الشعر الجاهلي
(١) ميزته
للشعر الجاهلي أبواب رئيسية مستقلة، وهي الفخر والحماسة، والمدح، والهجاء، والرثاء؛ وأغراض إضافية غير مستقلة أو ثانوية: كالغزل، والطبيعة، والخمريات، والحِكَم والمواعظ.
والوصف أعظم ركن يعتمد عليه شاعرهم في مختلف أبوابه وأغراضه؛ لما له من عين نافذة حديدة اللَّحْظ دقيقة المراقبة، تتنبه لكل ما يحيط بها من الموصوفات، وهي محدودة في البادية، فإذا أراد أن يصف شيئًا — ولا يصف إلا ما يؤثر في نفسه مما يعايشه ويسمعه ويراه، أو مما يتوهمه فيحسه وتنطبع له صورة بليغة في خياله — أحاط بالموصوف من أظهر نواحيه، أو أحاط بناحية منه يطلبها دون غيرها، مشبعًا موصوفه على الحالين، مخرجًا عنه صورًا حسيَّةً رابية الملمس تنقله أحيانًا نقلًا آليًّا مهذبًا، وتخلقه حينًا خلقًا شعريًّا زكيًّا.
ويخرج من الوصف إلى قصص قصيره يحدِّث بها عن مغامراته الغرامية، أو عن معاركه وغزواته، أو يروي شيئًا من الأخبار والأساطير مما انتقل إليهم أو نشأ في باديتهم.
ولم يساعدهم مجتمعهم على التأمل الطويل وربط الأفكار وفسح آفاق الخيال؛ لاضطراب حياتهم برحيل مستمر، فجاء نَفَسهم قصيرًا كإقامتهم، وخيالهم متقطعًا كحياتهم، صافيًا واضحًا كسمائهم، داني التصوُّر محدود الألوان كطبيعتهم. وكانت ثقافتهم الأدبية فطرية خالصة يتغذى بعضهم من بعض، ولا يقبلون لقاح الآداب الأجنبية الراقية؛ لجهالتهم واعتزال باديتهم وتمرُّدها. وكذلك كانت علومهم ساذجة لا تفتح نوافذ النور للنظر في النفس وما بعد عالم الهيولي.
وجاءت حروبهم في كثرتها أيامًا وغزوات لا تجاوز البادية والقبيلة، حروب كرٍّ وفرٍّ، لا حروب زحف وفتح؛ فلم يكن من شأنها أن تبدع ملحمة كملحمة هوميروس في حصار طروادة. فلهذه الأسباب كلها اقتصر شعرهم على أغراض وجدانية تغمرها الذكريات، مبتورة القصص، يتواطئون عليها بأسلوب متشابه الاتجاه متداوَل المعاني والتعابير، فيستهلُّون على الغالب، ولا سيما القصائد الطوال، بذكر الديار الخالية والوقوف عليها للبكاء أو للتحية والسؤال، معدِّدين المواضع التي توصل إليها أو تحيط بها، متشوِّقين إلى أحبتهم يوم كانوا يعمرونها، مشببين بهم مستعيدين ذكرى فراقهم. ثم يرحلون على ناقاتهم مفرِّجين بها همهم — قاصدين الحبيبة أو الممدوح — فيصفونها عضوًا عضوًا، ويصورون سرعتها ونشاطها؛ ثم ينتقلون إلى المدح أو الفخر أو غير ذلك، فيجتمع لهم في قصيدة واحدة عدة أغراض، ويكون انتقالهم في الأكثر اقتضابًا ووثبًا، وربما انتقلوا بواسطة، كأن يقولوا: دعْ ذا، وعدِّ عن ذا.
وتشيع في شعرهم روح الفطرة بماديتها وسذاجتها وحريتها وأنَفَتها، وبما فيها من صدق في ذكر الحقيقة، إذا لم تثر في النفس عوامل عاطفية تحملها على الكذب والمغالاة. فالجاهلي صادق في الكلام على حياته وأحواله ومجتمعه، صادق في مدحه وهجائه إلى حد لا يسلم عنده من الغلو؛ كاذب في كثير من مفاخره، وعلى الأخص إذا وصف الضيافات والقدور والحروب وكثرة العَدد والعُدد والقتلى؛ مغالٍ مفرط في مراثيه؛ وإذا كان مرثيُّه قد مات مقتولًا يبالغ في ندبه وتعداد مناقبه ليستثير شعور القبيلة، ويحضها على الأخذ بثأره.
ولغة الشعر الجاهلي قوية المدلول في ألفاظها الوضعية — حقيقيًّا كان التعبير أو مجازيًّا — خشنة كثيرة الغريب، ولا سيما لغة الشعراء الذين نشئوا في قلب البادية بعيدين عن الأمصار المتحضرة كشعراء مضر؛ وهي إلى ذلك متوافرة الصور في تشابيهها الحسيَّة وما يختلف إليها من استعارات وكنايات، قليلة الاحتفال بأنواع البديع كالجناس والتورية والطباق؛ جارية مع الطبع بريئة من التكلف، سواءٌ جاء اللفظ عاريًا أو كاسيًا. فقوَّة الشعور الفني وحدها تهدي الجاهلي إلى اختيار ألفاظه وإخراجها من معدن واحدٍ، وإجادة تنزيلها وتأليفها، فتأتي مُحكمة التركيب متماسكة الأطراف، تعبِّر بتموُّجاتها وأجراسها أصدق تعبير عن الحالة التي يحسها في نفسه ويتصورها في خياله.
وفي تشابيهه وكناياته واستعاراته دلالات بينة على حياته وطبيعة أرضه، فأكثرها مستمدٌّ من الصحراء نباتها وحيوانها، ومن مرافقها المحدودة ومعيشة أهلها، ومن عاداتهم وعقائدهم وأساطيرهم.
ومن مذاهبهم — إذا شبهوا — أن يتركوا المشبَّه وينصرفوا إلى المشبَّه به؛ ليصفوه ويدققوا في وصفه، حتى إذا أظهروا قوته وجماله ارتضت نفوسهم واطمأنت إلى أنها وفَّت المشبَّه حقَّه من الوصف والتبليغ، وربما قصدوا إلى ذلك بصورة التفريغ البياني، وهو أن يصدر الشاعر المشبَّه به بما النافية، ثم يأخذ في الكلام عليه لتبيان محاسنه؛ فإذا بلغ مراده جاء بأفعل التفضيل ومن الجارَّة، ونفى أفضليَّة المشبه به على المشبَّه. وهذا مستحسن مألوف عندهم اصطلحوا عليه وتداولوه، كما تداولوا كثيرًا من التعابير البيانية، فأصبحت رواسم مشتركة بينهم فاقدة الشخصية. ومن المأنوس في شعرهم نداء الصاحب والصاحبين، والاستفتاح بألا، وإدخال ولقد وواو ربَّ، والحلف بلَعَمْري.
ومعاني الشعر الجاهلي لا تخلو من الغموض، ويعود ذلك على غرابة الألفاظ وما فيها من إيجاز وحذف، أو على ما تتضمنه من تلميحات إلى حوادث تاريخية، أو إلى عقائدهم وعاداتهم مما لا تُدرك مقاصده إلا بمعرفة حياتهم وأخبارهم. وأما الغموض الفني فقليل عندهم لمادية ألفاظهم، وبُعدها من الرمز والتصوف؛ ثم لضعف روحانيتهم وضيق خيالهم ودنوِّ تصورهم وعنايتهم بسرد الأخبار وإظهار الحقائق المحسوسة، واعتمادهم على الأساليب الخطابية الواضحة، والحكم والأمثال البدهيَّة.
على أن الشعر الجاهلي المستقل ببيته، لا ببنايته، يرتفع أحيانًا إلى غاية الجمال، وهو في الجملة أخلص الشعر القديم جوهرًا، وأصدقه شعورًا وتعبيرًا وإيحاءً، يأتي به الشاعر بقوة الإحساس الفني، على فطرته وصفاء نفسه، مع ما فيه من بداوةٍ ووحشيةٍ وخشونةٍ.
(٢) الفخر والحماسة
اتفق مؤرخو الأدب أن يجعلوا الفخر والحماسة بابًا واحدًا لما بينهما من الاتصال الوثيق؛ لأن الحماسة ليست سوى فخر الفارس ببطولته وذكر وقائعه، ووصف فرسه وسلاحه. وباب الفخر في الجاهلية — وإن اتسع إلى موضوعات غير الفروسية كالنسب والسيادة والكرم والأخلاق والأهل والولد والفصاحة — لا يخلو أصلًا عن المباهاة بالشجاعة والإقدام. ومن العبث أن نبحث عن فخر شاعر بنفسه، أو مدح شاعر لغيره، أو رثاء شاعر لميت دون أن يكون للشجاعة القسط الراجح، بحيث لا يمكن أن نفصل الفخر عن الحماسة؛ لأنهما وُجدا توأمين متلازمين، فلا فخر بدون حماسة، وكذلك الحماسة هي الفخر بعينه. ويحسن بالفروسية أن يرافقها شرف المحتد ومكارم الأخلاق، حتى إن المضعوفين في نسبهم يدافعون عنه أنبل دفاع، كما دافع عنترة عن نسبه لأمه. ولا يرضى أحد الصعاليك — كالشنفرى والسليك — أن يُغمز في حميد صفاته.
وشعر الفرسان يشتمل على جميع الفضائل الجاهلية، وأخصها فضيلة الفروسية؛ حيث ينصرف الشاعر إلى ذكر حروبه مبالغًا في وصف البطل الذي يبارزه ويسطو عليه، أو وصف المعركة التي يخوض غمارها، ويلقي بنفسه في مهالكها.
ويحدث عن القتلى والأسرى والسبايا والغنائم، فلا يخلو حديثه عن تكثر أو غلو، والتكثر والغلو من خصائص شعر الفروسية، فإن الواقعة الصغيرة تبدو ملحمة كبيرة، والعدد القليل يجرُّ جيشًا عرمرمًا، ونفيرًا من القتلى يعد بالمئات والألوف. على أن غلوهم لم يأتِ مستقبَحًا، وهو وليد العاطفة المتحمسة تجعله قريبًا إلى النفس، والفطرة الساذجة تمسحه بجمالها الجذاب. يخالف الحقيقة ويصدق في شعوره الفني، يجري مع الطبع في نشوة الخاطر المتدفق، لا يهيئه العقل في يقظة الفكر المتكلف.
والشعر الحماسي — كسائر الشعر الجاهلي — يعتمد في الأكثر على الوصف، وفي الأقل على القصص، وهو في كلا الحالين يؤثر الإيجاز على التطويل، ويلمح الجزئيات دون الكليات، ويتعلق بالمادة أكثر من الروح. فلو أراد أن يصف معركة اجتزأ ببضعة أبيات تُرينا جواده وسيفه ومضات من البرق جميلة في سرعتها وتلويحاتها. غير أننا لا نخرج منها بفكرة عامة أو صورة تامة عن الواقعة، فما ندري كيف جرت حركات المتحاربين، وكيف انتظم الجيشان، وأين وقف الفرسان، وأين وقف الرجَّالة، وكيف تم الهجوم والالتحام. ولا نسمع من الأصوات إلا غماغم يختلط فيها وقع السلاح، وصياح الفرسان، وحمحمة الجياد، ودقدقة الحوافر، ولا نرى من صفات السلاح إلا سيفًا قاطعًا، ورمحًا طويلًا، ودرعًا سابغة، وقليلًا ما يسهب الشاعر ويدقق في أوصاف السلاح كما يسهب ويدقق في نعت جواده ونعت الفارس المقاتل. على أن صورة الفارس لا تظهر في الغالب جليَّة، بل يتركها غامضة مغشاة، ويعطينا المعركة على الإجمال تهاويل مقطعة الخطوط والأوصال لا يتألف من أجزائها وحدة موضوعية متلاحمة.
والوصف عنده لا يتعدى الطبيعة ومرئياتها، ولا يرتفع بها عن منزلتها إلا نادرًا. فجواد عنترة، في شكواه وتألُّمه، صورة تكاد تكون فريدة في روحانيتها وارتفاع الحيوان بها إلى درجة الإنسانية، وليس له اليد الطولى في استجلاء أسرار النفس وتفهُّم أهوائها وحركاتها، فجاءت نفسيات الفرسان كتصاويرهم الخارجية يتغشاها سحاب من الإبهام. فبراعته في الوصف لا تجاوز النقل عن الطبيعة في الجملة، على شيء من الإحكام والتهذيب؛ لأن البدوي له عين متنبهة لالتقاط المرئيات، ومخيلة مصورة تحسن تقليد الأشياء، وليس له قوة الخيال المبدع الذي يختزن المحسوسات ويجمع بعضها إلى بعض، ثمَّ يحللها ويركِّبها، فيخترعها صورًا جديدة أو يخلقها خلقًا مبتكرًا إلا في القليل المحدود، ومع ذلك فهو يجيد الوصف ويتقنه أكثر مما يجيد القصص، فإن القصة في الشعر الجاهلي ضعيفة الفن؛ لاقتصارها على الخبر البسيط والسرد السريع كما يفعل عنترة في كلامه على مبارزاته، وتأبَّط شرًّا في حكاياته عن الغيلان، ولا جرم أن الإيجاز الذي درج عليه الجاهلي كان يحول بينه وبين الإسهاب في أخباره، وهذا الإيجاز يعود في معظمه على قِصر النَّفَس، ونزارة ينابيع الخيال المبدع، فلم يتوفر له عمل الملاحم والقصص الطويلة، وقد فصلنا ذلك في كلامنا على ميزة الشعر الجاهلي.
(٣) الشعر السياسي
(٣-١) المدح
المدح في الجاهلية من الأبواب الرئيسة لاتصاله بالحياة القبلية، فقد كان على الشاعر أن يدافع عن أعراض قومه، ويمدح ساداتهم وفرسانهم، ويطري فضائلهم ويمجِّد أعمالهم، ولذلك كانت القبيلة تغتبط وتتباشر إذا نبغ شاعر فيها، وإن لم يكن من الفرسان؛ لأن حماية الأعراض والأحساب لا تقل شأنًا عن حماية الأرواح والأموال. ولا تلحق الشاعر غضاضة من هذا المدح؛ لأن مفاخر القبيلة — وهو منها — تعود إليه كما تعود إلى غيره من أبنائها، فخليق بهذا المدح أن يُعدَّ من الفخر، فما كان عمرو بن كلثوم في معلقته إلا مفاخرًا بقومه، مدافعًا عنهم، وكذلك الحارث بن حلزة في ردِّه عليه والذود عن بني بكر، مع أنه لم يكن سيد القبيلة ولا فارسها.
على أن الشاعر الجاهلي مضطر كغيره من البدو إلى الترحل والنزول على قبيلة غريبة، ضيفًا أو جارًا، فتحسن وفادته، وتبالغ في قِراه وإيناسه، أو تجيره وتؤمنه في خوفه، وتساعده على حاجته، فيرى من واجبه أن يشكر لها صنيعها، ويمدح السيد الذي أضافه أو أغاثه، وهذا لا يُعد من باب التكسب، وإنما هو شكر على معروف، لا استجداء لصلة، كما مدح امرؤ القيس القبائل التي كانت تضيفه أو تجيره بعد مقتل أبيه، فقال في المعلى التيمي حين أجاره من المنذر بن ماء السماء:
ولم يُعرف التكسب بالمدح إلا عندما أخذ الشعراء ينزحون عن قبائلهم، ويترددون في الأحياء الغريبة، ويقرعون أبواب الملوك والسوقة، مادحين مستجدين، هاجين من لا يحسن لهم العطاء. فهبطت منزلتهم عن منزلة الشعراء القبليين الذين أبوا أن يقبلوا الصلة ويريقوا ماء الوجوه.
بيد أننا لا تستطيع أن نردَّ بدء التكسب على شاعر قبل غيره لبعد العهد، وضعف المستندات التاريخية، وكثرة الشعراء الذين تكسبوا، وعاصر بعضهم بعضًا، إلا ما كان من زعم جماعة من الرواة أن النابغة أول من سأل بشعره واستعطى، وزعم آخرين أنه الأعشى. ويعترض ابن رشيق في العمدة على الذين يضيفون بدء التكسب إلى أبي بصير فيقول: «وقد علمنا أن النابغة أسنُّ منه وأقدم شعرًا.»
ونعلم من الرواة أن الشعراء قبل النابغة كانوا يقصدون قصور الملوك ويمدحونهم، فقد ذكروا أن المسيَّب بن علَس دخل على عمرو بن هند ومدحه، ولقي هناك طرفة والمتلمس، وكان يتردد على القعقاع بن شور الدارمي ويمدحه وينال صِلاته، ومع ذلك لم يعيَّرْ هؤلاء الشعراء، ولا غض الشعر منهم، كما أن زهير بن أبي سلمى لم يؤخذ عليه مدحه لهرم بن سنان وقبوله العطاء منه، وما ذاك إلا لأنهم لم يتخذوا الشعر حرفةً للتكسب كما اتخذه النابغة والأعشى والحطيئة، وليس المسيَّب بن علَس من الذين يُذكرون مع كبار الشعراء ليُعنَى الرواة بتسقط أخباره، فنعلم دوافع مدحه لعمرو بن هند والقعقاع الدارمي. ولم يتكسب زهير إلا يسيرًا من هَرِمِ بن سنان، حتى قيل إنه كان يتجنب التسليم عليه لئلا يتعرض لعطائه، وهو على كل حال مدح سيدًا من قبيلة أقام في أرضها وانقطع إليها، وتزوج منها وأصبح شاعرها وحكيمها يرشدها ويدافع عنها، وأمه تنتسب إليها. وأما النابغة فكان يتنقل من المناذرة إلى أعدائهم الغساسنة، يمدح هؤلاء وأولئك ويستجديهم. ثم يبذل ما في وسعه لاسترضاء النعمان أبي قابوس، خاشعًا متذللًا؛ ليعود إلى قصره بعد انقطاع رجائه من ملوك الشام. فعيَّروه وقالوا: غض الشعر منه، لأنه من أشراف القبيلة.
وأما الأعشى فقد كان أكثر منه ترددًا في البلاد، يأخذ الصلة من الملوك والسوقة، وينفِّر سيدًا على آخر فيهجو من لم يسئ إليه ليمدح منافسه على السيادة، فعله بعلقمة بن عُلاثة تأييدًا لعامر بن الطفيل، ومدحه للمحلَّق الصعلوك مشهور، ولذلك قالوا: جعل الشعر متجرًا، ومن قوله في تطوافه:
وبلغ التكسب إلى أدنى دركاته عند الحطيئة، فقد أكثر من السؤال بالشعر، وانحطاط الهمة فيه والإلحاف، حتى مُقت الشعر وذلَّ أهله كما يقول ابن رشيق. يمدح الشخص ويتكسب منه، ثم يهجوه تزلفًا إلى عدوه، فعله بالزبرقان بن بدر عندما هجاه تقربًا إلى بني شماس بعد أن نزل في جواره.
على أن المدح، وإن صار إلى التكسب الدنيء في أواخر العصر الجاهلي، فقد كان تأثيره عظيمًا في الأشخاص والقبائل، يرفع شأن الخامل وينشر ذكره بين الناس كما ارتفع المحلَّق الكلابي واشتهر بشعر الأعشى بعد خموله، وكما ارتفع بنو أنف الناقة بشعر الحطيئة، وكانوا يخجلون باسمهم، فصاروا يتطاولون بهذا النسب بعد قوله فيهم:
والتجاء طلاب السيادة إلى الشعراء في مفاخراتهم دليل على ما للشعر من الأثر البليغ.
ولا يختلف المدح في صفاته العامة عن الفخر والحماسة، فإن الفضائل التي يفاخر بها الشاعر الجاهلي، وينافس غيره من الشعراء والقبائل، هي التي يمدح بها السادات والملوك شاكرًا أو متكسبًا، معتذرًا أو مستعطفًا؛ لأنها خير ما يرى من حميد المزايا ومكارم الأخلاق، في بدوه وفي حضره، فأضافها إلى ممدوحيه مبالغًا في الكلام عليها مبالغة الشاعر الفارس في المباهاة بها، وإن تكن الحمية عنده أخفَّ منها عند الآخر؛ لأن النفس التي تُدفع إلى المدح والثناء غير النفس التي تندفع حماسة وفخرًا.
ويختلف الشعراء في مبالغاتهم بين مقل ومكثر، ولكنهم لا يجنحون إلى الإحالة؛ لأن طبع البدوي في صفائه ينفر من الغلو إلا إذا رانت عليه العاطفة في حزن أو حماسة، فتخرج به إلى غاية الإغراق والكذب، غير معتدل ولا متأثم. وقلما سمعنا شاعرًا مدَّاحًا في الجاهلية يغلو غلوَّ النابغة في وصفه سيوف الغساسنة، حيث يقول:
أو في ذكره قِدر ابن الجُلاح الكلبي — قائد الغساسنة — زاعمًا أنها تسع الجَزور بجملتها. فهذه المغاليات مأنوسة في المفاخر والمراثي أكثر منها في المدائح، ولكن تحوُّل الشعر إلى التكسب جعل الشعراء يفرطون في تعظيم الأشراف والملوك، تملُّقًا لهم واستدرارًا لأكفهم، وإن تكن السذاجة الفطرية لا تعدو تصوراتهم، مثل وصف النابغة للقدر التي تسع الناقة العظيمة، وينضاف إلى هذه التصورات ما نسمع من مدح الأشخاص بنعالهم وجودتها. فإن الأشراف ينتعلون السِّبت — وهو الجلد المصبوغ — فلا تأكله الكلاب كما تأكل غيره من الذي لم يُصبغ. قال النجاشي الحارثي يمدح هند بن عاصم:
ومدح النابغة الغساسنة برقَّة نعالهم ليدل على ملوكيتهم وتَرَفِهم، وأنهم لا يخرجون من منازلهم إلا راكبين على خيولهم، فما يحتاجون إلى لبس النعال الغليظة.
ومثل هذا ما نرى من استنكار الأشراف لمآكل يجدون فيها غضاضة، فيبتعدون عنها، ويأنفون من أكلها، فيُمدحون بهذه العفة، كما مدح النجاشي هند بن عاصم؛ لأن قومه لا يأكلون الأدمغة وهي ليست طعام السادات والملوك: «ولا تنتقي المخ الذي في الجماجم.»
وحمدوا جوار شخص وذموا جوار آخر بمقدار ما يحسن أو لا يحسن قرى جيرانه، ومن هنا مدح الكرام بنيرانهم وكلابهم ورمادهم. فالنار توقد ليلًا لهداية الضيفان، ولا يوقدها إلا السخي الجواد الذي يكثر رماده لكثرة طبائخه، قال الحطيئة:
والكلاب تنبح لتهدي الطارق إلى المنزل، ولكنها لا تنبح في وجهه إذا أقبل. قال حسان بن ثابت في الغساسنة:
ولا يختلف مدح الملوك في اعتماد هذه الفضائل عن مدح السادات، فإن الشعراء الذين مدحوا الغساسنة والمناذرة أفاضوا في ذكر حروبهم وانتصاراتهم، وجودهم وضيافاتهم، وحلمهم وهيبتهم في النفوس؛ لأن ملوك الشام والعراق لم يبتعدوا بذهنيتهم عن سيِّد القبيلة، وإن أصابوا طرفًا من الحضارة. فالمدح الذي يصلح لصاحب القبة الحمراء، يصلح أيضًا لأمير جِلَّق والبريص، ولرب الخورنق والسدير.
وكان ملوك غسان ولخم يقربون شعراء البادية، ويجزلون لهم الصلات ليتغنَّوا بعظماتهم في الأحياء القريبة والبعيدة، فيتمكن سلطانهم في نفوسها، وينبسط نفوذهم على عشائرها؛ لأنهم كانوا يحتاجون إلى مؤازرتها في حروبهم واقتصادياتهم، وحراسة قوافلهم، فقضت عليهم السياسة بتقريب شعرائها وإكرامهم للاستفادة من مدائحهم وسيرورة أشعارهم، كما قضت عليهم بذلك ذهنية العربي في ارتياحه إلى الحمد والثناء. فمدحهم الشعراء مثل مدحهم لسادات قبائلهم، وأضفوا عليهم سوابغ الأوصاف التي تعودناها منهم تحت الخيام. وإذا كان من خلاف بين المدح البدوي والمدح الحضري، فإنما هو يقتصر على صفات لا توحي بها خيمة الأعرابي وطلله، ولا حياته الاجتماعية، كوصف النابغة للفرات في مدح النعمان، وتشبيه عظمته بعظمة سليمان، أو ذكر القصور المنيفة في المدن والعواصم، كقول الأسود بن يعفُر في آل محرِّق وبني إياد:
وكذلك المدح الديني ووصف الحفلات في الأعياد الكبرى كما مدح النابغة بني غسان، وذكر موكبهم يوم الشعانين. ويتخلل المدح الحضري الأخبار والأساطير، فعل النابغة والأعشى. فنستدل بها على الثقافة التي اكتسبها شعراء البدو في رحلاتهم إلى المدن والأمصار، ومخالطتهم للشعوب المتحضرة.
ومما يحمد عليه الشاعر الجاهلي أنه حافظ على كرامته في مدح الملوك والسادات، فلم يتذلل لهم وهو في أشدِّ الحاجة إلى رفدهم ومعروفهم، أو عطفهم ومساعدتهم. ولم نجد شاعرًا حطَّ من نفسه غير النابغة في اعتذارياته للنعمان بن المنذر، وغير الحطيئة في تصوير بؤسه وضعفه، وفي متاجراته الدنيئة بأعراض الناس، ومع أن الأعشى اتخذ الشعر تجارة فلم ينحدر به إلى الدنايا، ولا بذل ماء وجهه إلى ممدوحيه، وكذلك عدي بن زيد العبادي لم تغضض منه اعتذارياته إلى النعمان، وكان سجينًا عنده لا طليقًا كالنابغة، وإن بدا عليه الألم المرير حين يرينا نفسه مكبلًا بالحديد، مرتديًا ثيابًا باليةً، فهو يحافظ على عزة نفسه وكرامة محتده، ولا يخشى أن ينافس أبا قابوس بالمجد والفضل، فيذكِّره بما له ولأبيه من النعمة عليه وعلى والده، ويذكِّره بالمصاهرة والمودة، وأنهم كانوا قبلهم ملوكًا ذوي سلطان:
ويستهلُّ شعراء الجاهلية مدائحهم، في الغالب، بذكر الديار الخالية، والوقوف عليها للبكاء أو للتحية والسؤال، معددين المواضع التي توصل إليها، أو تحيط بها، متشوقين إلى أحبتهم يوم كانوا يعمرونها، مشببين بهم، مستعيدين ذكرى فراقهم، ثم يرحلون على ناقتهم مفرجين همهم، قاصدين إلى الممدوح، فيصفونها عضوًا عضوًا، ويصورون سرعتها ونشاطها، ثم ينتقلون إلى المدح بعد هذه المقدمة التقليدية التي تلزم الشريف أن يراعي حقَّ الشاعر في قصده إليه دون غيره من مكان بعيد يعاني السهر والنصب، وسرى الليل، ولفح السَّموم. وربما جعل ناقته تتظلم شاكية ما يجشِّمها من مشقة الأسفار وشد الحبال، وفي ذلك ما فيه من استعطاف الممدوح، وإيجاب حقِّه عليه. قال المثقَّب العبدي:
وقد تلوم المرأة زوجها والبنتُ أباها على كثرة ترحاله، خائفة عليه، فيسكِّن من جأشها، ويهون الأمر عليها، ويعدها بالثروة. قال الأعشى:
وقد تكون المرأة رفيقة له في السفر وطلب الرزق، فيدفعها أمامه، ويسير بها إلى ممدوحه؛ فعل الحطيئة:
وشعراء المدح في الجاهلية كثر، يتشابهون في نواحٍ من معانيهم وتعابيرهم، على ما بينهم من اختلاف الطوابع الخاصة.
(٣-٢) الهجاء
الهجاء كالمدح باب رئيس متصل بسياسة القبيلة وحياتها الاجتماعية؛ لأنها كانت تدفع شاعرها إلى الذود عن أعراضها، والرد على الشعراء الذين يهجونها، فينشر مثالب أعدائها، ويعدد انكساراتهم ساردًا أخبارها بإيجاز أو بشيء من التفصيل، كما فعل الحارث بن حِلِّزة في ردِّه على عمرو بن كلثوم يوم التقاضي، فعيَّر بني تغلب الأيام التي هزموا فيها بأسلوب ناعم موجع ليغضَّ من شأنهم عند ملك العراق؛ وكما رد النابغة على عامر بن الطفيل فهجاه وذكَّره انكسار قومه يوم حِسْي أمام بني ذبيان، وفيه قُتِل أخوه حنظلة بن الطفيل؛ وكما فضح حسان بن ثابت بني هُذيل، وكانت تُرمى بأكل لحوم الناس:
وعلى الشاعر أن يذود عن حلفاء قبيلته؛ لما بينهم وبينها من تبادل المنفعة في الدفاع المشترك، فنرى النابغة يهجو زُرعة بن عمرو؛ تأييدًا لحلف بني أسد، مدافعًا عنهم، مستفيضًا في وصف نجدتهم ومنعتهم كأنه يدافع عن قومه.
وإذا استجار شاعر بقبيلة واعتدي عليه، عنَّفها وهجاها ليحرضها على أخذ حقه؛ لأنه يعلم أن الجوار مقدَّس عندهم لا يجوز انتهاكه. فقد عنفت البسوس بنت منقذ بني مُرَّة حين عقر كليب ناقة جارها سعد، وهي جارة لهم، فجعلتهم أمواتًا ونساءً، حتى أثارت جساسًا فقتل كليب وائل ونشبت بينهم الحرب الطويلة المشئومة.
وخرجوا بالهجاء إلى التكسب كما خرجوا إليه بالمدح، فكان الشاعر منهم يدعى إلى قبيلة غريبة عنه، فتضيفه وتكرمه ليهجو أعداءها، لا تشفع له في هجائه عصبية قَبَلِيَّة كما لو كان يدافع عن قومه، وإنما حب التكسب هو الذي حمله على شتم هذا ومدح ذاك. فالحطيئة ما هجا الزبرقان بعد مجاورته إياه إلا لأن أبناء شماس أنزلوه عندهم وأكثروا له من التمر واللبن، وأعطوه لِقاحًا وكسوة؛ فقال للزبرقان:
بيد أن أمثاله في الشعراء الجاهليين قليل؛ فإن الذين تكسبوا بالمدح أكثر من الذين تكسبوا بالهجاء، وقلما فعل واحد منهم مثل الحطيئة يهجو ليعطَى ويطعم.
وأشد الهجاء عندهم ما كان فيه التفضيل، خصوصًا بين الأقرباء، وكلهم طامع في السيادة، ويسمونه الهجاء المُقذِع. فإن الزبرقان بن بدر أمضَّه أن يفضل الحطيئة عليه بغيض بن عامر بن شماس، وهو مثله من بني تميم، فشكاه إلى عمر بن الخطَّاب فحبسه مدة، ولما أطلقه قال له: «إياك والهجاء المقذع!» قال: «وما المقذع يا أمير المؤمنين؟» قال: «المقذع أن تقول: هؤلاء أفضل من هؤلاء وأشرف، وتبني شعرًا على مدح قوم وذمٍّ لمن تعاديهم.» فقال: «أنت — والله يا أمير المؤمنين — أعلم مني بمذاهب الشعر، ولكن حباني هؤلاء فمدحتهم، وحرمني هؤلاء فذكرت حرمانهم، ولم أنل من أعراضهم شيئًا.»
ومهما يكن من أمر هذه الرواية وزعمهم أن الحطيئة يجهل معنى الهجاء المقذع، فإنه وإن لم ينل من أعراضهم، لقد أخزاهم بتفضيل منافسيهم عليهم، وذكر قعودهم عن المكارم، وليس القذف مما يحمد فيه الهجاء، وإنما هو سباب وبذاءة لا يليق بالشاعر أن ينحدر إليهما، ولم يخلُ الشعر الجاهلي منه، فقد أفحش زهير في هجاء بني الصيداء عندما أسروا عبده يسارًا، والمتلمس في هجاء عمرو بن هند بعد هربه منه ومقتل ابن أخته طرفة. وفي شعر حسان بن ثابت كثير من الأبيات التي تنهش الأنساب وتمزق الأعراض، ومنها ما قيل في الجاهلية، ومنها ما قيل في الإسلام.
على أن الشاعر الجاهلي كان يتوخَّى — في الغالب — إسقاط المهجوِّ من منزلته الاجتماعية، فيعنى — على الأخص — بأن ينزع عنه الفضائل التي يحب البدوي أن ينعت بها ليعدَّ أهلًا للسيادة، فيرميه بالجهل والحمق والجبن والبخل والغدر، وقد يغمز من نسبه ليخرجه من قومه، أو يفضل أقرباءه عليه ليجعل لهم السيادة دونه. ومثل هذا الهجو له تأثير عظيم في نفوسهم، يُكبرون أمره ويخشون أصحابه، بخلاف الهجو الذي يهتك حرمات النساء ويصبُّ الشتائم والقبائح؛ فإنهم كانوا يذمون الناطقين به ويمقتونهم. قال خلف الأحمر: «أشد الهجاء أعفه وأصدقه.» ويستحسن فيه ما أخرجه الشاعر مخرَجَ التهكم والتصوير الهزلي؛ فإنه يبلغ مأربه من مهجوه بالطعن عليه، ويضحك منه السامع بسخره وعبثه، وهذا ما نسميه الهجاء اللاذع.
وقد يأتي الهجاء عن دافعٍ شخصي لا بعامل قبلي أو تكسبي، فإن الشاعر ربما نالته أذية من شخص أفرط عليه، فيندفع إلى الانتقام بشعره، وهذا أمر إنساني تمليه العاطفة على صاحبها، فيجد في نفسه حاجة إلى التفريج عنها بذم من ضامه أو أساء إليه، كهجاء المتلمس لعمرو بن هند، وهجاء طرفة له ولأخيه قابوس ثم لصهره عبد عمرو.
وأهاجي الجاهليين كمدائحهم صادقة التعبير عن ذهنية البدو وعاداتهم وتقاليدهم، وما تواضعوا عليه من المذموم والمحمود، وما يقع لهم في ذلك من خلاف وتناقض. فقد كانت القبيلة تعيِّرُ الأخرى بأن شعراءها يرحلون بمدحاتهم إلى الغرباء، وقلما خلت قبيلة من شاعر يرحل بشعره. فقد فاخر يزيد بن عبد المدان عامر بن الطفيل أن شعراء قومه لا يرحلون بمدائحهم إلى قوم عامر، أما شعراء قوم عامر فيرحلون بمدائحهم إلى قومه، ويعيرون الفارس إذا فرَّ عن عشيرته في الحرب، مع أنهم لا يستنكفون من التمدُّحِ بالفرار، إذا كان فيه منجاة للفارس من الموت. قال عمرو بن معدي كرب وهو من الأبطال المعدودين:
ويقبحون الغدر ويهجونه، قيل إنهم كانوا إذا غدر رجل وأخفر الذمة جعلوا له تمثالًا من طين ونُصْب، وقالوا: ألا إنَّ فلانًا غدر فالعنوه! قال عبد الله بن جعدة يهدد قوم الحارث بن ظالم الذي قتل خالد بن جعفر غدرًا:
غير أنهم كانوا يستحلون الغدر عند طلب الثأر؛ لما يلحقهم من المذمة في تركه. فأوسُ بن الخطيم فارس الأوس لم يدرك ثأره من قاتِلَيْ أبيه وجده إلا بالغدر القبيح، فغسل عاره بمثله، ولكنه لم يجد فيه غضاضة؛ لأن النوم عن الثأر مذَلَّة الأبد، وقد تسمع بعض الشعراء يرمي مهجوَّه بالضعف، إذا عجز عن الظلم والغدر، والظلم مكروه عندهم إذا أصاب الأقرباء، محمودٌ إذا أصاب الغرباء. قال النجاشي، وهو شاعر مخضرم، يهجو تميم بن مُقبل العَجلاني:
فاستعدوا عليه عمر بن الخطاب. فلما سمع البيت قال: ليت آل الخطاب كذلك! ولم يحبسه إلا لأنه قال فيهم:
وكان العرب يحتقرون الصناعات ويذمون أصحابها، وينسبونهم إلى الخمول والضعف؛ لأنه ينبغي للفارس أن يكسب رزقه بسيفه وغزواته. فقد هجا عمرو بن كلثوم النعمانَ أبا قابوس، وعيره أمه سلمى، وكانت بنت صائغ وأخت صائغ:
ولم تكن التجارة أحسن حظًّا عندهم، وهي لم تعرف في غير المدن كمكة ويثرب واليمن، فهجيت قريش بها. روى ابن سلام أن الناس أصبحوا يومًا بمكة وعلى باب الندوة مكتوب:
واتهم بهما عبد الله بن الزبَعرى وهو من قريش، ولم يقصر هجوه على التجارة، بل عيرهم اشتغالهم بالأحاديث والأخبار في ندوتهم لفراغ بالهم وقلة همومهم، ونسب إليهم الرشوة كما ترشى السماسرة، وعيرهم أكل اللحم الخالص.
والعرب يتهاجون بكل شيء أفرطوا في استعماله، فقد هُجيت بنو تغلب بكثرة روايتها معلقة عمرو بن كلثوم فقيل فيها:
وربما عُيرت القبيلة بعيب واحد منها. قال الجاحظ في البخلاء: «والعرب إذا وجدت رجلًا من القبيلة قد أتى قبيحًا، ألزمت ذلك القبيلة كلها، كما تمدح القبيلة بفعل جميلٍ، وإن لم يكن ذلك إلا بواحد منها.»
وكان الكرم من أسباب السيادة، فأكثروا من هجو الأشراف بالبخل والكزازة لإسقاط منزلتهم في الأحياء، ويتبع ذلك ذكر النار وخمودها لقلة طبائخهم، أو لخشيتهم أن يعشو إلى ضوئها الضيفان؛ وذكرُ الكلب ونباحه في وجه الزائر لأنه لم يألف الغرباء عند صاحبه، وسكوتُه عن النباح ليلًا لئلا يهدي الطارق والحائر، فاتهموا البخلاء بتخنيق الكلاب.
وللهجاء تأثير عظيم في النفوس، فقد كانت السادات والقبائل تتضورُ منه، ولا تصبر عليه، لسيرورة الشعر وكثرة رواته.
وأكثر الشعراء رويت لهم أقوال في الهجاء، وإن يكن بعضهم تميَّز فيه عن بعض كالحطيئة وحسان بن ثابت الأنصاري، وأفضله ما جاء في الدفاع عن سياسة القبيلة والرد على خصومها، أو ما جاء في ذم الأخلاق الرديئة وخلا من الفحش وتمزيق الأعراض.
(٤) الرثاء
يشغل الرثاء جانبًا عظيمًا من الشعر القبلي؛ لأنه — في أكثره — مصروف إلى سادات العشيرة وفرسانها الذين لهم فيها المآثر المحمودة، فليس موتهم موت واحد، بل بنيان قوم تهدم، كما قال عبدة بن الطبيب في رثاء قيس بن عاصم. وكلما دنت القرابة بين الشاعر والميت ازداد الرثاء حسرةً وتفجعًا، وأروعه ما نُدب به الأبطال المجدَّلون في حومات القتال، فإن الشعراء، في البكاء عليهم وفي تعداد مناقبهم، يثيرون الأحقاد ويشحذون العزائم، ويهيجون القبيلة للحرب والأخذ بالثأر، كرثاء المهلهل لأخيه كليب، والخنساء لأخويها صخر ومعاوية، وفيه تتدفق العاطفة لوعةً وألمًا، ويشتد الغلو في ذكر أوصاف الميت وتعظيم المصاب به، فليس إلا الشعور يفيض دمعًا وأسًى عليه، وفخرًا ومباهاةً به، ومدحًا وتأبينًا له، فتتفاعل مشاعر مختلفة من خسارة وحزن، وإعجاب واعتزاز، وضغن ونقمة، وقد يبلغ بهم استعظام الخطب إلى أن يتمنوا حدوث انقلاب في الكون، كما قال المهلهل:
ومثل هذا التفجع والتهويل شائع عندهم في رثاء الملوك والرؤساء لا يقتصر على الأهل الأدنين؛ فقد رثى النابغة حصن بن حُذيفة بن بدر بقوله:
وسخط المهلهل على بني بكر ظاهر في تهديده ووعيده وضربه معجزات الشروط عليهم ليرضى بمصالحتهم، كما يظهر في رثاء الخنساء وحرقتها على أخويها، مع ما في أشعارها من المباهاة بالميت وتعظيم صفاته ومناقبه.
وقلما قرأت شعرًا في رثاء عظيم — ملك أو سيد — إلا آنست المغالاة في ذكر فضائله، شأنك اليوم عندما تسمع النادبين والنادبات، ولكن لا ترى في أقوالهم ما يُستهجن أو تنبو عنه المسامع؛ لأنه صادر عن العاطفة المكلومة، وكل ما تنطق به النفس على سجيتها لا يظهر عليه التكلف البغيض. فكعب بن سعد الغنوي لا يرى بعد أخيه أبي المغوار من يلبي طالب المعروف، فتصغي إليه غير مستنكر دعواه لما فيها من فطرة وشعور صادق:
وهم يصفون الميت بجميع الفضائل التي يفاخرون ويمدحون بها، غير أنهم يجعلون في كلامهم دلالات على أن المقصود به رثاء لا مدح، بما يتخلله من عبارات فيها ذكر المصاب والدفن والقبر، وفيها التلهف والتفجُّع ونداء الميت: لا تَبعَدْ. قال مالك بن الريب:
وقال النابغة في رثاء النعمان الغساني:
وكثيرًا ما ينعون تلك الفضائل مع الميت؛ فكأنها ذهبت بذهابه، فليس بعده من يجيب إلى النَّدى كما قال كعب بن سعد، ولا من يحمي النساء والأموال ويغيث الملهوف، فقد دُفنت المكارم بدفنه، وغيبت الأخلاق الطيبة في ثراه. قالت الخنساء:
وربما سلكوا سبيلًا آخر، وهو أن يأتي الشاعر بكأنَّ، فيقول: كأن فلانًا لم يَركب جوادًا، ولم يُوقِدْ نارًا، ولم يُطعم جائعًا … إلى ما هنالك من المآثر الحميدة ليُظهر أنها مضت معه وأصبحت خبرًا من الأخبار. قال كعب بن سعد:
وقد يستسلم للقضاء والقدر إذا لم يجد سبيلًا إلى إدراك الثأر، أو إذا أدركه، أو إذا كان الميت قضى غير مقتول بمرض أو حادث طبيعي، فيعمد إلى تعزية نفسه بذكر مصائب الدهر، وفلسفة الحياة والموت، كما فعل لبيد في رثاء أخيه أربد وقد قتلته الصاعقة:
قال ابن رشيق في العمدة: «ومن عادة القدماء أن يضربوا الأمثال، في المراثي، بالملوك الأعزَّة، والأمم السالفة، والوعول الممتنعة في قلل الجبال، والأسود الخادرة في الغياض، وبحُمُر الوحش المتصرفة بين القفار، والنسور والعقبان والحيَّات؛ لبأسها وطول أعمارها، وذلك في أشعارهم كثير موجود، لا يكاد يخلو منه شعر.» ا.ﻫ.
وإنما اتخذوا هذا الأسلوب ليستخلصوا حكمة ساذجة، وهي أن هؤلاء الملوك والأبطال والجبابرة من الشعوب الخالية لم يعفَّ الموت عنهم، ومثلهم الحيوانات الضارية، أو الممتنعة في الجوِّ والآكام والأودية، أو الطويلة الأعمار، ولو نجا حيٌّ من الموت لكان أولئك الناس وتلك الحيوانات أولى من غيرهم بالنجاة. فيجدون عزاءً لأنفسهم بضرب هذه الأمثال، ما دام الموت لا مهرب منه لكل ذي حياة.
فمن ذلك رثاء أبي ذؤيب الهُذَلي لأولاده الخمسة، وقد ماتوا بالطاعون في سنة واحدة، وقيل كانوا ثمانية فمات سبعة منهم. فذكر أن الدهر لا يبقى على حدثانه أحد من الأحياء، مهما يكن عليه من القوة والبأس والصلابة والتمنُّع. فقصَّ أولًا خبر الحمار الوحشي إذ كان آمنًا، فأدركه الصياد فرماه فأقصده، فخر مُنجدلًا. ثم أتبعه خبر الثور الوحشي وكيف التجأ إلى شجرة الأرطى ليلًا محتميًا من المطر حتى الصباح، ففاجأته الكلاب فقاتلها وصرَّعها بقرنيه، فرماه صاحبها بسهم فأرداه. ثم أخبر عن مصرع بطلين تبارزا، ووصف سلاحهما وفرسيهما وعراكهما، فأخرج قطعة ملحمية جميلة، وأما كلامه على الثور والحمار والصيادين والكلاب فشائع متشابه في شعر الأقدمين.
فهذه التأسِّيات تجعلهم أحيانًا لا يندفعون مع العاطفة الجازعة المتفجِّعة؛ بل يستسلمون إلى القدر الذي يؤمنون بسلطانه، ويخضعون لأحكامه القاسية، راضين على كره بما قسم لهم، كما هي الحال عند أبي ذؤيب وعند لبيد. قال أبو ذؤيب:
وقيل إن في البيت الثاني إشارة إلى قناعته بالطفل الذي بقي حيًّا من أولاده، وقال أعشى باهلة في رثاء المنتشر أخيه لأمه:
وإذا ابتعدت المراثي عن الأهل والأقرباء، وخرجت إلى السادات والملوك الغرباء، كان شأنها شأن المدح التكسبي، على غير آصرة صحيحة تربط الشاعر بالميت إلا ذكر أياديه البيض عليه كرثاء النابغة للنعمان الغساني.
(٥) الغزل
يقوم أكثر الغزل الجاهلي على الوصف والتشبيب، وأقلُّه ما جاء قصصيًّا يحمل ذكريات المغامرات الغرامية يتخللها الحوار كما نجده عند امرئ القيس، وعند المنخل اليَشكُريِّ في قوله:
وفيه من العفة ما يحمد عليه صاحبه، وإن كان لا يخلو بعضه من فحش ورذيلة، ولا سيما شعر المترفين، وتسيطر عليه المادة من جميع نواحيه، فما فيه من عمل الروح إلا نفحات خفيفة تكاد لا تُحَسُّ.
وليس الغزل عندهم فنًّا مستقلًّا برأسه، وإنما هو غرض من الأغراض المتعددة التي تشتمل عليها قصيدتهم، ولكن له حق الصدارة يُستهلُّ به ثم يُنتهى منه إلى غيره.
ويبدءون غزلهم في الغالب بذكر الطلول الدارسة تلعب بها الرياح، وتعفو آثارها الأمطار، وتسرح بها الآرام مطمئنة لخلوها من سكانها. ثم يذكرون الفراق وانتقال الظعائن، فتشجى نفوسهم، وتفيض عيونهم بالبكاء، ويستعيدون صورة الحبيب النائي آخذين بوصفه وتمثيله، ذاكرين اسمه الحقيقي، أو كانين عنه بغيره حرمة واستحياءً.
ويعجبهم الجِيد الأتلع ويرَون له شبهًا في جيد الرئم، والخصر الأهيف، والكشح الهضيم، والردف الثقيل، والقامة اللدنة. ويشبهون الخصر بالجديل، والردف بالكثيب، والقامة بالغصن أو بالرمح. ويصفون الأنامل باللطافة، حتى لتكاد تنعقد، ويشبهونها بالعنم والأساريع. ولا تحمد الساق إلا إذا كانت عبلة صامتة الحِجْل ريَّا المخلخل.
وخير النساء الحرة المنعمة، الكسول التي تنام الضحى، ولا تقوم للعمل في المنزل، القصيرة الخطى، البطيئة إذا مشت. قال قيس بن الخطيم:
ومن صفاتها أن تكون حلوة الحديث يتساقط كلامها تساقط الحلي، حَصانًا عفَّة، وفيَّة لزوجها كاتمة سره، ولا تختتل لأسرار الجيران. قال قيس بن الخطيم:
وقال الشنفرى:
ولكن غزلهم في كثرته يدل على سوء ظنهم بالمرأة، وشدة ما يعانون من غدرها وتبديلها الأصحاب ونفورها من الزوج إذا كبر وشاب. ولطالما حاول الشاعر أن يرد تهمة الكِبَر بذكر همته واستطالته على اللهو وتصبي النساء. قال علقمة بن عبدة:
ووصف كعب بن زهير حبيبته سعاد بقوله:
وقال امرؤ القيس يرد على بسباسة التي اتهمته بالكِبَر:
على أن الشاعر الجاهلي في ماديته لا يعنى كثيرًا بوصف أخلاق المرأة، وعرض نفسيتها، وتحليل عواطفها، كما لا يعنى بتصوير لواعج نفسه، وتلمُّس خفاياها، واستخراج الأهواء المتدفِّقة فيها. فقد كان يحسُّ كل الإحساس بالألم والخيبة، واللذة والأمل، فتعبر عن هذه المشاعر دموعه وابتساماته، وتلهفه وابتهاجه، أكثر مما تعبر عنها صوره وألوانه. فهو يحسن تصوير الأشياء المرئية التي تبعث فيه الشعور والاشتياق، ولا يحسن مع ذلك تصوير ما في النفس من خوالج وانفعالات. وربما ظهرت شخصية المرأة في شعرهم عامة مشتركة، لتواطئهم على أوصاف راتبة لا يجاوزونها، ولا يحيدون عنها، فقلَّما وجدت فرقًا بين واحدةٍ وأخرى من عرائس الإلهام.
والغزل الجاهلي بما فيه من فطرة لا يخلو من سذاجة التعبير عن حب الشاعر وشكواه وتضجره من العواذل، ولكن فيه من الأنفة والإباء ما يرفعه عن التذلل والعبودية وتعفير الوجه على أقدام الحبيبة، وكثيرًا ما تمتزج ألفاظ الحب بألفاظ الحرب، ولا سيما عند الشعراء الفرسان.
(٦) الطبيعة
لا يستغرب من الشاعر الجاهلي أن ينظر إلى الطبيعة ويمعن في وصفها، وهو يعايشها غير مصارم لها بهجران، ويواصلها غير منفصل عنها بحائط أو بنيان. يتكل عليها في حياته ورزقه، مع ما هي عليه من الغلظة والقساوة وقلة العطاء. فقد وجد العرب في بادية عطشى قليلة الماء، لا تجري فيها الينابيع الغزيرة فضلًا عن الأنهار؛ لتروي الأرض وتبعث الخير من بواطنها، فآمالهم بالخصب معقودة على ماء السماء، وربما حطمتهم السنة وعضتهم الفاقة لاحتباس المطر وإخلاف الربيع، فتظلم الدنيا في عيونهم من صحو دائم وصفاء راتب.
وفصل الأمطار قصير في الصحراء، ولكنه مستطيل على إحياء الأرض لما بها من قوة كامنة، فلا يمضي على سقوط الغيث عشر ليال حتى ينبت الربيع كما ذكر ابن دريد: «فما لبثنا إلا عشرًا حتى رأيتها روضة تندى.» ولطالما نشبت الحروب واستحكمت العداوات بينهم لتزاحمهم على المياه والمراعي، كما يتزاحم أهل الحضر ويتقاتلون على المرافق الاقتصادية.
وفي الشعر الجاهلي أوصاف كثيرة للربيع تنظر إلى حياتهم المادية بدافع الرخاء والشدة، لا إلى حياتهم الروحانية بعامل المتعة والشعور الباطن. فكان الربيع عندهم نجعة للإبل وموردًا للرزق، فإذا أخطأهم أجدبت المراعي وجف الضرع وعم الجوع والبلاء. فحياة البدوي من إبله، وحياة الإبل من الكلأ، وقديمًا قال قائلهم: «إذا أخصبت الدهناء ربَّعت العرب جمعاء.» وإذا ربَّعوا: «غُيِّبت الشفار وأطفئت النار»؛ لأنهم يشربون اللبن ولا ينحرون النياق فعلهم أيام القحط وانقطاع الأمطار.
وحاجة البادية إلى الماء جعلت لفصل الأمطار شأنًا خطيرًا في الشعر الجاهلي؛ لأنَّ البدوي يشعر بالجوع في أواخر الصيف، ويحزنه أن يرى العشب يابسًا والغدران والآبار جافةً، وتُملُّه الطبيعة بصحوها المستمر وحرها الخانق، فتأخذه الكآبة خوفًا من الجدب إذا احتبس المطر، وضجرًا من حياة متشابهة، ويظلُّ على هذه الحال خاضعًا للقدر، مرجِّيًا تبدل وجه السماء لتأتيه بالغيث والفرج. حتى إذا اغبرَّ الأفق وسطع البرق، ابتهج ومضى يتأمل هذه الظواهر الجديدة مترقبًا نزول المطر، كما قعد امرؤ القيس بين ضارج والعُذَيب ينظر فرحًا إلى البرق والسيل الجارف يسحو الجبال ويفترش الصحراء، فتنقلع الأشجار، وتنهدم الآطام إلا ما بني بالحجارة، وتسكر الطير وتَوحَل السباع.
وكما وقف أوس بن حجر يتلمس السحاب وقد أطبق عليه، وتهدلت أذياله وفجَّره الرعد بالقطار:
وكما أرق ملحة الجرميِّ للبارق الوامض، فابتهج به وبشر الأرض بالحياة بعد البلى:
ويشتد ابتهاجهم عندما تهب الريح من جهة اليمن كما هبت ريح ملحة الجرميِّ من ناحية حضرموت، فإنها تأتي رخاءً وتبشر بمطر غزير وخصب قريب، ولذلك اشتقوا معنى اليمن من الريح اليمانية، كما اشتقوا معنى التشاؤم من الريح الشآمية؛ لأنها تأتي بالبرد والصقيع، وتنذر بانقطاع المطر والقحط والجوع.
والبدوي يؤثِّر البرد في جسمه لتعوده الحرارة، ولا سيما الفقراء في أطمارهم البالية، والمسافرون الذين يخبطون الليل في جوف الصحراء، حتى إنهم سموا البرد نحسًا لتطيُّرهم منه. وقد يضطر البدويُّ في شدة البرد إلى أن يحطم قوسه ويشعلها ليستدفئ بها، وهي عزيزة عليه. قال الشنفرى:
وقد وصف الشاعر صحراءه في بردها وحرِّها، في برقها وأمطارها، في عواصفها ورياحها، وأحاط بجبالها وسهولها ورمالها، وتكلم على نباتها وأشجارها الشائكة، وذكر طيرها وحيوانها، وأخرج عن الأماكن التي يمر بها في ترحُّله مصوَّرًا جغرافيًّا يكاد يكون وافيًا. ووصف الليل الطويل وما ينتابه في ظلامه الدامس من الخوف والأرق، وسما إلى الكواكب يتبين مطالعها ومغاربها، ويتضجر من ثباتها إذا وجد الليل طويلًا في حزنه وهمومه. قال امرؤ القيس:
وقلما خرج إلى تصوير الطبيعة الحضرية الغنية بمياهها وأشجارها كما وصف النابغة الفرات وهو عند الملك النعمان. ولم يستفيضوا في الكلام على البحار؛ لأن سوادهم يقطن في قلب الصحراء. وما غرروا بأرواحهم فركبوا في السفن، وكافحوا جنون الأمواج؛ ليترك البحر أثرًا في نفوسهم كما تركت الفيافي والقفار، فما له عندهم إلا ذكر عارض نرى له مثالًا في معلقة طرفة وهو ربيب البحرين.
على أن الشاعر الجاهلي، في ماديته الكثيفة، لم تظهر عنده عاطفة الطبيعة واضحة جلية، فكان ينظر إليها ويتأملها مبتهجًا أو مكتئبًا لمرآها، لا يستطيع أن يعبِّر عن اختلاجات نفسه نحوها، وما يعتريها من التأثُّرات في نظره إليها، ولا أن يبثَّ الحياة فيها، فيجعل روضتها امرأة حسناء يشتهيها ويبادلها الشعور، أو يبدع منها أشخاصًا — على ما يوحي إليه خياله — يحلل نفسياتهم في ما يتبادلون من الأحاديث والنظرات والحركات، فيمثل فيهم الغيرة والحسد والمراقبة والنميمة والرحمة والإشفاق كما يفعل الشاعر العباسي والأندلسي؛ وبالأولى ألا ينظر إليها نظرًا شاملًا للجماعة الإنسانية وما يبدو في حياتها من خير وشر وقبح وجمال؛ ليجرد منها فكرة فلسفية كما يفعل الشعراء من أبناء زماننا. وإنما كانت الطبيعة عنده محط الرحال ينقلها جزئيات صورًا وألوانًا، لا نقطة السير يستلهمها كلياتٍ فكرةً وخيالًا، فيختزن المحسوسات وانطباعاتها، ثم يجمع بعضها إلى بعض، ثم يحلِّلها ويركِّبها، ويخترعها صورًا جديدة أو يخلقها خلقًا مبتكرًا سويًّا. بيد أنه أجاد تصويرها من النواحي التي سلكها، وكانت له تخيلات جميلة في تمثيلها وتشبيهها.
(٧) الخمريات
كان أهل الجاهلية أصحاب لهو وشراب، على حد تعبير الرواة والمؤرخين القدماء، في كلامهم على الذين هجروا الخمرة منهم بعد إسلامهم، أو الذين كانوا من المحدودين فيها؛ لأنهم شربوها وهم مسلمون. ويدلُّنا، على مبلغ كلفهم بها وإخبارهم عنها، ما في المعجم اللغوي من أوضاع لها لا تكاد تقلُّ عما للبعير من أسماء وصفات. وهذا من تنبهات الأب لامنس في كلامه على الأخطل. مع أن الصحراء ليست موطنًا للكروم والمعاصر ما خلا البلدان الصالحة لغرس الأعناب والنخيل كاليمن والطائف ويثرب ووادي القرى، وذُكر أنه كان للأعشى معصر في أثافِت، وهي قرية يمانية ذات كروم كثيرة، والخمرة تُصنع من التمر كما تُصنع من العنب، ولم نعثر على شعر جاهلي يفرق بين الشرابين، أو بين النبيذ والراح، وإنما نجد هذا الفرق في الإسلام.
على أن الشعر الخمري يتحدث عن التجار الغرباء: يهود أو نصارى، يأتون البادية بزقاق الخمر من نواحي الشام والعراق، ويخالطون قبائل الأعراب، فينصب التاجر خيمة ويرفع عليها راية يسمونها الغاية، فيُقبل نحوها الشاربون حتى تفرغ الزقاق، فيقلع غايته، ويقفل إلى بلده، ويتحدث أيضًا عن الشعراء الذين ينزلون الحواضر، ويشهدون فيها مجالس اللهو والشراب، ويسمعون غناء القيان يضربن على الصنج والعود. قال الأعشى:
وقال لبيد:
ويبدو من كلامهم أن معاقرة الخمر من علامات الفتوة عندهم كما قال طرفة:
فيفاخرون بما بذلوا من المال لأجلها، فقد أنفق طرفة ثروته عليها ولم يجد غضاضة في ذلك، واستهلك عنترة ماله مباهيًا بكرمه:
ويؤدُّون أثمانها — في الغالب — نوقًا أو جيادًا أو ثيابًا يبادلون بها لقلة الدراهم في أيديهم. قال الأعشى:
وقال طرفة:
وربما دفعوا ثمنها دنانير، كما قال عنترة:
ويعتد صاحبها بأنه يشرب ويسقي ندماءه ويبذل حتى تلومه عذَّاله. ويمدحون الشارب إذا أنزل غاية التاجر، أي إنه اشترى جميع ما عنده من الخمر، قال عنترة:
على أن التمدح بعقارها وإغلاء أسعارها لم يصرف الشاعر عن وصفها وذكر مجالسها، فنراه يؤثر اصطباحها عند صياح الديك أو قبله، أو حين تضرب نواقيس الكنائس لصلاة الصبح، فيسبق انتباه العواذل إلى حانوت الخمَّار في فتية من أصحابه بيض كرام يحبون اللهو والمنادمة، وربما اغتبقوها مساءً بعد أن يلطف الجو وتخف الحرارة كما شربها عنترة. ولكنهم أكثروا من ذكر الصبوح، قال عدي بن زيد:
ووصفوا لون الخمرة من كميت أو حمراء كدم الذبيح أو دم الغزال، صافية كعين الديك. وربما ذكروا العنب الذي عصرت منه. قال متمِّم بن نويرة:
ويشربونها مبرَّدة بريح الشمال، صرفًا أو ممزوجةً بالماء، أو بالعسل والماء. قال حسان بن ثابت:
وقد يدخلون عليها المسك لتطيب رائحتها، أو حبَّ الفلفل ليشتد لذعها. قال امرؤ القيس:
وشربوها ممزوجة بالماء السخين جريًا على عادة الروم، وهم العرب الذين جاوروا البزنطيين أو خالطوهم مثل عمرو بن كلثوم، حيث يقول:
ومثل عدي بن زيد العباديِّ عندما جاء دمشق من الحيرة وأقام بها مدة فقال:
وذكروا سَورة الخمر وتأثيرها، وحالة السكارى في معاقرتها. قال الحادرة الذبياني:
ووجدوا فيها طيب العيش ولذة الحياة، تطرد عنهم الهموم وتفرج الكرب. قال متمم بن نويرة:
وتبعث فيهم نشوة وزهوًا، فتخرجهم من دنياهم إلى دنيا جديدة، يحسبون أنفسهم فيها ملوكًا، ويزدادون شجاعة. قال المُنَخل اليَشكُريُّ:
وقال حسان بن ثابت:
وعبَّروا في حبهم إياها عن شعور صادق، وأحاطوها بكل كرامة، لا يرون خيرًا في مصارمتها، حتى بعد الممات. قال أبو مِحجَن الثقَفي، وهو من المخضرمين:
وإذا أرادوا أن يحثُّوا نفوسهم على أخذ الثأر جعلوا تحريمها حافزًا لهممهم فلا يشربونها إلا بعد إدراك طلبتهم. وتواضعوا على أن يجدوا طعمها في رضاب الحبيبة، ونكهتها في فمها، فعل كعب بن زهير والمُرقَّش الأصغر حيث يقول:
وإذا وقع أحد الأشراف في الأسر ولم يجد منجاة من الموت، سأل أعداءه أن يقتلوه قتلةً كريمة كما سأل عبد يغوث الحارثي بني تميم، فسقوه خمرًا وقطعوا له عرقًا يقال له الأكحل، وتركوه ينزف حتى مات. ويذكر ابن قتيبة ثلاثة من سادات العرب شربوا الخمر صرفًا حتى ماتوا، وهم زهير بن جناب، وأبو بَراء ملاعب الأسنَّة، وعمرو بن كلثوم. وكان الغضب قد استولى عليهم لما نالهم من أذية لم تصبر عليها عنجهيتهم، فآثروا الموتة الكريمة على احتمالها. وقد يُسقى ضريح الميت خمرًا إذا كان من عشاقها في الحياة. فقد ذكر الرواة أن فتيان منفوحة كانوا يأتون قبر الأعشى ويسكرون عنده، ويريقون الأقداح على ثراه.
ولكن الخمرة لم تسلم من ذمِّ بعضهم والابتعاد عنها وإنكارها، فإن قيس بن عاصم أقسم ألا يذوقها طوال حياته بعدما قادته إلى إثم كبير، وقال فيها:
ولم يشأ زهير بن أبي سلمى أن يمدح صاحبه حصن بن حذيفة بن بدر بشرب الراح حتى يستهلك ماله، بل قال فيه:
على أن الذين شربوها ومدحوها أكثر من الذين هجروها وذموها. وزهير نفسه كرَّم الخمرة حين شبَّه بها ريق صاحبته فقال:
وذكر أنه شربها مع أصحابه إذ يقول:
وهو لم ينزه ممدوحه عن شربها، وإنما نزهه عن إتلاف ماله فيها؛ ليجعله مُستهلَكًا في العطاء. ولم يهجرها قيس بن عاصم؛ لأنه مقت ارتشافها، أو رآها غير صالحة لإرواء غليله وشفاء نفسه، وإنما عقَّها بعدما ورطته في أقبح المعرَّات. فشعراء الجاهلية — على الإجمال — أحبوا الخمرة وشربوها وافتنُّوا في وصفها، على ما بينهم من تفاوت، فتركوا من معانيهم وتصاويرهم أشياء لمن جاء بعدهم من شعراء الدولتين.
(٨) الحكم والمواعظ
الحِكمُ في الجاهليَّة وليدة حوادث الدهر وتجاربه، لا وليدة العلم الصحيح والتفكير العميق والتأمل الطويل. فجاءت — في كثرتها — من الحقائق البدهية والفكر المشترك، موافقة لحياة القبيلة في الصحراء، وما تواضعت عليه في ناموسها الفطري من الآداب الخلقية والاجتماعية، ترشد البدوي إلى منافعه، وتبعده عن مضاره، تزين له الفضائل التي تحمدها الحمية الجاهلية كتعظيم القوة وتحقير الضعف، وظلم البعداء والحلم على الأقرباء، والعفة عن الجارة، وإدراك الثأر، وصنع المعروف لنيل الثناء واكتساب الذِّكر الجميل، كما تزين له فضائل إنسانية لا يحدها زمان ولا مكان كالأمانة والوفاء بالوعد، واصطفاء الصديق، وتجنب الرياء والخيانة، وإباء الذل، والصبر على المصائب. ونظروا في حياتهم الاقتصادية، فتكلموا على الكسب وجمع المال وتثميره وحسن القيام عليه. قال المتلمس:
وقابل عروة بن الورد بين الغني والفقير فرأى الناس يزدرون الفقير ولا يجعلون له وزنًا في مجتمعهم ولو كان عاقلًا فاضلًا؛ ورآهم يعظمون الغني مبالغين في إطراء فضائله، متناسين عيوبه وما يقترف من ذنوبٍ، فقال يخاطب امرأته:
ولم تسمح لهم بيئتهم الطبيعية والاجتماعية بأن يخرجوا في آرائهم إلى نُظُم إصلاحية عامة، فجاءت حِكمهم جزئية يفيد منها المجموع، لا كلية شاملة تتوخى خير الجماعة، وتعنى بعلاج مشاكلها، ووضع الشرائع والقوانين لتقويمها وصلاحها.
وتستوقفنا ظاهرة غريبة في آرائهم، وهي إسرافهم في الكلام على الموت والدهر الذي يبلي الحياة، ويفرق بين الأهل والأصحاب. فأكثر شعرهم يشتمل على شكوى الزمان وصروفه وتقلباته، ويتراءى فيه شبح الموت ماثلًا نصب عين الشاعر، يبعث القلق في صدره، لاستغلاق غده، وغموض مصير النفس عليه، فيحمله على اليأس والسأم والاستسلام إلى القدر، أو على اقتحام المخاطر وإغاثة المعوزين وذوي الحاجات طلبًا لحسن الأحدوثة، أو على تبديد المال ومبادرة الملذات قبل فواتها، ما دام المرء غير مخلَّد، وقلَّ من كان مصير النفس لا يلتبس عليه كعدي بن زيد لنصرانيته، حيث يقول:
فلم يَسعَ إلى طلب الملذات كغيره، بل نبَّه الغافل ليصلح أمره قبل أن يسابقه الموت فيسبقه:
وعمل لتأديب نفسه وتزيينها بالتقوى، ووعظ وأدَّب، فشاعت في شعره روح دينية تحيي الأمل، وتخفف من ذلك اليأس الوثني الذي يقلق الشاعر الجاهلي. قال:
وتأتي حِكمهم مقترنة بالمدائح كما نجدها عند زهير والنابغة والحطيئة؛ إذ يقول في مدح بني شماس:
أو مقترنة بالمفاخر كما تظهر في شعر حاتم الطائي مثل قوله في العفو عن المسيء:
وفي شعر عمرو بن معدي كرب إذ يقول في تعريف الجمال:
أو مقترنة بالمراثي كما نتبيَّنُها في رثاء لبيد لأخيه أربد، وفي رثاء أبي ذؤيب الهُذَلي لأولاده حيث يقول في حُكم الموت الذي لا مردَّ له:
أو مقترنة بالأهاجي مثل قول زهير في بني حصن:
أو بالشكوى والعتاب والدفاع عن النفس كفلسفة طرفة في الحياة والموت واتباع الملذات.
وقد تأتي مواعظ مجردة يقصد منها النصح والإرشاد كآراء زهير في معلقته، وآراء عديِّ بن زيد في مجمهرته. ومنها قول أُمية بن أبي الصلت في وصف السماء والملائكة، وسَوْق الهالكين إلى النار وهم ينادون بالويل والثبور، وكان أمية نصرانيًّا على مذهب الحنفية:
وقلما رأينا شاعرًا جاهليًّا يخص قصيدة كاملة بالحكم والمواعظ، دون أن يتناول غرضًا آخر أو عدة أغراض، ولا نستثني زهير بن أبي سلمى حكيم الشعراء، فإنه على شهرته في النصح والإرشاد، كان يبث الحكم أبياتًا في مختلف أشعاره لا ينظمها مستقلةً برأسها، وإن تكن معلقته حوت طائفة حسنة من آرائه الخلقية والاجتماعية. ونستثني عدي بن زيد فإنه قصر مجمهرته على تأديب النفس وإطراء الفضائل، فجاءت في مجموعها، تدعو إلى الخير والصلاح في اكتساب الصفات المحمودة ومعاملة الناس بالإحسان، ومنها قوله:
ويضرب هذا المثل الجميل الذي يذكرنا بالمثل الفرنسي المأثور: «قل لي من تعاشر أقل لك من أنت»:
وآراؤهم — في الجملة — فردية كأصحابها، فكل بيت مستقل بحكمته، لا يتصل بغيره إلا قليلًا أو نادرًا، ويغلب عليها الأسلوب الخطابي بما فيه من أمر ونهي وترغيب وترهيب، وضرب المثل السائر في البيت العائر. وربما اصطنعوا الأمثال القصصية يعظون بها وينصحون ويحذرون، وأكثرها أساطير اشتبهت فيها حقيقة التاريخ، وتبلورت بخيال يجنح إلى الإغراب، ولكنه لا يبلغ حد الإبداع، فجاءت قصصهم جافة في معظمها، قصيرة النفس لا يزيد أطولها على بضعة وعشرين بيتًا، وتكاد تقتصر على الشعراء الذين سكنوا الحضر أو ترددوا في الأمصار كعدي بن زيد والنابغة والأعشى وأمية بن أبي الصلت؛ مما يدل على أن مخالطتهم لسكان الحواضر أكسبتهم ثقافةً واطلاعًا على أخبار الأمم والملوك، وما حيك حولها من الخرافات والأساطير. فعدي بن زيد أكثَرَ من الاعتماد على الأمثال القصصية في قصائده، ولا سيما شعره الذي قاله وهو سجين، فكان ينظمها مسليًا نفسه، متأسيًا بما أصاب الشعوب الخالية من غِيَرِ الأيام والليالي، أو ينظمها ليعظ بها النعمان أبا قابوس عارضًا عليه صور الملوك الذين أذلهم الدهر بعد عزهم، فذهبوا ضحية الغفلة والغرور، أو ضحية الخيانة والغدر، وغيرهم من الذين اتَّعظوا قبل فوات الأوان، فتركوا الدنيا ليربحوا الآخرة. فمنها أسطورة النعمان السائح رب الخورنق والسدير، وأسطورة جذيمة الأبرش والزباء، وأسطورة صاحب الحضر وابنته وسابور. قال في أسطورة النعمان السائح يخاطب أبا قابوس:
والنابغة الذبياني اصطنع الأمثال في شعره؛ ليعظ بها قومه أو ممدوحه، فعندما أراد أن يدعو النعمان إلى نبذ أقوال الوشاة، وأن يكون صادق النظر في الحكم عليه، قص عليه أسطورة زرقاء اليمامة التي استطاعت أن تعدَّ سرب القطا الطائر بين جبلين لصدق بصرها، وإن يكن نظر النعمان مرجعه العقل، ونظر الزرقاء مرجعه العين، فإن الصدق هو الجامع بين النظرين، وكذلك أسطورة الحية والأخوين، فإن هدفه فيها أن يقول لقومه إن الثقة المتبادلة انقطعت بينه وبينهم كما انقطعت بين الحية وأخي القتيل بعدما أخذ الدية منها وأقسم لها على الوفاء، ثم خانها وغدر بها.
والأعشى يروي لشُريح بن السموأل خبر وفاء أبيه ليأمن في جواره، وأمية بن أبي الصلت يعظ ويذكِّر بأنباء التوراة كقصة لوط وخراب سدوم، وخبر إبراهيم وتضحيته بإسحاق. ولا ينبغي أن تغفل قصة الثور الوحشي والحمار الوحشي عند أبي ذؤيب الهذلي في عظة نفسه وتعزيتها.
وشعراء الجاهلية — على الإجمال — نطقوا بالحكمة وضربوا الأمثال، على تفاوتهم في القلة والكثرة، وشارك بعضهم بعضًا في الأفكار والعظات، فترددت آراؤهم مستعادة مكرورةً، تواطئوا عليها كما تواطئوا على مختلف المعاني والتعابير، وقلما وقعت على فلسفة شخصية يتميز فيها الواحد منهم عن الآخر مع ما يبدو عليها من سذاجة وضعف في الأحكام وتعليل الأسباب.