شعراء الجاهلية
(١) الشنفرى
(١-١) حياته
هو أحد صعاليك العرب وعدَّائيها، جاهلي قديم، والمشهور أن اسمه ثابت بن أوس الأزدي، والشنفرى لقب له لعظم شفتيه. اختُلف في مولده؛ فقيل: إنه نشأ في قومه الأزد ثم أغاظوه فهجرهم. وقيل: ولد في بني سلامان أو أنهم سَبَوْه صغيرًا فنشأ بينهم حتى عرف حقيقة أمره فهرب مضمرًا لهم الشر، وأقسم أن يقتل منهم مائة، فأخذ يترصدهم ويفتك بهم حتى إذا بلغ عدد القتلى تسعة وتسعين قبضوا عليه وقتلوه وطرحوا جثته وجمجمته عرضة للضواري لتفترسه، فمرَّ بجمجمته رجل منهم ورفسها برجله فدخلت فيها شظية فأماتته وتمت به المائة، فقرَّت عين الشنفرى بعد موته وبرَّ بقسمه، ومثل هذه الرواية كثير في أخبار العرب فلا ينبغي التعويل عليها.
(١-٢) آثاره
له أشعار متفرِّقة في كتب الأدب، وكلها في وصف غاراته وشدة بأسه، وأشهرها قصيدته المعروفة بلامية العرب، وشكَّ بعضهم في نسبتها إليه، وأضافها ابن دريد إلى خلف الأحمر، ونسبها غيره لشعراء صدر الإسلام. على أن هذا الشك لا يضيرها من حيث تعابيرها الجاهلية وموافقتها لحياة الشنفرى وما رافقها من شظف عيشٍ وخشونة طباع.
وقد عني بشرحها كثير من العلماء كالمبرد وثعلب والزمخشري، ودرسها المستشرقون ونقلوها إلى لغاتهم.
(١-٣) ميزته
يمثل الشنفرى في شعره الخشن حياة البدوي الغليظ الطباع، الذي جافاه قومه فأبت نفسه الحرة أن تحمل الضيم فتركهم ساخطًا عليهم؛ لأنهم خذلوه في جناية اقترفها، وأبوا أن ينصروه، ورأى أن الأرض لا تضيق على امرئ عاقل، وأن السباع التي يعاشرها أفضل منهم؛ لأنها أكتم للسر ولأن الجاني لا يُخذل عندها.
وحياة هذا الشاعر حافلة بالجرائم، فقد كان يقطع الطرق على المسافرين يستبيح أموالهم ويسبي ظعائنهم، أو يغير على الأحياء الآمنة فيلقي الذعر فيها ويقتل ويغنم.
وفي لاميته الشهيرة يصوِّر أخلاقه وعاداته أحسن تصوير، ويصف غارة له في الليلة المظلمة الباردة، وعودته قبل الصباح بعدما أيَّمَ النسوان وأيتم الأولاد، فيمثل بإيجاز بديعٍ حياة صعاليك العرب وغزواتهم وما يصيبهم من جوع وبرد وخوف.
يفاخر بالتشرد والفتك والسلب كما يفاخر بفقره وجوعه وقناعته. يكره الجشع إذا مُدت الأيدي إلى الطعام، ولا يرى غضاضة في ذكر قذارته، بل يباهي بأن حياة التصعلك منعته من الاغتسال حولًا، حتى تعلقت الأوساخ بشعره تعلق الأبعار بأذناب الإبل. ومن مناقبه أن يغالب القطا في الجري فيسبقها إلى ورود الماء، ولا بدع في ذلك وهو أحد العدائين عند العرب، فمن حقه أن يغالي في عدوه، وإن يكن هذا الغلو لم يخرجه عن فطرته التي تتمثل في جميع شعره، فنجده متصلًا بالطبيعة والمادة، بارز الأنانية في تحدُّثه عن نفسه، وإيثاره إياها بالشرف والفضائل، وميله إلى الانفراد عن قومه لئلا تنتقص حريتها، وتضام في كبريائها وعنجهيتها. يثور عليهم ويشكو ويتظلم لأنهم لم ينصروه في جناياته، ولا حملوا الديات عنه، فهم في نظره مذنبون إليه لا خير يرجى منهم، وأما هو فليس بمذنب، وإن حمَّلهم أكبر الجرائم. تلك هي الفطرة بسذاجة تفكيرها وصدق تعبيرها، وما في صاحبها من قوة الشخصية، وخشونة الطباع.
وليست اللامية وحدها تشتمل على هذه الصفات، بل سائر شعره يجري على سجيته، صريحًا عاريًا من التكلف والتمويه، ولا سيما تائيته التي يستهلها بالغزل فيصف صاحبته خير وصف تظهر فيه المرأة المحمودة في الجاهلية خلقًا وأخلاقًا، على ما فيه من إيجاز، ثم يتطرق إلى ذكر صديقه تأبط شرًّا في غزوة غزاها معه مفاخرًا بشجاعته وشدة بأسه وأخذه بثأر أبيه. وفي التائية من غريب اللغة ووحشيها ما لا يختلف عما نجده في لاميته.
(٢) المهلهل
(٢-١) حياته
هو أبو ليلى عديُّ بن ربيعة التغلبي أخو كليب وائل وَجَدُّ عمرو بن كلثوم لأمه، وقيل: إنه خال امرئ القيس الشاعر. وزعموا أنه سُمِّيَ مهلهلًا لأنه هلهل الشعر أي أرقَّه، وفي ذلك يقول الفرزدق:
وعُرف بالشجاعة والإقدام. غير أن ابن سلام يقول: «وزعمت العرب أنه كان يتكثر ويدعي في قوله بأكثر من فعله.» وكان يقضي أوقاته في اللهو ومعاقرة الخمر ومصاحبة النساء، فلقبه أخوه كليب «زير النساء» أي كثير الزيارة لهن. ولم يكن ينظم من الشعر إلا بعض أبيات في الغزل والملاهي حتى قُتل أخوه فأهابت به عاطفة الحزن فنظم القصائد الطوال في رثاء أخيه. ونشبت حرب البسوس بعد مقتل كليب بين تغلب وبكر فأبلى فيها المهلهل بلاءً حسنًا حتى مات.
(٢-٢) موته
اختلفت الروايات في موته، فابن قتيبة يقول في كتابه «الشعر والشعراء» إنه مات في أسر عوف بن مالك بن ضُبيعة في البحرين، ومنهم من يقول إنه مات عند أخواله من بني يشكر بعدما شاخ وضجر من الحرب. وابن الكلبي يقول: بل قتله عبدان كانا يخدمانه فمَلَّا منه وكان قد أسنَّ وخرف. ونسب للمهلهل أنه لما أحسَّ أن العبدين يريدان قتله أوصاهما أن ينشدا ابنته سليمى بيتًا من الشعر، وهو:
فلما أنشداها البيت أوثقت العبدين وقالت: ما أراد أبي إلا أن يقول:
ولا يخفى ما في هذه الرواية من التفكيه والإغراب.
(٢-٣) حرب البسوس (٤٩٤–٥٣٤م ؟)
وكانت جليلة امرأة كليب من بني مُرة بن ذُهل بن شيبان، ولها عشرة إخوة منهم جسَّاس وهو أصغرهم، فنزلت عليه يومًا خالة له اسمها البَسوس بنت منقذ، ونزل بالبسوس رجل من جَرْم من أخوال جساس اسمه سعد، ومعه ناقة اسمها سراب، فرعت مع إبل جساس وكانت إبله وإبل كليب مختلطة لما بينهما من المصاهرة. فأبصرها كليب فأنكرها، فرماها بسهم خرق ضرعها فولت الناقة تعج حتى بركت بفناء صاحبها، فلما رآها صرخ: يا لِذُلٍّ! … فسمعت البسوس فخرجت وصاحت: «وا ذلاه! وا جوار جساس! وا جوار مرة! …» ثم أنشدت تعنف بني مرة:
- (١)
يوم النهيِ، وكان لتغلب على بكر.
- (٢)
يوم الذنائب، انتصرت فيه تغلب وقُتل شَراحيل أخو جساس.
- (٣)
يوم عُنيزة، تكافئوا فيه.
- (٤)
يوم واردات، وكان لتغلب على بكر، وقُتل فيه همام أخو جساس.
- (٥)
يوم تَحلاق اللَّمم، انتصرت فيه بكر، وأسر الحارث بن عباد المهلهلَ، ثم أطلقه بعدما جز ناصيته.
وذكر أن حرب البسوس دامت أربعين سنة، وأن آخر من قُتل فيها جساس قتله ابن أخته الهِجْرِس بن كليب. وقيل: إن الملك المنذر والد عمرو بن هند ملك العراق هو الذي أصلح بين الفريقين بعد موت المهلهل.
(٢-٤) آثاره
أشعار متفرقة في كتب الأدب كلها في رثاء أخيه كليب وتوعد قاتليه، وقد نحله القصاصون ديوان شعر ورواية تعرف «بقصة الزير» فيهما من ركيك العبارة، وسخيف النظم، وضعف التأليف ما يتبرأ منه المهلهل.
(٢-٥) ميزته — الرثاء
نسب إلى المهلهل شعر في الغزل ولكنه قليل، وفي الأغاني أنه أول من استعمل الغزل في الشعر، غير أن ميزته الشعرية ليست في غزله؛ بل في رثائه وتفجعه على أخيه، في رقة عاطفته التي أكسبت شعره سهولةً ولينًا حتى ليدهشنا أن نجدها في شاعر جاهلي قديم عاش هو والشنفرى في عصر واحد بعدما رأينا ما في شعر هذا البدوي الخشن من متانة وشدة أسر. فكيف تمت الرقة لأحدهما ولزمت الخشونة الآخر؟
ولكي نجيب على ذلك يجدر بنا أن ندرس نشأة الاثنين، والبيئة التي عاشا فيها، وما رافق حياتهما من المؤثرات الخارجية. فالشنفرى عرفناه لصًّا صعلوكًا يعيش مع الوحوش في الغابات والبراري بعدما طرده قومه، يشن الغارات في الليالي المظلمة الباردة، فيفتك وينهب، فلا بِدْع أن يكون شعره مرآة لحياته الخشنة. أما المهلهل فقد نشأ في بيت كريم النِّجَار له السيادة على قبائل معدٍّ كلها، فانصرف إلى اللهو والطرب ومعاشرة النساء، ومعاقرة الخمر شأن الأمراء أمثاله. فليس من عجب أن تلين طباعه وترقَّ عاطفته. ثم قتل أخوه كليب وما أخوه إلا عز بني تغلب ومجدهم، فاستولى عليه الحزن والجزع فسالت عاطفته على شعره فجاء رقيقًا مهلهلًا.
وهناك نظرة عامة لا نرى بدًّا من الإشارة إليها؛ وهي أن أكثر شعراء ربيعة لا يخلو شعرهم من لين وسهولة، ولعل قربهم من أمصار العراق والسواحل البحرية أكسبهم هذه الرقة، وليس من ينكر تأثير الإقليم في النفوس، فابن الساحل أرقُّ طباعًا من ابن الجبل، والساكن في المدن أو على مقربة منها ألين عاطفة ممن يعيش بعيدًا عنها، ونحن نعلم أن أطراف جزيرة العرب المتاخمة للعراق والشام والحبش كانت في العصر الجاهلي أكثر حضارة من غيرها، ومن المعقول أن تؤثر هذه الحضارة في نفوس شعرائها فترقَّ عواطفهم وترق معها ألفاظهم.
ومن فاسد الرأي أن نحصر رقة العاطفة في عصر دون آخر، فهي تعيش مع العصور كلها، وتكون في البدوي كما تكون في الحضري، وقد نجدها في شاعر يعيش في البادية ولا نجدها في آخر يعيش في الأمصار، ورب شاعرين يعيشان في عصر واحد وإقليم واحد، ترى في شعر أحدهما رقة وفي شعر الآخر خشونة، كجرير والفرزدق الشاعرين الأمويين، فالفرزدق في شعره لا يقلُّ شدةً وأسرًا عن أخشن شاعر في الجاهلية، على حين أن جريرًا ألين منه شعرًا وأرق غزلًا وعاطفة، وأي وجه للشبه بين شعر أبي نواس وشعر أبي تمام، وكلاهما عاش في العصر العباسي، وكلاهما اتصل بالخلفاء وحظي عندهم، فكان شعر أبي نواس رقيقًا لينًا، وشعر أبي تمام متينًا خشنًا مع أن الثاني جاء متأخرًا عن الأول.
فأما وقد عرفنا ذلك فلا نعجب إذا قرأنا شعرًا رقيقًا في الجاهلية؛ بل ينبغي أن ندرس العوامل التي أثرت في نفس الشاعر فمنحته الرقة والسهولة. وقد عرفنا العوامل التي أثرت في نفس المهلهل فأرقت عاطفته وهلهلت شعره، فإذا هو يُسمعنا في رثاء أخيه شبيه الماء سلاسةً وعذوبةً، مثال ذلك رائيته الحسناء التي قالها بعد أن دفن أخاه وأقام على قبره يرثيه:
وللمهلهل أسلوبٌ خاص في رثائه وتفجعه تظهر فيه تعابيره الشخصية، فهو إذا ألح عليه الحزن صعَّد الزفرات مكررةً، وبدا لك منه غلو في تهديده بني بكر، وضربه عليهم معجزات الشروط ليرضى بمصالحتهم، ولعل الرواة استغلوا هذه الخاصة في الشاعر فأضافوا إليه ما ليس له؛ لأننا نقرأ في أشعاره أبياتًا كثيرةً فيها إسفاف وابتذال لا يصح نسبتهما إليه مهما بلغ شعره من اللين والهلهلة. وهذا ما جعل الرواة يزعمون أن الاضطراب والاختلاف من صفات شعر المهلهل، قال ابن سلام: «وإنما سمي مهلهلًا لهلهلة شعره كهلهلة الثوب، وهو اضطرابه واختلافه. من ذلك قول النابغة:
ومن غلوه الفاحش قوله:
وقد قيل إنه أكذب بيت قالته العرب، وبين حجر، وهي قصبة اليمامة، ومكان الواقعة عشرة أيام.
(٢-٦) منزلته
وجملة القول أن المهلهل شاعر العاطفة في رثائه وتفجعاته المتصاعدة تكرارًا، شاعر الغلو في تهديده وادعائه، وهو يمثل أحسن تمثيل رقة الشعر في قبائل ربيعة، وتأثير الإقليم والنشأة وعيشة الترف في البدوي، وما للعوامل النفسانية حزنًا أو سرورًا من أثر في العاطفة، وفي الشعر الذي يُستقطر من تلك العاطفة، ويُعدُّ من الطبقة الثانية في شعراء الجاهلية.
(٣) المعلقات
هي أجود ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي، وتسمى السُّمُوط أي العقود. قال أبو زيد القرشي في كتابه «جمهرة أشعار العرب»: إن أبا عبيدة قال: أصحاب السبع التي تُسمى السُّمُوط: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو بن كلثوم، وطرفة. وقال المفضل: من زعم أن السبع التي تسمى السموط لغير هؤلاء فقد أبطل. فأُسقط من أصحاب المعلقات عنترة والحارث بن حلزة وأُثبت الأعشى والنابغة. واعتمد أبو زيد القرشي على أبي عبيدة والمفضل في ترتيب أصحاب المعلقات؛ فجعلهم سبعة في مقدمة كتابه، ولكنه خالف ذلك عند ذكر القصائد، فأضاف إليهم عنترة فصاروا ثمانية. ولعل المخالفة من الناسخ لا منه.
وجعلهم التبريزي عشرة مضيفًا إلى من ذكرنا أسماءهم قصيدة عبيد بن الأبرص، وجعلهم الزَّوزني في شرحه المشهور سبعة وهم: امرؤ القيس، وطرفة، وزهير، ولبيد، وعمرو بن كلثوم، وعنترة، والحارث بن حِلِّزة، وهذا ما رأينا أن نتبعه نحن.