النثر في الجاهلية
(١) النثر
والنثر خلاف الشعر يغلب فيه التفكير الصحيح على الخيال المطلق، فلا غرو إذًا أن يتقدم الشعرُ النثرَ؛ لأن الشعب في فطرته خيالي عاطفي أكثر منه عاقلًا مفكرًّا، ونحن في كلامنا على النثر نعني به الإنشاء الفني لا الكَلِمَ الذي تتخاطب به الناس.
وإنه لمن العبث أن نلتمس هذا الفن في الجاهليّة، ونضعه في درسنا إلى جانب الشعر؛ لأن ما وصل إلينا منه زهيد لا يُعتد به، والسبب في ذلك: أن الإنسان الفطري — على أميته — فيه من قوة المخيلة والحس ما يفسح له في مجال التعبير الشفهي عن عواطفه وتصوراته دون أن يحتاج إلى الكتابة، ومعلوم أن الحياة الجاهلية، في حدودها السياسية والاجتماعية، لا تتسع للفن الكتابي الذي إنما هو ينشأ بنشوء الجماعات المنظمة، وينمو بنمو القوى المفكرة، ويعظم بعظم الحاجة إليه.
ورب معترض يقول: إن الكتابة كانت معروفة عند العرب في جاهليتهم. فنحن لا ننكر ذلك، ولكنهم كانوا يعتمدون عليها في حاجاتهم الاقتصادية، لا لتدوين شعرهم أو نثرهم، وإذا كان الشعر الجاهلي وصل إلينا منه شيء غير قليل؛ فلأن العرب في جاهليتهم نظموا أكثر ممَّا نثروا، ولأن الشعر أسهل للحفظ والرواية من النثر.
(٢) ميزة النثر الجاهلي
النثر في الجاهلية موسيقيٌّ كالشعر، تتخلَّله أحيانًا جمل موزونة مسجعة يأتي بها البدويُّ دون تكلف، وأكثر الجمل قصيرة موجزة، فيها قوة وبلاغة تعبير، ويمكننا أن نجد أمثلة للنثر الجاهلي في بعض ما وصل إلينا من الخطب والأمثال، ولكن هذه الأمثلة — على قلتها — لا تكفي وحدها لإبداء رأي صحيح في هذا الفن الأدبي.
(٣) الخطب
لم يكن حظ الخطابة في العصر الجاهلي كحظها في صدر الإسلام، ولكنها وُجدت فيه على قدر ما، واشتهر خطباء مصاقع كقُس بن ساعدة الإيادي، وأكثم بن صيفي التميمي وغيرهما.
وأكثر ما كانت الخطب عندهم قصيرة، لقلة تعدد أغراضها، ولأنها أسهل للحفظ، وكانوا يتخيرون لها الألفاظ المأنوسة، والمعاني الواضحة بغية التأثير والإقناع، وربما تخللها الشعر دون تعمد من الخطيب؛ لأن نثرهم، بما فيه من رنة موسيقية وتقيُّد أحيانًا بالوزن والقافية، يندمج في الشعر من تلقاء نفسه، فيتحوَّل نظمًا ثم يعود إلى حاله، وربما لا يشعر الخطيب بهذا الاندماج لتشابه النثر والشعر عندهم.
على أن هذا التشابه لا يعني أن العرب في جاهليتهم لم يفرقوا بين النظم والنثر. فقد كان للشعراء مكانةٌ، وللخطباء مكانة دونها. فالشعر أحفظ لمفاخر القبيلة وأنسابها، لأنه أسهل للرواية، ولو كان النثر عندهم كالشعر لوصلت إلينا خطبهم في كثرتها، كما وصلت إلينا أشعارهم.
وقد يكون الشاعر خطيبًا، والخطيب شاعرًا، ولكن تغلب عليه إحدى الصفتين فيسمَّى بها، وغالبًا يكون خطيب القبيلة شيخها أو أميرها، وقد يكون قاضيها وقائدها معًا.
وجميع هذه الموضوعات تناسب الحياة البدوية، وما في القبائل من اختلاف وانفصال واستقلال.
(٤) الأمثال
على أنه لو أتيح لنا معرفة الأمثال جاهليها وإسلاميها، لما أعطتنا صورة تامة عن النثر قبل الإسلام؛ لأنها جمل مقتضبة لا تنشئ في ذاتها أدبًا صحيحًا نستطيع التعويل عليه، وإذا كان لا بد لنا من درس النثر الجاهلي على حقيقته فلا ينبغي أن نلتمسه في الجاهلية استنادًا إلى خطبهم وأمثالهم، بل في صدر الإسلام استنادًا إلى خطب النبي والخلفاء الراشدين والأمراء وغيرهم من الصحابة، فإن فيها مثالًا صادقًا للنثر العربي في جاهلية أصحابه.