الشعراء الإسلاميون
(١) ميزة الشعر الإسلامي
تكاثر عدد الشعراء في هذا العصر لأسباب سياسية واجتماعية سنأتي على ذكرها، فتطور الشعر تطورًا محسوسًا بتأثير هذه الأسباب، وظهرت فيه فنون جديدة كانت ضعيفة في الجاهلية فقويت في الإسلام: كالغزل والشعر السياسي.
على أن تقدمهم في الحضارة أضعف فطرتهم، فخرجوا عن سذاجة البدوي في جاهليته، وظهر على شعرهم ترف العصر ورخاؤه، وأثرُ انتقالهم من الخيام إلى القصور، واختلاطهم بعد الفتوحات بأبناء المدنيات القديمة كالفرس في العراق وفارس، والروم في الشام ومصر.
وقد كثر المدح والتفاخر، والهجاء المقذع في شعر الإسلاميين، لعلاقة هذه الأغراض بالأحزاب السياسية، وكثر الشعراء الغَزلون الذين قصروا همهم على الغزل والتشبيب لتأثير المدنية الجديدة في نفوسهم.
(٢) نهضة الغزل
أما في الإسلام فتطورت الحياة بتأثير القرآن، واختلاط العرب بالشعوب الأعجمية من روم وفرس، فرقت الأمزجة والأذواق، وقويَ الإحساس في النفوس، وكان للأمويين من السلطان في إبان دولتهم ما كبح جِماحَ البدو ومنعهم من الغزو والغارات؛ ففرغ الشاعر إلى نفسه يتفحصها ويتبين خفاياها، وأصبح يلذ له أن يعبر عما يحس فيها من عاطفة أو هوى، وحزن أو سرور. فلم يبقَ الغزل غرضًا تابعًا لغيره من الأغراض الشعرية، أو واسطة يستهل بها الشاعر قصيدته للوصول إلى غايته، بل صار فنًّا مستقلًا بنفسه، له أتباع تخصصوا به ووقفوا عليه شعرهم، ولم يبقَ مقصورًا على الوصف المادي بل أُضيف إليه شيء جديد ينبعث من الروح، وهو وصف العواطف والأهواء، وما يتصل بها من التأثرات النفسية.
على أن هذا الفن بقي محصورًا في الجزيرة العربية لبعدها من سياسة الأحزاب في الشام والعراق. أما الشعراء الذين اتصلوا بالبلاط الأموي، وغيرهم من شعراء الأحزاب، فلم ينصرفوا إلى إتقان هذا الفن بل لبثوا يقلدون فيه من تقدمهم، ويوطئون به أغراضهم من مدح أو هجاء، وقَل من نظم منهم شعرًا غزليًّا صرفًا.
ولكن هؤلاء المتيمين ليس لهم خصائص متميزة في أشعارهم، فقد تغزلوا كلهم بأُسلوب واحد، وتواطأوا على المعاني والألفاظ في بث لواعجهم ووصف خليلاتهم؛ واختلطت أقوالهم بعضها ببعض، فأصبح يضاف إلى جميل ما يضاف إلى قيس بن ذَريح، ويضاف إلى المجنون ما يضاف إليهما، ويضاف إليهما ما يضاف إلى المجنون، واختُرعت أخبار عنهم تناسب هذه الأشعار، فيها كثير من الغلوِّ والتناقض، ولكنها تلتقي جميعًا في موقف واحد، وهو أن الشاعر أحبَّ فتاة فشبَّب بها، ثم خطبها إلى أهلها فردُّوه مخافة التعيير؛ لاشتهار حبِّه لها وقوله فيها، ولم يستطع الوصول إليها لعفة نفسه وعفة نفسها، ولكنه كان يجتمع بها سرًّا، فعرف أهلها بحبهما، فاستَعْدوا عليه السلطان، فأهدر دمه، ففرَّ هائمًا على وجهه يقطع القفار وينشد الأشعار، حتى يأتيه الموت فينقذه من عذابه.
وأما الغزل الحضري فقد غلب عليه الرخاءُ والترف، والعَبث والتهتك؛ فصور شعراؤه حياتهم الناعمة أدق تصوير، وتفننوا في أساليبهم فأبدعوا، ولا سيما أسلوب الغزل القصصي، وكانت مواطنهم مكة والمدينة؛ وفيهما القرشيون والأنصار.
وخشي الخلفاء الأمويون أن يشتغل هؤلاء الأشراف بالسياسة فتطمح أنظارهم إلى الخلافة — وكلهم له الحق بها — فأجبروهم أن لا يبرحوا الحجاز إلا بإذن منهم، ولكنهم أسبغوا عليهم النِّعم الكثيرة، وفرضوا لهم الأرزاق الواسعة من بيت المال؛ فالتهوا عن طلب الملك، وانصرفوا إلى العبث والمجون؛ فأصبحت مكة والمدينة موطنين للذَة واللهو والقصف، وشاع فيهما فن الغناء، فكان الشعراء الغزلون ينظمون، ويتغنَّى بأشعارهم القيان والمغنون، وكان لهؤلاء الشعراء منزلة ليست لغيرهم، يرفعهم إليها كرم محتِدهم، فلم يتورعوا من التشبيب بنساء الخلفاء والأمراء، وسُرَّ أُولئك النسوة بأقوالهم، فكنَّ يتعرَّضن لهم ليشببوا بهنَّ، ولطالما شفعن لهم إذا غضب الخليفة على أحدهم وأراد عقابه.
فيتضح من ذلك أن الشاعر الحضري لم يقتصر في تشبيبه على امرأة واحدة كالشاعر البدوي، بل كان موكلًا بالجمال يتبعه أين رآه. وأشهر هؤلاء الشعراء الغزلين: عُمَر بن أبي ربيعة والعَرْجي القرشِيَّان، والأحْوَص بن محمد الأنصاري. فأما وقد عرفنا كيف نهض الغزل في الصدر الثاني للإسلام فينبغي لنا أن نتخذ مثالًا لدرسه شاعرين مشهورين، وهما جميل بن مَعْمَر حامل لوائه البدوي، وعمر بن أبي ربيعة رافع عرش حضارته، ولنبدأ بجميل.
(٣) جميل بن معمر (توفي ٧٠١م/٨٢ﻫ)
(٣-١) حياته
ثم صارت بثينة شابة، وصار جميل شابًّا، فازداد بها هيامًا وطفق ينسب بها حتى اشتهر أمره. فخطبها إلى أهلها فردوه مخافة أن يعيرهم الناس لقوله فيها وشيوع حبه لها، وزَوَّجوها رجلًا اسمه نُبَيه.
وكان عند بُثينة مثل ما عند جميل؛ فأخذا يجتمعان على موعد عند غفلات الرجال، فعرف قومها فجمعوا له جمعًا، وترصدوه ذات ليلة ليقتلوه فحذرته بثينة، فاستخفى. ثم هجا قومها فاستعدوا عليه مَرْوان بن الحَكَم، وهو على المدينة من قِبَل معاوية، فأهدر دمه أو نذر ليقطعنَّ لسانه، فهرب إلى اليمن وفي ذلك يقول:
فأقام هناك إلى أن عُزل مروان، فرجع إلى بلده.
وانتجع أهل بثينة الشام فرحل جميل إليهم، فشكوه إلى عشيرته فعنفه أهله وهددوه، فانقطع عنها. ثم لجأ إلى مصر وعليها عبد العزيز بن مروان فأحسن وفادته، ولكنه لم يلبث أن مرض مَرضةً فمات بها.
قيل لما حضرت جميلًا الوفاة دعا برجل، وقال له: «هل لك أن أُعطيك كل ما أخلفه على أن تفعل شيئًا أعهد به إليك؟» قال: «نعم.» قال: «إذا متُّ فخذ حلتي هذه واعزلها جانبًا، وكل شيء سواها لك؛ وارحل إلى رهط بثينة على ناقتي هذه، والبس حلَّتي هذه إذا وصلت، واشققها، ثم اعْلُ على شَرَفٍ، وصِحْ بهذه الأبيات:
وقال عبَاس بن سَهْل الساعديُّ: «لَقِيَني رجل من أصحابي فقال: «هل لك في جميل، فإنه يعتلُّ، نعوده؟» فدخلنا عليه وهو يجود بنفسه، فنظر إليَّ وقال: «يا ابن سَهل، ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط، ولم يزنِ، ولم يقتل النفس، ولم يسرق، يشهد أن لا إله إلا الله؟» قلتُ: «أظنه قد نجا، وأرجو له الجنة؛ فمن هذا الرجل؟» قال: «أنا.» قلتُ: «ما أحسبُك سلمت وأنت تُشبب ببثينة منذ عشرين سنة.» قال: «لا نالتني شفاعة محمد إن كنتُ وضعت يدي عليها لريبة.»
(٣-٢) أخبار جميل
لصاحب بثينة أخبار كثيرة يتألف منها قصة فكهة لمن أراد التسلية دون أن يشغل فكره بالدرس والانتقاد، ولكن إذا رماها بنظر الناقد بدا له ما فيها من سخف وغُلُّوٍ وتناقض، مما يدلُّ على أن واضعها قليل الحظ من فن التأليف. فهو يروي لنا مرة خبرًا يصور فيه جميلًا مثالًا للعفة، كما نعهده في شعره، ثم يشفعه بخبر آخر يشوه هذه العفة ويفسدها، ويحدثنا مرة أُخرى عن وفاء جميل حديثًا لذيذًا، ولكنه لا يلبث أن ينقضه بغيره فيرينا هذا العاشق غادرًا لئيمًا، وهكذا يصح القول في شجاعة جميل وجبنه.
وبَيِّنٌ أن هذه المناقضات تعود بأجمعها على تعدد رواة القصة ووُضَّاعها. فإنهم لم يقصدوا منها خدمة الحقيقة والتاريخ، بل مفاكهة الناس في ذلك العصر الأموي الذي كثر الترف واللهو، فكان أحبُّ شيء إلى قومه استماع أخبار العشاق المتيمين.
ونحن في درسنا جميلًا نعتمد على شعره، لا على تلك الأقاصيص المتفرقة التي ليس لأكثرها قيمة تاريخية، وليس لها نفع لولا حسن إنشائها، وأما شعره فيمكننا أن نتمثل فيه حالة جميل وغير جميل من أولئك الشعراء الغزلين الذين عطَّروا البادية بأنفاسهم في الصدر الثاني للإسلام.
(٣-٣) آثاره
(٣-٤) ميزته — الغزل البدوي
جلال البداوة وسذاجتها، ورقة العاطفة ولوعتها، ورصانة العبارة وقوتها: شيء يتألف منه شعر جميل.
عفاف النفس وقناعتها، وصدق المودة ووفاؤها: هذا هو حب جميل.
وما جميل إلا زعيم الشعراء المتيمين، وأُستاذ الغزل البدوي في نهضته الإسلامية، فإذا أنت قرأته تعلم مبلغ تطور الشعر الغزلي على عهد بني أُمية، وتميز الفرق بينه وبين الغزل في الجاهلية، ثم ترى تلك اللوعة الصادقة، وذلك الحب العفيف.
فهذا الغزل يختلف عن غزل امرئ القيس وطرفة وزهير وغيرهم من الجاهليين؛ إذ لا يقتصر على التشبيب بمحاسن المرأة، بل يضيف إليه شيئًا روحيًّا يُعنى بنفس الشاعر وعواطفه، وربما كانت عناية الشاعر الإسلامي بنفسه أكثر من عنايته بوصف محبوبته. فجميل لا يكاد يذكر بثينة، ويلمُّ بشيء من أوصافها حتى ينصرف إلى نفسه، فيبث شكايته وما يلاقيه من ألم البعد، ثم يشرح هواه الذي يرافقه إلى ما بعد الموت «يتبع صداي صداكِ بين الأقبر.» ثم يتقاضى ديونه ويلح في طلبها، ولكنه يقنط أخيرًا من وفائها فيقول:
وهو، في شكايته وشرح هواه وتقاضيه ديونه، ملتاع صادق اللوعة لا يتكلف الحب تكلفًا؛ وعف اللسان والضمير، لا تخرج من فمه كلمة تخدش جبين الأدب.
وما أجمل الالتفات في شعره من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، وما أشد وقعه في النفس، فإنه في كل التفاتة ينبه السامع، ويبعث فيه نشاطًا جديدًا للإصغاء إليه.
وقد تجد في غزله شيئًا من الغُلو ولكنه بريء ساذج، تَدافَعُ به اللوعة من جميع جهاته، فلا تنكره عليه، ولا تحس فيه تكلفًا أو إغرابًا، بل يلذ لك أن تسمعه يقول:
أفليس من الغلو الساذج أن ترى الشاعر يجود بيمينه غير آسف عليها، ثم لا يجد ذلك كافيًا لإظهار حبه إذا لم يشفعه ببذل ماله فيقول: «سلينيَ مالي يا بُثَين …»
وهو على تهالكه في حبها شجاع باسل يهدد قومها: «فليت الرجال الموعدين لقوني.» وفخور معجب بنفسه: «يقولون: من هذا؟ وقد عرفوني.» وأنفِ يأبَى الضيم ولو كان الحبيب الفاعل:
ولكنه، وإن صرمت حباله، لا يرضى بها بديلًا، ولا يسمع قول العواذل فيها، فيردُّ تلك التي عرضت عليه نفسها ردًّا لطيفًا؛ لأن حب بثينة لم يترك في صدره فراغًا لغيرها، ويشكو إلى بثينة ما يعاني من حبها، وما تصنع العواذل للتفريق بينهما، ولله أبوه ما أبلغ الألم وحب التشفي من عواذله في قوله: «وودت لو يعضُضن صُمَّ جنادل.» بل ما أشد وفاءه في قوله: «وإذا هَوِيتُ فما هوايَ بزائل.» وما أعظم قناعته وصدق ولائه حيث يقول:
ألا وإن قناعة جميل، ورضاه من بثينة بالشيء الزهيد، يتمثلان في ثلاثة أبيات له إذ يقول:
ولعل هذه الأبيات لا تمثل القناعة مجردة، بل تمثل معها ذلك الحب العفيف الذي اشتهر به عُشَّاق بني عُذرة وفي طليعتهم جميل.
(٣-٥) منزلته
قال عبد الرحمن بن أزهر: «جميل أشعر أهل الإسلام.» وقال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري: «جميل أشعر أهلِ الجاهلية والإسلام، والله ما لأحدٍ منهم مثل هجائه ولا نسيبه.» وقال محمد بن سلام: «كان لكثيِّر حظ وافر، وجميل مقدمٌ عليه، وعلى أصحاب النسيب في النسيب، وكان جميل صادق الصبابة والعشق، ولم يكن كُثيِّر بعاشق ولكنه كان يتقوَّل.»
ورأي ابن سلام هو المعوَّل عليه، فإن جميلًا، في صدق مودته وخلوص وفائه، يتقدم الشعراء الغزلين على الإطلاق، وهو في عفة نفسه وشرف عاطفته يقود شراذم الشعراء العذريين إلى جهاد الحب العفيف.
(٤) عمر بن أبي ربيعة (٦٤٤–٧١١م/٢٣–٩٣ﻫ)
(٤-١) حياته
(٤-٢) أخباره مع الحِسان
ولكنه لم يذكرها باسمها فَرَقًا من عبد الملك بن مروان ومن الحجاج. وجرى له مثل ذلك مع عائشة بنت طَلحة بن عبيد الله، وهي قرشية من بني تَيم بن مُرة؛ فقد رآها وهو يطوف بالبيت، وكانت من أجمل أهل دهرها، فبُهت لمرآها، ورأته وعلمت أنها وقعت في نفسه، فبعثت إليه جارية لها وقالت: «قولي له: اتقِ الله ولا تقُل هُجرًا، فإن هذا المقام لا بد فيه مما رأيت.» فقال للجارية: «أقرئيها السلام، وقولي لها ابن عمك لا يقول إلا خيرًا.» وقال فيها:
ثم شبب بها كثيرًا؛ فبلغ ذلك فتيان بني تَيم، أبلغهم إياه فتى منهم وقال لهم: «يا بني تَيم بن مرة! لَيَقذِفَنَّ بنو مخزوم بناتنا بالعظائم!» فمشى ولَدُ أبي بكر، وولدُ طلحة بن عبيد الله إلى عمر بن أبي ربيعة فأعلموه بذلك، وأخبروه بما بلغهم؛ فقال لهم: «والله لا أذكرها في شعر أبدًا.» ثم أخذ يكنِّي عن اسمها في قصائده ويتلطف في تبليغها ما يريد على أعواد المغنين.
(٤-٣) حبُّه
لم يقف ابن أبي ربيعة حبَّه على امرأة واحدة كما وقف جميل حبه على بُثينة، بل كان تِبع نساءٍ يتنقَّل كالطائر من فننٍ إلى فنن، أو كالنحلة من زهرة إلى زهرة، ولكنه على تنقله كان صادقًا في حبِّه؛ لأنه إنما كان يهوى الجمال، فما رأى مليحة إلا أحبها واستُطير إليها فؤاده، فهو صادق في حُبِّه للجمال، كاذب في إخلاصه للمرأة التي يحبها، ولعل أبلغ تعريف لحب ابن أبي ربيعة حديثه لمُصعَب بن عُروَة بن الزُّبَير وأخيه عُثمان، وكان قد أسن وجف عوده، فبصر بهما يطوفان بالبيت وهما فَتَيان، فأقبل عليهما وقال: «يا ابْنَيْ أخي، لقد كنتُ موكَّلًا بالجمال أتَّبعه، وإني رأيتُكما فراقني حُسنُكما وجمالكما، فاستمتعا بشبابكما قبل أن تندما عليه.»
وكان عمر ناعمًا في حبه تهواه النساء لجماله وشاعريته وجاهه، فلم يزره الصدود إلا غرارًا، وتجد أثر هذه النعمة مطبوعًا على شعره، وإذا رأيت فيه شيئًا من التألم والشكوى فإنما هو ناتج عن فراق حسناء لمحها في الطواف فاتبعها فأفلتت من يده، أو عن هجران موقوت سببته غيرة المرأة عليه لتنقله في الحب وعدم إخلاصه.
(٤-٤) زواجه
وفي جوان يقول العَرجي:
فجاء جُوانٌ إلى العَرجي فقال له: «يا هذا، ما لي وما لك، تشهِّرني في شعرك؟ متى أشهدتني على صاحبتك هذه؟ ومتى كنتُ أنا أشهدُ في مثل هذا!»
(٤-٥) توبته
وانصرف عمر إلى منزله يحدِّث نفسه، فجعلت جارية له تكلمه فلا يرد عليها جوابًا؛ فقالت له: «إن لك لأمرًا وأراك تريد أن تقول شعرًا.» فقال تسعة أبيات:
ثم دعا تسعة من رقيقه فأعتقهم لكل بيت واحدًا برًّا بحلفه.
وأخبار ابن أبي ربيِعة بعد توبته قليلة لم يُعنَ بها الرواة عنايتهم بأخبار فتكه.
(٤-٦) موته
فقضى حوائجها وانصرفت بما أرادت منه، فلما خلا الوليد بأُم البنين قال لها: «لله در الثريا! أتدرين ما أرادت بإنشادها ما أنشدتني من شعر عمر؟» قالت: «لا.» قال: «لما عَرَّضْتُ لها به عرَّضَتْ لي بأنَّ أُمي أعرابية.» وأُم الوليد وسليمان ولادة بنت العباس من بني عبس.»
فيتبين لنا من كل ذلك أن موت ابن أبي ربيعة مجهول السبب؛ لعدم اهتمام الرواة بأخبار الشاعر بعد توبته، ولكنهم كادوا يُجمعون على أنه توفي وقد قارب السبعين أو جاوزها.
(٤-٧) آثاره
ديوان شعر كله في الغزل والنسيب، وأخبار كثيرة متفرقة في كتب الأدب، جمع منها صاحب الأغاني طائفة حسنة في أكثر من ١٨٠ صفحة، وأشهر شعره «رائيته» التي مطلعها:
(٤-٨) ميزته — الغزل الحضري
عرفت ميزة الغزل الحضري في كلامنا على نهضة هذا الفن، وعرفت أن زعيمه عمر بن أبي ربيعة المخزومي؛ وقد استحق صاحبنا هذا اللَّقب لعدة أسباب، منها أنه أول شاعر قصر همَّه على الغزل دون غيره ونظم فيه القصائد الطوال؛ وأول شاعر وسَّع نطاقه القصصي، وأدخل فيه الحوار التمثيلي اللذيذ؛ وأول شاعر أجاد تصوير عواطف المرأة، واختلاجات نفسها، واختلاف حركاتها، وهو في دعابته ومجونه يصور الحياة الاجتماعية في حواضر الحجاز، وفي تشبيبه وقصصه يمثل لنا ترف المرأة المتحضرة في القرن الأول للهجرة وسرفها في اللهو، ولغتها الحبِّية في التخاطب مع الرجل، وفي رقَّته ولينه يرينا صفة الشعر في القرى خصوصًا، وميزته بعد تطوره عمومًا. فشعر ابن أبي ربيعة مرآة لنفسه اللطيفة المتهالكة على الجمال؛ ومرآة لما في عصره من لهو ومجون. فإذا أردت أن تعلم حالة الحجاز المتحضر في الصدر الثاني فعليك بشعر عمر فإن فيه البلاغ المبين.
وإذا كان ابن أبي ربيعة زعيم الغزل الحضري كما كان جميل زعيم الغزل البدوي، فإن مذهب عمر كان أشد تأثيرًا في أبناء عصره من مذهب الشاعر العُذري، فاستهوى الشباب الحجازي المترف، وتلمذوا له، فأخرج منهم أساتذة كبارًا ولكنهم دون زعيمهم، كالعَرْجي والأحوَص والحارث بن خالد المخزومي وغيرهم، واستهوى النساء أيضًا، فكان من أشد الأخطار على العفاف.
وقد قام هذا المذهب على ركنين من الغزل: أحدهما التشبيب، والآخر الحوار والقصص، وفي كليهما أجاد ابن أبي ربيعة؛ ولا سيما فن القصص فقد أبدع فيه ما شاء له الإبداع.
وابن أبي ربيعة في غزله ناعم فرح، مبتسم لعوب، إذا بكى فنادرًا، وربما كان بكاؤه رُقْيَةً وعبثًا، ولماذا يبكي …؟ وكل ما يحيط به ضاحك له: شباب وجمال، وثروة وجاه؛ وخليل يبادله المودة والولاء …!
فلا تعجب له إذا رأيته يشبب أحيانًا بنفسه أكثر من تشبيبه بصاحبته، فهو جميل معجب بالجمال، يحبه في وجهه كما يحبه في وجه غيره، وقد انتقد عليه ذلك بعضُ معاصريه فلم يظفروا منه بطائل، ولا استطاعوا أن يردوه عن غروره؛ لأنه في وصفه نفسه لا يتكلَّف تصنعًا، بل يتكلم بحسه.
وقد تعابثه النساء في الحرَم فيصد عنهن، فيُطاردْنَه ليُفسِدْن عليه طوافه. فإذا هو قنَصٌ لهن، وإذا هُن يتبعْنَه بدلًا من أن يتبعَهُنَّ، فيريك نفسه قِبْلة أنظار الحسان يتجنى عليهن، وهن يسعَيْنَ في أثره. على أنك إذا أردت أن تستوعب خصائص عمر من تشبيب، وقصص، وتتبين خفة روحه وظرفه، وما كان يجري بينه وبين صواحبه من حوار يطلعك على حديث النساء الحجازيات، وعلى طرف من أخلاقهن ومعاشراتهن، فلا غُنْية لك عن درس رائيته الشهيرة فهي خير شعره، وبها اعترف له جرير بالشاعرية.
(٤-٩) رائية عمر
يستهل الشاعر قصيدته بذكر صاحبته نُعْم ويكثر من تكرار اسمها تلذُّذًا:
ونراه يحاذر زيارتها خشية التشهير، ولكنه لا يلبث أن يشهِّر نفسه شيئًا فشيئًا، فيذكر أولًا حوارًا جرى بين نُعْم وأُخت لها، وقد رأتاه متغيرًا لوَّحت وجهه الأسفار، فأنكرته نُعم، وعرفته أُختها. فلا تغفل عن هذا الحوار الذي يمثل لنا شيئًا من محاورات النساء عندما يبصرن رجلًا يعرفنه، ولكن تغيرت هيئته فاشتبهت عليهن معرفته. ثم ينتقل إلى ذكر زيارته لها، فيزيد نفسه تشهيرًا على تشهير، ويروي لنا خبر هذه الزيارة الليلية بأُسلوب قصصي شائق اختص به ابن أبي ربيعة ففاق أقرانه.
ويختم هذه القصيدة البديعة واصفًا ناقته الصلبة القوية، وانطلاقه بها طلبًا للماء في القفار الخالية، وليس في هذا القسم ما يعنينا درسه؛ لأن خاصة ابن أبي ربيعة محصورة في غزله، بل في قصصه الغرامي الذي يريك في الأدب العربي شيئًا جديدًا، وفي ذلك الحوار اللذيذ الذي يدور بين النساء من ناحية، وبينه وبينهن من ناحية أخرى، حتى ليخيل إليك أنك تقرأ في شعره قطعة تمثيلية تكاد تكون تامة، ومثل هذا الأسلوب القصصي كثير في شعر عمر، وعليه قامت شهرته؛ لأن التشبيب وحده لا يجعل منه شاعرًا متفردًا ممتازًا. فالشعراء الغزلون في الإسلام أجادوا جميعًا وصف الحبيبة، ووصف العواطف والأهواء، ولكن لم يقم فيهم واحد يستطيع أن يجاري عمر في قصصه الغرامي ومخاطبته النساء، وتصوير حركاتهن وإشاراتهن، ونزعات نفوسهن.
ولا بد أن تتذكر امرأ القيس، وأنت تقرأ رائية فتى قريش؛ لأن الصلة قوية بين الشاعرين، فكلاهما يتعهر في غزله، وكلاهما يتجشم الأخطار للوصول إلى من يحب، وكلاهما يباغت حبيبته بالزيارة فتخاف وتلومه، وكلاهما يدركه الصباح عندها فيتهيَّأ لملاقاة الحي مستميتًا، ولكن امرأ القيس يمتنع بسيفه وسهامه، ويسخر بزوج صاحبته ويستهين به، وأما ابن أبي ربيعة فيعمد إلى الاستخفاء وكان مِجَنَّهُ … ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر.
على أن هذه الصلة بين الشاعرين لا تجيز لنا القول إن عمر جاء مقلِّدًا أمير الشعراء في قصصه الغرامي، فإنما هو جاء مجددًا ومحسِّنًا له، والقصص في غزل الشاعر القُرشي أتمَّ منه في غزل امرئ القيس فهو صفة لازمة لشعر ابن أبي ربيعة، وليس بصفة لازمة لشعر امرئ القيس، ومن العدل أن نسمي هذا الفن: «أسلوب ابن أبي ربيعة» لأنه احتكره احتكارًا، وإن يكن شاعر كندة قد سبقه إليه.
ورائيته الحسناء تزف إليك ما في هذا الأسلوب من روعة وجمال، فتطلعك على تلطفه في الوصول إلى حاجته، وانتظاره رقدة الحي وسكون الصوت، وغيوب القمر، ثم تنفيضه النوم عن عينيه، وانسيابه كالحباب أزوَر الركن من الخوف والحذر، وتريك ما جرى بينه وبين نُعم من حوار لذيذ تزيِّنه تعابير قُرشية لطيفة كأنها في نعومتها وُجِدت لتكون لغة السيدات: «أريتَكَ إذ هُنَّا عليك، ألم تخف، وُقيتَ …، كَلاك بحفظٍ ربك المتكبر …»
ولم يغفل ابن أبي ربيعة في هذه الزيارة عن التشبيب بنفسه، وكيف يغفل عنها؟ وهو معجب بجماله إعجابه بحمال صاحبته. فإذا هو يُسمعنا نُعمًا تقول له:
وما أجمل الانتقال من الغيبة إلى الخطاب في قوله:
وهي لم تنتقل هذا الانتقال الجميل إلا لتضرب له موعدًا جديدًا.
وانظر إلى ظُرف القرشيات في توبيخهن الشاعر بعد أن كُن له مِجَنًّا: «أهذا دأبك الدهر سادرًا …؟ أما تستحي أم ترعوي أم تفكِّر …؟» ثم إلى قولهن له بعد هذا التوبيخ:
ألا وإن في هذه الوصيَّة دهاء نسائيًّا، ولكنه دهاء محبوب.
(٤-١٠) منزلته
قيل كانت العرب تُقرُّ لقريش بالتقدم في كل شيء عليها إلا في الشعر، فإنها كانت لا تقر لها به، حتى كان عمر بن أبي ربيعة، فأقرَّت لها الشعراء بالشعر أيضًا ولم تنازعها شيئًا.
فقال: «ليس هكذا قال.» وأنشده البيت على صحته، ثم أنشده القصيدة برمتها، وكان قوي الحافظة، فلامه بعض أصحابه في حفظه إياها، فقال: «إنا نستجيدها.» وكان يسأل كثيرًا عن عمر فيقول: «هل أحدث هذا المغيري شيئًا بعدنا؟»
فيتبين من هذه الأقوال ما للشاعر القرشي من منزلة رفيعة في الغزل، فقد أجمعوا على أنه أغزل الشعراء، وأدخلهم شعرًا في النفس، وأسحرهم للنساء، وإذا نظرنا إلى قول جرير فيه نعلم أن شعره لم يقف على حالة واحدة، بل تطور كثيرًا حتى بلغ مرتبته من الحسن والجودة، ويظهر لنا ذلك جليًّا في درسه، فإننا نجد فيه قسمًا ضعيفًا بيَّن الإسفاف واللين، ثم نجد قسمًا رشيقًا حلو الألفاظ سهلًا على غير ضعف كأنه وضع للغناء؛ ثم نجد قسمًا آخر شديد الأسر حسن الديباجة؛ وهو الشعر الذي استهوى كبار الشعراء كالفرزدق وجرير.
وإذا نظرنا إلى قول الفرزدق وجميل بدا لنا أن ابن أبي ربيعة لم يصل إلى منزلته الأدبية العالية إلا بشعره القصصي، فقد رأى فيه الناس شيئًا جديدًا ليس في غيره، ولا سيما مخاطبته النساء، فافتتنوا به وراقهم أُسلوبه، ونستطيع أن نعلم من أقوال المقوَّم الأنصاري وعبد الله بن مُصْعَب الزَّبيري وهشام بن عُروة ما كان لهذا الشعر من التأثير في نفوس النساء حتى أصبحوا يخافون عليهن منه، ويمنعونهن من حفظه وروايته. فقد كان شعر ابن أبي ربيعة، وهو الفستق المقشر، كما وصفه حمَّاد، خطرًا على النساء لما فيه من تشبيب بليغ وقصص غرامي شائق، ولكنه بَوَّأ صاحبه أرفع رتبة في هذا الفن، فجعله شاعر قريش وفتاها، وأُستاذ الغزل الحضري، وزعيم الغزلين على الإطلاق.