٥٦ﻫ ؟)
(٩-١) حياته — منزلته
هو أبو القاسم حَمَّاد بن مَيسَرة الديلمي الكوفي من موالي بكر بن وائل، ويلقَّب بالراوية لأنه كان أعلم الناس بأيام العرب، وأشعارها، وأخبارها، وأنسابها، ولغاتها، وكان في أول أمره يصحب الصعاليك واللصوص، فنقب ليلةً على رجل فأخذ ماله، وكان فيه جزء من شعر الأنصار فقرأه حماد فاستحلاه وتحفَّظه. ثم طلب الشعر وأيام العرب ولغاتهم، وترك ما كان عليه، فبلغ من العلم مرتبة سامية، واشتهر بقوة الحافظة، فرويت عنه أخبار كثيرة لا تخلو من الغلو، منها: أنه كان يروي سبع مئة قصيدة، أول كل واحدة منها: بانت سعاد، وأنه سمع الطِّرِمَّاح الشاعر ينشد قصيدة، عددها ستون بيتًا، فقال له: «ليست لك.» قال: «كيف لا؟» قال: «إني أنشدها بزيادة عشرين بيتًا لتعلم أنها ليست لك.» ثم أنشدها وزاد فيها من نظمه.
وحظي حماد عند الأمويين فكانوا يستقدمونه ويسألونه عن أيام العرب وأشعارها ولغاتها، فيروي لهم وينال جوائزهم. قيل: سأله الوليد بن يزيد يومًا: «بمَ استحققت أن تُلقب بالراوية؟» قال: «إني أروي لكل شاعر تعرفه أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن تعرف أنك لا تعرفه ولم تسمع به. ثم لا ينشدني أحد شعرًا قديمًا أو حديثًا إلا ميزت بينهما.» فقال له: «كم مقدار ما تحفظه من الشعر؟» قال: «كثير، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مئة قصيدة كبيرة سوى المقطعات، وذلك من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام.» قال: «فإنى ممتحنك.» ثم أمره بالإنشاد فجعل ينشد حتى ضجر الوليد، فوكل به من يسمع بقية القصائد واستحلفه أن يصدقه، فأنشد حماد ٢٩٠٠ قصيدة للجاهلية.
ومهما كان في هذا الخبر وما قبله من المبالغة فإنه يدل على حافظة عجيبة، ورواية واسعة عُرف بها حماد.
وأدرك راويتنا دولة العباسيين، ولكنه لم يحظ عندهم حظوته عند الأمويين فخمل ذكره. وقيل: إنه أدرك المهدي، وأن الخليفة العباسي كان يستدعيه ويستنشده، ولكنه كان يؤثر عليه المفضَّل الضَّبي لصدق روايته. وخلافة المهدي تبتدئ سنة ١٥٨ للهجرة أي بعد سنتين من وفاة حماد، فالخطأ واضح كما ترى.
وكما عرُف بالعلم وسعة الرواية، عرُف بالكذب والوضع، فكان يزيد في الأشعار التي يرويها لغيره من شعره، أو ينتحل من شعر غيره مما هو قديم لا يرويه أحد غيره ويضمه إلى شعره، فيختلط بعضه ببعض. قال المفضل الضبي: «قد سُلِّط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده، فلا يصلح أبدًا.» فقيل له: «وكيف ذلك، أيخطئُ في روايته أم يلحن؟» قال: «ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها، ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبِّه به مذهب رجل، ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد؛ وأين ذلك؟»
واستحلف المهدي حمادًا في أمر الزيادة في أشعار الناس، فأقر له بأبيات أضافها إلى زهير بن أبي سلمى، فأمر المهدي بإبطال روايته، ووصل المفضل لصدقه وصحة روايته، ولعل ذلك حدث قبل مبايعته بالخلافة.
قال ابن سلام: «وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية، وكان غير موثوق به، وكان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار.» وقال يونس: «العجب لمن يأخذ عن حماد، كان يكذب ويلحن ويكسر.»
وحماد أول من جمع السبع الطوال، وجمع أشعار أكثر القبائل، وأكثر شعراء بني أمية، قيل: إنه جعل شعرَ كل قبيلةٍ أو شاعرٍ في كتاب. فكان عنده كتاب لشعر قريش، وآخر لشعر ثقيف، وآخر لغيرهم، ولكنها ضاعت كلها وروى الناس عنه. غير أن الأدباء المدققين الذين جاءوا بعده لم يعتمدوا على الروايات التي انفرد بها دون غيرُه، وقد أظهر ابن سلام والأصفهاني وسواهما كثيرًا من منتحلاته وأكاذيبه.
•••
فقد رأيت أن الصدر الثاني للإسلام كان عصر يقظة وتفكير وعمل، عصر تنَعُّم وترف، ولكن لم يطل عمره فيتم ما بدأ به، بل أديل منه العصر العباسي، عصر حضارة الإسلام، ونهضة العلم والأدب، عصر التدوين والتأليف.