سائر الشعراء المشهورين
عرفنا من شعراء الجاهليَّة شاعرين قديمين: أحدهما يمثل الحياة البدويَّة الخشنة، وهو الشنفرى؛ والآخر يمثل تأثير الترف والحزن في النفس، وهو المهلهل. ثم عرفنا أصحاب المعلقات السبع، ودرسنا ألوان تفكيرهم وتعبيرهم، وبدا لنا شيء غير قليل من أخلاق العرب وعاداتها، وأحوالها الاجتماعيَّة والسياسيَّة، وتأثير العوامل الخارجيَّة في نفوس شعرائها؛ فرأينا فيهم شاعرًا أميرًا يحسن وصف النساء والجياد والصيد، وشاعرًا فتًى يلهو ويسخر ويأتي بروائع الحِكَم، وشاعرًا جليلًا لا ينطق إلا والحكمة على رأس لسانه، وشاعرًا حازمًا يتأسى ويعظ نفسه في المصائب، وشاعرًا فخورًا متهورًا يرى الدنيا وما عليها مِلكًا له، وشاعرًا فارسًا تدفقت الحماسة من صدره، وشاعرًا داهية يعرف من أين تؤكل الكتف.
على أن معرفتنا لهؤلاء الشعراء لا تغنينا عن درس طائفة أخرى من شعراء الجاهليَّة؛ لنتمكن من الإلمام بخصائص الشعر الجاهلي من جميع أطرافه، والوقوف على تطوُّره السريع في أواخر عصره.
وإذا كانت السبع الطوال خير ما وصل إلينا من الجاهليَّة، فإن أصحابها لم ينفردوا بجودة الشعر؛ بل هناك فحول من غير أصحاب المعلقات يُعَدُّ بعضهم في مقدمة الطبقة الأولى: كالنابغة والأعشى، والبعض الآخر يجاريهم جميعًا ولا يقصر عنهم، كالحُطيئة. وقد أدرك كلُّهم الإسلام إلا النابغة، واشتهر كلُّهم بنوع من الشعر اختصَّ به، لذلك أطلقنا عليهم لقب الشعراء المتخصِّصين.
(١) النابغة الذبياني (مات في أوائل القرن السابع)
(١-١) حياته ونسبه
فردَّ عليه النابغة بقوله:
فاعترف بأنَّه من ضنة وأنكر على يزيد أن يترك أصله، مشيرًا إلى قوله — عندما طلق ابنته — إنَّه من عُذرة. ولكن ابن سلَّام يرى أن انتسابه إلى بني ضنة كانتساب كعب بن زهير إلى المزنيين عندما دفعه مزرِّد بن ضِرار عن غطفان وردَّه على مزينة؛ لأن العرب كانت تفعل ذلك، لا يُعزى الرجل إلى قبيلة غير التي هو منها إلا قال: أنا من الذين عنيتَ. وأخبار النابغة وأشعاره تدل على عنايته بشئون بني ذبيان ودفاعه عنهم وانتمائه إليهم. وله قصيدة يعاتبهم بها على استئثارهم وتحالفهم عليه وعلى قومه حتى نفوهم من القبيلة، ويضرب لهم مثل الحيَّة وحليفها فيقول فيها:
فهذا العتاب ينمُّ على تألُّم الشاعر من أقربائه لجورهم عليه وعلى عشيرته، وليس هذا شأن شاعر ينتسب إلى بني عذرة، ولو كان منها لما ضامه أن يعزى إليها، وهي قبيلة معروفة في قضاعة، وقضاعة من كرام القبائل العربيَّة الجامعة. فنحن نرى رأي ابن سلام في رده على يزيد بن سنان وادعائه ضنة، مع ما نؤنس فيه من عطف عليها وعلى عذرة جمعاء. فقد كانت صلته بها حسنة كما يُستدل من شعره وأخباره، ولعلَّها نشأت بعامل اعتزائه إليها ومدحه لها، فنجده عند النعمان بن الحارث الغساني ينهاه عن غزو بني حُنِّ بن حِزام، وهم من بني عذرة، ويخبره أنَّهم في حَرَّة وبلاد شديدة يصعب البلوغ إليها. وكانوا يقطنون في وادي القرى شمالي يثرب، وهو وادٍ كثير النخل والزروع. فأبَى النعمان أن يقبل نصيحته، فبعث النابغة إلى قومه يخبرهم بغزو النعمان ويحضهم على نصرة بني حُنٍّ، ففعلوا ما أشار به عليهم، وهزمت بنو عذرة جيش الغسانيين، فقال النابغة في ذلك:
فإذا كان قد أخلص النصح للنعمان في تحذيره من الغارة عليهم، فإنَّه كان أشد إخلاصًا لهم في حمله قومه على إمدادهم ومساعدتهم حتى كسروا الغساسنة. فحدبه على بني عذرة ظاهر، فلا غرو أن تحدب عليه بطون ضنة كلُّها كما يقول.
ويخبرنا صاحب الأغاني — في كلامه على ابن ميَّادة — أن شيخًا عالمًا من غطفان قال: «كان الرمَّاح — أي ابن ميادة — أشعر غطفان في الجاهليَّة والإسلام، وكان خيرًا لقومه من النابغة. لم يمدح غير قريش وقيس، وكان النابغة إنَّما يهذي باليمن مُضلَّلًا حتى مات.» ولا يعني هذا — كما فهمه المستشرق ديرنبورغ — أن الشاعر خرف في أواخر حياته وهام في أرض اليمن، وإنَّما يعني أنَّه كان يلهج بذكر القحطانيَّة في انتسابه إلى عذرة. ففضَّل الشيخ الغطفاني ابن ميَّادة عليه؛ لأن هذا لم يمدح غير قريش وقيس عيلان وكلتاهما من مضر، فكان خيرًا لقومه من النابغة كما يزعم. فقد عطف النابغة على بني حن ودعا قومه إلى نصرتهم، وانتمى إلى ضنة وفاخر بها، غير أنَّه لم يكن يومًا لها بمقدار ما كان لبني ذبيان، وإن هَذَى بها نكاية في يزيد ومحاشه. وما خطر على بال أحد من الرواة أن يدفعه عن غطفان، ولا هو تقاعس مرة عن تأييدها بشعره وجاهه. فلسنا نرى مسوِّغًا للغطفاني في إيثار ابن ميادة عليه سوى عصيبته العدنانيَّة، مع أن الشاعر الإسلامي دون الشاعر الجاهلي منزلة وفضلًا وذيادًا عن قومه. فالنابغة نشأ في غطفان ولزمهم يدافع عنهم بشعره، ثم اتصل بملوك الشام والعراق ونادمهم في قصورهم، دون أن يغفل عن مهمته القبلية عندهم. ثم عاد إلى قومه ومات بينهم ولم يخرف ولا هام في أرض اليمن كما وَهَم ديرنبورغ.
وكان يُكنى أبا أُمامة — كما ذكر ابن سلام وصاحب الأغاني — ويجعل ابن قتيبة كنيته أبا أُمامة وأبا تمامة، ولعلَّها ثُمامة كما ضبطها التبريزي في شرح القصائد العشر فقال: «ويكنى أبا ثُمامة وأبا أُمامة بابنتيه.» وله ابنة ثالثة تسمى عقرب وربَّما كني بها أيضًا. قال البغدادي في خزانة الأدب: «وكنيته أبو أمامة وأبو عقرب بابنتين كانتا له.» وإذا عدنا إلى أخباره وأشعاره نرى أن عقرب ورد ذكرها في غارة النعمان بن الجُلاح — قائد الغساسنة — على بني ذبيان، فقد سباها في جملة من سبَى من نسائهم، ولما عرف أنَّها بنت النابغة جهزها وأطلق سراحها، ثم أطلق السبي والأسرى جميعًا إكرامًا لأبيها. وليس لدينا خبر عن أمامة ولا عن ثمامة، وإنَّما نستدل من قصيدته التي مدح بها عمرو بن الحارث الغساني أنَّه إنَّما أراد ابنته أمامة بقوله في مطلعها:
وتروى له قصيدة أولها:
وهي غير ثابتة له لأنَّها تروى أيضًا لأوس بن حَجَر. ثم لا ندري هل أراد بأمامة ابنته أو أراد امرأة سواها؛ لأن البيت الذي بعده يُحمل على محمل الغزل بخلاف مطلع الغسانية فإنَّه يشكو فيه إلى ابنته همومه وليله وما يقاسي من السهر، ومهما يكن من أمر فليس لدينا شيء يُذكر عن بناته سوى ما أوردناه، وهو وشل قليل لا يروي غليلًا، ولكنه يساند كنيته أبا أمامة وأبا عقرب، ونترك الثالثة أبا ثمامة على ذمة ابن قتيبة والتبريزي، بيد أن الأولى أشهر الكنى الثلاث لإجماع الرواة والمؤرخين عليها.
ذكر أهل الرواية أنَّه إنَّما لُقِّب النابغة بقوله: فقد نَبَغَتْ لنا منهم شئون. ا.ﻫ.
وصدر البيت:
وهو من قصيدة له يمدح بها النعمان أبا قابوس، ويسمِّيه ابن مُحرِّق كما يسمَّى غير واحد من الملوك اللخميِّين. ومنها البيتان المشهوران اللذان روي أن عمر بن الخطَّاب فضَّله بهما على الشعراء حيث يقول:
ويبدو لنا أنَّه قالها بعد رجوعه واعتذاره إليه. وأما أن يكون لقب النابغة ببيت من الشعر، فإن الأنباز التي تطلق على أصحابها مأخوذة من أقوالهم ليست غريبَة عن مألوف العادات العربيَّة إلى يومنا هذا، وهي كثيرة عند الأقدمين حتى ليصعب الشك فيها، ونقتصر على ذكر ثلاثة شعراء عرفت ألقابهم في أشعارهم، أحدهم جرير بن عبد المسيح، قيل إنَّه لقب المتلمِّس لقوله:
والآخر مِحْصَن بن ثعلبة العبدي لُقِّب المثقِّب بقوله:
والثالث شأس بن نهار العبدي، سمِّي المُمزَّق بقوله:
على أن الرواة لم يتفقوا على هذا السبب وحده في نبز النابغة، بل أوردوا غيره، وهو أكثر ملاءمة للشاعر النابغ، ومنه قول ابن قتيبة: «ونبغ بالشعر بعدما احتنك، وهلك قبل أن يُهتَر.» وحكى ابن ولَّاد أنَّه يقال: «نبغ الماء ونبغ بالشعر، فكأنَّه أراد أن له مادة من الشعر لا تنقطع كمادة الماء النابغ.» وهذا التفسير لغوي خالص بخلاف ما تقدمه، فقد جاء في الأساس للزمخشري أنَّه يقال: «نبغ فلان في الشعر إذا لم يكن في إرث الشعر، ثم قال فأجاد؛ ونبغ من فلان شعر شاعر، وهو نابغة من النوابغ؛ ونبغ في العلم وفي كل صناعة.» فغير كثير على شاعر الملوك أن يلقَّب النابغة ولدينا من جياد قصائده ما يؤيد نبوغه في الشعر، وهو إلى ذلك حَكم سوق عكاظ، وكانت تُضرب له في الموسم قبة حمراء من أدَم، فتأتيه الشعراء، فتعرض عليه أشعارها، فيحكم بينها، ويفضل الواحد على الآخر. وهذا الشرف لم يصبه شاعر قبله ولا بعده، والقبة الحمراء لا تُضرب إلا للسادات والأمراء. ولكنه لم ينفرد بهذا اللقب، فقد ذكر الآمديُّ في المؤتلف والمختلف ثمانية أشخاص يقال لهم النابغة، منهم النابغة الجعدي، وهو أقدم من صاحبنا الذبياني، كما يقول ابن سلام وابن قتيبة، ولا ندري سببًا لتلقيبه غير نبوغه في الشعر، وهو غير كافٍ؛ لأنَّه يجوز أن يلقَّب به كل شاعر مجيد كامرئ القيس وزهير والأعشى وسواهم، فلا بد أن يكون هناك أسباب خفيت على الرواة الأقدمين، حتى أُطلق هذا اللقب على ثمانية من الأشخاص، ولم يشرحوا غير اللقب الذي عُرف به نابغة بني ذبيان، فذكروا أنَّه لقَّب ببيت من الشعر قاله، وهذا محتمل الوقوع كما بيَّنَّا، وكذلك قول بعضهم إنَّه سمِّي النابغة لأنَّه لم يقل الشعر حتى صار رجلًا، ويؤيده قول ابن قتيبة إنَّه نبغ بالشعر بعدما احتنك، وهلك قبل أن يُهتَر. ومهما يكن من أمر هذا اللقب فإن المعنى اللغوي هو الذي يتبادر إلى الذهن قبل غيره، وإن كنَّا لا نستطيع أن نفسِّر سبب اختصاصه به دون غيره من الشعراء النوابغ الذين تقدموه أو عاصروه وفيهم أمثال الأعشى والملك الضَّليل، ولا سبب إطلاقه على من هم دونه ودون أنداده شاعرية كالنابغة الجعدي ونابغة بني شيبان.
ويستوقفنا قول ابن قتيبة إنَّه نبغ بالشعر بعدما احتنك، وهلك قبل أن يهتر، ومعنى ذلك أنَّه لم يُعرف بالشعر إلَّا بعدما صار رجلًا مجرَّبًا، ومات قبل أن يخرف ويذهب عقله من الكبر. وإذا عدنا إلى آثاره التي بلغت إلينا لم نجد له شعرًا في مدح ملوك غسان أبعد عهدًا من زمن الحارث الأصغر أبي عمرو بن الحارث الذي مدحه بقوله:
والحارث ملك بعد أخيه المنذر الذي اعتقله القيصر طيباريوس في أواخر سنة ٥٨١ وجيء به إلى القسطنطينيَّة، ثم أُبعِدَ إلى صِقِلِّية. وكذلك لا نجد له مدحًا في المناذرة إلا ما مدح به النعمان أبا قابوس الذي تبوَّأ عرش الحيرة سنة ٥٨٠. وأمَّا القصيدة التي رواها الأعلم له في مدح عمرو بن هند، من غير مرويَّات الأصمعي، فإنَّها كما يظهر قيلت في بعض ملوك الغساسنة، لا في ملك العراق، لقوله فيها:
فملك العراق لا يدوِّخ العراق، وإنَّما يدوِّخه غازٍ غريب. وقد أصاب أبو عبيدة في قوله: «إنَّه قال هذه القصيدة لعمرو بن الحارث الغساني في غزوه العراق.» ولا يدفع ذلك قوله فيها:
فإن في ملوك الشام من ينتسب إلى هند، كما ذكر النابغة في نسب الغلام الغساني، ولعلَّ المراد به عمرو بن الحارث:
فقد نسبه إلى أبوين: الحارث الأكبر والأصغر، ثم إلى أُمَّين: هند وهند. وروي له شعر يحذِّر فيه قومه من غزوة ابن هند، أي الملك الغساني، بدليل أنَّه يذكِّرهم قوَّة الغساسنة وانتصارهم على المناذرة يوم حليمة ويوم عين أُباغ:
ونحن نعلم أن عمرو بن الحارث الغساني وأخاه النعمان أوقعا ببني ذبيان غير مرَّة لميلهم إلى المناذرة واعتدائهم على مراعي الغساسنة. والأميران ينتسبان إلى أمهما هند، فيصحُّ أن يكون هذا الشعر في أحدهما. ولعلَّ الذي حمل الرواة على أن يجعلوا القصيدة الميميَّة في ملك العراق هو أنَّها قيلت في عمرو بن الحارث الغساني، ونسبه الشاعر إلى أمه هند، وهذه النسبة مشهور بها سميُّه ملك العراق، فاختلط عليهم الأمر، ولكن أبا عبيدة تنبَّه لها، وأدرك عليهم وَهْمَهم، وجاراه المستشرق نولدكه. ويؤيد ذلك قول ابن سلام: «النابغة ليس له قِدَم، كان في عهد النعمان.» ونفى ابن قتيبة خرفه بقوله إنَّه مات قبل أن يُهتَر، ولعلَّ سكوته عن مدح ملوك العراق والشام قبل النعمان أبي قابوس والحارث الأصغر يفسر قول ابن قتيبة إنَّه نبغ بالشعر بعدما احتنك.
وعاش النابغة إلى ما بعد مقتل النعمان بن المنذر عند كسرى (٦٠٢م)، وله شعر فيه عندما بلغه موته. وشهد أواخر حرب داحس والغبراء، بل شهد الصلح أيضًا. وله شعر في رحيل بني عبس عن ديارهم بعد يوم جفر الهباءة ومقتل حُذيفة بن بدر وأخيه حمل، فقد ندم العبسيون على ما فعلوا بأنسبائهم وكرهوا المقام في أرضهم، فرحلوا متنقلين في البلاد، حتى أتاهم وفود بني عامر فدعوهم إلى أن يرجعوا ويحالفوهم، فأقاموا فيهم، فذكر النابغة ذلك في شعره. وكانت الحرب — بعد هذه الواقعة — قد صارت إلى أشدِّ أيَّامها، وهي — كما نعلم — وضعت أوزارها في أوائل القرن السابع. فيكون النابغة قد هلك بعد مقتل النعمان بزمن قريب.
(١-٢) آثاره
ديوان شعر شرحه أبو بكر البَطليُوسي، وأشهر ما فيه: أقواله في سياسة القبيلة، ومدح الغساسنة، واعتذاره إلى النعمان، ودالية يصف بها المتجردة، وعدَّه المفضَّل الضَّبِّي، وأبو عبيدة، وأبو زيد القرشي، من أصحاب المعلقات، ومطلع معلقته:
(١-٣) سياسة القبيلة
عرفنا أن النابغة كان محسَّدًا في قومه، وأن جماعة من أقربائه بني مُرَّة تحالفوا عليه وعلى عشيرته ونفوهم من غطفان، فوقعت بينه وبين يزيد بن سنان المُرِّي ملاحيات يتمثل فيها ما يحدث من العداوة بين الأقرباء، فتنشق القبيلة وتسوء علاقة بعضها ببعض، فلا يلم شعثها إلا نكبة شاملة تنزل بها كحرب داحس والغبراء، ونتبيَّن من هذه الملاحيات: ألم الشاعر وسخطه على قومه الذين لم يرعوا ودَّه ولا ردُّوا سفاءهم عنه، مع احتياجهم إليه عند الملوك، حتى اضطروه أن ينتسب إلى الغرباء.
وما كان لبني ذبيان أن تنسى فضل النابغة فتسكت عن سفه يزيد ومحاشه، وشاعرها لم يهمل يومًا أمورها، ولا قصَّر في نصحها والذود عن حياضها، وإن ضمَّته قصور الحيرة والشام. وإنَّه وإن لم يبلغ إلينا من شعره مدح لساداتها ورثاء للذين قُتلوا في حرب السباق، لقد وصلت إلينا عدة قصائد تطلعنا على عنايته بشئونها السياسيَّة العامة. وأغلب الظن أنَّه لم يمدح، ولم يرثِ أحدًا منها لسببين: أحدهما: أنَّه كان من أشرافها فما أباح لنفسه أن يطري أنداده وهو منافس لهم، لا يمدح غير الملوك كما يخبرنا في شعره، والآخر: أنَّه تلكأ عن رثاء المقتولين، وفيهم أمثال ضمضم المرِّي وحُذيفة بن بدر الفَزاري وأخيه حَمَل؛ لخلافه مع بني مرة من أجل يزيد وحلفائه، ثم مع بني فزارة بعد ما جرى بينه وبين بدر بن حُذار الفزاري، وبينه وبين حصن بن حُذيفة وعُيَينة بن حِصن من هجاء ومجافاة. ولكن نفوره من مدح الأفراد أو رثائهم لم يصرفه عن القيام بمهمته القبليَّة العامَّة كلما دعته الحاجة إليها. فنراه يهجو عامر بن الطفيل العامري فارس قومه وشاعرهم لما بين بني ذبيان وبني عامر من عداء وغزوات. وكان النابغة غائبًا في بني غسان عندما حدث يوم الرَّقَم، وانتصرت فيه غطفان على العامريين. فلمَّا رجع إلى قومه بلغه أنهم يهجون عامرًا وعامر يهجوهم، فلامهم على إفحاشهم في شريف مثله. ثم هجاه هجاءً مرًّا لم يفحش فيه، إلا أن عامرًا تضوَّر منه لما فيه من تهكم لاذع، وإقذاع في تفضيل أبيه وعمه عليه، فأصابه في منزلته الاجتماعية، ونفى عنه صفة السيادة، وكان يطمع فيها بعد عمِّه أبي بَرَاء. وهذه الحادثة وقعت بعد حرب داحس والغبراء، وكان قد عقد الصلح؛ لأن يوم الرقَم عقبه يوم النتاءة، وكانت عبس وذبيان يقاتلون فيه جنبًا إلى جنب، فكسر العامريون مرة أخرى.
ودافع النابغة بشعره عن غطفان جمعاء، فلم يغفل عن بني عبس، وهم أنسباء بني ذبيان، وإن فرقت الحرب بينهم، فقد هجا يزيد بن عمرو بن الصَّعِق الكِلابي، بأسلوبه الساخر الموجع، مناصرًا الربيع بن زياد العبسي. وكان يزيد قد أصاب من النوق العصافير عند الربيع، وهي عطايا ملك العراق، فهدَّده الشاعر بالنعمان، واتهمه بخيانته بعدما كان أمينه. ولمَّا تركت بنو عبس ديارها بعد يوم جفر الهباءة، وذهبت متنقلة في البلاد، فدعتها بنو عامر إلى أرضها مكايدة للذبيانيين، تألم الشاعر من رحيلها إلى موطن الأعداء، فمدح شجاعتها وأسف لانقطاع إخائها عن بني ذبيان، فكأنَّه بشعره يمهِّد للصلح بين القبيلتين المتحاربتين، مخافة أن يستفيد العامريون من الحلف الجديد فلا تصلح بعده غطفان. فقد كانت بنو عامر تبعث القلق في نفسه لشدة عداوتها، ولما بينها وبين الغطفانيين من حروب متوالية، فعطف على بني عبس وضنَّ بها على الغرباء. ومن يتتبَّع شعره يلمس عنايته بمقاومة بني عامر، وإفساد سياستها التي ترمي إلى إضعاف بني ذبيان، وإبعاد حلفائها عنها، وتمزيق الغطفانييِّن جملة؛ فتقوى عليهم وتدرك ثاراتها منهم. فسعت إلى ضم بني عبس وهي قبيلة غطفانيَّة معروفة بالشجاعة والأقدام، وفيها مشاهير الأبطال أمثال عنترة والربيع بن زياد وعروة بن الورد وسواهم، كما سعت قبلًا لدى حصن بن حُذيفة وعيينة ابنه بترك حلف بني أسد، فرضي عيينة وهمَّ بقطعه، فتعرَّض له النابغة مدافعًا عن بني أسد، داعيًا قومه إلى التمسك بمؤاخاتهم، فطلبت بنو ذبيان من بني عامر أن يخرجوا من فيهم من الحلفاء، فتصدَّى زُرعة بن عمرو العامري للنابغة يهجوه، فردَّ عليه وهدده بجيش بني أسد، واصفًا قوتهم ومنعتهم؛ ليظهر له أن بني ذبيان لا يتخلون عن حلفهم:
وقصائده في هجاء زُرعة تدلنا على مبلغ اهتمامه بسياسة قبيلته، وتوجيه أغراضها، فاستطاع أن يحمل قومه على الاحتفاظ بأحلافهم، فكانوا لهم أعوانًا وأنصارًا في حرب السباق، إذا ذكرتهم بنو ذبيان حامدة مشاهدهم، فجدير بها أن تذكر شاعرها الذي نافح عنهم؛ حتى لا ينقض العهد بينها وبينهم. وجدير بها أيضًا أن تذكر إحسانه ونصائحه في قصور الغساسنة، فقد كان الحارث الأصغر ووالداه عمرو والنعمان يغيرون عليها، يبطشون بها، ويأسرون منها، ويسبون نساءها؛ لجرأتها على مراعيهم وهي قريبة من ديارها، ثم لموالاتها ملوك العراق أعداءهم، فكان النابغة — بما له من الحظوة عندهم — يكلِّم الملك في أسراها وأسرى حلفائها بني أسد ليطلق سبيلهم، ويحذرهم من دخول المراعي وتربُّعها، مبيِّنًا لها عظمة الغساسنة وشدة بطشهم، وما ينالها من الضيم والأذى إذا أغاروا عليها، ولكنها — لكبريائها وغطرستها واعتدادها بصداقة المناذرة — استهانت بأقواله وعيرته خوفه النعمان الغساني، عندما نهاها عن تربُّع ذي أُقُر، وهو وادٍ في بني مُرَّة حماه الأمير لمواشيه وإبله:
وقلنا — في كلامنا على حياته ونسبه — إن ابن الجُلاح — قائد الغساسنة — أطلق سبايا بني ذبيان إكرامًا له، بعدما أناخ بديارهم، وشتَّت شملهم، فمدحه الشاعر ذاكرًا فضله، مع أنَّه لم يمدح غير الملوك كما يقول له، وكأنَّه يمنُّ عليه: «وكنتُ امرأً لا أمدح الدهرَ سُوقةً.» فانتفعت بنو ذبيان مرارًا من دالة شاعرها على الغسانيين ورفيع مقامه عندهم، وانتفع حلفاؤها معها، بيد أنها لم تتورَّع من حسده وإنكاره وتعييره، حتى تركت مجالًا للقول فيه: «هو أحد الأشراف الذين غضَّ الشعر منهم.» مع أنه أخلص لسياستها كل الإخلاص، وناضل عنها خير نضال، وقام بهمته القبلية أفضل قيام.
(١-٤) شاعر القصور: بين الشام والعراق
إذا كان النابغة في شعره القبلي يشارك غيره من شعراء الجاهلية الذين نشطوا للدفاع عن قبائلهم وتأييد سياساتها، فإنه في مدح الملوك والتكسب منهم، يستحق دون غيره أن يلقَّب شاعر القصور؛ لملازمته لها، وحظوته فيها، واختصاصه بها، حتى إنه لم يمدح غير أصحابها. ويدلنا شعره أنه اتصل بالغساسنة قبل المناذرة، وأنه عرف الحارث بن أبي شَمِر الأصغر قبل أن يعرف النعمان أبا قابوس. ولا نعلم السبب الذي حمله على ترك الشام والذهاب إلى العراق، مع ما بين البلدين من الحروب والضغائن القديمة، وكان المنذر — والد الحارث — قد غزا الحيرة وأحرقها سنة ٥٨٠م، وهي السنة التي تبوَّأ فيها أبو قابوس عرشها. وانتقل ملك غسان إلى الحارث في السنة التالية، فاتصل النابغة به، وذكر في شعره ما أولاه من النعم، ثم لا نلبث أن نجده عند النعمان أبي قابوس يمدحه، وينادمه، ويكثر ماله عنده، حتى أصبح يأكل بصحاف من الفضة والذهب، فهل كان يتردَّد وقتئذٍ بين الحيرة والجولان، فيمدح هذا الأمير حينًا، وذاك الأمير آخر، فيستقبله الأميران ويسمعان شعره فيهما، دون أن تثور عليه ثائرة أو يلحقه سخط منهما؟
هذا ما يصعب الاطمئنان إليه؛ لما نعلم ما بين العرشين من التنافس، إلا إذا كان الشاعر قد هجر الشام إلى العراق لسخطة نجهلها لحقته من الحارث، فأنزله النعمان في قصره، كما أنزله — بعد ذلك — عمرو بن الحارث عندما سخط عليه أبو قابوس. وقد عرفنا أن سياسة المناذرة والغساسنة كانت تقضي بتقريب الشعراء؛ ليمدحوهم، ويشيدوا بعظمائهم في قبائل العرب البادية. وقد تكون صداقة بني ذبيان لملوك الحيرة واعتداءاتهم على مراعي الغسانيين القريبة من ديارهم سببًا لسخط الحارث ورضى أبي قابوس.
ومهما يكن من أمر فإن النابغة لزم قصر النعمان بالحيرة، وأسبغ عليه مدائحه، حتى تغير له وتجهَّم؛ فابتعد عنه خائفًا منه وهرب إلى الشام. ويجعل الرواة سبب مغادرته العراق قصيدة قالها في المتجردة زوج النعمان، ويروون على ذلك أنه كان — ذات يوم — عند الملك، فدخلت المتجردة، وعلى وجهها نصيف، وهو الخمار أو نصف الخمار، وكانت نساء الأشراف تتقنع توقرًا، فسقط النصيف عن وجهها، فسترته بيدها، فغطَّت يدُها وجهها لعبالتها؛ فأعجب النعمان بهذه الحركة اللطيفة وأمر الشاعر بأن يصفها، فأنشأ قصيدة يقول فيها:
ووصف منها مواضع لا يليق ذكرها، وكان المُنخَّل اليَشكُريُّ الشاعر من ندماء النعمان، وكان يهوى المتجردة، ويحسد النابغة على علو قدره عند الملك، فغار من وصفه ووشى به إلى النعمان، حتى هاج غيرته فأظهر له الجفاء، وقيل إن الشاعر هجا النعمان بعد هربه بقوله:
ولعلَّ هذه الأبيات هي التي نقلها بعض بني قُريع بن عوف إلى النعمان ليوغروا صدره على الشاعر، فرأيناه في قصائده الاعتذارية يجتهد في دفع التهمة عنه متنصِّلًا من مقال نُسب إليه زورًا: «لقد نطقتْ بُطْلًا عليَّ الأقارعُ.» ويقول فيها:
فهل أراد بهذا العدو الذي أعان بني قريع عليه المنخَّل اليَشكُريَّ حين اتهمه بالمتجردة عند النعمان؟
ليس الأمر بعيد الاحتمال، وإن يكن خبر المنخَّل مختلَفًا فيه، فصاحب الأغاني يزعم أنه كان يهوى بنت عمرو بن هند، وأن ملك العراق قتله بسببها. ويروي بعضهم أن الشاعر لم ينشد قصيدته في المتجردة أمام النعمان وإنما أنشدها مُرَّة بن سعيد القريعيُّ، وكان مُرَّة يُبطن له البغض حسدًا، فأنشدها النعمان، فامتلأ غيظًا وأوعد النابغة وتهدَّده. على أن الرواية الأولى أشهر، وشعر النابغة يلمع إليها، وإن كان إلماعه من بعيد. وليس في اعتذارياته ما يشير إلى قصيدته في المتجردة، وإنما هو يتبرأ من قولٍ نُسب إليه ولم يقله، وهذا ينطبق على ما أُضيف إليه من هجاء للملك، خصوصًا إذا صحَّ أنه أنشد قصيدته في حضرة النعمان، فلا سبيل له — بعد ذلك — إلى إنكارها والانتفاء منها.
(١-٥) عند الغساسنة
لم يسلم خبر اتصال الشاعر بالغسانيين من اختلاط في الروايات، فقد زعموا أن الشاعر نزل على عمرو بن الحارث الأصغر، وظلَّ مقيمًا عنده يمدحه حتى مات وملك أخوه النعمان، فانقطع إليه. وخالفهم في ذلك الوزير أبو بكر البَطَليُوسي المتوفى سنة ٨٠٩م/١٩٤ﻫ. فقال في شرح ديوان الشاعر: «وكان النعمان بن الحارث حمى ذا أُقر، فاحتماه الناس، وبنو ذبيان تربَّعوه، فنهاهم النابغة وخوفهم إغارة الملك، فعيَّروه خوفه النعمان، وكان منقطعًا إليه، فلما مات النعمان رثاه، وانقطع إلى عمرو بن الحارث أخيه.»
ومعلوم أن النابغة لما هرب إلى الشام نزل على عمرو بن الحارث، ومدحه ببائيته المشهورة:
فلو كان الملك للنعمان يومئذٍ لكان الأولى به أن يمدحه، وهو لاجئ إليه، قبل أن يمدح أخاه، كما جرت عادة الشعراء، وإن يكن غير ممتنع أن يفد على عمرو أولًا فيمدحه متوسِّلًا به إلى أخيه الملك النعمان. فكلا الأمرين محتمل، حتى إن المستشرق نولدكه — في كتابه أمراء غسان — لم يقطع بهذه المسألة، فأجاز أن يكون النعمان ملك قبل أخيه، ثم ملك عمرو بعده، ولكنه يثبت رواية تقول إن المنذر لا عمرًا تولى الإمارة بعد النعمان، وهي تؤيد زعم الذين يجعلون الملك لعمرو أولًا، ثم للنعمان ثانيًا، ثم للمنذر ثالثًا، وقد اتصل الشاعر بالأخوين ومدحهما، ولم يحظَ عند الثالث فعاد إلى النعمان أبي قابوس.
وقصائده التي مدح بها عمرو بن الحارث، منها واحدة يذكر فيها تدويخه للعراق، وأخرى يحذر بها قبيلته من بطشه، وأشهرها بائيته التي قالها عند قدومه إليه، وهي من الطراز الأعلى في الشعر الجاهلي، فقد اجتمع له فيها جمال التعبير، وحسن التصوير، وانطلاق النفَس الشعري، مع ما تشتمل عليه من مدح ديني قلما نجده عند الجاهليين، على ميل ظاهر إلى النصرانية حيث يقول:
ولا يبعد أن يكون النابغة قد تأثر بالعقيدة المسيحية في تطوافه بين العراق والشام، ومخالطته النصارى وهم سكان هذين القطرين، كما أنه في انتسابه إلى بني عُذرة ودفاعه عنها عند الغساسنة قد انتسب إلى قبيلة معروفة بنصرانيتها في العصر الجاهلي.
وفي بائيته الحسناء من الفوائد التاريخية عن ملوك غسان شيء يُذكر، فهي تعلمنا أنهم كانوا يلبسون النعال الرقيقة، والنعال الرقيقة لا تصلح للسير، مما يدل على أنهم كانوا لا يخرجون من دورهم إلا ممتطين صهوات جيادهم. وتعلمنا أيضًا أنهم كانوا يباشرون الحفلات الدينية بأنفسهم، فإذا جاء عيد الشعانين ساروا إلى الكنيسة والولائد البيض تحييهم بالرياحين. وتطلعنا على شكل ألبستهم وألوانها، وأنهم كانوا يعلقونها على أعواد تسمى المشاجب كما تعلق اليوم ثيابنا.
ويسترعي انتباهنا أنه لم يرثِ عمرو بن الحارث كما رثى النعمان، فلو أن عمرًا ملك ومات قبل النعمان، كما تقول بعض الروايات، لما تنكب عن رثائه، اعترافًا بجميله، وزُلفى إلى أخيه من بعده، إلا إذا كان قد ضاع هذا الرثاء، ولم تقع عليه الرواة.
وأما مدائحه للنعمان فأفضلها ما قاله في الدفاع عن قبيلته وحلفائها بني أسد وتخويفهم من غضب الأمير ووثبته عليهم، ووصف خيله وفرسانه، ووصف النساء في حالتَي الخوف والسبي، فقد كان الشاعر في مدح الغساسنة كثير التدخل في سياستهم لخير قومه؛ لما كانت عليه بنو ذبيان من التعرض لملوك الشام في الحروب والمراعي، فوجَّه مدائحه — في كثرتها — إلى الذود عنها وعن أحلافها، وإلى لومها وتحذيرها، فلم يسلم من تعييرها، مع أنه لم يجبن عن لوم النعمان عندما كسر جيشه في غزوة بني حُنَّ — وهم من عُذرة — فأظهر له خطأه، وأنه كان ينبغي له أن يقبل النصيحة عندما ذكر له قوة عدوه ومنعته، فشِعر النابغة في بني غسان تحركه روح السياسة القبلية، ويدلُّنا على مكانته الرفيعة عندهم.
وله في النعمان مدح يشبه الرثاء حين بلغه أنه مريض وهو غائب عن بلاده. ولا يصحُّ أن نجعله في عمه النعمان الأكبر؛ لأن النابغة يرجو فيه رجوع الملك إلى عرشه، والنعمان بن المنذر لم يبلغ أريكة الملك؛ لأن موريقيوس البيزنطي أسره سنة ٥٨٤م، وألحقه بأبيه الذي أُسر سنة ٥٨١، ونفي بعدها إلى صِقِلِّية. فهذا المدح الرثائي قيل في النعمان بن الحارث، وللشاعر ما يشبهه في النعمان أبي قابوس عندما بلغه أنه مريض، مع أنه من المستنكر أن يرثى إنسان قبل موته، ولو مُدنَفًا، ونكاد نتهم ذوق صاحبه، وإن تكن هذه الطريقة غير مستهجنة في عصره، مع قلة شيوعها في الشعر القديم.
ولما توفي النعمان الغساني رثاه النابغة بقصيدة من جيد شعره ذاكرًا فيها فضله عليه معربًا عن حزن لا يُنسى، وكره للحياة بعده. وليس له مدح في المنذر إذا صحَّ أن الملك انتقل إليه من بعده لا إلى أخيه عمرو، ولكن لدينا منه شعر يمدح به الغساسنة، عند رحيله عنهم إلى النعمان أبي قابوس، يدلنا على أنه فارقهم راضيًا لا ساخطًا، ويؤيد ذلك قوله فيهم معتذرًا إلى ملك الحيرة من ذهابه إليهم:
(١-٦) اعتذارياته
أشهر شعر النابغة في النعمان أبي قابوس قصائده الاعتذارية التي استرضاه بها؛ ليستعيد مكانته لديه، فهي من أروع كلامه فنًّا وإبداعًا، وأرهفه حسًّا وشعورًا، وأكثره تصرفًا في الألفاظ والمعاني، ولولاها لما كان لدينا من أقواله فيه ما يستحقُّ الذكر، وبها استطاع أن يرحض صدره من الغلِّ والحقد عليه.
وفي اعتذارياته قصيدة يذكر فيها همه؛ لأن النعمان مريض، ويرثيه كأنه يتوقَّع موته، والظاهر أنه قالها قبل أن يأتي الحيرة؛ لأنه يحلف فيها ألا يرجع إليه مجرمًا، ولكنه لا يقطع الأمل من جوده، ويصف بسطة سلطانه كعادته فيقول إنه سيمسك لسانه عنه، وإن كان بعيدًا ممنعًا، خوفًا من أن يقاد إليه مع نسوته، ثم يرسل إليه التحية مشفوعة بالدعاء.
وحدَّث حسان بن ثابت أن النابغة قدم في جوار رجلين من فزارة لهما منزلة عند النعمان، فرأى إحدى قيان الملك، فلقنها قصيدته التي اعتذر إليه فيها، وهي:
ولا يستغرب أن يطلب الشفاعة برجلين من فزارة، وهو يعلم ما لبني ذبيان من الحظوة عند ملك العراق. ونسمعه في إحدى اعتذارياته يتبرأ مما نُسب إليه، ويلتمس من النعمان أن يسأل عن أمره بني ذبيان إذا كان قد ساء ظنه فيه.
وكان يهمه أن يتنصَّل من تهمتين، إحداهما: يشتدُّ في إنكارها، ويقسم الأقسام الكثيرة على البراءة منها، وهي الكلام الذي نقله الوشاة إلى الملك وأضافوه إليه، فألبسوه خيانة لم يقترفها:
والأخرى لا يستطيع أن يطمسها: وهي ذهابه إلى الغساسنة أعداء المناذرة يمدحهم ويذكر انتصارهم يوم حليمة حين قتلوا المنذر جد النعمان سنة ٥٥٤م:
وسمعنا الملك يعاتبه بقوله: «ثم انطلقت إلى قوم قتلوا جدِّي، وبيني وبينهم ما قد علمت.» فما عليه إلا أن يُقرَّ بذنبه، ويعمل لتخفيفه وإزالة ما وقر في نفس النعمان من الحقد عليه. فصارحه بأن الغساسنة إخوان له يقربونه ويحكمونه في أموالهم، فلا يعدُّ مذنبًا إذا مدحهم، كما أن الذين قربهم أبو قابوس وأكثر لهم العطاء لم يذنبوا إذا مدحوه، وهذه الصراحة لا مهرب للشاعر منها، ولكنه تمكن — بفنه ودهائه — أن يلطف وقعها في نفس النعمان، فجعل الملوك دونه منزلة وفضيلة، فهم الكواكب تغيب أنوارها حين تطلع الشمس:
وإذا حاول الاعتذار شرع في تهويل الخَطب وعظم ما يقاسيه — في الليل خصوصًا — من الخوف والرعب لغضب الملك عليه، فيصور نفسه قلق المضجع لا يقرُّ قراره، يبيت على الشوك مرة، وتواثبه الأفاعي أخرى، حتى ضُرب المثل بلياليه، فقيل للخائف المذعور: «بات بليلة نابغية.» ويأخذ في تكذيب الوشاة مؤكِّدًا براءته بالأقسام والدعاء على نفسه وعلى أولاده، إن صحَّ ما اتهموه به من الغدر والخيانة. ويتخلل ذلك مبالغة في مدح النعمان وتعظيم سلطانه وامتداد سطوته، مظهرًا خشوعة وعبوديته ونزوله على حكمه، راجيًا منه العفو والرضى ورجوع النعمة إليه:
فمدت القينة صوتها باليد فصارت الكسرة ياء، ومدت يعقدُ فصارت الضمة واوًا، فانتبه ولم يعد إلى الإقواء. ويروى عنه قوله: «دخلت يثرب وفي شعري بعض العاهة، فخرجت منها وأنا أشعر الناس.»
ومهما يكن من أمر هذه الرواية، ولعلها موضوعة؛ لتعظيم منزلة النابغة، أو لإظهار فضل يثرب عليه، فإنها لا تنافي الحقيقة في شاعر كان يحتكم إليه كبار الشعراء.
(١-٧) هل صدق النابغة في مدحه؟
أكثر ما جاءنا من شعر النابغة كان في مدح الملوك ورثائهم، فأحيانًا نجده في الحيرة يشيد بذكر المناذرة، وأحيانًا في الجولان يتغنى بمناقب الغساسنة، على ما بين ملوك الشام وملوك العراق من عداء وضغينة وحروب. فما تنكَّر له النعمان بن المنذر حتى جفاه، ويمم قصر الأمير الغساني يمدحه ويطري آباءه وعشيرته؛ ثم ما كاد يأنس برضى الملك العراقي حتى انقطع عن الغساسنة وجاء الحيرة يتودد النعمان مادحًا معتذرًا متخشعًا، وعاد يتمتَّع بعطاياه وعصافيره.
وما كان — لولا حبه المال — ليخشى أن يناله النعمان بسوء، وقبيلته لا تسلمه دون أن ترد عنه، ولقد كان له في قصور الغساسنة حمى مصون لا تمتدُّ إليه يمين ملك العراق. ولكن هذا الشاعر المتكسب لم يجد غضاضة عليه ولا على الشعر في أن يذل نفسه متكففًا، متنقلًا من أمير إلى أمير.
وشاعر مثله يصطنع المدح من أجل المال، ويزفُّه إلى كل أمير يتصل به، لا يرجى منه أن يكون صادق المودة مخلص الوفاء؛ لأنه لا يهمه أمر من يمدحهم بقدر ما يهمه العطاء الذي يتوقعه منهم، ولا يشجوه أن يتخلى عن الواحد منهم إذا رأى الخير أسخى عند الآخر. وهذا طبيعي في الإنسان حين تكون المنفعة المادية أساس الصداقة ولا رابط غيرها بين الأصحاب، فالإخلاص — في مثل هذه الحال — عَرَض طارئ يبقى ببقاء المنفعة ويذهب بذهابها.
وإذا قلنا إن النابغة كان على شيء من الإخلاص لممدوحيه في حال اتصاله بهم، فيصعب علينا القول بصدقه في تصوير مخاوفه ولياليه المشئومة في اعتذارياته إلى الملك النعمان، فإنه لم يكن يخشى شرَّه في قلب عشيرته، أو في قصور أمراء الشام.
على أننا — وإن كنا نشك في صدق النابغة — لا يسعنا إلا الاعتراف بأنه أجاد مدح النعمان والاعتذار إليه، كما أجاد مدح الغساسنة ووصف شمائلهم وعاداتهم. فكيف تَتِمُّ الإجادة للشاعر في غرض يقصده دون أن تحركه إليه عاطفة الصدق والإخلاص؟ وهل لهذه العاطفة التي نحكِّمها في الشعر من تأثير صحيح في جودة الفن ومنحه عنصر الجمال؟
قد تكون العاطفة محبوبة لدلالتها على ذاتية الشاعر ونزعات نفسه إلى شخص أو شيء يتعشقه ويميل إليه، ولكننا لا نراها عنصرًا ضروريًّا للشعر؛ فإن بوسعه أن يستغني عنها ولا يخسر شيئًا من جماله وتأثيره. فإن الصدق في الفن لا يقوم على عاطفة الحب والإخلاص للشخص ليحسن الشاعر مدحه ووصفه، ولا يُشترط على الشاعر أن يكون عاشقًا ملتاع النفس، متدفق العاطفة ليجيد الغزل وذكر آلام المحب وشجونه. ولا يُطلب منه أن يكون فارسًا مغوارًا يخوض الحروب ويشهد المعارك ليبدع في وصف المعامع والتحام الأبطال. ولو كان شرطًا على الشاعر أن يضع شخصيته الصادقة في كل غرض من أغراضه، فنبحث عن عاطفة الإخلاص الذاتي في كل مدح أو غزل أو حماسة، أو غير ذلك؛ لتعذر علينا أن ندرك سبب الجمال في الشعر الذي لا ينطوي على حقيقة قائله، ولوقفنا حائرين أمام الروائع الأدبية الخالدة: ملاحم ومسرحيات، بما فيها من تضارب العواطف والأهواء، واختلاف المشاهد والمواقف، بحيث لو نظرنا إلى إلياذة هوميروس لرأيناه يجيد وصف الأبطال، سواءٌ كانوا من اليونان كأخيل، أو من الطرواد كهكتور، ويبدع في الغزل والنسيب، وفي وداع هكتور لأندروماك، كما يبدع في تصوير المعارك وزحف الجيوش، ووصف الخيول والعُدد دون أن يكون له صلة شخصية بشيء من هذه الأشياء، وإنما شاعريته الخصبة تولَّت خلق هؤلاء الأشخاص وتعهدتهم بمختلف الأهواء والمشاعر. وهكذا يصح القول في سائر الملاحم، وفي بدائع المآسي والفواجع التمثيلية.
فالشاعر — إذًا — هو الذي يخلق عالمه ويعيش معه دون أن يكون لهذا العالم حقيقة واقعة. فالأدب الصادق لا يوجب التعبير عن حقيقة تاريخية، ولا ذكر واقعة لها علاقة بذاتية الشاعر، وإنما الصدق في الأدب هو الشعور الفني الذي يحسه الشاعر أو الأديب فيتحرَّك قلبه، ويتصوَّره فيثور خياله، ويفكر فيه فيفيض عقله، فتأتلف عنده هذه الإدراكات الثلاثة ائتلافًا موسيقيًّا يبدع له دنيا غير الدنيا التي يعيش فيها، وأشخاصًا غير الأشخاص الذين يألفهم في حياته الاجتماعية. فإذا تحدث عن دنياه وأشخاصه، فإنما هو يتحدث صادقًا مخلصًا عن أشياء أحسها كل الإحساس حتى أصبحت قطعة من نفسه الفنية، سواءٌ كانت هذه الأشياء قريبة إليه في حياته المألوفة أو غريبة عنه.
وهكذا شأن النابغة في مدحه الغساسنة والمناذرة، وفي اعتذارياته وتصوير لياليه الخائفة، فإنه وإن لم يكن صادقًا كل الصدق في حبِّه لملوك الشام والعراق، وكان كاذبًا كل الكذب في ذكر مخاوفه ولياليه، فهذا يعود إلى النقد التاريخي، ولا شأن للنقد الأدبي فيه، ما دام الشاعر استطاع أن يعطينا أدبًا صادق الشعور والفن، وهذا كلُّ ما يُطلب منه.
(١-٨) القصة عند النابغة
لم تكن القصة في الشعر الجاهلي غاية يتطلبها الشاعر، أو فنًّا مستقلًّا يبني عليه قصيدته، وإنما كانت واسطة يعتمدها في مختلف أغراضه عندما تدفعه الحاجة إليها فيسرد خبرًا، أو يورد أسطورة ولا يتعدَّى في ذلك كلِّه بضعة أبيات قلما اتسعت لتفصيل الخبر، وتصوير الأشخاص.
والنابغة لا يفترق عن غيره من شعراء الجاهلية في النظر إلى القصة، وطريق الاستفادة منها، والاقتصار على موجزها. إلا أنه عُرفت له فيها خصائص وأهداف لم تُعرف لغيره من قبل، فانفرد بها أسلوبه القصصي، وكان له منها طابع خاص.
ومن الأساليب المألوفة في الشعر الجاهلي: أن شاعرهم إذا وصف شيئًا وشبهه بآخر، ترك الموصوف وانصرف إلى المشبه به يوسعه نعتًا وتصويرًا من الناحية التي تجمع بينه وبين الموصوف، حتى إذا أخرج له صورة جلية تتمثل بها تلك الناحية التي ينظر إليها، رضيت نفسه، واقتنعت بأنها أدركت الغاية من ذكر الموصوف في عنايتها بإظهار مشابهه وتبليغ وجه الشبه المشترك بينهما.
والشعر القديم يشتمل على أمثله كثيرة من هذه الاستطرادات الوصفية والقصصية لا يندُّ عنها شاعر من شعرائهم، ولا سيما وصف ناقته التي تفرج كربه وتوصله إلى من يحب، فإنه يجعل همه في إظهار سرعتها ونشاطها، فيشبهها بالثور أو الحمار الوحشي، مبالغًا في ذكر قوته ومضائه، فيقص خبر العَير يدفع الأتان أمامه ويسوقها سَوْقًا عنيفًا؛ ليعتزل بها عن كل طالب ومزاحم، كما فعل عير امرئ القيس ولبيد. أو يذكر خبر ثور أضاع حلائله فجدَّ في طلبهنَّ حتى أدركه الليل فلجأ إلى أرطاة وبات عندها كما لجأ ثور امرئ القيس، فلما طلع الصباح أطلَّ عليه الصيادون بكلابهم، فأجفل وانقض مذعورًا يطلب النجاة، فتناله الكلاب بعد لَأْيٍ، وربما فاتها ونجا منها كما نجا ثور المثقِّب العبدي.
فهذه السرعة وهذا النشاط اللذان يبدوان من الحمار والثور هما كلُّ ما يريد أن يخبر عنه الشاعر الجاهلي ليبين أن ناقته نشيطة سريعة مثلهما.
والنابغة في هذه التشابيه القصصية لم يبتعد عن امرئ القيس والمثقِّب العبدي وسواهما من الشعراء الذين تقدموه، بل سار على خطتهم، فشبَّه ناقته بالثور، غير أنه زاد على من تقدَّمه وصف العراك الذي حدث بين الثور والكلاب المتلاحقة به، وكيف ارتدَّ إليها يطعنها بقرنه فيرديها واحدًا بعد آخر، فكان ذلك أبلغ في إظهار قوته ونشاطه.
ويصور قرن الثور في قصيدة أخرى نافذًا من جنب الكلب تصويرًا ماديًّا، كثيفًا، إذ شبَّهه — في حال خروجه محمرًّا — بسفُّود انتظم عليه اللحم وتُرك عند الموقد:
ولما رأى الكلب الآخر ما حلَّ برفيقه نصحته نفسه بالهرب، فولى ناجيًا:
وذكر المعركة كما يصفها النابغة نجده بعده في معلقة لبيد، ولاميَّة عبدة بن الطبيب، وعينية أبي ذؤيب الهُذَلي، وملحمة الأخطل التغلبي، فهم — بلا ريب — متأثرون خُطاه، ولا سيما الأخطل الذي أخذ تعابيره واتجاهاته، وواطأه في البحر والقافية.
ويشتمل الشعر الجاهلي على كثير من الأساطير والأخبار مما كانوا يتناقلونه عن غيرهم من الشعوب، أو مما نشأ في أرضهم ووجد غذاءه في مجتمعهم. وكان للنابغة قسط منها يرويها في شعره، ولكنه لم ينظمها لمجرد روايتها والإخبار عنها؛ بل كان له هدف يرمي إليه، فيتخذ القصة وسيلة لبلوغ مراده. فإنه عندما أراد أن يدعو النعمان في اعتذاره إليه أن لا يصدق أقوال الوشاة، وأن يكون صادق النظر في الحكم عليه، اعتمد أسطورة زرقاء اليمامة التي اشتهرت بحدة نظرها، حتى زعموا أنها كانت تبصر الأشياء على مسافة ثلاثة أيام. والأسطورة — كما تروى — هي أنه كان للزرقاء قطاة، فمرَّ بها يومًا سرب من القطا بين جبلين، فقالت: ليت هذا الحمام لي، ونصفه إلى حمامتي، فتمَّ لي مائة، وأرادت بالحمام القطا. واتفق أن وقع الحمام في شبكة صائد فعرف عدده فإذا هو كما قالت، ست وستون قطاة.
فهذا الصدق في النظر هو الهدف الذي أراده النابغة، ودعا النعمان إلى مثله، وإن يكن نظر النعمان مرجعه العقل، ونظر الزرقاء مرجعه البصر، فإنما الصدق هو الجامع بين النظرين.
وكذلك أسطورة الحيَّة والأخوين؛ فإن هدفه فيها أن يبين لقومه أن الثقة المتبادلة انقطعت بينه وبينهم كما انقطعت بين الحية وأحد الأخوين. وكان بعض قومه قد اجتمعوا عليه وراموا خذله — كما عرفنا — وأسطورة الحية تروي أن أخوين خربت بلادهما، وكانا قريبين من وادٍ فيه حية، فهبط أحدهما ورعى فيه إبله زمنًا، ثم إن الحية نهشته فقتلته. فكره أخوه الحياة من بعده، وطلب الحية ليقتلها، فلما لقيها أظهرت له الندامة، وعرضت عليه الصلح معاهِدَةً إياه أن تدعه آمنًا في هذا الوادي، وأن تدفع له دية القتيل كل يوم دينارًا، فعاهدها وحلف لها وحلفت له، وأخذت تعطيه كل يوم الدينار المتفق عليه حتى كثر ماله، وقيل: كانت تأتيه يومًا وتغيب يومين، ولهذا يقول النابغة:
ثم قال: كيف ينفعني هذا العيش وأنا أرى قاتل أخي؟ فعمد إلى فأس فأحدَّها وكمن للحية، فلما مرت به ضربها بالفأس فجرحها ولم يقتلها، فدخلت جحرها وقطعت عنه الدينار. ثم أرادها على الصلح فقالت: كيف أعاودك وأثر فأسك وقبر أخيك يأبيان عليَّ أن أثق بك، وأنت فاجر لا تبالي العهد:
فكانت القصة من الطوابع التي يتميَّز بها أسلوب النابغة بما فيها من الخصائص والأهداف، سواءٌ جاءت بطريق التشبيه كقصة الثور الوحشي، أو بطريق المثل كأسطورة زرقاء اليمامة وأسطورة الحيَّة. ويمكننا أن نعدَّ الأخيرة سابقة حسنة في الأدب العربي للأساطير الخلقية على ألسن الحيوان التي لم يعرفها العرب بكثرة إلا بعد ظهور كليلة ودمنة لابن المقفَّع.
(١-٩) منزلته
وجماع القول: إن منزلة النابغة في الشعر سامية المقام عزيزة المنال، فهو شاعر الملوك، وحكم سوق عكاظ، ونابغة الشعراء …
(٢) الأعشى الأكبر٢٧ (٦٢٩م/٧ﻫ؟)
(٢-١) حياته
والأعشى من أهل اليمامة، من قرية تسمى «منفوحة»، ولكنها لم تكن قرارًا له، بل كان ينتجع بشعره أقاصي البلاد سائلًا متكسبًا. قيل: إنه وفد على ملوك فارس، وسمعه كسرى مرَّة ينشد:
فقال: «ما يقول هذا العربي؟» قالوا: «يتغنى بالعربيَّة.» قال: «فسروا قوله.» قالوا: «زعم أنه سهر من غير مرض ولا عشق.» قال: «فهذا إذًا لصٌّ.»
(٢-٢) عند المحلق الكلابي
على أن هذا الإغراب في سرد الروايات، وهذه الكثرة في التزويج، لا يمنعان أن يكون لقصة المحلق وبناته أو أخواته بعض الصحة، فالقصيدة التي مدحه بها الأعشى من جيد الشعر، ولم يشكَّ أحد في نسبتها إليه.
(٢-٣) عند شريح بن السموأل
وكان الأعشى خبيث اللسان يحسن الهجاء كما يحسن المدح، فهجا مرة رجلًا من بني كلب فقال:
وهؤلاء كلهم من بني كلب. فقال الكلبي: «لا أبا لك! أنا أشرف من هؤلاء.» وقد سبَّه الناس بهجاء الأعشى إياه.
واتفق أن الكلبي أغار على قوم قد بات فيهم الأعشى، فأسر منهم نفرًا، وأسر الأعشى وهو لا يعرفه. ثم جاء حتى نزل بشُرَيح بن السموأل بن عادياء اليهودي صاحب تَيماء بحصنه الأبلق، فمرَّ شُرَيحٌ بالأسرى فعرف الأعشى، فقال للكلبي: «ما ترجو بهذا الشيخ ولا فداءَ له، فهبه لي.» فوهبه له. فأخذه شريح فأطعمه وسقاه، فلما أخذ منه الشراب سمعه يترنم بهجاء الكلبي، فأراد استرجاعه، فقال الأعشى قصيدة يذكِّره فيها بوفاء أبيه السموأل، واختياره قتل ابنه على الغدر بجاره امرئ القيس وتسليم دروعه. فأعطاه شريح ناقة فركبها ومضى من ساعته، ثم عرف الكلبي حقيقة أمره فأرسل في أثره فلم يلحقه.
(٢-٤) الأعشى في الإسلام
ولكن لا ندري مبلغ هذه الرواية من الصحة، فالتفنن القصصي ظاهر عليها، زد على ذلك أن القصيدة التي يزعمون أن الأعشى مدح بها الرسول، لا يمكن الاطمئنان إليها، وحسبك أن تقرأ منها هذه الأبيات، حتى تتيقن ما فيها من تكلُّف واصطناع:
فما قولك ببدوي يأتي من أطراف اليمامة إلى الحجاز، ليرى الرسول وينتحل الدين الجديد، فيلقاه المشركون من قريش، فيردونه بمائة من الإبل، ويقولون له: «ينهاك عن خلال ويحرمها عليك، وكلها لك موافق.» فيقول: «وما هي؟» يسألهم عنها لأنَّه يجهلها، ثم نسمعه يمدح الرسول بهذا الشعر، فإذا هو عارف بحقائق الدين الإسلامي يحفظ القرآن وما سمع تلاوته، ويستشهد بآياته وما فيها من تحريم وتحليل، وشرع وفروض، أفلا ترى في ذلك كلِّه أثرًا واضحًا للتكلُّف والاصطناع؟
على أنَّنا، وإن كنَّا نشكُّ في صحة القصيدة التي أضيفت إلى الأعشى في مدح الرسول، لا نبيح لأنفسنا إنكار رواية إدراكه الإسلام؛ إذ ليس لدينا أدلَّة كافية تدحضها، فنحن نقبلها باحتياط كما قبلنا غيرها، ونؤرخ — على ارتياب — وفاة الشاعر في السنة السابعة للهجرة استنادًا إلى أقوال الرواة.
(٢-٥) آثاره
للأعشى شعر كثير مجموع في ديوان، أشهره لاميتان طويلتان، كلتاهما تُعدُّ من المعلَّقات. وقد طرق الأعشى جميع فنون الشعر فأجاد المدح والهجاء، كما أجاد وصف الخمرة والتشبيب بالنساء.
(٢-٦) ميزته — الشعر الخمري
لم تكن ميزة الأعشى محصورة في وصف الخمرة دون غيرها، فقد كان متصرفًا في أبواب الشعر كلها، ولعله في المدح أشعر منه في وصف الخمر، ولكن المدح صفة عامة للشعراء الجاهليين، ونحن نريد أن ندرس في الشاعر المتخصص صفة انفرد بها عن غيره من معاصريه، وهي وصف الخمرة للخمرة، لا للتفاخر بشربها، كما فعل أكثر شعراء الجاهلية. فقد وصفها طرفة، ولبيد، وعمرو بن كلثوم، وعنترة وغيرهم، وقلما تجاوزوا حد الافتخار بشربها؛ لأن شربها دليل الكرم عندهم، وإذا تجاوز أحدهم هذا الحدَّ، فإلى شيء يسير من وصف لونها وزجاجتها، وإلى شيء يسير من وصف تأثيرها في شاربها.
أما الأعشى فقد فاقهم جميعًا؛ وعرف كيف يشربها ويلهو، ويصفها ويطرب، فهو إذا وصف الخمرة وصف معها النديم والساقي، ووصف القَينة وعودها، وصوَّر السكارى تصويرًا جميلًا، في أسلوب لطيف لا يخلو من طرف وفكاهة، وله أقوال كثيرة في الخمر، توكأ عليها الأخطل، وأبو نواس من بعده، كقوله:
أخذه الأخطل فقال:
وقوله:
فقال الأخطل:
وقوله:
فأخذ أبو نواس تشبيهه الخمرة بعين الديك وأكثر استعماله. من ذلك قوله:
وقوله:
فأخذه أبو نواس وولَّد منه معنًى آخر قال:
فيتبين من ذلك، أن الأعشى صاحب لهو وعبث، كما كان الأخطل وأبو نواس من بعده، وأن وصف الراح شغفًا بها، فأحسن وصفها، وكانت له مجالس قصف وطرب، فيها النديم والساقي والقيان، فوصفها جميعًا وأحسن وصفها، وإنا لنلمس روحًا نواسيًّا في قوله:
فهذه السكرات الطويلة التي لا يستفيق منها صاحبها، إلا ليرجع إليها، هي التي يمثلها لنا الأعشى بقوله:
فيردد أبو نواس بعده: «وداوني بالتي كانت هي الداءُ …»
وإذا كان الأعشى سأل بشعره وتكسب، فلكي يلهو ويعبث، لا ليجمع المال ويحرص عليه. فالرواة يذكرون لنا أن داره في منفوحة كانت مجتمع الفتيان، يأكلون عنده ويشربون، ويذكرون أيضًا، أن فتيان منفوحة لم ينسوا شاعرهم بعد موته فكانوا يأتون إلى قبره ويسكرون عنده ويريقون الأقداح على ثراه؛ ليأخذ الميت نصيبه من الراح.
(٢-٧) اللَّاميتان
أشرنا إلى لاميتي الأعشى، فيجدر بنا أن نجعل لهما قسطًا من التحليل ولو قليلًا، فنظهر بعض خصائص في الشاعر لا ينبغي إغفالها، وإن كنا قصرنا الدرس والنقد على شعره الخمري. قال مستهلًّا إحداهما:
ثم يمعن في الغزل حتى ينتهي إلى وصف الخمرة ومجلس اللهو، فينتقل إلى وصف السفر والناقة فلا يلمسهما إلا قليلًا، ولكنه يفيض في وصف البرق والمطر:
ولكنه لا يبلغ فيه شأوَ امرئ القيس: ثم ينبري لرجل يقال له يزيد الشيباني، وكانت بينهما ملاحاة، فيهدده ويفتخر عليه، ويذكر له انتصارات قومه على القبائل، وفي هذا القسم يختتم طويلته.
ويبتدئ اللاميَّة الأخرى بقوله:
هذا هو الأعشى في خمرياته وغير خمرياته، على ما في شعره من سهولة وانسجام وجلاء شأن غيره من شعراء ربيعة. ولكن هناك ملحوظة ذات قيمة لا بد من الإشارة إليها، وهي أن الشعر في أواخر هذا العصر، ظهر عليه التطور ظهورًا عامًّا، فوضحت معانيه وسهلت ألفاظه، وقلَّ غريبه. فأصبح الشارح لا يحتاج إلى سوى تفسير بعض الألفاظ، حتى يتضح معنى البيت، ونستطيع أن نتبين هذا التطور في أكثر الشعراء الذين أدركوا الإسلام أو كادوا، والأعشى خير مثال لهم في جلاء أفكاره، وظهور معانيه، ونعومة ألفاظه، وسلاسة قوافيه.
(٢-٨) منزلته
وضعه ابن سلَّام في الطبقة الأولى بعد امرئ القيس والنابغة وزهير، وكان أهل الكوفة يقدمونه عليهم جميعًا، وسُئل يونس بن حبيب النحوي: «مَن أشعر الناس؟» فقال: «لا أُومئ إلى رجل بعينه، ولكن أقول: امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب.» وكان عمرو بن العلاء يعظِّم محلَّه ويقول: «مثَلُه مثلُ البازي يضرب كبير الطير وصغيره.» وإذا سئل عنه وعن لبيد قال: «لبيد رجل صالح، والأعشى رجل شاعر.» وروي أن عبد الملك بن مروان قال لمؤدِّب أولاده: «أدِّبهم برواية شعر الأعشى فإنَّه — قاتله الله — ما كان أعذب بحره، وأصلب صخره!» وقال المفضل الضبي: «من زعم أن أحدًا أشعر من الأعشى فليس يعرف الشعر.» وقال أبو عبيدة: «مَن قدَّم الأعشى، يحتج بكثرة طواله الجياد، وتصرفه في المديح والهجاء، وسائر فنون الشعر، وليس ذلك لغيره.» وقال يحيى بن الجون العبدي راوية بشار: «نحن حاكَة الشعر في الجاهلية والإسلام، ونحن أعلم الناس به. أعشى قيس أستاذ الشعراء في الجاهلية، وجرير الخطَفي أستاذهم في الإسلام.» وقال أبو عبيدة أيضًا: «الأعشى هو رابع الشعراء المعدودين، وهو يقدم على طرفة؛ لأنه أكثر عدد طوال جياد، وأوصف للخمر، وأمدح وأهجى.» وسئل حماد الراوية: «مَن أشعر الناس؟ فقال: «ذاك الأعشى صنَّاجها». وشهد له الأخطل فقال: «هو والمسيح أشعر مني.»
وفي الأعشى أقوال كثيرة غير هذه لا نرى حاجة إلى ذكرها، فإن ما أوردناه كافٍ لإظهار منزلة الشاعر عند الأئمة والأدباء الأقدمين. على أن هناك قولًا لبعضهم ينطبق على الخاصة التي درسناها في شعره الخمري، وهو قولهم: «الأعشى في الجاهلية كالحسن في الإسلام.» ويعنون بالحسن أبا نواس الحسن بن هاني، وهذا التشبيه صحيح، إذا وضعنا حدًّا بين العصر الذي عاش به الأعشى، وما فيه من بداوة وخشونة، والعصر الذي عاش به أبو نواس، وما فيه من ترَف ورخاء، فالأعشى كان يتعهَّر ويتطلب اللذة المادية في حبه وسكره ولهوه، وهكذا كان أبو نواس في العصر العباسي الأول. فكلا الشاعرين لها، وعبث، وتعهر على قدر ما أباحت له البيئة التي عاش فيها، وقد ظهر لهوه، وعبثه، وتعهره في شعره، فليس إذًا بمستنكر أن نقول: «الأعشى في الجاهلية كالحسن في الإسلام.»
(٣) الخنساء (٦٤٦م/٢٤ﻫ)
(٣-١) حياتها
فخرج إليه أبوها فقال: «يا أبا قُرَّة قد امتنعت، ولعلها أن تجيب فيما بعد.» فقال دريد: «قد سمعت قولكما.» وانصرف غضبان، وله من قصيدة في هجو الخنساء:
فقيل للخنساء: «ألا تجيبينه؟» فقالت: «لا أجمعُ عليه أن أرُدَّه؛ وأن أهجَوه.»
ثم تزوجت رَوَاحةَ بن عبد العزيز السُّلَمي، فولدت له عبد الله، ثمَّ خلَفَ عليها مرداس بن أبي عامر السُّلَمي، فولدت له يزيد ومعاوية وعمرًا وبنتًا اسمها عَمرَة.
(٣-٢) مقتل أخويها
وكان للخنساء أخَوان: أحدهما معاوية، وهو أخوها لأمها، والثاني صخر، وهو أخوها لأبيها، وكان أحبهما إليها، واستحق صخر ذلك لأمور منها: أنه كان موصوفًا بالحلم، مشهورًا بالجود، معروفًا بالتقدم والشجاعة، محظوظًا في العشيرة، وأجمل رجل في العرب.
قيل: إن عمرو بن الشريد أبا معاوية وصخر، كان يأخذ بيدي ابنيه ويقول: «أنا أبو خَيرَي مُضَر» فتعترف له العرب بذلك.
وكان مقتل معاوية في يوم حَورة الأول نحو سنة ٦١٢ للمسيح وهو يوم لسُلَيم على غَطَفان، وقاتله هاشم بن حَرملة … ابن مرة الغطَفاني، وغزا صخر بني مرة في العام التالي فأصاب منهم، وقتل دريدًا أخا هاشم، وكان ذلك يوم حورة الثاني، ثم قتل هاشم بن حرملة، وقاتِله عمر بن قيس الجُشمي، وفيه تقول الخنساء:
(٣-٣) الخنساء في الإسلام
ولما ظهر الإسلام قدمت الخنساء في قومها بني سُلَيم فأسلموا جَميعًا، وقيل: رآها عمر بن الخطاب فسألها: «ما أقرح مآقي عينيك؟» قالت: «بكائي على السادات من مُضَر.» قال: «يا خنساءُ، إنهم في النار.» قالت: «ذاك أطول بعويلي عليهم، إني كنت أبكي لهم من الثار، وأنا اليوم أبكي لهم من النار.»
وحُكي: أنها أقبلت في خلافته حاجَّة، فنزلت بالمدينة في زي الجاهلية، فقام إليها عمر في أناس من أصحابه، فإذا هي على ما وُصف له، فعذلها ووعظها، وقال لها: «إن الذي تصنعين ليس صُنع الإسلام، وإن الذين تبكين هلكوا في الجاهلية؛ وهم أعضاء اللهب وحشو جهنم.» فقالت: «اسمع مني ما أقول في عذلك إياي، ولومك لي.» فقال: «هاتي» فأنشدته:
فتعجب عمر من بلاغتها، وقال: «دعوها فإنها لا تزال حزينة أبدًا.»
فلما هلك اتخذت هذا الصِّدار، والله لا أُخلِفُ ظنه، ولا أكذِّب قوله ما حييت.»
فلما أصبحوا باكروا مراكزهم، فتقدموا واحدًا بعد واحدٍ، وهم يرتجزون ذاكرين وصية العجوز، حتى قُتلوا عن آخرهم، فبلغها الخبر فقالت: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة.»
وكان عمر يعطيها أرزاق بنيها الأربعة مئتي درهم عن كل واحد حتى قُبض.
وتوفيت الخنساء في أول خلافة عثمان وكان موتها في البادية.
(٣-٤) آثارها
(٣-٥) ميزتها — الرثاء
وإذا همت الخنساءُ برثاء صخر، وصخرٌ شقيق روحها، سابقتها الدموع إلى رثائه، فتفجرت من مآقيها، فإذا هي لا ترى غير عينيها عونًا لها على الأسى، فتخاطبهما بشعرها، وما أكثر ما تستهل الخنساء قصائدها بخطاب عينيها، وإذا هي آنست في عينها جمودًا أنَّبتها على بخلها، فكأنها لا تريدها إلا مغرورقة ندية، وإذا انتهت من حديث عينيها، فرغت للتلهف على أخيها، وتعداد شمائله وخلاله، فما تدع مكرمة إلا جعلتها فيه، ولا حسنةً إلا وصفته بها. فهو أشجع الناس، وأكرمهم، وأعفهم، وأجملهم، وأنجدهم. ومما يزيد رثاءَها حسنًا أن مدحها لصخر لا يشوبه التكلف والجفاف، وإنما هو مُشبَع بصدق اللهجة وصدق العاطفة معًا؛ يرافقه التفجُّع في جميع أقسامه، ولعل الغلو أظهر خاصة في الخنساء، فهي مغالية في حزنها ولوعتها، مغالية فيما تنعت به صخرًا من النعوت الحسنة، ولكنه غلو صادق من حيث تفجعها وبريء من حيث وصفها لأخيها. فنحن نشعر بشدة آلامها عندما تذرف الدموع السخينة، وتخاطب عينيها، ونتبين إعجابها الكثير بأخيها، عندما تصف شجاعته فتصوره أسدًا تامًّا بأنياب وأظفار، شثن البراثن، لاحق الأقراب. أو تصف جوده، فتجعله مأوى اليتيم، وغاية المنتاب، بارزًا بالصحن مهمارًا. أو تصف جماله، فهو البدر في صورته ومحيَّاه.
ولا يقتصر غلوها على المعاني وما فيها من صور مادية بارزة، بل يتناول ألفاظها أيضًا، فأكثر ما يكون لفظها في صيغ المبالغة التي تترك أثرًا محسوسًا في النفس. فمن تعابيرها الخاصة قولها: شهَّاد أندية، حمَّال ألوية، هبَّاط أودية، نحَّار، مغوار، مسعار، أغرٌّ أبلج، أو أغرٌّ أزهر … إلى غير ذلك من أمثلة المبالغة. ولها تعابير فخمة تتضمن الغلو في نفسها، مثال قولها: ضخم الدسيعة، إذا ركبت خيلٌ لخيل … وقد تختم رثاءَها بالوقوف على القبر الذي ضمَّ رفات أخيها، فما تدري كيف تُظهر له تلك النعمة التي حلَّت عليه بحلول صخر فيه … ماذا يواري القبر من كرم …؟ أو من خير …؟ أو من خلائق عفات مطاهير …؟
فيتبين من كل ذلك أن رثاء الخنساء عاطفيٌّ بحت، لا يشوبه تكلف، ولا يرتفع بها الفكر إلى المعاني الحكمية التي نجدها في رثاء لبيد لأخيه. فهي حزينة لا تتعزَّى، وضعيفة لا تملك أن تعظ نفسها، ونادبة تهيج البواكي، وتستحثُّ قومها على إدراك الثأر، وتثير نخوتهم بذكر مناقب أخيها، وإذا خطر لها أن تتأسى شيئًا، فلكي تمنع نفسها عن الانتحار، لا عن التفجُّع والبكاء.
ومما يجدر ذكره أن شعر الخنساء خالٍ من القصائد الطوال التي عرفناها في الشعراء الجاهليين. فأطول قصيدة لها الرائية: «قَذًى بعَيْنَيْكِ أمْ بالعَين عُوَّارُ …» وهي لا تتجاوز الخمسة والثلاثين بيتًا، وأكثر شعرها أبيات ومقطَّعات، أو قصائد قصيرة. ولعلَّ ذلك ناتج بعضه عن ضعف المخيلة في المرأة، وبعضه الآخر عن وحدة موضوع الشاعرة، وعدم تعدُّد أغراضها. فهي لم تطرق غير الرثاء، بما فيه من تفجُّع ومدح، وما يتبع المدح من ذكر غزوة، دون أن تعمد إلى وصف الحرب وتصويرها، وإنما تجعل همها في النواح على صخر، وإطراء شمائله وتمثيلها ماديًّا، مما جعل أفكارها محصورة في صور محدودة المعاني والتعابير.
على أن قصر قصائدها لا يضير شاعريتها، ولا يحط من منزلتها الأدبية فإنما هو زفرات متقطعة، وأفلاذ من حشاشتها الدامية.
(٣-٦) منزلتها
هي أشعر النساء، وتُفَضل على كثير من فحول الشعراء. وقد عدَّها ابن سلام الثانية بين أصحاب المراثي، فقدم عليها مُتَمِّم بن نُوَيرة، وقدمها على أعشى باهلة، وكعب بن سعد الغَنوي، ورُوي أن جريرًا سُئل: «من أشعر الناس؟» فقال: «أنا، لولا هذه الخبيثة» — يعني الخنساء — ففضلها على جميع الشعراء، وقدمها بشار على الرجال.
وكان النبي محمد يُعجب بشعرها، ويستنشدها فتنشده، وهو يقول: «هيهِ يا خُنَاس!» ويومئُ بيده.
وقصارى القول: إن شعر الخنساء مثال للرقة على غير ضعف، وعنوان الرثاء العاطفي غير مُدافَع.
(٣-٧) درس أدبي تاريخي
وهنا يزعمُ بعض الرواة أن النابغة قبض على يد حسان وقال: «يا ابن أخي، أنت لا تحسن أن تقول:
على أن هذا النقد فيه كثير من التكلف والتعنت لا تصح نسبته إلى شاعرة في الجاهلية خالية الذهن من قواعد اللغة، بعيدة من التصنع الذي ينافي فطرتها الطبعية. أضف إلى ذلك أن ناقد البيت لم يصب في نقده؛ لأن باب المجاز واسع في اللغة، ولولا المجاز لضاقت العربية على أبنائها، وسدت في وجوههم مذاهبها. هذا وإن جُموع القِلة تُستعمل للكثرة كما تستعمل جموع الكثرة للقِلة، وقد يُستغنى ببعض أبنية القلة عن بعض أبنية الكثرة كرِجْلٍ وأرْجُل، وببعض أبنية الكثرة عن بعض أبنية القلة كرجُل ورجال، والخنساء نفسها لم يسلم شعرها من استعمال جمع القلة للكثرة، ولا يسلم منه شاعر في الجاهلية والإسلام. قال السموأل:
وقالت الخنساء:
فالأعظُم جمع قلة، مع أن جسم الإنسان يحتوي أكثر من عشر عظام.
وهكذا يمكن القول في الأفعال والأسماء التي تفيد الكثرة والقلة؛ فالأغرُّ يُغْني عن الأبيض، وإن دلَّ في أصله على بياض الجبهة، فيقال وجه أغر، ولا يراد به الجبين وحده، ولَمع يقوم مقام أشرق توسعًا، وعلى سبيل المجاز، ونرى أن قوله: «يلمَعْنَ في الضحى» أوقع من أن يقول: يشرقن؛ لأن الجفنات تلمع في نور الشمس لمعانًا ولا تشرق إشراقًا.
ولا ندري أين ذهب الناقد بالموضوع الثامن الذي ضعَّف فيه حسان بيته، فهو لم يذكر لنا إلا سبعة مواضع، ومن الغريب أن ينقل الرواة هذا النقد على اختلاطه مطمئنين، دون أن يبحثوا عن الموضع الثامن الضائع، أو أن يشكُّوا فيه وفي نسبته إلى الخنساء.
على أننا إذا تركنا النقد الأدبي جانبًا، ونظرنا إلى هذه الرواية من حيث التاريخ تبين لنا جليًّا اصطناعها، وخطأ إسنادها إلى الخنساء. ذلك بأن صخرًا أخاها قُتل في يوم الكُلاب أو يوم ذات الأثل نحو سنة ٦١٥م، ونحن نعلم أن النابغة مات سنة ٦٠٢م، أي في السنة التي قُتل فيها النعمان بن المنذر، أو في سنة ٦٠٤م على رأي بعضهم، فكيف تسنَّى للخنساء أن ترثي صخرًا، وتقف «برائيتها» في سوق عكاظ، وتنشدها أمام النابغة مع أن النابغة هلك قبل أخيها بنحو إحدى عشرة سنة على أقل تقدير …؟ فالرواية — كما ترى — باطلة من أساسها، وربما كانت أثرًا باقيًا من عداء القرشيين والأنصار، أريد باختلاقها الطعن في شاعرية حسان بن ثابت الأنصاري.
(٤) الحطيئة (أدرك معاوية)١١٨
(٤-١) حياته
هو جَرْوَل بن أوس بن مالك العبسي، ينتهي نسبه إلى مُضَر، ويُلقَّب بالحُطيئة لِقِصَره وقربه من الأرض، ويُكْنَّى أبا مُلَيْكة، ومُلَيكة ابنته، ولكن لقبَه غلب على كنيته.
فدفعوه ولم يُعطوه شيئًا، فحوَّل المديح هِجاءً:
ثم عاد إلى بني عبس وانتسب إلى أوس بن مالك.
(٤-٢) الحطيئة والإسلام
وأدرك الحطيئة الإسلام فانتحله دينًا، ولكنه كان مغموز العقيدة كما كان مغموز النسب. فلما توفي النبي ارتد الحطيئة في جملة المرتدّين، وقال في ذلك:
ولكنه لم يجاهر بكفره، بل ظل يتكلف الدين رهبةً لا رغبةً، وفي نفسه ما فيها من النزوع إلى عيشة البدوي الحر الذي لم يكن قبل الإسلام يتقي سلطانًا، ولا يرعى نظامًا.
(٤-٣) هجاؤه الزبرقان١٢٣
فجعل الحطيئة يمدح بني أنف الناقة من غير أن يهجو الزبرقان، وهم يحضُّونه على ذلك، فيأبى، ويقول: «لا ذنبَ للرجل عندي.» حتى أرسل الزبرقان إلى رجل من النَّمر بن قاسط، يقال له دِثار بن شيبان، فهجا بَغيضًا بأبياتٍ منها:
فحينئذٍ هجا الحُطيئة الزبرقان وناضل عن بغيض في قصيدته التي يقول فيها:
فاستعدي عليه الزبرقان عُمَرَ بن الخطاب، فرفعه عمرُ إليه، واستنشده القصيدة، فأنشده إياها، فقال عمرُ: «ما أسمع هِجاءً ولكنها مُعاتبة.» فقال الزبرقان: «أما تبلغُ مروءَتي إلا أن آكلَ وألبَسَ؟» فقال عمر: «عليَّ بحسان.» فجيء به، فسأله، فقال: «لم يهجُه ولكن سلَح عليه.» فألقاه عمر في بئر وحبسه، حتى كلمه فيه عمرو بن العاص وغيره، فأخرجه من السجن، ودخل الحطيئة عليه فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
فبكى عمَرُ. فقال عمرو بن العاص: «ما أظلَّت الخضراءُ، ولا أقلَّت الغبراءُ أعدلَ من رجل يبكي على تركه الحُطيئة.»
وروى أن عُمر اشترى من الحُطيئة أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، وقال له: «إياك وهجاءَ الناس!» قال: «إذن يموت عيالي جوعًا، هذا مكسبي ومنه معاشي.»
(٤-٤) موته ووصيته
فمن هذه الرواية نستدل أن عمر بن الخطاب مات قبل الحطيئة، وأن الشاعر لم يهلك في أواخر خلافته كما زعموا، وأما أنه أدرك معاوية فهذا ما نرجع به إلى رواية ثانية وإلى شعر الحطيئة نفسه.
قال ابن قُتيبة والأصفهاني: أتى الحُطيئة مجلس سعيد بن العاص، وهو على المدينة يعشِّي الناس، فلما فرغ الناس من طعامهم وخفَّ مَن عنده، نظر فإذا رجل على البساط قبيح الوجه كبير السنِّ رث الهيئة، وجاء الشَّرَط ليقيموه وهم لا يعرفونه. فقال سعيد: «دعوه.» وخاضوا في أحاديث العرب وأشعارهم، فقال الرجل: «ما أصبتم من الشعر أحسنه.» قالوا: «أوَعندك علمٌ من ذلك؟» قال: «نعم.» قالوا: «فمن أشعر الناس؟» قال: الذي يقول:
وذكر ابن سلام شيئًا من هذا الشعر في طبقات الشعراء.
ومعلوم أن سعيد بن العاص لم يتولَّ أمر المدينة إلا في أيام معاوية، مما يدل على أن الحطيئة أدرك هذا العهد.
ويُروى للحطيئة وصية قبل موته، قد يكون فيها شيءٌ من المبالغة والاصطناع، ولكنها لا تخلو من الفكاهة، ولا تعدو نفسية الشاعر ورقة دينه. قال ابن قُتيبة وصاحب الأغاني: «لما حضرت الحُطيئةَ الوفاةُ اجتمع إليه قومه فقالوا: «يا أبا ملَيكة أوصِ.» فقال: «ويل للشعر من راوية السوء.» قالوا: «أوصِ رحمَكَ اللهُ يا حُطَيءَ.» قال: «مَن الذي يقول:
قالوا: «أوصِ ويحك بما ينفعك!» قال: «أبلغوا أهل امرئ القيس أنه أشعر العرب حيث يقول:
قالوا: «هذا لا يُغني عنك شيئًا، فقُل غير ما أنت فيه.» فقال:
قالوا: «هذا مثل الذي كنت فيه.» فقال:
(٤-٥) أخلاقه
وللحطيئة في ضيوفه أخبار عجيبة، رواها صاحب الأغاني، منها: أن ابن الحمامة مرَّ به وهو جالس بفناء بيته، فقال: «السلام عليكم.» قال: «قلتَ ما لا ينكر.» قال: «إني خرجت من عند أهلي بغير زاد.» فقال: «ما ضمنتُ لأهلك قِراك.» قال: «أفتأذن لي أن آتي ظل بيتك فأتفيأ به؟» قال: «دونَك الجبل يَفيء عليك.» قال: «أنا ابن الحمامة.» قال: «انصرف، وكن ابن أي طائر شئت.»
وضافه رجل من بني رُؤاس فهجاه بهذين البيتين:
على أن في هذا الرجل صفةً حسنةً، لعلها تشفع له في شيء من جشعه وبخله، وهي حبه لأولاده وحنوُّه عليهم. فقد رأيناه كيف استعطف عمر بن الخطاب وأبكاه بقوله: «ماذا تقولُ لأفراخ بذي مرخ؟» وروى أبو عبيدة: أن الحطيئة أراد سفرًا فأتته امرأته، وقد قُدمت راحلته ليركب، فقالت:
فقال: «حطُّوا، لا رحلتُ لسفرٍ أبدًا.»
ويحدثنا محمد بن سلام: أن الحطيئة خرج في سفر له، ومعه امرأته أُمامة وابنته مُلَيكة، فنزل منزلًا وسرح ذَودًا له ثلاثًا، فلما قام للرواح فقد إحداها فقال:
ففي هذين البيتين، وفي عدوله عن السفر، وفي استعطافه عمر عاطفة صادقة وحنو ظاهر ملموس.
(٤-٦) آثاره
(٤-٧) ميزته
عرفنا أخلاق الحطيئة وصفاته، وعرفنا شيئًا من أخباره وطرق معيشته، فيمكننا الآن أن نستند إليها جميعًا؛ لنتبين ميزة الشاعر وخصائصه ومنزلته. فشعر الحطيئة صورة ناطقة عن حياته وأخلاقه، وهجاؤه أصدق ترجمان لسرائر نفسه.
على أنَّنا لا نستطيع أن نجلو أساليبه الخاصة في النظم إلا إذا عرفنا أنه كان يروي شعر زهير بن أبي سلمى، ويحذو حذوه في تهذيب قصائده وتنقيحها، ويضرب على غراره في الاعتماد على الصور المادية المحسوسة.
فمن هذه الأبيات نعلم مذهب الحطيئة في تنقيح قصائده وتخير ألفاظها، وهو مذهب زهير وأبناء زهير. وأثر هذا التنخُّل ظاهر في حلاوة ألفاظ الشاعر ووضوح معانيه.
(٤-٨) هجوه
قد يخيَّل إلى بعض من يسمعون بشهرة الحطيئة في الهجاء، والنيل من أعراض الناس، أننا سندرس فيه شاعرًا بذيئًا فحَّاشًا، يخجل الأديب من رواية أشعاره. على حين أن الحقيقة غير ذلك، فلئن كان الحطيئة أكثر شعراء الجاهلية هجوًا، لهو أقلهم فُحشًا، وربما غلبت العفَّة على لسانه فما ينطق بما تستحي العذراء أن تتلوه لأبيها، ولو نظرنا إلى قصيدته التي قالها في الزبرقان، وهي أشد قصائده الهجائية لذعًا وأبعدها صيتًا، لوجدنا أنها من أشرف الشعر، وأعفه وأنقاه. فهو مؤلم في هجائه، ولكنه لا يفحش، بل يقصر همَّه على رمي مهجوه بالبخل، وضعف الهمة، والقعود عن طلب المعالي، أو يفاضل بينه وبين خصمه فيفضل خصمه عليه. فكأنه يتوخى من هجائه أن يصيب الشخص في منزلته الاجتماعية ليس غير.
فلا ينبغي لك أن تعجب من قول عمر بن الخطاب الزبرقان: «ما أسمع هجاءً ولكنها معاتبة.» فعفة القول هي التي جعلت الخليفة الثاني ينكر الهجو ويحمله على محمل العتاب. زد على ذلك براعة الفن، فإن هجاء الزبرقان على شدة لذعه، منظوم في قالب شكوى يتخللها وعظ ومعاتبة. فنظر الإمام عمر صائب من حيث الظاهر، ونظر حسان بن ثابت صائب من حيث الفن. أفليس من العتاب والشكوى قوله: «وقد مَدحتُكُمُ عَمْدًا لأرشِدَكم … أزمعتُ يأسًا …، جارٌ لقوم …، ملُّوا قِراه … إلخ.» أوَليست الحكمة السامية في تلك الموعظة: «من يفعل الخير …؟» ثم ألا ترى الهجو القاتل في قوله: «دع المكارم … وجرَّحوه بأنياب …، لقد مَرَيْتُكُمُ لو أن دِرَّتَكُمْ …، ما كان ذِنبي …، قد ناضلوك … إلخ.»
وفي شعره صور حسيَّة ناتئة تذكِّرك زهيرًا وصوَر زهير، فهو يترسم أُستاذه في إبراز معانيه بشكل مادي ملموس، تجده في تشبيه الزبرقان بالناقة التي لا تدر، وفي مسحه ضرعها وإبساسه لها، وتجده في استعارته المَتح والإمراس لطلب العرف والتملُّق، وتجده في قوله: «ولم يكن لجراحي فيكمُ آسِ» وهو يريد فقره وسوء حاله، وتجده في تجريحه بالأنياب والأضراس، وفي تمثيله مغالبة بغيض والزبرقان بصَفاة راسية تقرعها المعاول فتتثلَّم دونها، وتجده أخيرًا في تصويره مفاخرة آل شماس للزبرقان بنضال يخرجون فيه من كنائنهم مجدًا تليدًا ونبلًا غير إنكاس، وأوصيك ألا تغفل عن الصورة الجميلة حيث يقول: «في بائسٍ جاء يحدو آخر الناس.»
هذا، ولو لم يكن لنا رأي آخر في هجاء الحطيئة، لاكتفينا بهذا القدر مثالًا لهجوه ومتاجرته بشعره. غير أننا نرى أن هجاء هذا الشاعر على نوعين: نوع تجاري يندفع إليه حبًّا للمال، كهجوه للزبرقان، ونوع عاطفي يندفع إليه من تلقاء نفسه حبًّا للتشفي والانتقام، كهجوه أمه، ونفسه، وأقرباءه، وأضيافه، وهو في هجوه العاطفي أشد مرارة ولذعًا منه في هجوه التجاري؛ لأن هذا يأتيه عفوًا لا تكلفًا. فالحطيئة نشأ مغموز النسب لا يعرف أباه، ونشأ فقيرًا محبًّا للمال حريصًا على جمعه، فكان لا ينفك يسأل أمه عن أبيه؛ لينتسب إليه ويرث ماله، وهي تخلط عليه ولا تجيبه جوابًا صريحًا، فيشتد قهره، ويسخط على أمه الضرَّاء وعلى نفسه، ثم يمضي وهو يقول:
ويشجوه ألا يجد مالًا يرثه فيتلظَّى سُخطًا، ويزفر زفرات ملتهبة يقذفها براكين على الضرَّاء.
وتتزوَّج أمه رجلًا مغموز النسب كابنها يقال له الكلب بن كُنَيس، فما يجد الحطيئة فيه خيرًا، ولا يرفع به رأسًا، فيهجوه ويهجو أمه معه، وليست نقمته على أمه بأشد منها على نفسه، فإذا ثارت به عاطفة الانتقام لبؤسه وفقره، ولم يجد أحدًا يهجوه، رأى من وجهه وقبح صورته موضوعًا للهجاء فيقول:
وحبه للمال بل بخله به يحمله على هجو ضيوفه هجوًا صادقًا، وقد أوردنا شاهدًا على ذلك.
(٤-٩) مدحه
قد نظلم الحطيئة إذا اقتصرنا على ذكر هجائه ولم نُشِر إلى مدحه، وهو متفنن في هذا تفننه في ذاك، ولا غرو، فالمدح عنده كالهجاء آلة للتكسب؛ فإذا لم يدرُّ له المريُ والإبساس، استعان بالأنياب والأضراس، وإذا أخلف غيثُ الهجاء، استمطر عارض الثناء. ألا وإن من أروع الشعر استعطافه عمر بن الخطاب ومدحه إياه ففيه كثير من الحلاوة والرقة، وكثير من الحنو الأبوي، ومع أن الحطيئة لم يكن على شيء من الإسلام، فتأثير القرآن ظاهر على شعره، سواء في قوله: «فاغفِر، عليك سلامُ الله يا عُمرُ.» أو في قوله: «من يفعل الخير لا يعدم جوازيه.» وكذلك صلة الصوَر المادية بينه وبين أستاذه زهير لم تنقطع في قصيدته هذه، ولا في غيرها، وحسبك منه تشبيهه أولاده بالأفراخ، لمَّا أراد الكلام عليهم، ثم لم يعتمد على الاستعارة المجردة بل رشحها بقوله: «زغب الحواصل» ليزيد صورته الحسية وضوحًا وبروزًا.
وللحطيئة مديح كثير غير هذا أجاده كل الإجادة، ولكننا نقتصر على ما ذكرنا؛ لأننا أخذنا على أنفسنا أن ندرس فيه خاصة الهجاء وحدها، وهي الخاصة التي شهرته وخلَّدت ذكره؛ وعسانا أن نكون وفيناها بعض حقها.
(٤-١٠) منزلته
ووقف الحطيئة على حسان بن ثابت وهو ينشد، فقال له حسان: «كيف تسمع يا أعرابي؟» قال: «ما أسمعُ بأسًا.» قال حسان: «أما تسمعون إلى الأعرابي! ما كنيتك أيها الرجل؟» قال: «أبو مُلَيكة.» قال: «ما كنتَ قط أهون عليَّ منك حين اكتنيت بامرأة، فما اسمك؟» قال: «الحطيئة.» فأطرق حسان ثم قال له: «امضِ بسلام.»
وسئل الحطيئة: مَن أشعر الناس؟ فأخرج لسانه ثم قال: «هذا إذا طمِع.» وقد صدق بقوله، وهو أشهر الشعراء الهجائين الذين كثر عددهم في الإسلام.