الشعراء المخضرمون
(١) ميزة الشعر المخضرم
لا نجد فرقًا بين الشعر الجاهلي والشعر المخضرم من حيث الإيجاز وقوة التعبير، وطريقة النظم، وتعدد الموضوعات، وبراعة الوصف … إلى غير ذلك مما مر بنا وعرفناه. فالشعر المخضرم جاهلي في أصله، ولكن فيه خصائص جديدة: منها ما رأيناه في الشعراء الذين عاشوا في السنوات الملاصقة للإسلام أو أدركوه، فبدا لنا تطور في لغتهم، ورقة في ألفاظهم، ووضوح في معانيهم، ومنها ما انفرد به الشعر المخضرم عن الشعر الجاهلي فكان له ميزة خاصة.
ويمتاز الشعر المخضرم بتلك النفحة الدينية التي نفحه بها الإسلام بعد ظهوره، فلا ترى فيه يأسًا من الحياة وتبرمًا بمصيرها شأن الشعر الجاهلي، بل تلمس به ارتياحًا شديدًا إلى نعيم الآخرة، إلى الجنة التي وعد بها القرآن المتقين، واكتسب الشعر المخضرم خصوصًا، واللغة عمومًا، تعابير جديدة من القرآن، وألفاظًا لم تكن مألوفة من قبل، كالجنة والنار، والكفر والإيمان، والصلاة، والزكاة، والركوع، والوضوء إلخ … وهذه الألفاظ كانت معروفة في الجاهلية ولكنها — في أكثرها — لم تكن تدل على معانيها المستحدثة في الإسلام، واكتسب الشعر أيضًا نوعًا جديدًا وهو الهجاء السياسي، هجاءٌ مرٌّ مُقذع أليم، كان بين شعراء النبي، وشعراء قريش والأحزاب.
على أن الشعر أصابه فتور بعد وفاة النبي، فلم يجد من الخلفاء الراشدين مشجعًا، وربما نهوا عنه، وزجروا الشعراء. بَيدَ أن هذا الفتور لا يعني أن الشعر خمدت ناره، فقد بقي في الشعراء طائفة لم تنصرف عنه كالحطيئة مثلًا، وكعب بن زهير، وحسان بن ثابت، والشمَّاخ بن ضِرار، والنابغة الجعدي وغيرهم. إلا أنه لم يكن له ذلك الازدهار الذي عرفه في حياة الرسول.
(٢) شعراء النبي وشعراء قريش
عرفنا أن قريشًا أنكروا على محمد دعوته، وحاربوه نحو ثماني سنوات بعد هجرته، ولم تقتصر الحرب على السيف وحده، بل كان للشعر فيها شأن كبير. فإن شعراء قريش وأحزابها أخذوا يهجون النبي هجاءً مرًّا، ويسفهون رسالته، ويسخرون منها، ويعيرون تابعيه الأنصار والمهاجرين. فاضطر النبي أن يقابلهم بسلاحهم؛ لما للشعر من التأثير في نفوس القبائل العربية، فأرسل عليهم ثلاثة من شعراء الأنصار، وهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رَوَاحة. فكان حسان وكعب يعارضانهم بمثل أقوالهم ويفاخرانهم بالوقائع والأيام والمآثر، ويذكران لهم مثالبهم. أما عبد الله فكان مقتصرًا على تعييرهم الكفر.
وقد استفاد الشعر من هذه الملاحيات فنهض نهضة عظيمة، وغزرت مادته، وكثر القول بكثرة الشعراء، ولا سيما شعراء قريش، وكانت قبلًا لا تُذكَر مع القبائل في الشعر، واشتهر من شعرائها أربعة هاجَوا النبي وقاوموا شعراءه، وهم عبد الله بن الزبَعْرى، وأبو سُفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعمرو بن العاص، وضرار بن الخطاب، ولكن لم يصل إلينا من شعرهم إلا شيءٌ يسير ليس فيه غناء، ولا عجب أن تُطمس أشعارهم وأشعار غيرهم من الذين ناصبوا الرسول العداء، خصوصًا بعد أن أسلمت قريش، وأصبحت جزيرة العرب لا يسودها دين غير الإسلام، لا عجب أن تُطمس هذه الأشعار، فإن فيها ما يثير الحزازات وينبه كوامن الأحقاد؛ وإن فيها من هجاء النبي وأصحابه ما يمنع المسلمين عن روايتها، بل ما يهيب بهم إلى التعفية عليها ومحو آثارها.
ونحن، في بحثنا الشعر المخضرم، سنقتصر على درس حسان بن ثابت أنبه الشعراء الذين دافعوا عن الرسول وأخصبهم آثارًا، وعلى كعب بن زهير للاميته الشهيرة التي اعتذر بها إلى النبي يوم إسلامه.
(٣) الشعراء المخضرمون
(٣-١) كعب بن زهير (٦٦٢م/٤٢ﻫ ؟)
حياته
كعب في الإسلام
لم يحدِّثنا الرواة كثيرًا عن حياة كعب، فنحن لا نكاد نعلم عنها ما يستحق الذكر إلا خبر إسلامه، واعتذاره إلى النبي بقصيدته الشهيرة، وذلك أن بُجَيرًا أخا كعب وفد إلى محمد في أواخر السنة السابعة للهجرة فأسلم، فاستاء كعب من أخيه، وقال فيه أبياتًا يؤنبه ويحثه على الارتداد.
ومدح كعب في قصيدته المهاجرين من قريش، وعرَّض بالأنصار لغلظتهم عليه. فأنكر المهاجرون قوله في الأنصار، وقالوا: «لم تمدحنا إذ هجوتهم.» ولم يقبلوا ذلك حتى قال فيهم:
آثاره
أبيات متفرقة في كتب الأدب. أشهرها لاميته «بانت سعاد» وهي معدودة من المشوبات، وقد شرحها كثيرون، وشطَّرها غير واحد.
ميزته — بانت سعاد
ولنشرع الآن في درس مشوبة كعب التي اعتذر بها إلى الرسول، وقد استهلها متغزلًا واصفًا ثغر حبيبته، شاكيًا هجرها، وإخلافها، ومواعيدها العرقوبية. فترى الصور الحسية تتراكم في أوصافه ويتبع بعضها بعضًا، ولا سيما تشبيه حلاوة الثغر وبرودته بخمرة شُجَّت بماء بارد، ثم إلحافه بوصف هذا الماء ليبالغ في تصوير برودته وصفائه، وانظر إلى قوله: «لكنها خلَّة قد سيط من دمها …» أراد أن يصفها بالكذب والإخلاف والفجع والتبديل، فصوَّر لك هذه الصفات ممزوجة بدمها. ثم انظر إلى قوله: «إلَّا كما تُمسك الماءَ الغرابيل …» فهو لم يجد لديه غير التصوير الحسي لتمثيل نكثها العهود. ثم الحكمة أيضًا وضرب المثل في قوله: «ولا تُمَسَّك بالعهد …، إن الأماني والأحلام تضليلُ …، كانت مواعيدُ عُرقوب …»
وبعد أن ينتهي من هذه الصورة القصصية البارزة الجمال، ينتقل إلى مدح النبي والاعتذار إليه، ومدح المهاجرين من قريش، وفي هذا القسم ترق ألفاظه، ويقل غريبه إلا في وصف الأسد، ولا بدع فإنه مقام استعطاف ولين، والشاعر الجاهلي يجعل لكل مقامٍ مقالًا، فإذا تغزَّل أو استعطف أو رثى رقَّت عاطفته ورقت ألفاظه، وإذا افتخر أو مدح اشتدت عاطفته، فتجزل ألفاظه، ويشتد أسرها، وإذا وصف ناقته والقفار الموحشة والسباع الضارية، خشنت عاطفته، وخشنت ألفاظه معها، وفي هذا القسم تنتهي «مشوبة» كعب.
ونرى أن كعبًا مدح الرسول بأُسلوب جاهلي صرف، دون أن يشير إلى فرض من فروض الدين الإسلامي، أو إلى آية من القرآن؛ ذلك بأنه كان يجهل حقيقة الإسلام يوم نظم قصيدته، وهو لم يُسلم إلا رهبةً وفرقًا. فإذا قابلنا مدحه بالقصيدة التي نُسبت إلى الأعشى في مدح الرسول، تبين لنا الفرق بينهما، وعرفنا الصحيح من المنحول، ولو لم تكن هذه القصيدة قيلت في النبي، واشتهر كعب بها، لما جاز لنا أن نعده من الشعراء المخضرمين؛ لأن النفَس الجاهلي فيه أقوى من النفَس الإسلامي.
وبعدُ، فإن في أبيات المدح ما في غيرها من تأثير المذهب الزهيري، فالصور المادية قوية، ولا سيما تشبيه النبي بالأسد، ثم وصف هذا الأسد وصفًا قصصيًّا عرفناه بزهير، وتظهر لنا حكمة زهير في قوله: «كل ابن أنثى وإن طالت سلامته …» ويظهر لنا إيمان زهير على جاهليته في قوله: «فكل ما قدَّر الرحمنُ مفعولُ …»
وما أجمل التصوير على بداوة المعنى في وصفه هيبة الرسول، وما يستولي من الفزع على الماثل في حضرته، وكأن الشاعر أراد الاعتذار من خوفه فلم يجد غير الفيل الضخم مثالًا للجرأة فقال: لو وقف الفيل موقفي ورأى ما رأيت، وسمع ما سمعت، لظل يُرعَد، فلا لوم علي إذا هبت الرسول فهو أهيَب عندي من أسد في بطن عثَّر، كثير الصيد، شديد الضراوة.
أوَليس في ذلك الاعتذار، وفي ذلك التمثيل سذاجة جاهلية خشنة، ولكنها لطيفة مُستَحَبَّة؟
منزلته
عدَّه ابن سلام في الطبقة الثانية قبل الحطيئة، ولو جاز لنا أن نبني حكمًا صحيحًا على شعره، وليس لدينا منه ما يُعتدُّ به غير مشوبته، لقلنا: إن له من البراعة والتصرف في المعاني ما يضعه في مصاف أفحل الشعراء الجاهليين، وحسبنا أن ننظر إلى تفننه في وصف الماء بعد أن مزج به الخمرة التي عل بها ثغر سعاد، ثم إلى تفننه في وصف حركات المرأة الثكلى بعد أن شبه ذراعي ناقته بذراعيها في السرعة والتقلب، ثم إلى إلحاحه في وصف ضراوة الأسد بعد أن فضل الرسول عليه في الهيبة. حسبنا أن ننظر إلى كلِّ ذلك لنتبين منزلة الشاعر السامية، وبراعته في سَوْق المعاني، والتلاعب بها، والغوص على دررها البعيدة القرار.
وقصارى القول إن كعبًا شاعر بارع الفن، ورسام بديع التصوير، ومخترع واسع المخيلة، وأحد أساتذة المذهب الزهيري.
(٣-٢) حسان بن ثابت الأنصاري (٦٧٠م/٥٠ﻫ ؟)
حياته
هو حسان بن ثابت بن المُنذر بن حَرَام من بني النجار من قبيلة الخزْرَج، ينتهي نسبه إلى قحطان، فهو يمنيُّ الأصل يثربيُّ النشأة، وكان يُكنى أبا الوليد، وأبا عبد الرحمن، وأبا الحُسام، وقد لقي حظوة في الجاهلية عند ملوك غسان فمدحهم واسترفدهم، فأفاضوا عليه النعم، فحفظ لهم الجميل، وبقي يذكرهم بالخير إلى آخر عمره.
ولما ظهر الإسلام، وهاجر النبي إلى يثرب، أسلمت الأوس والخزرج وأسلم حسان معهم فكان في جملة الأنصار.
حسان الجبان
وأنشد حسان النبي يومًا قوله:
فضحك النبي لوصف حسان نفسه بما تصف به الفرسان نفسها وهو يعلم جبنه.
حسان الشاعر
ولئن فات حسان أن يدافع عن نبيه بحسامه، لقد أُتيح له أن يناصره بلسانه، وهو سلاحه الوحيد الذي كان يستطيع أن يشهره على الأعداء. فأصبح شاعر الرسول يمدحه ويرد على من يهجوه من شعراء قريش، وكان النبي يقول له: «اهجهم وروح القدس معك، واستعن بأبي بكر فإنه علَّامة قريش بأنساب العرب.» فكان أبو بكر يدلُّه على معايب القوم ومثالبهم، ويقول له: «كف عن فلانة واذكر فلانة، وكف عن فلان واذكر فلانًا.» فكان يفعل ومحمد يعطيه ويحسن له الجائزة، وقد وهبه سيرين القبطية أُخت ماريةَ أم ولده إبراهيم، فولدت له عبد الرحمن الشاعر، وما زال حسان يعيش من مال المسلمين حتى مات بعد أن كُفَّ بصره في أواخر أيَّامه، وكانت وفاته بالمدينة في خلافة معاوية، وهو من المُعَمرين.
آثاره
ميزته — شاعر الرسول
لحسان شعر جميل في الجاهلية لا يُبخَس حقه، وقد يكون أجود من شعره في الإسلام كما يزعم الأصمعي، ولكن شهرة حسان قامت على أنه شاعر الرسول، فينبغي لنا أن ننصرف إلى درس هذه الميزة التي خُصَّ بها دون غيره لنتبيَّن سرها ونَرُوزُ حصاتها. فإن لشعر حسان منزلة ليست لسواه من شعراء الصدر الأول، فهو في نضاله عن النبي يصور حالة ذلك العصر أصدق تصوير، ويمثل حقيقة تهاجي الأنصار والقرشيين، وما في هذا الهجو من فُحش وإقذاع، فنحن مدينون لشعر حسان في درس هذا النوع الجديد الذي دخل على آدابنا العربية، ولو لم يصل إلينا شعره لما تسنى لنا أن نقف على حقيقة هذا النوع، ونتبين خصائصه بشكل واضح مُبين.
ولسنا نعجب لوصول شعر حسان على ما فيه من هجاء مقذع، فإن الرواة لم يتحرجوا من حفظه وروايته، وكله ذود عن بيضة الدين، ولكنهم تحرجوا وأنفوا من ذكر شعر هُجي به الرسول، ولعلنا نستطيع أن ندرك مبلغ إهمال أشعار القرشيين والتأثم من روايتها في حديث لعبد الله بن الزبَعْري بعد إسلامه، وذلك لما قدم المدينة في صحبة ضِرار بن الخطاب لملاحاة حسان، فقال ابن الزَّبعْري: «يا أبا الوليد، إن شعرك يُحتمل في الإسلام ولا يُحتمل شعرنا، وقد أحببنا أن نُسمِعَك وتُسمعنا.» فإذا كان ابن الزَّبعْري يستنكر رواية شعره بعد أن أسلم، فالرواة أولى بأن يطمسوه ولا يحفظوه.
فنحن إذًا في درسنا شعر حسان نطالع صفحة تاريخية جليلة، ونطلع على فن جديد ألا وهو فن الشعر السياسي الصحيح، ونقول الصحيح؛ لأن العرب في جاهليتهم عرفوا شيئًا منه في منافراتهم ومفاخراتهم، ولكنه كان ضئيلًا ضعيف الأثر، لا يستند في كثرته إلى عقيدة صحيحة، وربما قُصد منه التكسب كما كان يفعل الأعشى والحطيئة.
ومن المعلوم أن المنافرات في الجاهلية كانت تجري بين شخصين أو بين قبيلتين، كما وقع لتغلب وبكر في حضرة عمرو بن هند، ولكن تأثيرها الموضعي لم يكن له من القوة ما يجعل لها هيكلًا قائمًا بنفسه، أو يخلق منها فنًّا مستقلًا عن غيره، وأما الشعر الذي نحن بصدده فهو حرب عوان بل جهاد عنيف بين أنصار الدين القديم وأنصار الدين الجديد شُحذت له القرائح، وانطلقت الألسنة حدادًا، لا للتكسب والاستجداء، بل للدفاع عن سلطتين دينيتين زمنيتين تتنازعان البقاء. فلا غرو أن يترك هذا الجهاد أثرًا قويًّا في الأدب، ويكون فاتحة الشعر السياسي الصحيح الذي نراه مزدهرًا في الصدر الثاني للإسلام. ثم لا غرو أن نجد في هذا الشعر إفحاشًا شديدًا لم نعهده من قبل، فهو وليد عصبية قوية أحدثت في النفوس ميلًا غريبًا إلى النكاية والتشفي، فلم يقصر الشعراء هجوهم على التعيير بالانكسارات، أو على نيل المهجو من منزلته الاجتماعية، بل صاروا إلى أبعد من ذلك مدى، وأبلغ إيلامًا: إلى نهش الأنساب، وتمزيق الأعراض. ففي شعر حسان كثير من الأبيات التي يمنعنا الأدب من روايتها، ولا بد أن يكون مثلها في شعر ابن الزبعري وغيره من شعراء قريش.
هجوه
وكان هجو حسان على مرارته صادقًا لا تكلُّف فيه، لم يندفع الشاعر إليه حبًّا للتكسب والاستجداء، بل ذودًا عن دين يؤمن به وبرسوله، وأملًا بالثواب في الدنيا الباقية. فترى فيه ارتياحًا إلى حُسن المصير لم يكن في عُبَّاد الأوثان من شعراء الجاهلية، بل حمله إليهم الإسلام، فأصبحوا وفي نفوسهم أمل كبير، يجاهدون في سبيل نبيهم ودينه، لا بُغية لهم غير الجنَّة التي وُعِدوا، ونعيمِها «وعند الله في ذاك الجزاءُ.»
وفي هذا الشعر ألفاظ جديدة لم نألفها قبل كقوله: «جبريل أمين الله، وروحُ القدس، وأرسلتُ عبدًا، وشهدتُ به، ورسول الله.» فهذه الألفاظ وغيرها أحدث القرآن معانيها الجديدة في الإسلام.
مدحه
ولحسان في مدح النبي أُسلوب غير الأسلوب الذي عهدناه في الجاهلية، فهو لا يشبِّه محمدًا بالأسد فِعل كعب بن زهير، ولا يمعن في وصف جوده وسخائه كمن يريد الاستجداء والتكسب من ممدوحه، بل يُعني بوصف شمائله الغر، ويُلحُّ في ذكر الرسالة والتصديق بها، وذكر ما حمل الإسلام للعرب من نور وهداية، وأمل بعد يأس؛ ويعرِّض أحيانًا بمن أنكر النبوة وكذَّب بها، فهو مدح جديد في نوعه وطريقته، جديد في تعابيره وألفاظه، جديد في النفحة الدينية العابقة منه. بيد أنه ساذج لا تعدوه الفطرة الجاهلية، ولكنها فطرة صقلها الدين وجلاها الإيمان.
شعره التاريخي
وليست ميزة حسان في شعره مقصورة على خصائصه في المدح والهجاء، بل له خاصة ذات منزلة عالية، وهي خاصة المؤرخ الأمين لحوادث عصره، فإنه يحدِّثنا عن غزوات النبي وأيامها، ويذكر لنا أسماء من قُتل من الصحابة ومن قُتل من المشركين، ويرثي من قُتل بعد النبي من الخلفاء الراشدين. فكأنك — وأنت تقرأ شعره — تطالع نبذة من تاريخ الصدر الأول للإسلام.
حسان بين الجاهلية والإسلام
وحسان في شعره الجاهلي مثله في شعره الإسلامي، لا يتسع له الخيال فيطول نفَسه، فأكثر قصائده قصيرة، وأطولها لا يزيد على الأربعين بيتًا. على أنه في قصائده الجاهلية أوسع خيالًا منه في قصائده الإسلامية، ولعل عنايته بذكر الحوادث التاريخية أثَّرت في مخيلته، أو لعل هذا الضعف ناتج عن كبر السنّ، ولست تجد في شعره تلك التشابيه التمثيلية الخصبة التي عرفتها في أشعار غيره من الجاهليين، فهو إذا وصف شيئًا لا يمعن في وصفه فيتمه، بل ينتقل بسرعة إلى غيره كمن ضاق صدره فطلب التنفس، ولذلك كثر في مطالعه الاقتضاب والقطع بما يشبه التخلص، فما يكاد يستهلُّ قصيدته بالغزل وذكر الديار حتى ينتقل بعد بيتين أو ثلاثة إلى غرضه مدحًا كان أو هجاءً، وأكثر ما يكون انتقاله بقوله: «دع هذا، ودع ذكر ذا»، وأغلب هذا الانتقال المقتضب في شعره الإسلامي.
وقد يكون هذا الضعف الخيالي هو الذي حمل الأصمعي على الزعم أن شعر حسان في الجاهلية أجود منه في الإسلام، وعلل ذلك بقوله: «الشعر نَكْد يقوى في الشر ويسهل، فإذا دخل في الخير ضعف ولان. هذا حسان فحل من فحول الجاهلية فلما جاء الإسلام سقط شعره.» وقيل لحسان: «لانَ شعرُكَ أو هَرِمَ في الإسلام يا أبا الحسام.» فقال: «يا ابن أخي، إن الإسلام يمنع من الكذب وإن الشعر يزينه الكذب.» يريد بذلك أن التجويد في الشعر الإفراط في الوصف والتزيين بغير الحقِّ؛ وذلك كله كذب.
وربما أراد الأصمعي أن يقول أيضًا: إن شعر حسان الإسلامي لَين يكثر فيه الإسفاف. فاللين من خصائص الشاعر الأنصاري، ولا يخلو منه شعره الجاهلي، وأما الإسفاف فيمكننا أن نعود ببعضه على النحل مستندين إلى قول ابن سلام من أن حسان حُمل عليه ما لم يُحمل على أحد، وببَعضه الآخر على الشاعر نفسه لأن كثرة اللين تؤدي إلى الإسفاف.
منزلته
وقال أبو عمرو بن العلاء: «حسان أشعر أهل الحضر.» وقال أبو الفرج الأصفهاني: «حسان فحل من فحول الشعراء.» وقال الحارث بن عَوْف المُرِّي لمحمد: «أجرني من شعر حسان، فوالله لو مُزج به ماءُ البحر لمزجه.» وكان حسان قد هجاه بقوله:
أما نحن فنرى أن حسان في شعره الجاهلي مُجيد، ولكنه لم يبلغ شأو فحولة الشعراء، وفي شعره الإسلامي، مُجيد في بعضه ولا سيما الهجو والفخر، ضعيف في أكثره لا سيما مدحه ورثاؤه للرسول، ولكن فيه من الفوائد التاريخية، ومن جديد الأسلوب ما ليس في شعره الجاهلي. فحسان في الإسلام شاعر مؤرخ، وشاعر مجدد في وقت واحد، وهو في دفاعه عن النبي طليعة الشعراء السياسيين.