أصحاب المعلقات السبع
(١) امرؤ القيس١ (توفي نحو منتصف القرن السادس)
(١-١) حياته
ويعزى عطف القيصر على امرئ القيس؛ لأنه كان نصرانيًّا مثله. على أن هذا وحده لم يكن كافيًا لاهتمام يوستنيانوس بمساعدة الملك الطريد لولا طموحه إلى منافسة الأكاسرة، وبسط سيطرته على جزيرة العرب. ويظهر أن عقبات قامت دون بغيته فلم يستطع أن يعيد إلى الشاعر ملك أبيه فعوضه منه إمارة فلسطين.
وقد أحاطت بحياة امرئ القيس وموته طائفة من الأساطير فرأينا أن نضرب عنها صفحًا لعدم فائدتها.
(١-٢) آثاره
ديوان شعر طبع مرارًا، شرحه البَطَليوسي النحوي المتوفى سنة ١١٠٠م/٤٩٤ﻫ، وله المعلقة المشهورة، وهي أولى المعلقات تحتوي على ثمانين بيتًا من البحر الطويل نظمها على أثر حادثة جرت له مع ابنة عمِّه عنيزة، وكان يهواها، فوصف الحادثة، ثم انتقل إلى وصف الفرس والصيد والبرق والمطر.
(١-٣) الشاعر والطلل
يخبرنا الرواة أن امرأ القيس هو أول من ذكر الديار في شعره، فوقف عليها واستوقف، وبكى واستبكى في قوله:
فاستحسن العرب منه هذه الطريقة، واتَّبعه عليها الشعراء، فأصبحت من بعده أسلوبًا تقليديًّا، يطوي القرون ويتخطَّى الأجيال، وفي كل عصر له أتباع وأنصار حتى أوائل القرن العشرين.
على أن الأمير الكندي ينفي عن نفسه هذه الأولية التي أضافها الرواة إليه، فيقول من قصيدة:
فقد جعل نفسه تابعًا لغيره، لا مبتدعًا طريقة ذكر الديار والبكاء عليها، وإن كنا لا نعرف شيئًا عن هذا الباكي الأول. فلو لم يذكره امرؤ القيس في شعره، على فرض سلامة القصيدة من النحل، لما جاءنا عنه خبر من الرواة الأقدمين. قال ابن سلَّام في طبقات الشعراء: «هو رجل من طيئ لم يُسمع شعره الذي بكى فيه، ولا شعرٌ غير هذا البيت الذي ذكره امرؤ القيس.»
ويختلف الرواة في ضبط اسمه، فيقول بعضهم إنه ابن خذام بالخاء المعجمة، وبعضهم الآخر يرويه ابن حُمام، ولكنهم يقتصرون جميعًا على هذا الحد من التعريف به والتحدُّث عنه لجهلهم حقيقة أمره.
وسواء لدينا صحَّ وجود ابن حِذام أو لم يصح، وسواء بكى في شعره أو لم يبك، فإن الوقوف على الديار شيء طبيعي عند القبائل المترحلة ينشأ مع الشعب، ولا يُعرف له بَدء ولا مبتدئ. فإن البدوي المتنقِّل في صحرائه لا بدَّ له من المرور بأرضٍ كان ينزلها من قبل، فتعوده ذكريات حبيبة إلى قلبه تستثيرها بقايا الرسوم الدوارس من نُؤْي ودِمنة وموقِد، فيقف عليها وفي نفسه حنين إلى أيامه الخالية. فغير عجيب أن يبُثَّ خواطره شعرًا باكيًا، إذا كان من الشعراء، وإنما العجيب أن يُعرف هذا الشاعر الذي وقف قبل غيره، وبكى في عصر لم يكن أبناؤه مؤهلين لتدوين أدبهم وحفظه في الصحف، فيرجِع إليها الباحثون في خصائص الشعر الجاهلي وتطوُّراته، لا أن يكون المحفوظ لديهم ما تناقله الرواة شفهيًّا بعضُهم عن بعض أو عن القبائل البادية، مع ما في رواياتهم من خبط ونحلٍ وفقرٍ إلى التحقيق والتمحيص.
ولئن فاتنا شعر ابن حِذام لنتبين منه كيف ذكر الديار وبكى عليها، لقد جاءنا شعر عن أشخاص عاصروا امرأ القيس أو تقدموه يحمل إلينا صورًا جليّةً عن مذهب الوقوف والبكاء، مما يدل على أن هذه الطريقة كانت شائعة مشتركة بين شعراء الجاهلية، لا ينفرد بها أحدهم عن الآخر. فنجدها عند الحارث بن عُباد اليَشكُريِّ، والمُرقِّش الأكبر، وبِشر بن أبي خازم الأسَدي، قال الحارث بن عُباد، وكان معاصرًا لكليب والمهلهل وشهِد حرب البَسوس:
وقال المرقِّش الأكبر:
وتظهر هذه الطريقة واضحةً في شعر عبيد بن الأبرص الأسدي، وكان نديمًا لوالد امرئ القيس ملك بني أسد وربيعة، ثم انقلب عليه منحازًا إلى قبيلته الغاضبة؛ لما لقيت من جور الملك الكندي، ولم تلبث أن انتقضت عليه وقتلته. فأخذ امرؤ القيس يهدد بشعره بني أسد، وعبِيد يرُدُّ عليه مدافعًا عن قومه.
وقد أكثر عبيد من ذكر الديار والبكاء عليها، ولم يفته استيقاف الصَّحْب كما فعل امرؤ القيس في معلقته، فمن قوله:
وقوله:
فهذان البيتان يذكِّران أسلوب الشاعر الكندي، ويعطيان أمثلة صالحة عن الطريقة التقليدية التي يضيفها الرواة إليه. فهل تأثر الشاعر الشيخ بأسلوب الشاعر الفتى، فترسَّمه في الوقوف والاستيقاف والبكاء على الديار؟ أم هل تلمذ أمير بني كندة لنديم أبيه، فسار على خُطاه، واشتقَّ أسلوبه من أسلوبه؟
قد يحتَمل الأمران، وإن كنا نؤثر امرأ القيس على عَبيد، ونعلم أنه أقدر على الإبداع من شاعر بني أسد. ولكن الأسلوب التقليدي — كما يظهر — كان شائعًا في عصر الملك الضليل أو قبل عصره. فأكثر الشعراء وقفوا واستوقفوا واستنطقوا الديار وبكوا عليها، ولعل شاعرنا الكندي ظهر على غيره، في هذه الطريقة؛ لمكانته الملوكية من جهة، ثم لاستطالته في الشعر على معاصريه من جهة أخرى، وليس علينا أن ننسى معلقته وسواها من قصائده التي لا يقف أمامها شعر عبيد وغيره من الجاهلين المتقدمين. وكذلك ابتداءاته التي ذكر فيها الديار، ولا سيما مطلعُ معلقته، فإنه أجمع كلمة لطريقة الوقوف والاستيقاف والبكاء والاستبكاء حتى ضُرب به المثل، فقيل: أشهر من قِفا نبكِ، ولم يبق شاعر في الجاهلية وصدر الإسلام إلا اعتمد هذه الطريقة وطبع على غرارها. حتى جاء العصر العباسي، فتبنَّاها ولكن بعدما حلاها بالوشي الجديد والاستعارات الحضرية، ولم تحرَم في القرن العشرين شعراء يحنون إليها.
(١-٤) أسلوبه وشاعريته
إذا كان الشاعر الذي يحدثنا عن ذاته راويًا أخباره في صلاحها وفسادها، كاشفًا عن خبايا نفسه في لذاتها وآلامها، يدعى شاعرًا شخصيًّا، فأولى منه بهذا اللقب شاعر يترك من أسلوبه طابعًا متميزًا يُعرف به ويُنسب إليه مهما يكثر مقلدوه.
وكان امرؤ القيس شاعرًا شخصيًّا في ظهور ذاتيته لا يأتلي أن يطالع الناس بأحواله وأسرار حياته، يقص أحاديث لهوه ﺑ «آنسة كأنها خط تمثال». ولا يغفل عن لهوه بالصيد عاديًا على «كميت» وراء «الهاديات».
وهو في أثناء هذا وذاك يطلُّ بجلالته الملوكيَّة مستخفًّا «بأحراس ومعشر» لا يقدمون على قتله جهارًا «عليَّ حراصًا لو يُسرُّون مقتلي»، تاركًا بعل سلمى «كاسف اللون والبال» …
مغتديًا إلى الصيد تتبعه الحاشية شأن الملوك، وتنضج الطهاة له «صفيف شواء أو قدير معجل» ساعيًا لمجده المؤثل «وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي» لاحقًا بقيصر ليسترجع ملك أبيه «نحاول مُلْكًا أو نموت فنعذرا.»
ولو اقتصرت شخصية امرئ القيس على ظهور ذاتيته لأمسى شعره شيئًا مألوفًا في الشعراء. ولكنه كان إلى ذلك شخصي الأسلوب، متميِّز الطابع، فتح كنوز الشعر لمن جاء بعده، وهداهم إلى أغراضه وفنونه، فترسموه وساروا على طريقه، عصورًا وأجيالًا، يتنحلون أسلوبه، ويطبعون على غراره، ولا يدركون له شأوًا.
وقلما قرأنا لشاعر قديم، أو محدث غارق في القديم، إلا رأينا صورة امرئ القيس ماثلة خلال سطوره، حتى الذين حاولوا التجديد في العباسيين — كأبي نواس — كانوا ألصق الناس به في ابتعادهم عنه.
فهذا الأسلوب الذي كتب له العمر الطويل، ولا ينفكُّ يستأثر بطابع صاحبه، هو الذي حمل الرواة الأقدمين على أن يجعلوا له خصائص وأوليات لا يسعنا إلا ذكرها مع ما قدمنا من الاعتراض عليها في كلامنا على الشاعر والطلل. فمن التقليد المتعارف عند الرواة أن الشاعر الملك سبق إلى أشياء ابتدعها، فاستحسنتها العرب، واتبعته عليها الشعراء. فكان أول من وقف على الطلول، واستوقف، وبكى واستبكى، وأول من قيَّد الأوابد، وشبَّه النساء بالظباء والبيض، والخيل بالعقبان والعصي، وأجاد في التشبيه، وأرقَّ النسيب، وفصل بينه وبين المعنى.
وكتب الأدب قديمها وحديثها تتفق على ترديد هذه الرواسم كلما تكلمت على شاعرية امرئ القيس وتقدمه في الشعراء. وبهذه الأوليات يميِّزون أسلوبه، وإن تكن لا تعطينا إلا صورة مصغرة عنه. ونحن إنما نفهم الأسلوب في معناه الشامل، أي ما تناول الموضوع والروح واللغة والفن. ولا نستطيع أن نستجلي شخصية الشاعر في أسلوبه إلا إذا أخذنا شعره من هذه النواحي وألممنا بميزاتها.
وقد علمنا أنه شخصي الموضوعات، تدور أغراضه على حوادثه وأخباره. فإذا تتبعناها ألفيناها تُختصر في غزله وذكر مغامراته الحبية، وصيده وجواده، وطوافه على القبائل يمدح أنصاره، ويهجو أعداءه وخاذليه، وسفره إلى القسطنطينية يستنجد القيصر ليساعده على استرجاع ملك أبيه. وهذه الأغراض قائمة على ركنين من الفن: الوصف والقصص، تطفو عليهما ذكريات عميقة، فيها شعور قوي باللذة، وفيها شعور قوي بالألم، ويتجاذبها من الصوبين تعهُّر واستسلام إلى الشهوات والملاهي، ونفحة من عزة الملوك وترف الأمراء.
ويصف امرؤ القيس ويقص، وقلما قاده الوصف والقصص إلى التفصيلات والتحليلات النثرية، فيهبط من جوه الشعري؛ لأنه يتناول هذين الفنين، في الغالب، لمحًا ووثبًا، فيلقي نظرًا شاملًا على المرأة والجواد والطبيعة، ويخرج لها صورًا متعددة الأشكال تحيط بالموصوف على أنواعه، ولكنها لا تقتصر على نقله نقلًا آليًّا ساذجًا بصورته ومثاله، بل تستوحيه أحيانًا لتخلقه خلقًا عبقريًّا جديدًا فيه شيء من الحقيقة، وفيه أشياء من الخيال المبدع، كقوله في صفة الجواد:
أو قوله في صفة الليل الطويل:
وأمثال هذه الصور البارعة كثيرة في شعره.
وإذا روى خبرًا لا يسترسل في سرده وتفصيله؛ بل يوجزه في بضعة أبيات، يشتمل قليلها على الحوار اللذيذ، وعلى تصوير نفسيات الأشخاص وعواطفهم، ولا يخرج عن كونه شعرًا قبل كلِّ شيء، ولنا مثال على جمال قصصه قوله:
وما بعده من أبيات إخبارية تعطينا صورة جلية عن الشاعر المتهتك المغامر، الساخر بمن دونه، المعتز بسيفه وسهامه، وترينا زوجًا ضعيفًا، يرى الفضيحة على أهله فتخنقه الغيرة، فيهدد ويتوعد ولكنه لا يصنع شيئًا. وتبرز لنا صورة مغشاة للمرأة في خوفها وحذرها، في ضعف إرادتها واستسلامها.
واللمحات القصصية يحفل بها شعر الملك الضليل ممتزجة بالوصف اللمَّاح، وكلاهما يعتمد على صناعة التشبيه خصوصًا، والاستعارات والكنايات عمومًا، والتشبيه ركن عظيم في شعر صاحبنا، لا يتخلى عنه في إظهار صوره وألوانه. يستمده على الغالب من الطبيعة، ولا يبالي أن يأخذ ما نستهجنه اليوم ونجده منحطًّا عن المشبه به. ولكن علينا أن لا ننسى أنه شاعر بدوي فطري وإن كان ملكًا مترفًا، والفطرة لا تتأبَّى هذه الأشياء التي نتأباها نحن. فمن العدل أن ننظر إليه بعين عصره حين نسمعه يقول:
أو يقول:
والأساريع دود صغار شبَّه بها الأصابع في طراوتها.
وقد يتناول التشبيه من الحجارة الكريمة والطيوب المتنوعة، والحرير والدمقس والمرآة، مما يدل على نعمته وترفه؛ لأن هذه الأشياء لم يعرفها في الجاهلية غير الموسرين والأمراء.
وجمال التشبيه عنده يقوم على غرابته وبُعد متناوله، وما فيه من التصوير والتمثيل، والحركة، كقوله:
أو قوله:
وهذا النوع كثير في تشابيهه، ويزيده حسنًا ما يطوف به من غموض مستحبٍّ، لا نتبين فيه وجه الشبه إلا استشفافًا، فنلمحه لمحًا خفيفًا، ولا نستوضحه جليًّا، فيترك في أنفسنا أثرًا للذة، ونحن نتتبعه ونتقصاه على غير خيبة تامة.
وسرُّ الجمال في تشابيهه التصويرية: أن المشبه به لا يشتمل على وجه تام للشبه، وإنما فيه ناحية خفية تجمعه بالمشبه. فهذه الناحية البعيدة يلمحها الشاعر بقوة تصوره، ويعتمد عليها في الجمع بين شيئين هما في حقيقتهما لا يجتمعان، كقوله:
أو قوله:
فلولا الصورة التمثيلية التي نجدها في البيتين لما كان من جامع بين الشاعر والماء، وبين الجواد والصخر، فقد جعل من خفة حركة الماء في تصاعد حببه شبهًا بخفة وصوله إلى حاجته دون أن يحدث جلبة. وجعل من الصخر الذي حطَّه السيل من جبل عالٍ فمضى يتقلب ظهرًا لوجه، يتنزى على الصخور يمنة ويسرة، هبوطًا وارتفاعًا، جامعًا بينه وبين جواده في سرعة كره وفره، حتى لا يفرق بينهما لشدة اندفاعه.
وهذا الغموض الذي نقع عليه في شعر امرئ القيس، سواءٌ كان بتشبيه أو بغير تشبيه، يمكننا أن نعده من محاسن أسلوبه؛ لأنه ليس من الشعر المغلق المعمى الذي يتيه القارئ في دياميسه دون أن يجد لها منفذًا، وإنما هو ذلك اللمح الذي أشار إليه البحتري بقوله:
أو هو ذلك الغموض الذي عرَّفه أبو إسحاق الصابي فقال: «إن طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه؛ لأن الترسل هو ما وضح معناه، وأعطاك سماعه في أول وهلة. وأفخر الشعر ما غمض فلم يُعطك غرضه إلا بعد مماطلة.»
ولامرئ القيس لغة تتجاذبها صلابة البدوي وخشونته، ورقة المتحضر المترف وسلاسته، فيها إيجاز بليغ امتازت به لغة الجاهليين على السواء، وفيها تعابير اختصَّ بها الشاعر واصطلح عليها، فردَّدَها غير مرة في مختلف قصائده، فما نخطئ نسبتها إليه عندما نقع عليها كقوله: «وقد أغتدي والطير في وكناتها، بمنجرد قيد الأوابد، درير كخذروف الوليد، له أيطلا ظبي وساقا نعامة إلخ …» فعُرفت له هذه الأشياء وأمثالها، وهي بعض خصائص أسلوبه.
وامتازت لغته بالروعة الفنية، فكانت خير صلة بينه وبين قارئه، تؤدي ألفاظه مهمتها في التعبير عن حالته التي يحسها ويتصورها، وفي الإيحاء الذي يحمل القارئ إلى دنيا الشاعر فيجعل حاله كحاله مستمتعًا بمتعته، وهذا حدُّ الفن في الأدب، فالشاعر الذي تعجز ألفاظه عن تأدية فكرته وإحساسه وخياله، يسقط أدبه؛ لأن قيمة الأدب بنقله إلى القارئ، وطبيعي ليس إلى أي قارئ كان، وإنما نريد به من حصلت له ملكة التذوق الأدبي.
ففي شعر امرئ القيس من الانسجام والائتلاف اللفظي ما يبعث منه أجراسًا موسيقيةً تتناولها الأذن بلذة، فتدفعها إلى النفس بما فيها من ألوان وتصور وشعور. وقد تكون لغته الشعرية مألوفة الاستعمال تعبر بحقيقة معاني ألفاظها تعبيرًا قويًّا عن حالته النفسية كقوله:
وقد تكون غير مألوفة الاستعمال يخلقها الشاعر خلقًا، ويعطي ألفاظها معاني رمزية مجازية، فيها من قوة الإيحاء ما تعجز الألفاظ الحقيقية أن تقوم به فيما لو أريد التعبير بها عن هذه الفكرة في قوله:
والأجراس الموسيقية تقوم إما على ألفاظ مفردة «يغط غطيط البَكر» أو على انسجام التركيب كمطلعه «قفا نبك» أو على تداعي الحروف والحركات «مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبلٍ مدبرٍ معًا» تدفعها جميعًا تموُّجات تطول وتقصر بحسب الحالة التي تستدعيها. فالتموجات القصيرة في «مكرٍّ مفرٍّ» ملائمة كل الملائمة لسرعة الجواد في عدوه، والتموجات الطويلة في قوله:
يتطلبها طول الليل، وهذا النَّفَس الممتد الذي يقصر عنه البحر الطويل.
وبهذا يتميز أسلوبه كما يتميز بروحه ولغته وموضوعاته، وبأسلوبه استطاع أن يكون شاعرًا شخصيًّا، كما كان شاعرًا شخصيًّا في ظهور ذاتيته، وبه وحده تجلَّت عبقريته، فاعترف الناس له بإمارة الشعر، ولم يطمع فيها يومًا، ولا خطرت له ببال.
(١-٥) درس تاريخي
قلنا في ترجمة امرئ القيس: «وقيل إن أمه فاطمة بنت ربيعة، أخت كليب والمهلهل.» وهذا هو المشهور عنه. غير أننا لا يسعنا ونحن ندرس شعره، إلا أن ننظر إلى هذا النسب بشيء من الاحتياط والشك. فليس في أشعار الملك الضليل ما يدلنا على هذه القربى حتى نؤمن بها، فلو كان كليب والمهلهل خاليه لما استنكف أن يذكرهما مفتخرًا، أو أن يشير إلى الوقائع التي انتصر فيها التغلبيون على البكريين في حرب البسوس.
ورُبَّ معترض يقول: إن شعر امرئ القيس ضاع أكثره لتقادم العهد، ولم يصل إلينا منه غير القليل. ونحن لا نخالفه في ذلك، ولكن هذا القليل كان كافيًا للدلالة لو صحَّت القربى. فلامرئ القيس قصيدة يفتخر بها ويذكر أخواله وأعمامه إذ يقول:
فمن هذا ابن كبشة؟ … إنه غير كليب والمهلهل، فما كان ابنا ربيعة ينتسبان يومًا إلى «كبشة»، ولو أراد امرؤ القيس أحدهما لذكر اسمه واستقام له وزن البيت، ولكنه يشير إلى سواهما لأنهما ليسا بخاليه.
على أن هذا لا يمنع أن يكون والد امرئ القيس تزوج فاطمة بنت ربيعة، إلا أن الشاعر ليس منها بل من ضرَّة لها. ولعل فاطمة هذه هي التي تعشَّقها وتغزل بها في معلقته إذ يقول:
وحبه لامرأة أبيه مشهور، وقيل: إن والده طرده من أجل ذلك.
وزعم الرواة أنه أحب ابنة القيصر، وأنها هي التي أشار إليها بقوله:
وقيل إن أباها علم بأمرهما فزوجه إياها. أما نحن فنرى أن القصيدة نُظمت بعد موت والده، ولكن قبل سفره إلى القسطنطينية، ودليلنا على ذلك أن الشاعر يقول قبل أن يسمو إليها:
فأين يثرب من القسطنطينية؟ …
ويقول أيضًا في مكان آخر:
فأنت ترى أنه يتغزل بآنسة متزوجة، والرواة يحدثوننا أن ابنة القيصر كانت عزبة وقد تزوجها امرؤ القيس، وهبها كانت ذات بعلٍ فليس من المعقول أن يسخر الشاعر من زوجها ويحتقره، وهو صهر القيصر، أو ينسب إليه الضعف والخنوع والمذلة، وهو أعزُّ منه جانبًا، في كنف ملك يفزع إليه امرؤ القيس طريدًا مستنجدًا ينشد عرشه الهاوي.
ودليلنا على أنه نظم القصيدة بعد موت والده هو قوله:
فهو يشير هنا إلى سعيه لاسترجاع ملك أبيه.
وحدثنا الرواة أن امرأ القيس سافر إلى القسطنطينية مستغيثًا بقيصر، ولم يذكروا له غير هذه السفرة إلى بلاد الروم. على أننا نعتقد أن الشاعر عرف تلك البلاد قبل التجائه إلى مليكها، واطلع على حضارتها فأثرت في خياله الشعري فوسعته، وظهر هذا التأثير في تشابيهه اللطيفة، وابتكاره للمعاني والألفاظ، ودليلنا على أن معرفته لبلاد الروم لا تقتصر على الزيارة الأخيرة، قوله في معلقته:
فاستعماله لفظة السجنجل — وهي رومية الأصل — ينبئ اختلاطه بالأروام قبل نظم المعلقة وقبل مقتل أبيه. وله قصيدة يصف بها سفره إلى قيصر مستنجدًا على بني أسد، يقول فيها:
فإنكار بعلبك وأهلها، وإنكار ابن جريج له دليل على أنه يعرف تلك البلاد وله فيها معارف وخلان.
(١-٦) صحة شعره
ولا بدَّ لنا — ونحن ندرس شعر امرئ القيس — أن ننظر فيه إلى صحيحه من منحوله، فقد نُسب إلى الملك الضَّليل ما ليس له كما نُسب إلى غيره من الشعراء الأقدمين. ولسنا نزعم أننا نبلغ الحقيقة كلها في درسنا هذا؛ إذ من الصعب الوصول إلى نتيجة تامة في مثل هذه الأمور. على أننا نرجو أن نأتي بشيء لا يخلو من فائدة.
ممن المعلوم أن شعر امرئ القيسضاع أكثره لبُعد أيامه ولم يصل منه إلا النزر اليسير، ولكن هذا النزر اليسير لم يسلم من النحل والاصطناع. فالرواة أنفسهم يشكُّون في هذه الأبيات من المعلقة، ويضيفونها إلى تأبّط شرًّا، وهي:
ونحن نرى أن حمل القربة، وقطع الأودية الخالية، ومعاشرة الذئاب، والافتقار، وهزال العيش شيءٌ أولى بصعلوك يعيش في البراري والغابات كالشنفرى وتأبَّط شرًّا منه بملك كامرئ القيس؛ أنيق العيش، وافر النعمة، تتبعه الطهاة والخدم في حله وترحاله.
ونُسبت إليه قصيدة في التهديد مطلعها:
وهي في «معاهد التنصيص على شواهد التلخيص» لامرئ القيس بن عابس الكندي أحد الصحابة، ولعلَّ وحدة الاسم بين الشاعرين جعلت بعض الرواة يضيفونها إلى الملك الضليل، ويزعمون أنه يهدد بها بني أسد، على حين أنه ليس فيها ما يشير إلى مقتل أبيه أو إلى بني أسد الذين قتلوه. ومثلها الأبيات التي لُقب من أجلها بالذائد وهي:
فابن الكلبي يقول إنها لامرئ القيس بن بكر، وغيره يزعم أنها لامرئ القيس بن عباس. وهذا الاختلاف بين الرواة راجع — كما لا يخفى — إلى تشابه الأسماء والتباسها. على أننا لا نرى في الأبيات الثلاثة ما يحملنا على نسبتها إلى شاعر جاهلي، فهي في اعتقادنا مصنوعة في الإسلام لتبيان سبب لقبه، ثم للاستشهاد بها على أن شعراء الجاهلية كانوا يعنون بتنقية أشعارهم فيطرحون منها الرديء ويختارون الحسن.
وأُضيفت إليه أشعار بعد رجوعه من القسطنطينية ومرضه حتى موته في أنقره. ولكننا لا نستطيع أن نطمئن إلى صحتها؛ لظهور الاصطناع على أكثرها. مثال ذلك، ما رواه الأغاني من أن الشاعر رأى قبر امرأة ماتت وهي غريبة فدفنت في سفح جبل يقال له عَسيب، فسأل عنها وأُخبر بقصتها فقال:
فتفنن الرواة ظاهر في اختراع القصة والبيتين، والأعجب أن عسيبًا جبل بعالية نجد لا في أنقره من بلاد الروم.
ونُسبت إليه مماتنات مع شعراء عصره. منها مماتنته للحارث بن التَّوأم اليَشكُريِّ التي يقول في مطلعها:
فيجيبه التوأم مجيزًا:
ومنها مماتنته لعَبيد بن الأبرص، وهي أشبه بأحاجي كتَّاب المقامات وألغازهم، ولا ريب أنها منحولة. قال عبيد في مطلعها:
فأجابه امرؤ القيس:
على أن هذه الأشعار المصطنعة في الإسلام ليس من شأنها أن تلقي الشكَّ على شعره أجمع، ولا سيما المعلقة وأمثالها من القصائد المشهورة، وإن لم تسلم من التحريف والتبديل.
(١-٧) منزلته
هو في مقدمة شعراء الطبقة الأولى، وأبعدهم شهرة، وأسبقهم إلى الاختراع والابتكار. فقد رأيت مما تقدم ما لشعره من الميزات الكثيرة من حيث الجزالة والروعة والإيجاز، ولطف التشبيه والاستعارة ودقة الوصف، ولا سيما وصف الفرس والصيد والمطر. وقد اتفق الرواة على تفضيله. ونُسب إلى النبي محمَّد قوله فيه: «امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء وقائدهم إلى النار.» وذكروا عن الإمام علي أنه فضَّله بقوله: «كان أصحهم بادرة وأجودهم نادرة.» وصفوة القول أن امرأ القيس أمير الدولتين: دولة الشعر ودولة بني كندة.
(٢) طرفة بن العبد (الربع الثالث من القرن السادس)
(٢-١) حياته
هو عمرو بن العبد البكري، وطَرفة لقب غلب عليه. ولد في البحرين ونشأ يتيم الأب في بيت غني، كريم المحتد، فانصرف إلى اللهو والخمر والنساء، ينفق عليها بغير حساب، فضيَّق عليه أعمامه وأبوا أن يقسموا ماله، وجاروا على أمه وردة أخت المتلمس الشاعر، فظلموها حقها، فهددهم طرفة بهذه الأبيات، وهي من أوائل نظمه:
على أن جور أعمامه لم يمنعه من الإسراف واللهو؛ فظل ينفق من ماله على أصحابه وخلَّانه حتى لم يبق له شيءٌ، فسخطت عليه عشيرته وابتعدت عنه؛ فأصبح معزولًا كالبعير الجرب، وإلى ذلك يشير في معلقته:
وساء طرفة أن يعرض عنه أهله فتركهم مدة قضاها بالغزو والتطواف، ثم عاد إليهم نادمًا، صفر اليدين، فحمله أخوه مَعبَد على رعاية إبله فأهملها، وأنَّى لمثله أن يحسن رعايتها؟ فأنبه معبد وقال له: «تُرى إن أُخذت تردُّها بشِعرك هذا؟» فقال طرفة: «لا أخرج حتى تعلم أن شعري يردُّها.» ولم يطل الأمر حتى أُخذت الإبل فألحَّ عليه أخوه بردِّها، فلجأ طرفه إلى ابن عمه مالك ليعينه على استرجاعها من آخذيها وكانوا قومًا من مضر، فانتهره مالك بعنف فتألم الشاعر ونظم معلقته واصفًا حالته وجور أهله عليه، وعرض فيها لذكر سيدين من أقربائه، فمدحهما بكثرة المال والولد إذ يقول:
فدعاه أحدهما (عمرو)، وكان له سبعة أولاد فأمرهم، فدفع كل واحد إلى طرفة عشرة من الإبل، ثم أمر ثلاثة من أبناء بنيه فدفعوا إليه مثل ذلك، فردَّ إبل أخيه وقد ردَّها بشعره — كما قال — وأقام ينفق من الباقي حتى نفد. فاتصل بعمرو بن هند ملك العراق، وكان صهره عبد عمرو بن بِشر وخاله المتلمس الشاعر من رجال الحاشية، فقرَّب الملك طرفة لإعجابه بِشعره.
ولكنَّ الشاعر الفتى كان تيَّاهًا فخورًا بنفسه، فشبَّب بأخت الملك غير مبالٍ، فأبعده عمرو بن هند عن حاشيته وجعله في حاشية أخيه قابوس فلم يجد منه ما تعوده من الإكرام؛ فهجاه وهجا أخاه الملك هجاءً مرًّا. من ذلك قوله:
ولكن لم يجرؤ أحد أن ينقل هذا الهجاء إلى عمرو.
وشكت ذات يوم أخت طرفة شيئًا من أمر زوجها عبد عمرو؛ فهجاه طرفة بأبيات منها:
وهذا ما يسميه علماء البيان توكيد الذم بما يشبه المدح. فإنَّه بعد أن نفى الخير عنه جاء بالاستثناء كمن يريد أن يذكر له حسنة يمدحه بها، فإذا به لا يرى فيه من الحسن غير كثرة المال ولطف الخصر، ومن الهجاء المرِّ أن تصف رجلًا بما توصف به النساء.
واتفق أن عمرو بن هند خرج للصيد ذات يوم، فانقطع في نفر من أصحابه وفيهم عبد عمرو، حتى أصاب حمارًا فعقره، فقال لعبد عمرو: انزل واذبحه. فعالجه فأعياه، فضحك الملك وقال: لقد أبصرك طرفة حيث يقول، وأنشد: «ولا خير فيه.» فغضب عبد عمرو وقال: لقد قال في الملك أقبح من هذا، وأنشده: «فليت لنا مكان الملك عمرو …» فحقد عمرو بن هند على طرفة، ولكنه كره أن يعجل عليه إشفاقًا من هجاء المتلمس، فلبث يتحين الفرص ليتخلص من الاثنين معًا، وهو يؤانسهما حتى اطمأنَّا إليه، فكتب إلى عامله في البحرين، وقال لهما: انطلقا إليه وخذا جوائزكما.
فحملا الكتابين وسارا حتى بلغا النجف، فقال المتلمس لطرفة: تعلمنَّ والله أن ارتياح عمرو لي ولك لأمر عندي مريب. وإني لا أنطلق بصحيفة لا أدري ما فيها. فقال طرفه: «إنَّك لتسيء الظن، وما تخاف من صحيفة؟ إن كان فيها الذي وعدنا وإلا رجعنا فلم نترك منه شيئًا.» فأبى المتلمس أن يجيبه وعدل إلى حيث رأى غلامًا من الحيرة فدفع إليه الصحيفة ليقرأها له، فلما نظر الغلام فيها قال: «ثكلت المتلمِّس أمَّه!» فأخذ المتلمس الصحيفة وقذفها في البحيرة فضُرب المثل بصحيفته. ثم قال لطرفة: «تعلمنَّ والله أنَّ الذي في كتابك مثل الذي في كتابي.» فقال طرفة: «لئن كان اجترأ عليك ما كان بالذي يجترئ عليَّ.» وأبى أن يطيعه، فتركه المتلمس وهرب إلى الشام.
وسار طرفة حتى أتى البحرين وكان صاحبَها أبو كرب ربيعة بن الحارث، وهو من أقرباء طرفة، فلما قرأ الكتاب قال: «أتعلم ما أُمرت به فيك؟» قال طرفة: «نعم، أُمرتَ أن تجيزني وتحسن إليَّ.» فقال: «إن بيني وبينك لَخئولة أنا لها راعٍ، فاهرب من ليلتك هذه، فإني قد أُمرت بقتلك. فاخرج فبل أن تصبح ويعلم بك الناس.» فأبى طرفة وقال: «اشتدت عليك جائزتي، وأحببت أن أهرب وأجعل لعمرو بن هند عليَّ سبيلًا، كأنني أذنبت ذنبًا. والله لا أفعل ذلك أبدًا.» فأمر بحبسه. ثم كتب إلى عمرو بن هند يقول: «ابعث إلى عملك من تريد فإني غير قاتل الرجل.» فأرسل عمرو بن هند رجلًا من بني تغلب يقال له عبد هند واستعمله على البحرين، وكان رجلًا شجاعًا، وأمره بقتل طرفة وقتل ربيعة بن الحارث. فقدمها عبد هند ولبث أيامًا فاجتمعت بكر بن وائل فهمَّت به، وكان طرفة يحضهم. فانتدب له رجلًا من الحواثر يقال له أبو ريشة فقتله وقتل معه العامل السابق. وكان قبره معروفًا بهَجَر في أرض بني قيس بن ثعلبة.
(٢-٢) درس تاريخي
هذه هي الرواية المشهورة عن مقتل طرفة، وقد تناقلتها كتب الأدب في شيء من الاختلاف. أما نحن فلا يسعنا إلا أن ننظر إليها بشكٍّ واحتياط لظهور الاصطناع عليها. فإن سير حوادثها بيِّن التكلف، من هجاء طرفة لعمرو بن هند، إلى هجائه عبد عمرو، إلى إشفاق ملك العراق من قتله في قاعدة ملكه خوفًا من المتلمس، إلى إرساله ليقتل في البحرين وهي مسقط رأس الشاعر وبلاد قومه، إلى صحيفة المتلمس ورفض طرفة أن يفض صحيفته، إلى امتناع صاحب البحرين عن قتل الشاعر لأنه من أقربائه، وحبسه اياه، ثم انتظاره أن يرسل عمرو بن هند عاملًا جديدًا ليقتله ويقتل طرفة معه، إلى مجيء العامل وهو من بني تغلب أعداء البكريين، إلى قعود بني بكر عن إنقاذ شاعرهم في عقر دارهم … إلى غير ذلك مما يصعب الاطمئنان إليه.
فلقد كان بوسع عمرو بن هند أن يفتك بالشاعرين معًا في العراق، بدلًا من أن يرسلهما إلى البحرين، ولقد كان ينبغي له أن يخشى هجاء المتلمس أخيرًا كما خشيه أولًا بعد أن نجا هذا من الشَّرَك الذي نُصب له، ولقد كان بوسع صاحب البحرين أن ينجو وطرفة دون أن ينتظر قدوم العامل الجديد ليقتلهما معًا.
وزعم الرواة أن نسيبه صاحب البحرين بعث إليه في سجنه جارية اسمها خولة فردَّها، وقال في ذلك أبياتًا مطلعها:
ومنها البيت المشهور يخاطب به عمرو بن هند:
ولا يخفى ما في إرسال الجارية إلى السجن من التكلف. وقد جعل الرواة اسمها خولة، وهو اسم المرأة التي يشبب بها طرفة في معلقته، فكأنهم أرادو أن يؤنسوه بذكر من يهوى قبل موته، وفي ذلك ما فيه من التفكيه والإغراب. وليس في البيت الذي يخاطب به عمرو بن هند ما يدل على حقيقه الحال؛ لأن ملك العراق لم يُفنِ قبيلة الشاعر حتى يصح قول طرفة:
على أننا وإن كنا نشكُّ في رواية قتله فلا ريبَ عندنا بأن الشاعر مات صغير السن، ولمَّا يبلغ الثلاثين من عمره، فعُرف بالغلام القتيل، وبابن العشرين، يؤيد ذلك رثاء أخته الخِرنق له إذ تقول:
وقد يكون عمرو بن هند قتله من أجل الهجاء، فقد أشار إلى ذلك الفرزدق بقوله: وأخو بني قيس وهنَّ قتلنه، أي القصائد.
(٢-٣) آثاره
لطرفة ديوان جُمعت فيه أشعار أشهرها المعلَّقة، ثم «رائية» مطلعها:
ولم يذكر له ابن سلَّام غير هاتين القصيدتين، وروى مطلعهما، ولكنه عرف له قصائد أخرى لم يدل عليها.
وأضيفت إليه قصيدة «ميمية» ذكر الأصمعيُّ أنها منحولة، ومطلعها:
ونحن يهمنا من شعر طرفة معلَّقته؛ ففيها تظهر ميزته، وعليها المعوَّل في درس حياته، وأخلاقه، وآرائه في الحياة والموت، وإن كانت رائيته لا تخلو من الجمال، ولا تعدوها الفائدة في استطلاع شخصية الشاعر.
(٢-٤) ميزته — المعلقة
معلقة طرفة هي الثانية في المعلقات، وهي كسائر الشعر الجاهلي متعددة الأغراض والمرامي، يستهلها بوصف أطلال خولة وحدوجها، ثم ينتقل إلى وصف الناقة، فوصف معيشته وكرمه فمعاتبة ابن عمِّه مالك، فالافتخار بنفسه، فذكر آرائه في الموت والحياة، إلى غير ذلك من الأغراض التي لا يتألف منها وحدة في الموضوع. وقد شُرحت هذه المعلقة مرارًا وترجمت إلى اللغات الأجنبية.
(٢-٥) الغزل
وهنا ينتقل الشاعر إلى ذكر حدوج المالكية فيشبهها بالسفن، ثم يأخذ في وصف تلك السفن حتى إذا انتهى عاد إلى وصف من يهوى. وهذه خاصة في الشاعر الجاهلي تجعله لا يترك الموصوف حتى يصوِّره من جميع جهاته.
ولهذه الأبيات قيمة تاريخية تفيدنا ما كان في البحرين من ملاحة وصناعة سفن. وليس أولى من طرفة بوصف السفن والملاحين وهو ربيب السواحل البحرية، ثم يعود إلى من يهوى فلا يتعدى في وصفه عنقها وثغرها ووجهها.
(٢-٦) وصف الناقة
وينتقل فجأة إلى ناقته التي ينفي بها الهم عند حضوره:
ولا يخفى ما في هذا القسم من الفوائد التاريخية عن العصر الجاهلي.
(٢-٧) حياته وشاعريته
وبعد أن يُتِمَّ وصف ناقته وتصويرها يفرغ إلى نفسه فيصف معيشته في السلم والحرب، فإذا هو يحبُّ اللهو والعبث كما يحب الحرب، وإغاثة الملهوف، وإذا هو مبذر يكره جمع المال؛ لأن الموت لا يفرق بين الكريم والبخيل، والكريم خير من البخيل، وفي هذا القسم يطلعنا على آرائه في الحياة والموت، وعلى اضطهاد عشيرته له، وعلى غير ذلك مما يتعلق بحياته. وهو أهمُّ أقسام المعلقة؛ لأن به تظهر خصائص الشاعر تمام الظهور. فلا خولة طرفة ولا ناقته تجذبه إلينا أو تجذبنا إليه، فليس في نسيبه ما يغري به ويستخف القلوب، وليس في وصف «عوجائه المرقال» ما يجمع روحنا بروحه ويربط دنيانا بدنياه، وإن كان أدقَّ واصف لها بشهادة المتقدمين والمتأخرين. وإنما طرفة بنفسه دون غيره، بلهوه ومرحه، بفخره واعتداده، بتشكيه وتظلمه، يحملنا إليه أو يحمل ذاته إلينا، فنحسُّ بإحساسه، نأسى لألمه، ونبتهج لحماسته، ونضحك لسروره. فحياته في شعره لها أثر قوي في توجيه هذا الشعر، وضم روحه إلى أرواح قرائه. وإذا لم يكن فيه ما في شعر امرئ القيس من انطلاق النفَس، وعمق التصور، وتلوين الخيال المتحرك، فإن فيه من صدق الشعور، وفطرة النفس، وبساطة التعبير ما يفيض عليه الجمال ويضمن تقريبه إلى القلوب.
والشعور الصادق عامل رئيس للفن، يبعث النشاط في النفس، ويحبو الجمال عنصر الحياة. وكلُّ عمل فني فاته الشعور لا يستحقُّ أن يُعَدَّ من أبناء الحياة، وليست النشوة التي تحدثها حياة الفنِّ إلاَ ائتلافًا موسيقيًّا بين الشعور والخيال والإدراك، تتولى الألفاظ إخراجه في الشعر كما تتولى إخراجه في الموسيقى والرسم، والأوتار والألوان.
وكان طرفة في حياته قطعة موسيقية ائتلفت بها عناصر الحس والخيال والفكر، فانتظمت وحدة كلية على غير تكافؤ، لما للشعور من سيادة وسلطان، وجاء شعره صورة عن حياته في اتحاد هذه القوى النفسية، وسيطرة الإحساس عليها جميعًا. وما هذه الحماسة التي ترافق شعره، في الدفاع عن نفسه وعن آرائه، إلا وليدة إحساسه القوي لكلِّ ما يتصوره ويفكر فيه. يندفع بإيمان ثابت، وعناد متصلب، وإن كان على خطإٍ في ما يرمي إليه.
وطرفة ربيب البحرين شهد من الحضارة والعمران ما لا يشهده ساكن الخيام في بوادي نجد والحجاز، ونشأ يتيمًا لا يد فوقه تقوم على تأديبه، إلا يد أمِّه ولم تكن قاسية عليه، ووجد في حوزته مالًا وافرًا، فراح يختلف إلى الحوانيت وهو في العشرين أو دون العشرين، يصحب الندمان، ويشرب الخمر، ويعاشر القيان، حتى أنفق ما لديه وأفلس، فخلعته عشيرته، وأوسعته لومًا وإهانة، وكان أقرب الناس إليه — أخوه وابن عمه — أشدَّهم وقيعة به. فتألمت نفسه الفتيَّة، وأبت أن تصبر على الضيم في أنفتها، وشدة إحساسها، فتفجرت منها ينابيع الشعر ثائرة على الظلم، ساخطة على الأقرباء، مستهينة بالموت والحياة. وليس للشاعر غير فنِّه يسكن به آلامه، ويبث شكايته، ويرد عن نفسه، فاندفع طرفة يسفِّه أقوال لائميه، ويبدي لهم صلاح أعماله، وفساد آرائهم، في شيء غير قليل من القحة والعناد والزراية والتحدي.، وبنى أحكامه على الخلود والفناء، فما دام الإنسان مائتًا على كل حال، ولا خلود في هذه الدنيا لحيٍّ؛ فلماذا لا يبادر الفتى منيته بماله وملذاته؟ تلك الملذات التي يختصرها في ثلاثة أشياء: الحرب والخمر والنساء.
فهذا الدفاع الحار بحجج يسيطر فيها الشعور على الفكر، هو الذي يحبب شعر طرفة إلينا، وما شعره إلا صورة لحياته الهائجة المضطربة، تللك الحياة التي ينكرها عليه أهلوه ويضطهدونه من أجلها، ويراها، مع ما لقي بسببها من إفلاس وطرد وشقاء، مثلًا أعلى لا يسمو إليه إلا كلُّ فتى كريم، يجمع الشرف والنجدة واللهو والغزل.
وقوة الشعور عنده تكاد تجعلنا لا نشعر بسذاجة الآراء التي يبنيها على الموت والحياة؛ لأنه لم يقف فيها موقف الخطيب الواعظ، أو الرجل الحكيم المصلح؛ بل جاء بها مدافعًا عن نفسه، يحسها كأنها بعض روحه، بما فيها من تدافع الحزن والألم وعزة النفس والأنفة، وحباها بكلِّ ما في الشباب من نشاط وحياة، وزادتها جمالًا بساطة التعبير عن خوالج النفس دون أي تكلف، وفطرة صريحة يحلو بها الشعر الجاهلي، ويستقل بنفسه عن الأدب العربي. فطرفة لا يجنح في تعابيره إلى الصيغ المجازية البعيدة، ولا إلى الصور الخيالية العميقة، وإنما يتدفق شعوره بالألفاظ التي تبعثها النفس على سجيتها، سهلة حينًا، خشنة أحيانًا، فيها من الفن ما يكفي لنقل الحالة التي يحسها الشاعر ويتصورها، وإن يكن هذا الفن يحتاج إلى تهذيب بعض الأحيان، ولا سيما المَواطن التي لا يتدفق منها الشعور.
والفطرة في شعره تتمثل أصدق تمثيل بصراحته وسذاجة عقائده، وتحمسه الشديد لها، تلك الصراحة التي جعلته يتحدث عن نفسه في خيرها وشرِّها. فيطلعنا على حياته اللاَّهية وشربه وتبذيره، وحياته البائسة، وقد أفلس وطردته العشيرة، وتُرك منفردًا كالبعير الجَرِب. ثمَّ هذا التشكِّي البريء لجور ابن عمه وإعراضه، فابن عمه يراه جانيًا ويقسو عليه، وهو لا يرى على نفسه ذنبًا يستحقُّ هذه القسوة، وإن يكن أهمل رعاية الإبل حتى سُرقت منه، فقد سعى جهده في طلبها وإرجاعها، فأي ذنب بعدها يحسب عليه؟ هذه العقلية الغريبة، بما فيها من اقتناع بالبراءة، وإيمان بالنفس والآراء، وتخطئة لكلِّ من يخالف عقائدها، هي مثال صادق لفطرة طرفة، وغرور شبابه، وعناده، وكبريائه. فشخصية طرفة القوية، هي التي ترفع قيمة شعره وتُدنيه إلى القراء. يغلي في عروقه دم الشباب، فيفيض حماسة وشعورًا، وإيمانًا. ولا جرم أن سنه ترفد هذا الشعر، فتكسب صاحبه عطفًا على العطف الذي يستحقه، فهو شعر الغلام القتيل، وابن العشرين.
(٢-٨) هجوه وسخريته
أجمع الرواة على أن طرفة كان حديد اللسان جريء الهجاء، ويزعمون أن استخفافه بالناس قرَّب أجله. غير أن هذه الخاصة لا نجدها في المعلقة على تعدد أغراضها، فينبغي لنا أن نلتمسها في غير المعلقة. وقد عرفت أن ما وصل إلينا من شعر طرفة، قليل جدًّا وأكثره لا يعوَّل عليه. ولكننا نأخذ شواهد، على هذه الميزة في الشاعر. انتقاده لشعر خاله المتلمس، وكان طرفة غلامًا يلعب مع أترابه فسمع خاله يقول:
والصيعرية سمة للنوق، فقال طرفة: «استنوق الجمل.» فأرسلها مثلًا، وضحك القوم؛ فغضب المتلمس ونظر إلى لسان طرفة فقال: «ويل لهذا من هذا.» يعني رأسه من لسانه، ونأخذ أيضًا هجوه لعمرو بن هند وأخيه قابوس:
وهجوه لصهره عبد عمرو:
فمن هذه الأمثلة الصغيرة يمكننا أن نتبين خاصة الهجاء في طرفة وما فيها من استخفاف وهزء، ولعلَّ الاستخفاف والهزء من أبرز خصائص هذا الشاعر، فهما ظاهران في لهوه وعبثه، ظاهران في زهده في الحياة والمال، ظاهران في هجوه وانتقاده.
(٢-٩) صحة شعره
فهو يرى أن شعرهما ناله من الضياع أكثر من شعر غيرهما؛ لأنهما أقدم الفحول وأن الرواة نحلوهما شيئًا كثيرًا لما قلَّ كلامهما، ولكنه يعترف بصحة معلقة طرفة وصحة رائيته «أصحوتَ اليومَ …» وبعض قصائد حِسان له لم يشر إليها.
ونحن في درسنا شعر طرفة اعتمدنا على المعلقة أكثر من غيرها، وهي ثابتة له لم يشكَّ أحد في صحتها، وإذا كان الشاعر قد شذَّ عن شعراء ربيعة في متانته وشدة أسره، فليس ذلك بعجيب ولكلِّ قاعدة شذوذ. وإذا نظرنا إلى حياة طرفة وما رافقها من ضيم وشظف عيش، بعد أن طرده أهله فهام على وجهه يأوي إلى المغاور والجبال، ويشنُّ الغارات على الأحياء، لم نعجب لشدة شعره وغرابة ألفاظه. بيد أن هذا الإغراب يكاد يقتصر على وصف الناقة دون سائر أقسام المعلقة.
(٢-١٠) منزلته
وضعه ابن سلَّام في الطبقة الرابعة لقلَّة شعره بأيدي الرواة، ولكنه قال فيه: إنه أشعر الناس واحدة وهي قوله: «لخولة أطلال …» وقال ابن قُتيبة: هو أجود الشعراء طويلة. وقال ابن رشيق: طرفة أفضل الناس واحدة عند العلماء وهي المعلقة. وقال أبو عبيدة: مرَّ لبيد بمجلس في الكوفة وهو يتوكأ على عصًا، فلحقه فتى من أهل المجلس وسأله: مَن أشعر العرب؟ فقال: الملك الضَّليل، يعني امرأ القيس. فسأله: ثم من؟ فقال: الغلام القتيل، يعني طرفة. فسأله: ثم من؟ فقال: الشيخ أبو عقيل، يعني نفسه. ومهما يكن من أمر هذه الرواية فإنَّه يستدلُّ منها ومما تقدمها من الأقوال، أن طرفة فُضِّل بمعلقته على سائر الشعراء. وهذا التفضيل يعود إلى ما فيها من تصوير صادق لحياته البدوية، وما يتخلله من الآراء والحكم، والفوائد التاريخية، إلى ما هنالك من دقة الوصف، وبراعة التشبيه، وقوة التعبير. وحسب صاحبها فضلًا أن يكون غلامًا في العشرين.
(٣) زهير (توفي في السنوات الأولى للهجرة)
(٣-١) حياته
لم يَسلم زهير بن أبي سلمى من الخلاف في نسبه، شأنه شأن غيره من شعراء الجاهلية كالنابغة والحطيئة والشنفرى وسواهم. فقد جعله ابن قُتيبة في غطفان، مع أن ابن الأعرابي وابن الكلبي وأبا الفرج الأصفهاني وغيرهم يردونه إلى مُزينة ويقولون إنَّه نزل أرض غطفان وتزوج منهم، وأقام فيهم. وحجة ابن قتيبة في دفع نسبه عن مزينة أنه ليس له أو لأبنائه شعر ينتمون به إليها إلا بيت كعب بن زهير، وهو قوله:
وكان مُزرَّد بن ضِرار الغطفاني قد دفع نسب كعب في غطفان، ورده إلى مزينة، فلم ينكر كعب عليه زعمه بل أثبت بهذا الشعر أنه منها. ويشرح ابن سلَّام ذلك بقوله: «وقد كانت العرب تفعل ذلك، لا يُعزى الرجل إلى قبيلة غير التي هو منها إلا قال: أنا من الذين عنيتَ.» فيُستدل من كلامه أنه يشكُّ في مزنيَّة كعب. ويقول أيضًا: «وكان أبو سلمى وأهل بيته في بني عبد الله بن غطفان، فبهم يُعرفون، وإليهم يُنْسبون.» ثم يقول: «ولقد أخبرني بعضُ أهل العلم من غطفان أنهم من بني عبد الله بن غطفان، وأن اعتزاءه إلى مزينة كقول هؤلاء، وأما العامة فهو عندهم مُزنيٌّ.»
فانتماء كعب إلى مُزينة، بحسب هذه الرواية، كانتماء العرب الذين يُنسبون إلى قبائل غريبة، فيقولون: «أنا من الذين عنيتَ.» ولكن ابن سلام، مع ما ألقى من الشك على مزنيَّة زهير، لم يسعه إلا أن يجاري العامة عند ذكر نسبه، فجعله من المزنيين، ونرى أن رواية الغطفاني لا تسلم من الجرح، فليس من الغريب أن تدَّعي غطفان شاعرًا مشهورًا كزهير عاش مجاورًا لها يمدح ساداتها ويدافع عنها أصدق دفاع. قال ابن عبد البرِّ في الاستيعاب: «وكانت محلتهم في بلاد غطفان، فيظن الناس أنه من غطفان، أغني زهيرًا، وهو غلط.»
ولم يصل إلينا شعر كثير عن كعب، ولا عن غيره من ولد زهير وحفدائه لنجد في أقوالهم ما يدل على نسبهم سوى هذا البيت لكعب، وبيت آخر لأخيه بُجير يقول فيه: «وألْفٌ من بني عثمان واف.» والمراد عثمان بن مزينة. رواه ابن سلام وقال: «وقد يجوز أن يكون يعني غير قومه من المزنيين.» ولعلَّ اختلاطهم بغطفان في السكنى والزواج هو الذي صرفهم عن التفاخر بمزينة كما صرف والدهم زهيرًا من قبل، فإن أشعاره — على كثرتها بالإضافة إلى أشعارهم — لا تهدي راويتها إلى أصله ونسبه، بل نجدها تشتمل على مناقب مُرَّة ومآثر غطفان، يمدح ساداتهم وفرسانهم، ويرد على أعدائهم منافحًا عنهم. وكان والده أبو سلمى ربيعة هَجَرَ قبيلته واجدًا عليها، وأقام في غطفان متزوجًا إليها، فنشأ الابن فيهم تعطفه الخئولة من ذبيان، ولا تهزُّه العمومة من مزينة، فعاش بينهم وأصهر إليهم وخص شعره بهم، حتى شك ابن سلام في مزنيته، وجزم ابن قتيبة، فجعله من غطفان.
وأقام زهير في بني مرَّة مكرَّمًا مسموع الكلمة. وكثر ماله وتزوج امرأة تكنى أم أوفى، ثم جمع بينها وبين ضرَّة يقال لها كبشة بنت عمَّار من غطفان، فولدت له كعبًا وبُجيَرًا. فغارت أم أوفى منها لأن أولادها ماتوا، وأخذت تسيء إلى زهير حتى طلقها. ثم ندم وأخذ يذكرها في شعره كلما خطرت له في بال.
وعاش زهير عمرًا طويلًا ربما بلغ به التسعين أو نيَّف عليها، وتدلُّنا المعلقة على أنه كان في الثمانين يوم نظمها لقوله فيها:
وهذه القصيدة أنشئت بعد أن وضعت حرب داحس والغبراء أوزارها، أي في أوائل القرن السابع، فتكون ولادة الشاعر في العقد الثالث من القرن السادس للميلاد.
وروى صاحب الأغاني أن النبي نظر إلى زهير وله مائة سنة، فقال: «اللهمَّ، أعذني من شيطانه!» فما لاك بيتًا حتى مات. فإذا صحت هذه الرواية فيكون زهير قد أدرك سنة ٦٣٠، أي التاسعة للهجرة، ولكن يرجح أنه توفي قبل إسلام ولديه؛ لأن الرواة لم يذكروه معهما، ولا يجوز أن يُنسى مثله لو كان حيًّا. وقد أسلم ابنه بجير في أواخر السنة السابعة للهجرة، وأسلم كعب في السنة التاسعة. وذكر البغدادي في خزانة الأدب أنه مات قبل البعث بسنة، أي نحو سنة ٦١١م. فإذا صحَّت روايته — ولا ندري مستندها — فيكون زهير قد جاوز الثمانين، وتكون رواية الأغاني باطلة، ومهما يكن من شيء، فإن الشاعر كان من المعمرين، ومات على جاهليته، سواءٌ أدرك البعث أم لم يدركه.
(٣-٢) شعره
انتهى إلينا طائفة صالحة من شعره، وفيها معلقته المشهورة التي قالها بعد حرب داحس والغبراء، وليس لدينا شعر قاله في أثناء هذه الحرب، محرضًا بني ذبيان أو راثيًا الفرسان الذين قُتلوا فيها، شأن شعراء القبائل في مثل هذه الحال، وقد مرَّ به أعظم حادث روِّعت له القبيلة، فكانت مجزورة أهلية فجعت بني ذبيان بخيرة رجالها. فلماذا سكت زهير عن رثائهم وتحريض القبيلة على الأخذ بثأرهم؟ ألعلَّ هذا الشعر ضاع فلم يصل إلينا؟ أم لعله لم ينظم شيئًا فيهم؛ لأنه كان كارهًا هذه الحرب التي اشتعلت نارها لسبب تافه، وهو الشاعر الحكيم الذي يسعى لخير القبيلة، ولا يرى لها أن تتورط في حرب مشئومة تفانت فيها بنو غطفان: «ودقوا بينهم مَنشِمِ.» على حدِّ تعبيره. فلم يشأ أن يؤرث جمرة الأحقاد بندبه وتحضيضه، بل كان يرجو أن يقوم من عقلائهم من يسعى إلى الصلح، حتى تجند له هرِم بن سنان والحارث بن عوف المريَّان، فمدحهما وشكر صنعهما، وأشاد بذكرهما. وله في هرم عدة قصائد خلَّدت ذكره وذكر أبيه سنان.
ولا يُذكر زهير في شعراء الجاهلية إلا ذُكرت معه الرويَّة والرزانة والحكمة، وبدا لنا منه شاعر متعاقل لا تنطوي حياته وطباعه على شذوذ غير مألوف في نظام الاجتماع. وجاءت أقوال المتقدمين فيه وصفًا لما يبدو من أخلاقه في شعره، وتفضيلًا لهذا الشعر بهذه الأخلاق. فقد نسبوا إليه الحوليات ليظهروا رويَّته وأناته في تنقيح شعره، فقالوا إنه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر، ويهذبها في أربعة، ويعرضها على أخصائه في أربعة. وقالوا فيه: هو أشعرهم لأنه لا يعاظل في الكلام، ويريدون بذلك تنزيل ألفاظه على ما يقتضيه قانون الشعر عندهم، أي ليس فيه تداخل ولا تضمين يجعل القافية متعلقة بما بعدها، وسموه قاضي الشعراء، كما يقول ابن رشيق، من أجل هذا البيت:
وقدموه على غيره لأنه صاحب مَن ومَن ومَن، وهي أبياته المشهورة في الحكم. فمنزلة شعره تستند عندهم إلى رجحان عقله وحبه للخير والسلام، لا إلى جوهر الشعر نفسه.
وقد كان زهير — كما عرفوه — قاضيًا يصلح بين المتخاصمين، وحكيمًا ينصح الناس ويرشدهم، ويدعوهم إلى العمل الصالح. وفي شعره أمثلة كثيرة تدلُّ على عنايته بخير مجتمعه القبلي وتقويم أخلاقه. وجميل بالشاعر أن يكون له هدف إصلاحي يتجه إليه، وإن كان الفن يستوحي الحياة على إطلاقها، ويجد كل ناحية صالحة لأن تكون له مادة وصورة. فالشاعر عضو في مرافق الجماعة الإنسانية له رسالة سامية يبلِّغها بجمال فنه وما فيه من بهجة للنفوس وإرهاف للعواطف، ولكن من الخير أن يجتمع إلى جمال الفنِّ جمال الغاية فيستطيع الشاعر أن يضيف إلى رسالته الأدبية رسالة الإصلاح. وهذا قلما تأتَّى لشاعر يعتمد أحكام العقل والمنطق، فينصرف إلى سنِّ القوانين الخلقية وضرب الأمثال، فتغلب عليه صفة المعلم الاجتماعي، كما غلبت على زهير؛ لأن طريق الشعر في تطهير الأخلاق غير طريق الوعظ والخطابة. على أن الشاعر يمكنه أن يؤدي رسالته الإصلاحية بأن يكون إنسانيًّا في شعره فيتصور الخير والجمال دُمًى في خياله، ويحسهما إحساسًا بليغًا في أعماق نفسه، حتى إذا أصبحا جزءًا من حياته، أو ذاتًا من ذاته، أخرج عنهما صورًا وأنغامًا متعددة الألوان، مؤتلفة الأجزاء، تتحرك فيها عناصر الحياة بما نفحها الشاعر من إحساسه ونفسه، فيتراءى الخير في جماله، والشر في قباحته، وترضى الأخلاق ولا يغضب الفن.
وهذا لا يعني أننا نحاول النَّيْل من لغة زهير وبلاغته، فهو كسائر الجاهليين، مستطيل على الألفاظ والتراكيب، وتمتاز لغته بشدة أسرها، ودقة إحكامها، خاصة عُرف بها شعراء مُضر لإعراقهم في البداوة، وبُعدهم عن الأمصار، ولكن لغته، بروحها واتجاهها وفنها، لغة خطابية منطقية تصلح للشعر الاجتماعي الذي يتصل بالعقل أكثر منه بالخيال والعاطفة، وفيها اعتماد ملحاح على المادة لإظهار الحقائق واضحة ملموسة، على منطق راجح وحب إقناع. وحسبنا أن ننظر إلى عنايته بتبيان مغبة الحرب في صور محسوسة بارزة الخطوط، وإلى مجادلاته ومواعظه وأمثاله بغية الإقناع، ثم إلى فحصه عن مادة اللون وصورته:
لنعلم مبلغ تعلقه بالحقائق على ما يرتضيه المنطق ويقبله العقل. حتى إن المتقدمين — في تفضيلهم إياه — كانوا من أنصار العقل في الشعر فمدحوه بقولهم: «إنه كان واضح الغرض لا يقول إلا ما يُعرف.»
فمادية زهير، واعتماده على ما يعرف من الحقائق جعلا شعره واضح الغرض. ويكفي القارئ أن يفهم ألفاظه الغريبة ليستولي على أفكاره ومقاصده، لا أمثاله وآرائه وحدها، بل الأشياء التي يتناولها وصفًا وتصويرًا، فإنه لتدقيقه في جلائها، جعلها ناتئة الملمس، خالصة من الغموض، على ما فيها من جمال الصورة وبلاغة التعبير:
فزهير في حِكَمه وأمثاله وجدله ومواعظه، شاعر حكيم، وخطيب اجتماعي، وقاضٍ يرشد ويصلح، ومنظوماته — في كثرتها — ليست من الشعر الخالص، وإن كان لا يعدوها جمال العبارة وحسن التصوير. وربما وجدت فيها برودة وجفافًا يتمثل بهما صاحبها الوقور الهادئ الرصين. حتى إن غزله، في هدوئه وصلابته. لا يثير عاطفة ولا يحرك قلبًا. يصرف عنايته إلى ذكر الديار الخالية، ووصف فراق الأحبة، ومرافقة الظعائن في انتقالها من مكان إلى آخر. وقلما وصف الحبيبة وأظهر محاسنها. فغزله — في جملته — يدل على أن صاحبه قد تقدمت به السن. قاله في حرب داحس والغبراء أو بعدها، فهو ذكريات شيخ يحنُّ إلى امرأته أمِّ أوفى التي طلقها، أو يأسف لأن العذارى أصبحت تناديه: يا عمي! بدلًا من أن تناديه: يا أخي!
ويمكن القول إن أكثر أغراض الشاعر ومقاصده تنماز بالرصانة والهدوء والتعاقل، وتنزع إلى الجدل وتوخِّي الحقائق المادية المجسَّمة.
(٣-٣) شعره السياسي — مدح السادات
إذا كان لزهير، في مختلف أغراضه، أشياء حسان، فخير شعره ما قاله في مدح سادات بني ذبيان، والدفاع عن القبيلة وإرشادها، وإسداء الحكم الاجتماعية في حسن السياسة ومكارم الأخلاق. فمدائحه خير مثال لأسلوب المدح الجاهلي، تظهر فيه مناقب الأشراف والفرسان وفضائلهم، على ما فيها من عنجهية ومكاثرة واعتداد. فإنَّ زهيرًا لم يتصل بملوك الشام والعراق ليشتمل شعره على صفات أصحاب القصور، ولا وفد على القبائل الغريبة يمدحها، ليخرج بشعره عن الصفة القومية التي ينتمي إليها، بل مكث في بني ذبيان يخصهم بمدائحه وآرائه ونصائحه، ويقارع أعداءهم شأن أمثاله من الشعراء القبليين الذين يوجهون أشعارهم شطر مجتمعهم لصلاحه ومنفعته، فيبذلون له ما في وسعهم، أسوة بغيرهم من أبنائه العاملين. ونعرف من الأشخاص الذين مدحهم من بني مرَّة: سنان بن أبي حارثة، وولده هَرِمًا، والحارث بن عوف؛ ومن بني بدر: حصن بن حُذيفة، ونستثني مدحه للحارث بن ورقاء الصيداوي. فإنه ثناء أسداه إليه إثر هجاء بعدما ردَّ عليه عبده يسارًا، وكان قد سباه.
وأكثر مدائحه وأفضلها ما قاله في هرِمِ بن سِنان؛ لأنه كان شديد الحب له، وكان هرم يبرُّه ويجزل له العطاء، وإن تكن مدائحه للآخرين لا يعدوها الجمال، ولا يقلُّ أصحابها عن هرم شرفًا وسؤددًا. فالحارث بن عوف سيد من سادات العرب، وهو الذي سعى في الصلح بين المتحاربين حتى أدركه وحمل عن القوم ديات القتلى، وشاركه فيها هرم بن سنان، فخصهما زهير بمعلقته، ثم بقصيدته اللامية التي يقول فيها:
ما عدا القصائد التي مدح بها هرمًا وحده، والتي مدح بها أباه سنانًا ورثاه، حتى قيل إن هرمًا حلف أن لا يمدحه زهير إلا أعطاه، ولا يسأله إلا أعطاه، ولا يسلِّم عليه إلا أعطاه عبدًا أو وليدة أو فرسًا. فاستحيا زهير مما كان يقبل منه، فكان إذا رآه في ملأ قال: «انعموا صباحًا غير هرم، وخيركم استثنيت.»
ومن حسنات زهير أنه كان لا يجنح في مدحه إلى الغلو الممقوت، ولا يأتي بسفساف القول، ولذلك قال الأقدمون فيه: «زهير لا يقول إلا ما يعرف، ولا يمدح أحدًا إلا بما هو فيه.» وإذا وقع له شيء من الغلو جعل الشرط له مانعًا مثل قوله في هرم:
فلو: حرف امتناع لامتناع، أي امتناع نيل الأفق من أجل امتناع الشرط لنيل وسط السماء. قال ابن سلَّام: «من قدَّم زهيرًا احتجَّ بأنه كان أحسنهم شعرًا، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من اللفظ، وأشدَّهم مبالغة.» فلو الشرطية هنا أبعدت زهيرًا عن السخف والكذب وأبقته في حدود صدقه ورصانته، وجنَّبته فضول الكلام الذي يلازم شعراء المدح عادة، وهذا ما أراده الأحنف بن قيس إذ قال إنه ألقى عن المادحين فضول الكلام، واستشهد بقوله:
وأما مبالغته التي ذكرها ابن سلَّام فإنها تجعله يتتبع وصف ممدوحه بجميع الخلال الحميدة من كرم وشجاعة وحلم وطيب محتد وبلاغة في المنطق، إلى ما هنالك من الفضائل والصفات التي يفاخرون بها، ويعدونها من شروط السيادة عندهم. ولا يغفل عن ذكر العاذلة التي تشغل مكانًا في الشعر القديم، تلامس عاطفة الجاهلي بنصحها وتأنيبها له، تلومه على إسرافه بالكرم والحب والشجاعة، ولكنها لا تلقى منه سوى الرد والإعراض.
ويستوقفنا ما نسب إلى هرم من التقوى، حتى إن الله يعصمه من سيِّئ العثرات:
فإذا بلغ زهير في تقصِّي الصفات المحمودة فإنه يبرأ من الكذب والغلوِّ المذموم. وكثيرًا ما يمدح الرجل بذكر أعماله فيسردها على طريقته القصصية ويجعلها شواهد ناطقة بحسن خلال ممدوحه. فإنه في مدحه هرم بن سنان والحارث بن عوف، قصَّ خبر سعيهما للصلح، وكيف نجَّما الديات دون أن يشتركا في الحرب، حتى بلغا مأربهما وأصلحا بين المتحاربين. فكان في إخباره عنهما مادحًا لهما بمساعيهما دون جنوح إلى الخيال المفرط، فالحقائق الناصعة هي التي تتكلم وترفع شأن ممدوحيه. وهذا الأسلوب الخبري يجعلك لا تستنكر ما يقول الشاعر في ممدوحه، ولا تعزوه إلى الغلو والإفراط. فمدائح زهير هي خير ما وصل إلينا عن الجاهلية من الإشادة بسادات القبيلة، والعناية بشئونها السياسية وأحوالها الداخلية والخارجية.
(٣-٤) السياسة الخارجية
وكان يعلم أن بني عبس ساخطون على بني مرَّة لمقتل صاحبهم بعد عقد الصلح، يتهمونهم بالخيانة ويرصدون الشر للسيدين المصلحين، فأظهر براءة القبيلة من هذه الخيانة، وأخبر أن القاتل ابن ضمضم أقدم عليها، ولم يخبر جمهرة قومه، فهو مسئول عنها دون غيره. بيد أنه لم يشأ خذله وإطماع الأعداء فيه، وإنما أراد تبرئة قبيلته من ظنة الحنث والغدر؛ لئلَّا يتسع الخرق فلا يصلح الأمر بعده أبدًا. فما كاد يتهمه حتى اندفع يذكر شجاعته وجرأته وإقدامه، وأن وراءه ألف فارس يحاربون معه ويشدون أزره.
وتتبع تبرئة بني مرة — ولا سيما السيدين اللذين أصلحا بين المحتربين — فأوردَ أسماء فرسان من بني عبس قُتلوا في معامع السباق، وقال للعبسيين: إن الذين تحملوا الديات من أجل الصلح لم يشاركوا في دماء هؤلاء القتلى، فكيف تتهمونهم الآن، وتأخذونهم بجريرة غيرهم؟ ولم يغفل أن يفهم بني عبس أن سادات غيظ بن مرة عزيزو الجانب لا يدرك الموتور ثأره منهم، وإذا جنى أحدهم جناية، لا يسلمونه ولا يخذلونه، وكأنَّه يشير هنا إلى جناية حصين بن ضمضم:
فبلغ، بحسن منطقة، ما أراد من التحذير والتنبيه وتبرئة قومه والدفاع عنهم، فأدى مهمته القبلية خير تأدية، وأنقذ السلم والشرف في وقت معًا.
وكان كلما عرضت له خدمة القبيلة لا ينكص عنها. فإذا صمدت بنو تميم إلى بني غطفان تطلب غزوها، تصدى لها يتهددها ويثبط عزيمتها، بسكون طبعه ورباطة جأشه، دون أن يفور له فائر. فيظهر منعة قومه وكرم خيولهم. ثم ينصح لها أن تبقى في ديارها لئلَّا تُمنى بالذل، أو تنتجع سنان بن أبي حارثة المرِّي والد هرم فتلقى عنده الخير والسماحة:
وكذلك كان شأنه مع بني هوازن وبني سُليم عندما أزمعوا الغارة على الغطفانيين، فذكَّرهم القرابة ودعاهم إلى رعايتها وإلى حفظ المودة، ولم ينس أن ينوِّه بشدة بأس قومه، وأنهم إذا آثروا الصلح فعدوُّهم أفقر إليه منهم.
ولم يكن هجاؤه لآل حصن إلا من جملة سياسة القبيلة في الدفاع عن غطفان ومقاومة من يسيء إليهم أو إلى أحد منهم. فإن الذي دفعه إلى هجائهم هو أن رجلًا من بني عبد الله بن غطفان، وهم الذين جاورهم زهير، أتى قومًا من آل حصن، فأكرموه وأحسنوا جواره، وكان مولعًا بالقمار، فنهوه عنه، فأبى إلا المقامرة. فقمروه مرة فردوا عليه ما ربحوا منه، ثم قُمر أخرى فردوا عليه، ثم قُمر الثالثة فلم يردوا عليه، فترحل عنهم إلى قومه، وزعم أنهم أغاروا عليه، فهجاهم زهير. ثمَّ لما علم الحقيقة ندم، وكان يقول: ما خرجت في ليلة ظلماء إلا خفت أن يصيبني الله بعقوبة لهجائي قومًا ظلمتهم. فقد هجاهم زهير لاعتقاده أن الغطفاني مظلوم أغير عليه، فانبرى يذود عنه ويهدد بني حصن ساخرًا بهم، ولكنه لم يفحش في أعراضهم كما أفحش في بني الصيداء بعدما سبوا عبده يسارًا، بل اقتصر على التهكم الأليم والوعد والوعيد دون أن يغلق باب الصلح. فكان ناصحًا ومرشدًا لهم يجادلهم ليثبت عليهم خطأهم، ويدعوهم إلى إصلاح ما أفسدوا لكي لا يتسع الخرق على الراقع، فيأتيهم منه هجاء لا قِبَل لهم به.
وفي هذه القصيدة تتجلى حكمه زهير ورويَّته واستطالته في الجدل واستنزال الخصم وإلقاء التبعة عليه لا يستطيع أن يتبرأ منها. فقد جاءهم بسبيل الجوار المقدس والذمة والوفاء، فكان أشبه بمحامٍ يدافع عن موكله ليثبت الجرم على خصمه، ويحمله على تأدية الدين إلى المدعي، فيرد على الحجج التي بوسعه أن يتذرع بها، ويدحضها بجدله وبراهينه؛ ويبصِّره مقاطع الحق التي أعجب بها الأقدمون، فلقبوه من أجلها بقاضي الشعراء.
(٣-٥) سياسة الاجتماع
رأينا زهيرًا، في مدائحه وأهاجيه، يمثِّل — أفضل تمثيل — سياسة القبيلة الجاهلية، يشيد بمناقب ساداتها، ويوجع في تهديد أعدائها، يخطب ويعظ، ويحامي ويدافع، فعلينا أن ننظر الآن إليه حكيمًا مرشدًا يريد الخير لقومه، فيبذل من الآراء والأمثال ما تستقيم به أحوالهم الخلقية والاجتماعية، وليس لدينا من شعره قصيدة تجمع الحِكَم أبياتًا يتوالى بعضها إثر بعض غير معلقته، فقد خصَّ القسم الأخير منها بطائفة من الآراء الاجتماعية التي شهرته عند الأقدمين، وفضلوه من أجلها، فقالوا: أشعر الناس صاحب مَن ومَن ومَن. وله أقوال متفرقة في مختلف أشعاره، منها أدلة عقلية مثل قوله:
ومنها أمثال في الحضِّ على العمل الصالح:
أو في تحديد مقاطع الحق:
وأما آراؤه في المعلقة فإنه يتكلم أولًا على الحياة، فإذا هو قد سئمها لطولها بعدما عاش ثمانين حولًا يلقى تكاليفها وأثقالها، وسئمها لأنه يجهل ما يستر عنه الغد، وهي أمنية الإنسان لو استطاعها، وسئمها لأن الموت يخبط على العمياء، فيصيب هذا ويخطئ ذاك. ثم يتناول سياسة الاجتماع، فنرى كل بيت يشتمل على فكرة مستقلة برأسها تتوخى إرشاد الفرد إلى الطريق الذي يحسن به سلوكه لينتفع في دنياه، وهي من الآراء التي يدركها الإنسان بتجارب الحياة، واختبار الناس، والاطلاع على وجوه الخير والشر، وهي — إلى ذلك — من الحقائق البدهية والفكر المشترك يستطاع الإعراب عنها بمختلف التعابير شعرًا ونثرًا دون أن تخسر شيئًا من قيمتها المعنوية، ولكنها إذا انطلقت على ألسنة الشعراء. كان تأثيرها أبلغ في النفوس، وتجعل لصاحبها منزلة بين الحكماء، حتى لنسمع جرجي زيدان — على فضله — يقول فيها: «هذا لا يقلُّ شيئًا عن أحكام أكابر الفلاسفة!»
وإذا قلنا تتوخى إرشاد الفرد فلأنها لا تبحث في خير المجموع جملة، وما يئول إلى إصلاح نظمه ومداواة آفاته العامة، وإنما هي فردية مثل البدوي، ملائمة لحياته الصحراوية، ترشد الأفراد لينتفعوا بها في قبيلتهم — على علاتها — فتشمل المنفعة المجموع الذي يتألف منهم. وهذا ما أراده زهير عندما أخذ يرشد بقوله: مَن ومَن ومَن، داعيًا الإنسان إلى المصانعة ليستفيد في الحياة بحسن سياسته:
ويدعوه إلى البذل والسخاء ليقي عِرضه ويلقى الحمد. وهذا من الآراء الشائعة في الأدب القديم؛ لتعوُّدهم أن يقروا الضيوف، ويجيروا الخائفين، ويكرموا العفاة، فنطقوا بذلك معبرين عن أحوالهم، وإن اختلفوا في صنع المعروف، فزهير يرفضه في غير أهله، ويجعل عاقبته ذمًّا وندامة، وغيره يقبله ويرى أنه لا يضيع كما قال الحطيئة:
ولم يكن زهير رسول الضعف والهزيمة وتثبيط العزائم في دعوته إلى السلم وتحذيره من الحرب، وإنما أدبه أدب القوة كغيره من الشعراء الجاهليين، لا يبشر بالاستكانة والخنوع، بل يدفع الحرب ما دام بوسعه أن يدفعها لخير القبيلة أفرادًا وجماعات دون أن يقودهم إلى الذلِّ والصغار. فأما إذا كان لا بد من الحرب، فليس للمرء أن ينكص عنها:
ولا نعجب أن تصدر عنه حكمة في تزيين الظلم، فإنما هي حياتهم القبلية تفرض عليهم ظلم البعداء والحلم على الأقرباء، فكلهم يفاخر بالجور على الغريب والرفق بابن العم. فزهير لم يزين الظلم إلا لأنه مصروف إلى الغرباء لا إلى القبيلة، فأوصى به في جملة آرائه، وجعله من سياسته الاجتماعية متأثرًا بروح عصره. فليست آراؤه كلها إنسانية تجاري العصور وتتخطى حواجز المكان والزمان، بل فيها ما لا يعيش إلا في الصحراء، في المجتمع القبلي، والعصر الجاهلي.
ويستوقفنا قوله:
فالعرب يعتقدون أن القلب مقر العقل، أو هو العقل بعينه كما في كتب اللغة، وكان أرسطو يجعل القلب موضع القوى النفسية، بخلاف جالينوس الطبيب الذي يجعلها في الرأس، وكان ابن سينا يأخذ برأي أستاذه أرسطو.
وقد قال العرب من عهد بعيد: المرء بأصغريه قلبه ولسانه. ولم يذكروا العقل في كلامهم، وإنما ذكروا مكانة القلب والفؤاد. فزهير لم يبتعد عن حكمة الشعب في هذا البيت، كما أنه لم يبتعد عنها حين يقول:
فآراؤه المتفرقة لا تجاوز نطاق التفكير العام، ولكنها تجعل من صاحبها شاعرًا حكيمًا، وخطيبًا مرشدًا. فهو من أولئك الشعراء الجاهليين الذين لهم رسالة اجتماعية يؤدونها لخير قبائلهم وإصلاح أمرها. فقد قام بها أفضل قيام في مدح سادات القبيلة وفرسانها، وإطراء مناقبهم، وفي الدفاع عنها وإرشادها إلى ما فيه نجاحها، فكان الشاعر القبلي، والشاعر الحكيم، وقاضي الشعراء.
(٣-٦) منزلته
فيتبين لنا من كلِّ ذلك، أن زهيرًا في مقدمة شعراء الطبقة الأولى، ومنهم من يفضله عليهم جميعًا. وهو كما رأيناه في شعره، متين السبك غير خشن، واضح المعاني، موجز التعبير، متناسق الأفكار، رصين الأسلوب. يؤثر القصص في سرد أفكاره، والتصاوير الحسنة في إبراز موصوفاته. ترافقه الحكمة والرزانة في جميع فنون الشعر وأبوابه. فهو رزين في غزله ووصفه ومدحه، حكيم في هجائه ونصحه وتحذيره. ولا بدع أن يقلَّ سخفه فذاك راجع إلى تروِّيه في النظم وأناته.
وقصارى القول إن زهيرًا شاعر حكيم، ومصور بارع حريص على إتقان صوره وتبليغ ألوانها.
(٤) لبيد (٦٦١م/٤١ﻫ ؟)
(٤-١) حياته
وبدت دلائل النجابة على الشاعر منذ حداثة سنه، ومما يُروى عنه وهو غلام أنه وفد في رهط من بني عامر على النُّعمان بن المنذر، فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسي، وكان الربيع ينادم النعمان، فطعن في العامريين وذكر معايبهم لعداء بينهم وبين بني عبس. فجافى النعمان وفد بني عامر وأهمل أمرهم. فخرجوا من عنده غضابًا. فعرض عليهم لبيد أن يهجو الربيع في حضرة النعمان. فاستخفوا به لصغر سنه. فألحَّ عليهم حتى رضوا. فلما أصبحوا دخلوا به على النعمان، والربيع يؤاكله، فقام لبيد يرتجز ويقول:
ثم قال بعدها بيتين لا يجمل ذكرهما، فكره النعمان منادمة الربيع وطرده، ثم قضى حوائج بني عامر.
وعُمِّر لَبيد حتى أدرك الإسلام فانتحله دِينًا، ثم انتقل من البادية إلى الكوفة وأقام فيها حتى مات. وكان موته في أول خلافة معاوية بعد أن جاوز المائة؛ وسئم الحياة كما سئم منها زهير، وفي ذلك يقول:
وزعم الرواة أن لبيدًا لم يقل شعرًا في الإسلام إلا بيتًا واحدًا وهو:
وقيل بل هو:
وروَوا أن عمر بن الخطَّاب كتب إلى عامله المُغِيرة بن شُعْبة في الكوفة: «أن استنشد من عندك من شعراء عصرك ما قالوه في الإسلام.» فأرسل إلى لبيد واستنشده، فكتب لبيد «سورة البقرة» في صحيفة ثم أتى بها إلى المغيرة، وقال: «أبدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر.»
من الغريب أن يطمئن الرواة — ومن أخذ عنهم — إلى سكوت لبيد عن نظم الشعر في الإسلام، على حين أنهم لا يجدون مشقةً في أن يضيفوا إليه أشعارًا قالها بعد إسلامه، فزعموا أنه لما بلغ مائة حجة وعشرًا قال:
وأنه قال لما بلغ مائة وعشرين:
وهم يقولون إن لبيدًا عاش تسعين سنة في الجاهلية، وسائر عمره في الإسلام، فهذه الأبيات إذًا قيلت بعد إسلامه. ويروون للبيد قوله مخاطبًا ابنتيه لمَّا حضرته الوفاة:
فكيف يمكن التوفيق بين ما يروون له من الشعر في الإسلام، وزعمهم أنه لم يقل فيه غير بيت واحد؟ … أما نحن فنرى أن لبيدًا نظم الشعر في الإسلام كما نظمه في الجاهلية، ومن تدبر أشعاره بروية، استروح في بعضها نفحة قرآنية لا تخفى، مثال ذلك قوله:
فمثل هذا الشعر — إذ صحَّ — لا يقوله إلا شاعر عرف الإسلام، وتأثر بالقرآن.
وزعم ابن قُتيبة وغيره: أن الحارث الأعرج الغساني وجَّه إلى المنذر بن ماء السماء مائة فارس وأمَّر عليهم لبيدًا، فساروا إلى عسكر المنذر، وأظهروا أنهم أتوه داخلين في طاعته. فلمَّا تمكنوا منه قتلوه، وركبوا خيلهم، فلحقهم القوم فقتلوا أكثرهم ونجا لبيد، فأتى ملك غسان فأخبره، فحمل الغسانيون على عسكر المنذر فهزموهم، فكان ذلك يوم حليمة.
ولكن الرواة يجمعون على أن لبيدًا كان حدثًا لمَّا قدم النعمانَ في وفد من بني عامر. وبين النعمان أبي قابوس وابن ماء السماء نحو نصف قرن، فكيف كان لبيد فارسًا مغوارًا على عهد المنذر بن ماء السماء، ثم كيف أصبح غلامًا مقزَّع اللمة على عهد النعمان بن المنذر؟ … أليس هذا من خلط الرواة وأضاليلهم؟ فلبيد بن ربيعة لم يعرف المنذر ولا الحارث الغساني، وإنما عرف النعمان وكان صبيًّا، والذي ذكره ابن قتيبة هو غير شاعرنا.
(٤-٢) آثاره
أشعار وصل إلينا منها قدر يسير فجمعت في ديوان وطبعت «بفينَّا»، ثم ترجمت إلى الألمانية. وفي جملة هذه الأشعار مطولته، وهي المعلقة الرابعة.
(٤-٣) ميزته
لا ينبغي أن نلتمس ميزة لبيد في المعلقة وحدها، فهي لا تغنينا عن سائر شعره لنتبين خصائصه، وندرك منزلته. فالمعلقة تبدي لنا حياة رجل بدوي كريم، كلف بالمجد والمعالي، ولكنها لا ترينا ذلك الشيخ الحكيم الذي يحسن وعظ نفسه وتعزيتها عند نزول المصائب. فلا بد لنا إذًا من أن ندرس مع المعلقة شيئًا آخر من شعره لنعرف من هو لبيد، وما هي ميزته الشعرية.
أما المعلقة: فلها شأن أدبي لا يستهان به، وإن تكن دون المعلقات الثلاث التي مرت بنا، وهي في متانة لفظها وصلابة أبياتها، تمثل الحياة البدوية الساذجة، وتمثل الشعر المُضَري أحسن تمثيل. وقد بدأها لبيد بوصف الديار الخالية وتعرضها للأمطار فأجاد الوصف وفاق وغيره.
ثم يتخلص إلى الغزل بسؤال الديار عن أهلها، فيوجز في وصف الفراق وذكر صاحبته نَوار. ثم ينتقل — على عجل — إلى وصف ناقته التي تساعده بالأسفار على قطيعة من صرمت حباله، وهو في غزله — كما في سواه — صلب حزيم لا يلين أسره ولا ترقُّ ألفاظه، ولا يبالي أن يقطع مودة من هجره.
وبعد أن ينتهي من تشابيهه الثلاثة يعود إلى نفسه فيصفها بإباء الضيم والشمم، ثم ينصرف إلى وصف حياته في هدوئها واضطرابها، فهو في السلم صاحب لهو وطرب يشرب الخمر ويُغلي ثمنها، ويدفع بها شدة البرد والريح:
وهو كريم جواد ينحر الجَزور، ويطعم الفقراء والمساكين. وهو في الحرب شجاع باسل يحمي الحيَّ، ويرقب الأعداء على جبل قريب من جبالهم وراياتهم، تحمله فرس سريعة الجري، يتوشح بلجامها ليظلَّ متأهِّبًا لركوبها.
وبعد أن وصف فرسه بإيجاز، أخذ يفتخر بقومه، فأرانا فيهم كرمًا ونجدة وأمانة:
ولكن عقل الشاعر الحكيم سيطر على عاطفته، فحبسها عن الإرنان والتفجع، وسما بصاحبه إلى المثل الأعلى، إلى الحكمة التي تجعل الإنسان يقوى على ضعفه، فإذا بنا نرى من لبيد واعظًا مرشدًا يعزي نفسه بأنواع الأمثال الحكيمة، ويقابل مصيبته بمصائب الناس فتهون عليه ويخف جزعه، ولماذا يجزع وكل امرئ في هذه الحياة الدنيا سيموت؟ …
ففي هذا الرثاء وفي غيره من شعره حِكَم تسمو إلى ما بعد الطبيعة حتى تتصل بالعزَّة الإلهية، لذلك لا نعتقد أن لبيدًا قالها في جاهليته ووثنيته، وهذا ما يجعلنا ننفي زعم الرواة أنه لم يقل غير بيت واحد في الإسلام.
(٤-٤) منزلته
قال أبو زيد القرشي: «لبيد أفضلهم في الجاهلية والإسلام، وأقلهم لغوًا في شعره.» وجعله ابن سلام في الطبقة الثالثة وقال فيه: «وكان عذب المنطق رقيق حواشي الكلام.» وروي أن النابغة نظر إليه وهو صبي مع أعمامه على باب النعمان بن المنذر فقال له: «يا غلام، إن عينيك لَعَيْنَا شاعر، أفتقرض الشعر؟» قال: «نعم.» قال: «فأنشدني.» فأنشده:
فقال له النابغة: «أنت أشعر بني عامر. زدني.» فأنشده:
وسواء صحَّت هذه الرواية أو لم تصحَّ، فمنزلة لبيد في الشعر جليلة، فهو وإن يكن قصَّر في معلَّقته عن امرئ القيس في التشابيه والاستعارات ووصف الجواد والمطر، وعن طرفة في وصف أعضاء الناقة، وذكر حياته، وعن زهير في وصف الفراق والحرب، وفي سياسة القبيلة، فإنَّه فاقهم جميعًا بوصف الديار الخالية، وبتشبيهاته القصصية في وصف سرعة الناقة. وهو يمتاز في رثائه المحلَّى بالمواعظ، وفي تِلك الحِكَم البليغة التي تدلُّ على إيمان بالله مكين …
(٥) عمرو بن كلثوم (القرن السادس)
(٥-١) حياته
هو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتَّاب التَّغْلبي من أهل الجزيرة، وأُمه ليلى بنت المهلهل أخي كليب وائل، وأبوه كلثوم من سادات تغلب. نشأ عمرو شديد العُجب بنفسه، فخورًا بمناقب أبيه وأخواله، فسادَ قومَه صبيًّا في الخامسة عشرة من عمره.
(٥-٢) الخلاف بين بكر وتغلب
ولما تولى المُلكَ عمرو بن هند حذا حذو أبيه في الارتهان من العشيرتين. وكان أن سيَّر ذات يوم ركبًا من تغلب وبكر إلى جبال طيِّئٍ في أمر من أموره، فنزلوا في أرض لبني شيبان أحلاف البكريين فقيل إنهم أجلوا التغلبيين عن الماء، ودفعوهم إلى مفازة فتاهوا وماتوا عطشًا. وقيل بل هبت عليهم سَموم في بعض مسيرهم فهلك التغلبيون وسلم البكريون. فلما بلغ ذلك بني تغلب غضبوا وطلبوا ديات أبنائهم من بني بكر، فأبت أداءَها، فاحتكموا إلى عمرو بن هند فقال لهم: «ما كنت لأحكم بينكم حتى تأتوني بسبعين رجلًا من أشراف بكر بن وائل فأجعلهم في وثاق عندي، فإن كان الحقُّ لبني تغلب دفعتهم إليهم، وإن لم يكن لهم حقٌّ خليت سبيلهم.» ففعلوا وتواعدوا ليومٍ يعيِّنه، يجتمعون فيه.
ولما كان يوم التقاضي انتدبت تغلب للدفاع عنها شاعرها وسيدها عمرو بن كلثوم، وانتدبت بكر للدفاع عنها أحد أشرافها النعمان بن هرِم.
وكان عمرو بن هند يؤثر التغلبيين على البكريين، ويميل إلى إنصافهم، فجرى بينه وبين النعمان جدال غضب له الملك فطرد النعمان من حضرته، وأنشد عمرو بن كلثوم مطولته فافتخر على خصومه، مندفعًا مع العاطفة في التبجح على ملك العراق مندِّدًا به مهدِّدًا إياه حتى أحفَظَه. ثم وقف الحارث بن حلِّزة البكري فردَّ عليه بمطولته واستمال الملك بدهائه، فحكم للبكريين.
(٥-٣) قتله عمرو بن هند
كان بنو تغلب من أشدِّ العرب في الجاهلية حتى قيل: «لو أبطأ الإسلام لأكلت بنو تغلب الناس.» وروي أن عمرو بن هند قال ذات يوم لندمائه: «أتعلمون أحدًا من العرب تأنف أمُّه من خدمة أمِّي؟» قالوا: «لا نعلمها إلا ليلى أم عمرو بن كلثوم.» قال: «ولمَ ذلك؟» قالوا: «لأن أباها مهلهل ربيعة، وعمَّها كليب وائل، أعزُّ العرب، وبعلها كلثوم بن عتَّاب فارس العرب، وابنها عمرو بن كلثوم سيِّد قومه.» فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره، وسأله أن يُزيرَ أُمَّهُ أُمَّه، فأقبل عمرو من الجزيرة في جماعة من بني تغلب، وأقبلت ليلى في ظعن من نساء تغلب، وأمر عمرو بن هند برواقه فضرب ما بين الحيرة والفرات، وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا، ودخل عمرو بن كلثوم رواقه، ودخلت أمه ليلى قبة هند أُم الملك عمرو، وعمة امرئ القيس الشاعر.
وفي ذلك يقول أُفنون بن صَريم التغلبي مفتخرًا بفعل عمرو بن كلثوم:
وضُرب المثل بعمرو بن كلثوم في الفتك، فقيل: «أفتك من عمرو بن كلثوم.»
(٥-٤) محاربته النعمان
ظلَّ المناذرة يناوئون بني تغلب ويحاربونهم برجالهم وأحلافهم حتى اضطرهم المنذر الرابع أخو عمرو بن هند إلى الجلاء عن الجزيرة، فأتوا أرض الشام وعليها الغساسنة، فمرَّ بهم عمرو بن أبي حُجر الغساني، وقال ابن الأثير: بل خرج ملك غسان — وهو الحارث بن أبي شَمرِ — فلم يستقبلوه، فاغتاظ وطلب سيدهم عمرو بن كلثوم وتوعده، فاقتتلوا فانهزم بنو غسان وقُتل أخو الحارث في عدد كبير. فقال عمرو بن كلثوم:
ثمَّ رجع بنو تغلب إلى الجزيرة، وعلى الحيرة أبو قابوس النعمان بن المنذر الرابع، فأرسل لمحاربتهم جيشًا على رأسه ابنه المنذر، فكسرهم بنو تغلب، وقُتل المُنذر بن النعمان، وقاتِلُهُ مُرَّة أخو عمرو بن كلثوم، وإلى هذه الحادثة، وإلى مقتل عمرو بن هند يشير الأخطل التغلبي بقوله مفتخرًا على جرير:
وقال الفرزدق يردُّ على جرير في هجائه الأخطل:
ثم أرسل النعمان يتوعَّد عمرًا، فأخذ عمرو يهجوه ويعيره أمَّه سلمى، وكانت ابنة صائغ وأُخت صائغ. فمن قوله:
(٥-٥) أسره
(٥-٦) موته
غير أنَّنا لا نقطع بصحة هذه الوصية، وإن تكن قليلة التكلُّف اللفظي، خالية من الإغراب الذي نجده في أكثر النثر المنسوب إلى عرب الجاهلية، وهو ليس من صنعهم بل من صنع شيوخ العلم في الإسلام، وفي الوصية سهولة ولين يوافقان أسلوب عمرو بن كلثوم في شعره.
وهناك رواية ذكرها ابن قتيبة في الشعر والشعراء وهي أن عمرًا، عندما أُسر في بني حَنيفة، ظلَّ يشرب الخمر صرفًا لشدة غيظه حتى مات. فهو أحد الأشراف الذين قتلتهم الخمر.
وعمرو مذكور في طبقات المعمَّرين، وأكثر الرُّواة يزعمون أنَّه مات وله من العمر خمسون سنة ومائة.
(٥-٧) آثاره
لم يصل إلينا من شعر عمرو بن كلثوم شيء يستحقُّ الذكر غير المعلقة، وأمَّا ما بقي فأبيات ومقطعات قليلة، منها في الافتخار بنفسه وقومه، ومنها في مدح يزيد بن عمرو، ومنها في هجاء عمرو بن هند والنعمان أبي قابوس. وقد أوردنا بعضها في هذا البحث.
أما معلقته فهي الخامسة بين المطولات، قيل: إنه وقف بها خطيبًا في سوق عكاظ وفي موسم مكة، ويُستدلُّ من بعض أبياتها أنها على قسمين نُظما في زمانين متباعدين يوم التقاضي، والآخر بعد مقتل عمرو بن هند، في حين أن الأصمعيَّ يزعم أنها قيلت يوم التحكيم دفعة واحدة. فإذا عرضنا بالنقد للقسم الذي قد يُظنُّ أنَّه نظم بعد مقتل الملك، لا نجد فيه إلا بيتًا واحدًا يمكن أن يستأنس به كدليل أو شبه دليل، وهو:
فقوله: «متى كنَّا لأمِّك مقتوينا؟» أي خادمين، لا يصعب علينا أن نجد له تفسيرًا في قصة ليلى وهند، فنطمئن إلى القول بأن المعلقة نظمت في مرحلتين. غير أن البيت الذي يتقدمه يدل على أن الشاعر يؤنِّب عمرو بن هند؛ لأنَّه ولَّى على بني تغلب أميرًا من قِبلَه يحكم فيهم، والبدوي لا يرضى بسيادة الغريب إلا مكرهًا، فإذا سنحت له الفرصة وثب عليه فقتله وتخلَّص منه. فالشاعر يقول:
فبنو تغلب — كما يتبين — ساخطون على عمرو بن هند لأمر لا علاقة له بحادثة الطُّرَف. فقوله إذًا في البيت التالي: «متى كنَّا لأمِّك مقتوينا؟» يقتضي أن لا يعني بحدِّ ذاته حادثة خاصة، وإنما مفاده أن بني تغلب ليسوا بخدم للملوك أو لأمهاتهم ليستبدَّ هؤلاء بهم، ويولوا عليهم من يشاءون. ولا نجد في بقية الأبيات التي تتناول عمرو بن هند إلا تبجح ابن كلثوم واعتداده بصلابة عوده وتمرُّده على كل من يريد أن يتحكم به أو بقومه:
وليس في ذلك ما ينافي قوله السابق: «نكون لقيلكم فيها قطينا.» بل هو — بالأحرى — تأكيد له وتبليغ، ويصح أن تكون هذه الأبيات قد قيلت يوم التقاضي، وأغضبت عمرو بن هند فحكم للبكريين، كما قيلت الأبيات التي قبلها وفيها ما يشبهها مثل قوله:
وإذا تتبَّعنا المعلقة إلى آخرها بعد الأبيات التي يأتي فيها ذكر عمرو بن هند نرى أنها متصلة كل الاتصال بيوم التقاضي، فيها مفاخرة بالقبيلة ومنافسة للبكريين، كما تقتضي شروط المنافرة والتحكيم في العصر الجاهلي، مما يؤيد أن المعلقة قيلت دفعة واحدة كما ذكر الأصمعيُّ.
(٥-٨) ميزته
عمرو بن كلثوم صورة طبق الأصل عن جدِّه المهلهل، فهو فخور مثله، متكثر مثله، كذوب مثله، وفي شعره سهولة وتكرار وهلهلة كما في شعر جده. ولا عجب أن يتشبَّه الولد بأبيه وجده أو عمِّه وخاله، وإنما العجب أن يشذَّ عنهم فلا يتأثر بهم في شيء كما هو شأن امرئ القيس، وقد زعموا أنَّه ابن أخت المهلهل.
يبتدئ عمرو معلقته بوصف الخمرة وتأثيرها في شاربها، ثمَّ ينتقل إلى الغزل، فيستوقف صاحبته ليحدثها عن الحرب شأن الشعراء الفرسان، ولكنه يجتزئ ببيت واحد وينتقل إلى وصف ذراعيها، وصدرها، وقامتها، ويرى بعضهم أن مطلع القصيدة يبتدئ بهذا القسم، والمشهور خلاف ذلك. فإذا بلغ إلى مخاطبة عمرو بن هند، أخذ في الافتخار والتهديد، وهنا تظهر الصلة واضحة بين شعره وشعر جده المهلهل، فأخرجه على طريقته فخرًا وحماسة، مندفع العاطفة حتى الغلوِّ المتطرف، قليلًا فيه عمل الخيال التصويري، وأقلَّ منه عمل التفكير. ليس إلا شعورًا يتدفق، وحمية تشتعل، ونفسًا تثور فتتخطَّى الحواجز والحدود، مرتدية من الألفاظ ثوبًا نسجته على هواها، لم تمتدَّ إليه يد صناع فتشدَّ سداه ولحمته، وتحكم وشيه وتخطيطه. فخرج على سجيته من حسن ورديء، عصبي المزاج في تركيبه، تدافعت حروفه تدافع الأمواج الجائشة، فيها صخب ولين، وعود وتكرار، وتفكك واتصال. أكثره في الفخر، وأقلُّه في المدح والهجاء. افتخر ممتلئ النفس حماسة، وهجا ثاثرًا منتقمًا، ومدح شاكرًا لا متكسبًا. وليس من غرضنا أن نبحث في مدحه وهجائه، وهما لا خطر لهما في شعره. وإنما غرضنا أن نظهر تلك الشخصية البدوية في كبرها واعتدادها، في تهورها وغليان مشاعرها. فالفخر عند ابن كلثوم يخرج صورة جليَّة تبرز نفسية سيد عريق يستأثر بالفضائل الجاهلية، ويتكلم بأنا ونحن، أنانيًّا بصيغة المفرد، أميرًا بصيغة الجمع، مناقبه غنية في ذاته، ومناقب قومه مردودة إليه. يبذل المال ولا يبالي. فإذا لامته العاذلة وحذرته من العوز، أراها مُهره يكر على الأحياء يغزو ويغنم:
والعاذلة في الشعر العربي شخص رمزي يقرع أبواب الفخر والمدح والغزل، يلوم المفتخر والممدوح والعاشق على الإتلاف والتبذير وإلقاء النفس في المخاطر، وعلى التمادي في الصبا والغواية، فيردُّه الأول والثاني، ويرده الثالث لا يقبلون منه نصحًا، وفي ذلك منتهى الكرم والشجاعة والهيام. وقد ردَّ عمرو بن كلثوم عاذلته:
وحقيق بمثله أن يردَّها، فعنوان الكرم عندهم عذل ورد. ونفسه الجبارة يطيب لها أن تتحدَّث بأَنَا عن كرمها وبأسها، كما تتحدث بنحن عن مفاخر قومها، وفي هذا وذاك لا تتحرَّج أن تغالي وتفرط في المغالاة حتى الكذب:
فقد ملأ شاعرنا البرَّ والبحر بجيوشه وسفنه، وجعل الدنيا ومن عليها ملكًا له ولبني تغلب، وترك الجبابرة تسجد لفطيمهم. فأما وقد رأيت ذلك فلا تحمل نفسك على معرفة ما كان له من قوى برية وبحرية. بل حسبك أن تعلم أنَّه سبط المهلهل، وأن جده، لولا عصف الرياح، لأسْمَعَ صليلَ سيوف قومه على مسافة عشرة أيام. وغير عجيب أن يخسر التغلبيون قضيتهم عند عمرو بن هند، بعدما أوسعه ابن كلثوم تهديدًا ووعيدًا ومكاثرة وفخرًا.
(٥-٩) منزلته
تبين مما تقدم أن عمرو بن كلثوم ورث عن جده المهلهل أكثر ميزاته، فله رقته ولينه، وله تكراره وتكثره، وله غلوه وكذبه، وله تبجُّحه ووعيده. وفي شعره فوائد تاريخية نراها في المعلقة وغير المعلقة، فهو يخبرنا — في هجوه النعمان — أن أم النعمان كانت ابنة صائغ، وأن أخاها صائغ ينفخ الكير في يثرب. ويذكر لنا في مطولته كيف كانت النساء تتبع الرجال في الحروب، وتقوت جيادهم، وتحثهم على الصبر في القتال، ويطلعنا على شيء من صناعات العرب وملاهي أولادهم.
ولمعلقته ميزات بوَّأته منزلة سامية في الشعر. فهي في سهولتها وانسجامها، وفي رنَّتها الموسيقية المطربة أصدق مثال للشعر الغنائي، مع ما فيها من عناصر ملحمية في ذكر الحروب وتمجيد قومه وتصوير الحياة البدوية. وهي على غلوها ومكاثرتها، معجبة محبوبة لبعدها من التكلف. فإذا غالت وكاثرت، فإنما هي تتكلم بعاطفتها لا بعقلها. فالفخر عند ابن كلثوم عاطفي محض لا سلطة للعقل عليه.
وقد بلغت معلقته — على منزلتها الأدبية — منزلة قومية، لم تبلغها قصيدة سواها. فإن بني تغلب كانوا يعظمونها جدًّا، ويرويها صغارهم وكبارهم، حتى هجاهم بذلك بعض بني بكر أعدائهم فقال:
وقال المفضَّل الضبي: «لله درُّ عمرو بن كلثوم لو أنَّه رغب في ما رغب فيه أصحابه من كثرة الشعر، ولكن واحدته أجود من مِئتهم.» وروى أبو زيد القرشي في جمهرته عن عيسى بن عمر قوله: «لو وضعت أشعار العرب في كفة، وقصيدة عمرو بن كلثوم في كفة، لمالت بأكثرها.»
(٦) عنترة (مات في العقد الأول من القرن السابع)
(٦-١) حياته
وأُم عنترة حبشية سوداء، يقال لها زبيبة، سباها أبوه في إحدى غزواته فأولدها عنترة، وكان لها أولاد عبيد من غير شداد، فلم يعترف به أبوه في أوَّل الأمر، بل أنكره جريًا على عادة العرب؛ لأنَّهم كانوا يستعبدون أولاد الإماء، ولا يعترفون بهم إلا إذا ظهرت عليهم النجابة.
(٦-٢) أخلاقه وشجاعته
ولَما أُنشد النبيُّ قوله:
قال: «ما وُصف لي أعرابيٌّ قطُّ فأحببت أن أراه، إلا عنترة.»
وحدَّث عمر بن شبَّة قال: قال عمر بن الخطَّاب للحُطيئة: «كيف كنتم في حربكم؟» قال: «كنَّا ألف فارس حازم.» قال: «وكيف ذلك؟» قال: «كان قيس بن زهير فينا وكان حازمًا، فكنَّا لا نعصيه، وكان فارسنا عنترة، فكنَّا نحمِلُ إذا حَمَل ونُحْجِم إذا أحجم، وكان فينا الربيع بن زياد، وكان ذا رأي، فكنَّا نستشيره ولا نخالفه. وكان فينا عُروَة بن الورد، فكنَّا نأتمُّ بشعره، فكنَّا كما وصفت لك.» فقال عمر: «صدقت.»
وقال الهَيثم بن عَدي: قيل لعنترة: «أنت أشجع العرب وأشدُّها؟» قال: «لا.» قيل: «فبماذا شاع لك هذا في الناس؟» قال: «كنت أُقدم إذا رأيتُ الإقدام عزمًا، وأُحجم إذا رأيت الإحجام حزمًا، ولا أدخل موضعًا إلا أرى لي منه مخرجًا. وكنت أعتمد الضعيف الجبان، فأضربه الضربة الهائلة، يطيرُ لها قلبُ الشجاع، فأثنِّي عليه فأقتله.»
(٦-٣) وقائعه
لعنترة كثير من الوقائع المشهورة، ولكن أضيف إليه ما ليس له حتى اشتبه الصحيح بالموضوع. وقد حضر حرب داحس والغبراء فأحسن فيها البلاء وحُمدت مشاهده، وفيها قتل ضمضمًا المريُّ أبا حُصَين وهَرم، ولذلك قال:
(٦-٤) حبه لعبلة
وأحبَّ عبلة ابنة عمِّه مالك بن قُراد، فهاجت شاعريته واتَّسع خياله، فنظم القصائد الطوال. وازداد طموحًا إلى المعالي، فجدَّ في طلبها، ليمحو ببيض فعاله سوادَ لونه. وأنَّى له أن يطمع فيها وهو عبد لم يعترف به أبوه، وأنكره أبناء عمِّه، فغامر لأجلها ولاقى أشدَّ الأهوال حتى ألحقه أبوه بنسبه، ولكنه لم يظفر بها كما يُستدلُّ من شعره.
(٦-٥) موته
اختُلف بموته، فقال ابن حبيب وابن الكلبي: «أغار عنترة على بني نَبْهان من طيئٍ، فأطرد لهم طريدة وهو شيخ كبير، فجعل يرتجز، وهو يَطَّردُها، ويقول:
•••
(٦-٦) آثاره
ثم أنشأ معلقته، وكان لا يقول قبل ذلك إلا البيتين أو الثلاثة، فتغزَّل في أوَّلها، ثم وصف ناقته، ثم تخلَّص إلى الفخر بشدَّة بأسه وذكر وقائعه. وكانت العرب تسميها الذهبية.
هذا، ولعنترة قصة شهيرة سنأتي على ذكرها في العصر الذي جُمعت فيه، وهو العصر العباسي الثالث.
(٦-٧) ميزته
(٦-٨) بين العبودية والفروسية
نشأ عنترة أسود اللون، أبوه شداد من سادات بني عبس، وأمُّه زبيبة أمَة حبشيَّة، فلم يعترف شداد به جريًا على عادة العرب. فجعل عنترة في طبقة الرعيان يحلب ويصرُّ. ولكن نفس هذا الفارس الشجاع لا تحتمل العبودية وفيها من الشمم والإباء والجرأة شيء كثير. فكانت تتألَّم أشدَّ الألم لما تلقى من الاحتقار والازدراء. فتحاول جهدها أن تخرج من طبقة الرعيان في إظهار شجاعتها ولديها سلاحان ماضيان: الشجاعة والشعر، وكلاهما كَفِيلٌ بأن يجعل لصاحبه مكانة عالية في القبيلة. فالفارس يدافع عنها بسيفه، والشاعر يدافع عنها بلسانه. فلماذا لا يتحرَّر عنترة وتدَّعيه بنو عبس وهي تحتاج إليه حاجة مزدوجة؟ وقد قال صاحبنا الشعر في صباه، وشهد المعارك وهو لا يزال يحلب ويصرُّ، ولكن أباه كان حريصًا على التقاليد البدوية فأبى استلحاقه وتحريره، ولم يكن يحجم عن ضربه مع ما رأى من فصاحته وإقدامه، كما ضربه عندما حرشته عليه زوجه سميَّة ولم يكن قد تحرَّر بعد.
وما كان عنترة يجهل قدر نفسه فينام على الضيم والخمول. فقد كان يعلم حقَّ العلم أن قومه سيحتاجون إليه إذا أغاروا أو أُغير عليهم. فأخذ يلحُّ على أبيه طالبًا إليه أن يعترف به، وأبوه يُعرض عنه مخافة التعيير، وهو صابر ينتظر يومًا عصيبًا تُنكب فيه بنو عبس فيلتجئون إليه، فيغتنم الفرصة لتحقيق أمانيه، وليس هذا اليوم بعيد الوقوع، وغزوات العرب متواصلة طمعًا في الغنائم. أو طلبًا للماء والكلأ. فما طال به الأمر حتى سنحت له الفرصة التي يتوقعها.
وقد اختلف الرواة في ذكر خبرها، فقال ابن الكلبي: «وكان سبب ادِّعاء أبيه إيَّاه، أن بعض أحياء العرب أغاروا على بني عبس، فأصابوا منهم واستاقوا إبلًا، فتبعهم العبسيون. فلحقوهم. فقاتلوا عمَّا معهم، وعنترة يومئذ فيهم. فقال له أبوه: كر يا عنترة! فقال عنترة: العبد لا يُحسن الكر، إنَّما يحسن الحِلاب والصرَّ. فقال: كرَّ وأنت حرٌّ. فكَرَّ وقاتل يومئذ قتالًا حسنًا، فادعاه أبوه بعد ذلك وألحقه بنسبه.»
وحكى غير ابن الكلبي أن السبب في هذا أن عبسًا أغاروا على طيئ فأصابوا نَعَمًا، فلمَّا أرادوا القسمة قالوا لعنترة: لا نقسم لك نصيبًا مثل أنصبائنا لأنَّك عبد. فلمَّا طال بينهم الخطب، كرَّت عليهم طيئ، فاعتزلهم عنترة وقال: دونكم القوم فإنَّكم عددهم، واستنقذت طيئ الإبل. فقال له أبوه: كر يا عنترة! فقال: أوَيحسن العبد الكر؟ فقال له أبوه: العبد غيرك. فاعترف به، فكرَّ واستنقذ النَّعَم.
ويذكر السيوطي رواية هي أقرب إلى روح القصة منها إلى التاريخ، وإن وافقت في جوهرها الروايتين المتقدمين، وهو أن عنترة خلع نير العبوديَّة بحد سيفه واحتياج بني عبس إليه.
ولم يقف عنترة عند هذا الحد بل أراد أن يحرِّر إخوته لأمِّه وهم عبيد مثله، وقيل إنَّه حرَّرهم أو حرَّر منهم أخاه حنبلًا، ولكن لونه الأسود بقي شاهدًا على عبوديته واعتلال نسبه، وبقيت أمُّه زبيبة أمة لا حرة، أم ولد لا أم بنين، سوداء لا بيضاء، حبشيَّة لا عربيَّة، حجةً للناس على أنَّه هجين أخواله الزنوج. فمن أين له أن يمحو سواد لونه، أو أن يجعل أمه من ربات الحجال، ولونه لا ينصل وأمُّه لا تتحرَّر، والعرب لا يتسامحون في النسب وكرم الأمومة والخئولة. فقد جعلوا له ألقابًا تذكِّره أبدًا بسواده وأمه، فهو الغراب وأسود بني عبس، وابن السوداء وابن زبيبة، فما عليه إلا أن يقبل هذه الألقاب، ويدافع عن لونه وأمه ليخرس ألسنة المعيرين. فكان له كفاح بسيفه، وكفاح بلسانه، فجاء شعره صورةً ناطقةً بهما، مثال ذلك قوله:
فهو مفاخر بأصله من جهة أبيه، معترف بأصله من جهة أمه، وإن يكن لا يجد فيه فخرًا، ولكنه يحميه بحد سيفه من المعيرين:
وقد اضطرَّ عنترة مرارًا أن يدافع عن شطره الحبشي بسلاحه دفاعه عنه بشعره ليردَّ تحامل المعيرين، ولا سيما أبناء قومه الذين يأبون الاعتراف بتقدمه عليهم لأنَّه ابن السوداء. وروي أنَّه وقف مرَّة ينشد قوله:
فمدّ له عمارة بن زياد العبسي سنان رمحه وقال: نحن نتقي بك الأسنة يابن السوداء؟! وكان عنترة أعزل لا سلاح عليه، فقال له: اغفرها! ثم ذهب ولبس درعه وتقلَّد سيفه وركب فرسه، وأقبل حتى وقف أمام عمارة وأنشد البيت: «إذ يتَّقونَ بيَ الأسنَّة …» فتغافل عنه عمارة حين رآه في سلاحه، فهجاه عنترة وعيَّره وافتخر عليه.
وقد ينقذ بني عبس ببسالته من بأس العدو المغير، فيأبَى سادتها إلا أن يذكروا عمله المجيد مقرونًا بسواده وأصله تحقيرًا له وتعصبًا منهم للنسب العربي الصحيح. قال أبو عمرو الشيباني: غزت بنو عبس بني تميم يقودهم قيس بن زهير، فانهزمت بنو عبس وانهزم قيس معهم، وطلبتهم بنو تميم، فوقف عنترة وحده يحمي المنهزمين من أبناء قومه، فلم يُصَب واحد منهم، وكان قيس سيدهم، فساءه ما صنع عنترة يومئذ، ورأى فيه ما يمس زعامته في القبيلة، فقال حين رجع: والله ما حمى النّاس إلا ابن السوداء! فنظم عنترة قصيدة يفتخر فيها بأصله العبسي مدافعًا عن أصله الحبشي بسيفه، قائلًا: إنَّه يفضل الجوع على أن يأكل طعامه بذل، ويعرِّض هنا بقيس؛ لأنَّه كان أكولًا وانهزم من المعركة ذليلًا:
ثم يتابع التعريض فيقول: إذا تأخرت الكتيبة ونظر بعضها إلى بعض خوفًا من الهلاك كنت أفضل من سيِّد كريم الأعمام والأخوال؛ لأنَّني لا أسبق فوارسي إلى الهرب في المأزق الضيق:
ولكن قيس بن زهير قد اعترف بفضل عنترة على الرغم منه، وإن سمَّاه ابن السوداء تحقيرًا له. فعنترة وحده حمى بني عبس ورد عنها كوكبة اللاحقين، فحقَّ له أن يفتخر ويعرِّض بالذي عيره أمه وسواده، وإن كان معيره قيس بن زهير سيد بني عبس. فلطالما رأى قومه يحتمون به في الحرب ويقدمونه عليهم في مواقف الأخطار، فتشتفي نفسه المتألمة من تعييرهم:
ولكنه لا يلبث أن يسمع التعيير بعد زوال الخطر، فتعود إلى نفسه آلامها، فيثور ساخطًا عليهم منددًا بهم؛ لأنَّهم يعرفونه في الحرب، وينكرونه في السلم، فهو مضطرب أبدًا بين العبودية والفروسيَّة، هو ابن شداد في المعارك، وابن زبيبة — ابن السوداء — في الأمن والدعة.
(٦-٩) بين الحب والحرب
لم يكن عنترة ناعمًا في حبِّه فتظهر آثار هذه النعمة على شعره، بل كان شقيًّا تاعسًا يطمع في عبلة، فيصده والدها ويحاول استرضاءه فلا يجد إلى ذلك سبيلًا، فكان إذا تغزَّل تألَّم وشكا، وليس في غزله غير شكوى وآلام.
وقد أفاضت قصته في أخبار حبه لعلبة، وتذمم والدها أن يزفها إليه، ولكن الرواة لم يعيروها جانبًا كبيرًا من عنايتهم، وإنَّما جعلوا همَّهم في التحدث عن وقائعه وعبوديته وتحرره، وإذا ذكروا عبلة أتوا بها عرضًا خلال هذه الروايات دون أن يشرحوا مأساته الغراميَّة التي تفصِّلها القصة أبلغ تفصيل مع أن شعره الصحيح لا يخلو من الإشارة إليها. فهذه المعلقة — وهي أثبت شعر له — تدلنا على أن والد عبلة كان يتنكر له، ويهرب بابنته إلى ديار الأعداء ليبعدها عنه. فيشكو الشاعر الفارس عداوة قومها له، ومشقة الوصول إليها، أو يبعث جاريته تتجسس له أخبارها، فتعود إليه تقول إنها رأت غفلة من الأعداء تسهل طريق اصطياد الفتاة:
أو يقول:
فعبلة في أرض الزائرين — أي الأعداء — وقومها هم الذين ذهبوا بها إليهم، فاضطرَّ عنترة إلى مقاتلة الأعداء ومقاتلة أهلها معهم، فأصبح طلبها عسيرًا عليه. كيف يطلبها وهو يقتل قومها؟ إن في ذلك لطمعًا منه في غير مطمع: «زعمًا، لعمر أبيك، ليس بمزعم.» ولماذا أرسل جاريته إلى أرض الأعداء، تتجسَّس أخبار حبيبته، أليس لكي يأخذهم على غرة، كما تخبرنا القصة أنَّه أخذ بني كندة وهم في غفلة العرس، فقتل فارسهم مسحلًا، واستنقذ عبلة منه قبل أن يتزوجها. ثم تلك الشكوى يرسلها قلبه الجريح: «حرمت عليَّ وليتها لم تحرم.» أفما تنطق كفاية بما لقي عنترة العاشق من اليأس والحرمان؟
على أن اليأس والحرمان لم يرافقا عنترة، طوال حياته، في القصة، فقد رقَّ له قلب عمِّه مالك فزوَّجه عبلة، واشتفى قلبه الكليم، أمَّا التاريخ فلا يقطع بخبر الزواج ولا ينفيه. فالسيوطي مثلًا، يخبرنا بأن والد عبلة اعترف بابن أخيه ووعده أن يزوِّجه ابنته إذا أنقذه من الأسر. وقد أنقذ عنترة عمَّه وأنقذ عبلة معه. فهل برَّ مالك بوعده فأعطاه ابنته، أو أنَّه كان مخادعًا له حتى إذا انطلق سراحه عاد إلى دفعه ومماطلته، فقضى الفارس الأسود حياته بين وعد ورد ويأس وأمل؟ ثم هل بقيت عبلة عزبة لم تتزوَّج، إذا كان الحظُّ لم يسمح لعنترة بقضاء لبانته منها؟ تلك أسئلة ربَّما لا نعدم أن نجد جوابًا عنها في شعره الثابت، وإن كان الرواة يسكتون عنها أو لا يردون ردًّا صريحًا.
وشعر عنترة الذي وصل إلينا وأثبته الرواة، لم يقتصر — في غزله — على عبلة وحدها، بل يتناول أحيانًا سُمَيَّة أو سُهيَّة امرأة أبيه، وكان يهواها في صباه وقد ضربه والده من أجلها. ويتناول أيضًا امرأة اسمها رقاش، ولا نعلم عن هذه المحبوبة شيئًا، فهي نكرة لا تُعرف إلا باسمها، ولكن الرواة يخبروننا بأنَّه كان لعنترة زوجة من بجيلة، فقد تكون هي رقاش، أو رقاش غيرها.
ومهما يكن الأمر فغزل عنترة في عبلة خير شعره من هذا النوع، وإن كان لا يقاس بحماسياته، وإذا كان قد أصاب بغزله شهرة بين العامة، فيعود الفضل في ذلك إلى شعره المصنوع في القصة، فقد حُمل عليه غزل كثير ليس له يد فيه البتة. ونحن يهمنا غزله الصحيح، وغزله في عبلة خصوصًا، لعلنا نلقى جوابًا عن الأسئلة التي مرَّ ذكرها. وأشهر ما وصل إلينا من غزله في عبلة ما جاء في المعلقة، فقد خصَّ عنترة طويلته الحسناء بابنة عمه، ثم بذكر معاركه ومبارزاته. ونستدل منها — كما قلنا — على حرمانه وتظلمه من قوم عبلة؛ لأنَّهم بعدوا بها ونزلوا في أرض الأعداء، فمنعوها منه: «حرُمت عليَّ وليتها لم تحرم!» فعنترة في المعلقة لم يتزوج عبلة، وإنَّما يشكو فراقها وجور أهلها عليه. فإذا كانت المعلقة نُظمت دفعة واحدة في زمن واحد، فيكون الشاعر قد بقي طوال حياته محرومًا ابنة عمِّه؛ لأنَّه ذكر فيها حرب داحس والغبراء، وهذه الحرب انتهت قبل وفاة الشاعر ببضع سنوات. وله قصيدة أخرى يتبيَّن منها أن عبلة تزوجت رجلًا غيره، يصفه شاعرنا بأنَّه بادن كثير اللحم:
وهذه القصيدة معروفة له يثبتها الرواة ولا يدفعونها. وليس في سائر شعره الصحيح ما يدلنا على أنَّه حظي بابنة عمِّه كما تقول القصة، وإنَّما هو يشبب بها، ويؤثرها على جميع النساء، وإن لم يقصر غزله عليها:
وغزل الشاعر في عبلة — لا مشاحة — أفضل غزل قاله؛ لأنَّه يمثل حرمانه ولوعته وتظلمه، ويبدو أثر العراك العنيف بين حبِّه وسواد لونه وضعة نسبه. فعبلة لم ترافق عنترة في شعره الغزلي وحده؛ بل رافقته في فخره وحماسته وذكر حروبه، فإنَّما هو يفتخر ويغامر من أجلها. وإذا لم يكن لديه من جمال الصورة وكرم المحتد ما يشفع به إليها، أفلا يسعى لإرضائها بوصف شجاعته وجوده وعفته، وذكر وقائعه ومشاهده، حتى إذا ذُكر لها في مجلس تستطيع أن ترفع رأسها به؟
فبمثل هذا الشعر يبدع عنترة؛ لأنَّه يصور نفسيته أبلغ تصوير، ويعطينا طرازًا فاخرًا من غزل الفرسان، وكيف تجتمع ألفاظ الحبِّ بألفاظ الحرب. فنراه يعرض معاركه على عبلة لتشهد مواقفه في مبارزة الأبطال أو مزاحفة الجيوش. ويصف لها الفارس الذي يبارزه، فإذا هو بطل تتحاماه الأبطال خشية لقائه، وكريم طيب المحتد من أولئك البيض الأحرار الذين يفاخرونه بأصلهم ونسبهم، فيظهر بذلك فضله في التغلُّب عليه، وهو العبد المغموز النسب.
ويصف معاركه، فإذا هي ملاحم تتشابك فيها الأبطال شاكية هولها بغماغم لا تُفهم. وبنو عبس يتقون به رماح الأعداء فما يرتد عنها، وإن ضاقت عليه فسحة الأقدام. والأعداء تلهج باسمه مشرعة رماحها إلى صدر جواده. فإذا هو ركن المعركة وقوامها وحجر رحاها وثفالها. وفي المعلقة وصف ملحمي جميل لهذه المعارك التي يعرضها عنترة أمام عبلة صورًا سريعة تبدو فيها بطولته بارزة الخطوط والألوان، ويبدو فيها كفاحه — على قوته — بين الحبِّ والحرب صورة لمأساته الغرامية التي مثلتها القصة على مسرحها، وأغفلها الرواة والمؤرخون.
(٦-١٠) منزلته
اتضحت لنا ميزة الشاعر الفارس، بما فيها من ألم ومرارة، وعرفنا طرقه في استرضاء عبلة، وفي فخره وحماسته ووصف وقائعه، والدفاع عن نسبه، والرد على معيِّريه، ولا ينبغي لنا أن نغفل عن تلك العذوبة التي نتذوقها في شعره فإنَّه رقيق على غير ضعف، سهل العبارة على غير إسفاف، ولا نعجب لوجود هذه الرقة في شعر عبد أسود خشن العيش، هائل المنظر، بل يجب أن ننظر إلى أخلاقه الحسنة، وتأثير الحب فيها، فإنَّما شعره صورة لنفسه.
ونحن يمكننا أن نختم هذا البحث بقولنا: عنترة في المعامع سيد الفرسان، وعنترة في الحماسة سيد الشعراء …
(٧) الحارث بن حِلِّزة (القرن السادس)
(٧-١) حياته
فوقف عند ذاك عمرو بن كلثوم وأنشد معلقته، ولكنه لم يحسن اصطياد الفرص، فقد بالغ في فخره حتى جاوز الحد، ولم يرعَ حرمة الملك فطاوله حاسبًا أنَّه نال المرام من خصومه البكريين بعدما طُرد خطيبهم، وإذا بالحارث بن حلزة يصدمه بمعلقته، فيصلح بها ما أفسد النعمان.
ونحن نرى أن الرواة لا يقتصرون على الإغراب في قصتهم، بل يُغربون أيضًا في ألفاظها، إعظامًا لها، فهم يستعملون ارتزَّ بدلًا من غرز، واقتطم بدلًا من اقتطع؛ وفي ذلك ما فيه من التفنن والفكاهة.
وقد زعم الرواة أن الحارث ارتجلها ارتجالًا، كما زعموا أن عمرو بن كلثوم ارتجل طويلته، ومثل هذه المزاعم لا يعوَّل عليها. وحسبك أن تقرأ معلقة ابن حلزة، وترى ما فيها من التنسيق الفكري، وإعمال الروية، والدهاء في التعريض، وسرد الحوادث التاريخية، لتحكم بأنَّها ليست بنت ساعتها. ومن المعقول أن لا يشهد شاعرا بكر وتغلب يوم التقاضي إلا وهما على أهبة للدفاع والنضال. ولكن ما الحيلة في هؤلاء الرواة، وهم في أكثر أخبارهم يصطنعون المغالاة والإغراب، ولا سيما إذا تناولوا في حديثهم قبيلتين مشهورتين بالعداء كتغلب وبكر، ولا بد لكل قبيلة من رواة ينتسبون إليها، أو يحازبونها، فكيف تريد أن يجعل الراوية التغلبي عمرو بن كلثوم يرتجل معلقته، ولا يجعل الراوية البكري الحارث بن حلزة يجاريه في الارتجال؟! وممَّا يجدر بنا ذكره أن التنافس الجاهلي بين بكر وتغلب بقي له أثر قوي في الإسلام.
ويزعم الرواة أن الحارث بن حلزة عُمِّر خمسين سنة ومائة كما بُلِّغَها عمرو بن كلثوم. ولعلَّ في ذلك شيئًا من التنافس أيضًا. ولكنهم يجمعون على أن شاعر بكر كان شيخًا هرمًا يوم أنشد معلقته ولم يكن شاعر تغلب يومئذٍ كذلك.
(٧-٢) آثاره
آثار الحارث كأخباره لم يصل إلينا منها غير القليل، ولولا المعلقة لما كان فيها غَنَاء. وقد عرفنا الأسباب التي حملته على نظم معلقته فنحن ندرسها مستندين إلى هذه الأسباب، وهي السابعة والأخيرة بين القصائد الطوال.
(٧-٣) ميزته — المعلقة
لا ريب أن اندفاع عمرو بن كلثوم في الفخر والحماسة والإساءة إلى الملك مهَّد بعض السبيل لأن يُصلح البكريون ما أفسد خطيبهم. ولكن لا بد لمن يضطلع بهذا الخطب أن يكون كالحارث بن حلزة ليس في الشاعرية وحدها بل في الدهاء السياسي وقوة العارضة ورباطة الجأش. فقد وقف الشاعر يدافع عن قومه مثقلًا بغضب الملك وباشمئزازه من رؤيته فلم تطر نفسه ولا فُتَّ في عضده. وكان له من الدهاء وقوة العارضة ما ردَّ به أقوال شاعر تغلب، واسترضى عمرو بن هند.
ونحن إذا أنكرنا عليه ارتجاله المعلقة برمتها فلا ينبغي أن ننكر ارتجال بعضها، فمَثَلُ الحارث في الدفاع عن قومه مثل المحامي البليغ الذي يُعِدُّ خطابه ليدافع عن موكله، ولكنه لا يستغني ساعة التقاضي عن شيء يبتدهه ليقرَع به حجج خصومه. وسنرى في درسنا المعلقة أبياتًا تدلُّ على أنَّها قيلت ارتجالًا.
(٧-٤) الغزل ووصف الناقة
يبتدئ الشاعر قصيدته بالتغزل وذكر الفراق. ولكنه صاحب جدٍّ وحزم فما يطيل غزله بل ينتقل إلى وصف ناقته التي يستعين بها على الهم، وهو مقتصد في وصف ناقته التي شبهها بالنعامة كاقتصاده في غزله لا يلبث أن يتناول الغاية التي يرمي إليها دون أن يضيع وقته في ما لا يفيد.
(٧-٥) رده وفخره
يستهل الشاعر هذا القسم بذكر دعوى تغلب على بكر واستعدادها للحرب، وهي توطئة فنية لمحامٍ يريد أن يلمس الموضوع ليشرع في الدفاع:
فانظر إلى هذه النعومة في قوله: «إن إخواننا الأراقم.» وقوله: «زعموا أن كل من ضرب العير.» وقابل بها نزقَ عمرو بن كلثوم في خطابه البكريين: «إليكم يا بني بكر إليكم!» وقوله: «ألا لا يجهلنْ أحد علينا!» فترى الفرق بين الشاعرين من حيث الرزانة والدهاء، ومن حيث الخبث إن صحَّ التعبير.
ثم يأخذ في الرد على عمرو بن كلثوم، وتسفيه شكوى التغلبيين، ونرجح أن ردوده على شاعر تغلب ارتجلت ارتجالًا.
وبعد أن يذكر شيئًا من مفاخر البكريين ينتقل إلى مدح والد عمرو بن هند، وكأن الشاعر بعد أن بسط دعوى التغلبيين وأظهر بطلانها، أراد أن يلقي على عاتقهم تبعة الحرب، إذا كان لا بد من نشوبها، فعاد إلى خطابهم، وشرع يذكرهم ما بينهم وبين بكر من حِلْف وعهود، ويحذرهم من نقضها. ثم أخذ يعيرهم أيَّامًا غُلبوا فيها مبينًا انكساراتهم ليغض من شأنهم لدى الملك، متخذًا أسلوبًا ناعمًا موجعًا، فلم يقل لهم ابتداءً: أنتم انهزمتم يوم كذا أو يوم كذا، بل زعم أنَّهم يطالبون بكرًا بذنوب غيرها من القبائل، فجعل يسمي تلك القبائل التي انتصرت على بني تغلب ويقول لهم: «أعلينا يقع الذنب إذا قهركم بنو كندة، وبنو قضاعة، وبنو العباد إلخ …»
ثم ذكَّرهم، وذكَّر عمرو بن هند، بمقتل والده المنذر، وفتكه بهم، لإحجامهم عن نصرته في طلب الثأر. وكأنَّه أراد بهذه الذكرى، إيغار صدر الملك عليهم. وكان ذلك آخر سهم مسنون، رشقه من كنانة تهكُّمه وتعييره.
وبعد أن بلغ أمنيته من أعدائه، ورماهم بقاصمة الظهر، مال إلى عمرو بن هند، يمدحه ويسترضيه، ويذكِّره متطِّفًا ما لقومه البكريين من الأيادي البيض على المناذرة، وما يجمعهم وإيَّاه من صلة وقربَى. فتوصل إلى غرضه بحكمته ودهائه، وحسن تنسيق دفاعه، فخذل خصمه واستمال الملك إليه، ففضَّل قصيدته على قصيدة عمرو بن كلثوم، وقضى لبني بكر على بني تغلب، ولسنا نعجب لفوز الحارث، فإن قصيدته، وإن تكن دون قصيدة ابن كلثوم روعةً وإيقاعًا وانسجامًا، فهي تفوقها من حيث الفن الخطابي، سواءٌ في ترتيب أفكارها، أو في الأسلوب الحكيم الذي اتخذه الشاعر لتعيير التغلبيين، واسترضاء عمرو بن هند. فعمرو بن كلثوم افتخرَ وغالى، ولكن بنى أكثر مفاخره على الأوهام والادِّعاء الفارغ، وأما الحارث فإنَّه افتخر وأكثرَ الافتخار، ولكن بنى مفاخره على الحقائق التاريخيَّة، فلم يترك يومًا لبني بكر إلا ذكره، ولا يومًا على بني تغلب إلا عيرهم إيَّاه. وعدا ذلك، فعمرو بن كلثوم أساء التصرُّف في إغضاب الملك، والحارث أحسن التصرُّف في استرضائه.
ولا نرى حاجة إلى تعداد ما في هذه القصيدة من الفوائد التاريخية؛ فإنَّما هي قصة جامعة لطائفة من أيَّام العرب وأخبارها، وهذا ما جعلنا ننفي عنها زعم الارتجال. ويجمل بنا أن ننظر إلى ما فيها من إيجاز دقيق، فأكثر أبياتها يحتاج إلى شرح مستفيض، لضيق لفظه عن معناه. والإيجاز خاصة ظاهرة في شعر الحارث، فهو مولع به حتى السَّرَف. وأئمة البيان يستشهدون ببيت له على الايجاز المُخل وهو قوله:
فلفظه لا يفي بالمعنى؛ لأنَّه يريد أن يقول: «إن العيش الناعم في ظلال الحمق خيرٌ من العيش الشاق في ظلال العقل.»
(٧-٦) منزلته
قال أبو عبيدة: أجود الشعراء قصيدة واحدة طويلة، ثلاثة نفر: عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة، وطرفة بن العبد. وقال أبو عمرو الشيباني: لو قالها في حول لم يُلَم.
ولا بدع أن يُعجب بها الأدباء الأقدمون، فإنَّما هي رائعة من روائع الشعر الخطابي، وخير مثال للشعر السياسي في الجاهلية.
هوامش
(يشغبوا: يهيجوا الشر. يقصدوا: يعتدلوا.)