حياة حقيقية
دخلَ رجلٌ حياة دوري بيك ووقع في حُبِّها، على الأقل كانت لديه رغبة في الزواج منها، وكانت رغبته حقيقية.
قالت ميليسينت: «لو كان أخوها على قيد الحياة، لَمَا كانت بحاجةٍ إلى الزواج.» ما الذي كانت تَعْنِيه؟ ليس شيئًا مخزيًا. وهي لم تكن تُلمِّح إلى المال أيضًا؛ كانت تعني أن الحب موجود، وأن الحنان يفضي إلى الراحة، وفي الحياة البائسة العقيمة نوعًا ما التي عاشَتْها دوري وألبرت معًا، لم تكن الوحدة خطرًا يتهدَّدهما. ميليسينت التي كانت واسعةَ الحيلة وعمليةً في بعض النواحي، كانت أيضًا عاطفية جدًّا في نواحٍ أخرى، فقد كانت تؤمن دومًا بعذوبة المودَّة التي تحلُّ محلَّ العلاقة الحميمة.
ظنَّتْ أن الطريقة التي كانت تستخدم بها دوري الشوكة والسكين هي التي أسرت لبَّ زوجِها. كانت نفس طريقة استخدامه لهما. أمسكت دوري الشوكة بيدها اليسرى، واستخدمت اليمنى فقط لقطع الطعام، ولم تكن تنقل الشوكة باستمرارٍ إلى يدها اليمنى لتلتقط بها الطعام؛ ذلك لأنها التحقت في شبابها بكلية «ويتبي ليديز»، قبل أن يتدهور الوضع المالي لعائلة بيك. ومن بين الأمور التي تعلَّمتها هناك أيضًا الكتابةُ بخطٍّ يدوي بديع، ولعلَّ جمال خطها كان عاملًا مساعدًا أيضًا؛ لأنه بعد اللقاء الأول لهما، بَدَا أن التودُّد بينهما أصبح بالمراسلة. راقَ لميليسينت وَقْعُ اسم كلية «ويتبي ليديز»، وكانت تخطِّط — دون أن تُشْرِك أحدًا في خطتها — لأنْ تُلحِق ابنتها بها يومًا ما.
لم تكن ميليسينت نفسها أُميَّةً؛ فقد عملت في مجال التدريس بإحدى المدارس، وسبق أن رفضت تودُّدَ صديقين جادَّيْن لها؛ الأول لأنها لم تكن تطيق والدته، وأما الثاني فلأنه حاوَلَ أن يزجَّ بلسانه في فمها — قبل أن توافق على الزواج من بورتر الذي كان يكبرها بتسعة عشر عامًا. كان يملك ثلاث مزارع، ووعدها بأن يقيم لها حمَّامًا في غضون عام، إضافة إلى غرفة طعام ضخمة ورحبة وأريكة ومقاعد، وليلة زفافهما قال لها: «عليكِ الآن أن تتقبَّلي ما يخبِّئه لكِ القَدَر!» لكنها كانت تعلم أن نيته لم تكن سيئة. كان ذلك عام ١٩٣٣.
سرعان ما أنجبت ثلاثة أطفال، وبعد الطفل الثالث، أُصِيبت ببعض المتاعب. كان بورتر محترمًا، وبعد المتاعب التي عانَتْها عادةً ما كان يتركها بمفردها.
كان بَيْتُ بيك مشيدًا على أرض آل بورتر، لكن بورتر لم يكن هو الذي اشترى حصة آل بيك، اشترى بورتر بيت ألبرت ودوري من الرجل الذي اشتراه منهما؛ ولذا، فقد كانا فعليًّا يستأجران بيتهما القديم من بورتر، لكن المال لم يكن في المشهد. عندما كان ألبرت على قيد الحياة، كان يحضر ويعمل ليوم واحد كلما تطلَّبَ الأمرُ الاضطلاعَ ببعض الأعمال الضرورية — عندما كانوا يصبُّون الأرضية الخرسانية في الحظيرة، أو يضعون القشَّ في مخزن التبن. كانت دوري تزورهم في تلك المناسبات، وكذلك عندما رُزِقت ميليسينت بطفل جديد، أو عندما كانت تضطلع بتنظيف البيت. كانت تتمتَّع بقوةٍ خارقة تُعِينها على جرِّ الأثاث في أنحاء المكان، وكان بمقدورها أن تضطلع بمهام الرجال كتركيب النوافذ المقاوِمة للعواصف. عندما كانت تشرع في إحدى المهام الشاقة التي تضطلع بها — كنزع ورق الحائط عن جدران غرفة كاملة — كانت تُرخِي كتفيها للوراء وتأخذ نفسًا عميقًا في سعادة غامرة. كانت قوة الإرادة عنوانها، فهي امرأة ضخمة البنية، قوية البنيان، ضخمة الساقين، كستنائية الشعر، عريضة الوجه، ولو أن وجهها لم يَخْلُ من بُقَع داكنة مخملية الملمس. ثمة رجلٌ في الجوار سمَّى فرسَه على اسمها.
على الرغم من المتعة التي كانت تجدها دوري في تنظيف المنزل، لم تكن تمارِس أغلب تلك الأعمال في بيتها؛ فقد كان البيت الذي عاشت فيه هي وألبرت — البيت الذي تعيش فيه وحدها بعد وفاته — كبيرًا ومجهَّزًا تجهيزًا رائعًا، لكنه خلا تقريبًا من الأثاث. كثيرًا ما كان الأثاث يأتي على لسان دوري — البوفيه المصنوع من البلوط، وخزانة أمها، والفراش ذو القوائم الأسطوانية — ولكن كان يتبع ذلك دومًا عبارة: «الذي بِيعَ في المزاد.» بَدَا المزاد كارثةً طبيعية، شأنه شأن الفيضان والعاصفة مجتمعين، لا طائلَ من الشكوى منها. لم يَبْقَ بساط واحد، وبِيعت كل الصور؛ لم يَبْقَ سوى روزنامة من بقالة نان، وهي المكان الذي كان ألبرت يعمل فيه. ومما أفقد الغُرَفَ ما يميِّزها وجعل فكرةَ تنظيفها عبثيةً؛ غيابُ هذه الأغراض، وحضورُ غيرها كمصائد دوري ومسدساتها والألواح التي استُخدِمت لسلخ الأرانب وفئران المسك. ذات مرة صيفًا، وقعتْ عينا ميليسينت على روث كلب أعلى الدَّرَج، لم تَرَه عندما كان رطبًا، لكنه كان رطبًا بما يكفي ليمثِّل نوعًا من الإساءة. تغيَّرَ لونه من البُني إلى الرمادي بفِعل حرارة الصيف، وصار مهيبًا ومتحجرًا وثابتًا، ومن الغريب أن ميليسينت نفسها لم تَعُدْ تعترض على وجوده، وأصبحت تنظر إليه من منطلق كونه شيئًا له حقٌّ في البقاء في المكان.
دليلة هي الكلبة صاحبة الروث. كانت سوداء وفي جيناتها جينات سلالة اللبرادور، وكانت تروق لها مطاردة السيارات، الأمر الذي كان من الممكن أن يقضي عليها في نهاية المطاف. بعد وفاة ألبرت، ربما أُصِيبت هي ودوري على حدٍّ سواء باضطراب عقلي طفيف، لكن هذا الاضطراب لم يكن يتجلَّى للآخرين على الفور. في البداية، لم تَعُدْ تترقَّب عودة زوجها، ومن ثمَّ لم يكن ثمة موعد محدد للعشاء، ولم تَعُدْ ثمة ملابس رجالية تحتاج إلى غسلها، مما أغناها عن فكرة الغسيل بانتظامٍ. ولم يَعُدْ ثمة مَنْ تتبادَل معه أطراف الحديث، فما كان من دوري إلا أن أكثرت من الحديث إلى ميليسينت، أو إلى ميليسينت وبورتر معًا. تكلَّمَتْ عن ألبرت وعمله؛ وهو قيادة عربة بقالة نان — التي أمست فيما بعدُ شاحنتهما — في شتى أرجاء الريف. ارتاد ألبرت الجامعة، ولم يكن أحمق، لكن بعد عودته من الحرب، لم يكن على ما يرام، فخطر له أنه من الأفضل أن يعمل خارج البيت، فشغل وظيفة سائق شاحنة نان، واحتفظ بها إلى أن وافَتْه المنية. كان رجلًا اجتماعيًّا على نحو مدهش، وتجاوَزَ عمله توصيل البقالة فحسب؛ فكان يُؤَمِّن للناس توصيلة إلى المدينة، ويُقِلُّ المرضى العائدين إلى بيوتهم من المستشفى. كانت هناك امرأة مجنونة في طريقه، وذات مرة عندما أخرَجَ بقالتها من شاحنته، شعر بأنه مضطر إلى مغادرة المكان. لكنْ ها هي تقف وفي يدها فأس وعلى وشك أن تطيح برأسه. الواقع أنها شرعت في توجيه ضربتها إليه، ولمَّا تفاداها لم يسعها سوى أن تُكمِل مسارها، فأخذت تقطع صندوق البقالة، وسكبت رطلًا من الزبد. ظلَّ يُوصِل لها البقالة، حيث لم يُرِد أن يبلغ عنها السلطات التي كانت ستُودِعها مستشفى الأمراض العقلية. لم تُعِدِ الكرَّة، بل أعطته كعكات محلَّاة ببذور مشبوهة ألقاها على الحشائش في نهاية الطريق. وهناك نسوة أخريات — أكثر من واحدة — ظهرن له عاريات؛ خرجت إحداهن من حوض استحمام في منتصف أرضية المطبخ، فانحنى ألبرت ووضع البقالة عند قدمَيْها. سألته دوري: «أَلَا يذهلك تصرُّفُ البعض؟» وأخذت تقصُّ قصة الأعزب الذي شنَّت الجرذان هجومًا على بيته، لدرجةِ أنه اضطرَّ إلى حفظ طعامه معلَّقًا في كيس تدلَّى من القضبان الخشبية في سقف المطبخ. لكن الجرذان تسلَّقَتِ القضبان الخشبية، وقفزت على الكيس ومزَّقته، وأخيرًا لم يسعه إلا أن يصحب طعامه معه إلى الفراش.
قالت دوري: «دائمًا ما كان ألبرت يقول: إن الذين يعيشون وحدهم يستحقون الشفقة.» قالتها وكأنها لا تدرك أنها أمستْ واحدةً منهم. أُصِيب ألبرت بأزمة قلبية، ولم يستطع إلا أن يركن شاحنته على جانب الطريق. ركن سيارته في بقعة جميلة حيث أشجارُ البلوط تكسو المنحدرات، ونُهَيْرٌ صغير امتدَّ على طول الطريق.
ذكرت دوري أشياءَ أخرى أخبرها بها ألبرت فيما يتعلَّق بآل بيك في أيامهم الأولى؛ أخذتْ تقصُّ كيف وفدَ الأخوان إلى المدينة على متن طَوْفٍ عبر النهر، وشرعَا في بناء طاحونة عند منطقة بيج بيند حيث لم يكن ثمة أثرٌ لشيء سوى الغابات البرية، ولم يَعُدْ ثمة شيءٌ الآن سوى طاحونتهما والسد. لم تكن المزرعة قطُّ مشروعًا يُبتغَى منه رزقٌ، بل كانت بمنزلة هواية لأصحابها عندما أقاموا البيت الكبير وأتوا بالأثاث من إدنبرة؛ أَتَوْا بهياكل الأسِرَّة والكراسي والخزائن المنحوتة التي بِيعت بالمزاد. قالت دوري إنهم جاءوا بها من هورن، ومنها إلى بحيرة هورن مرورًا بالنهر. قالت ميليسينت إن ذلك مستحيل، وأحضرت كتابًا مدرسيًّا في مادة الجغرافيا كانت تحتفظ به، لبيان الخطأ الذي وقعت فيه دوري؛ قالت ميليسينت: «لا بد أن النهر لم يكن أكثر من قناةٍ آنذاك يا دوري. أذكر أن ثمة قناة كانت موجودة. قناة بنما؟ إنها كانت قناة إيري على الأرجح.»
قالت دوري: «نعم، جاءوا بها من حول منطقة هورن، ومنها إلى قناة إيري.»
قالت ميليسينت لبورتر الذي لم يُبْدِ اعتراضًا: «دوري امرأة نبيلة حقًّا مهما قال الناس!» لقد اعتاد بورتر على أحكامها الشخصية المطلقة. أضافت ميليسينت مستشهِدةً باسم المرأة التي ربما يقال إنها أعزُّ صديقاتها: «إنها أكثر نبلًا مائة مرة من موريل سنو، أُعلِنها صراحةً ولو أنني أحبُّ موريل سنو بشدةٍ.»
اعتاد بورتر سماع ذلك أيضًا.
كانت ميليسينت تقول: «أحبُّ موريل سنو حبًّا جمًّا، وإنني على استعدادٍ لدعمها مهما حدث. أحبُّ موريل سنو، لكن هذا لا يعني أنني أوافق على كل ما تفعله.»
التدخين، والسِّبَاب، والأيمان المغلظة التي تُقسِمها، والتعبيرات الرديئة التي تُطلِقها.
لم تكن موريل سنو الخيارَ الأول لصديقة ميليسينت الصدوقة. في الأيام الأولى من زواجها، كانت تطلُّعاتها في السماء؛ زوجة المحامي نيسبيت، زوجة الطبيب فينيجان، زوجة السيد دُودْ.
فقد أوكلن إليها أعمالًا شاقَّة في لجنة النساء المكرَّسات لخدمة الكنيسة، لكنهن لم يدعونها قطُّ إلى حفلات الشاي التي كنَّ يُقِمْنَها، ولم تتلقَّ دعوةً إلى بيوتهن إلا لحضور الاجتماعات. لم يكن بورتر سوى مُزارع، مهما امتلك من مَزارع. كان ينبغي أن تدرك هذه الحقيقة.
لقد التقت بموريل عندما قرَّرت أن تتلقَّى ابنتها بيتي جون دروسًا في العزف على البيانو، وكانت موريل مُدرِّسة الموسيقى خاصتها. كانت تدرس في المدارس، علاوةً على الدروس الخصوصية. وفي تلك الفترة، لم تكن تتقاضى سوى ٢٠ سنتًا عن الحصة الواحدة. كانت تعزف الأُرغن في الكنيسة، وتشرف على توجيه العديد من فِرَق الجوقة، لكن بعض هذه الأعمال كانت مجانية. انسجمت هي وميليسينت انسجامًا شديدًا، لدرجة أن ميليسينت استضافتها في بيتها قدرَ ما استضافَتْ دوري، ولو أن لكلٍّ مكانةً مختلفة.
كانت موريل قد تجاوزت الثلاثين من عمرها، ولم تتزوَّج قطُّ، وكان الزواج موضوعًا تناقشه على الملأ بسخرية وأسًى، لا سيَّما كلما كان بورتر موجودًا. كانت تسأل: «أَلَا تعرف أيَّ رجال يا بورتر؟ أَلَّا تدلني على رجل محترم؟» وكان بورتر يقول إنه ربما يفعل، لكنها ربما لن تراهم محترمين. في الصيف، كانت موري تزور أختًا لها في مونتريال، وذات مرة ذهبت للإقامة لدى بعض بنات العم اللائي لم تلتقِ بهن من قبلُ في فيلادلفيا، لكنها كانت تراسِلهن فحسب. وأول ما أخبرتْ عنه حين عودتها كان وَضْعُ الرجال في مونتريال، حيث قالت: «مأساة! كلهم يتزوجون في سن الشباب. وهم كاثوليك، وزوجاتهم لا يَمُتن قطُّ، بل ينشغلن كثيرًا بالإنجاب. ثمة رجل كان مرشَّحًا لي، لكنني أدركت فورًا أنه لن يناسبني أبدًا؛ فقد كان إمعةً يتبع أمَّه.»
ثم استطردت قائلة: «التقيتُ رجلًا، لكن كان فيه عيبٌ خطير؛ لم يكن يقلِّم أظفارَ قدميه الطويلة الصفراء. حسنًا، ألن تسألوني كيف عرفت؟»
كانت موريل تتَّشِح دومًا بدرجة من درجات الأزرق. كانت ترى أن المرأة عليها أن تختار اللون الذي يناسبها حقًّا، ولا تكف عن ارتدائه، شأنه شأن عطرها. ينبغي أن تكون ملابسها عنوانها.
كان من الشائع أن اللون الأزرق هو اللون المُحبَّب إلى الشقراوات، لكن هذا لم يكن صحيحًا؛ فالأزرق عادةً ما يجعل الشقراوات يزددن شحوبًا مما هنَّ عليه في الأساس. الأزرق يناسب ذوات البشرة السمراء سمرة خفيفة، كبشرة موريل التي لم تفقد كليًّا سمرتها المكتسبة قطُّ. الأزرق يناسب الشعر البُني والعينين البُنيتين كعينيها تمامًا. لم تكن تبخل على نفسها قطُّ فيما يتعلَّق بالملابس — كان من الخطأ أن تفعل ذلك. كانت أظفارها دومًا مَطليَّة بلون زاهٍ ولافت للنظر؛ لون الخوخ أو الأحمر القاني أو حتى بلون الذهب. كانت قصيرة القامة مكتنزة، وعوَّدَتْ نفسها على ممارسة التمارين الرياضية للحفاظ على خصرها المتناسق. كانت لديها شامة داكنة اللون في مقدم عنقها؛ شامة كجوهرة على سلسلة خفية، وشامة أخرى أشبه بدمعة على طرف عينها.
قالت ميليسينت ذات يوم وقد اعترتها دهشةٌ أن توصَّلَتْ إلى ذلك الوصف: «الكلمة التي تصفك الوصف الأمثل ليست جميلة، بل ساحرة.» ثم احمَرَّتْ خجلًا من مجاملتها الشخصية؛ إذ أدركت أنها بَدَتْ طفوليةً ومبالِغةً.
احمَرَّتْ موريل خجلًا هي الأخرى بعض الشيء، ولكن بشيء من المتعة؛ فقد كانت تعشق إعجاب الآخرين بها، بل تلتمسه صراحةً أيضًا. ذات مرة، عرجت على ميليسينت في طريقها إلى حفل موسيقي في مدينة والي عقدت آمالها على أن يُؤمِّن لها بعضَ الجوائز؛ كانت ترتدي ثوبًا أزرق فاتحًا ثلجيَّ اللون يتلألأ.
قالت: «وهذا ليس كل شيء؛ فكلُّ ما أرتديه جديد، وكلُّ ملابسي حريرية.»
ليس صحيحًا أنها لم تجد رجلًا قطُّ، فقد عثرت على رجال كُثُر، لكنها لم تجد فيهم مَنْ يستحق أن تدعوه لتناول العشاء. عثرت عليهم في بلدات أخرى حيث صحبت جوقتها إلى حفلات مجموعات الجوقة، وفي تورونتو في حفلات العَزْف المنفرد على البيانو التي ربما تصحب فيها طالبًا واعدًا. وأحيانًا ما كانت تعثر عليهم في بيوت طلَّابها؛ كانوا أعمامَ هؤلاء الطلاب أو آباءَهم أو جدودَهم، والسبب وراء أن أحدًا منهم لم يكن يطأ بيت ميليسينت — بل كانوا يلوحون تارةً بفجاجة، وتارةً باستعراض من سياراتهم المنتظرة بالخارج — هو أنهم كانوا متزوجين. ربما كانت زوجاتهم طريحات الفراش، أو معاقرات للخمر، أو شرسات. وأحيانًا لا يذكر رفيقها شيئًا عن زوجته، فتبدو وكأنها شبح. رافقوا موريل إلى الاحتفالات الموسيقية حيث كان اهتمامهم بالموسيقى هو العُذْر الحاضر، حتى إنها ذات مرة اصطحبتْ طفلًا موهوبًا كوصيف! كانوا يدعونها إلى العشاء في بلداتٍ نائية، وكانت تصفهم بالأصدقاء. دافعت ميليسينت عنها، ما الضرر إذا كانت العلاقةُ كلها في العَلَن؟ لكنها لم تكن كذلك تحديدًا، وكانت تنتهي بسوء فهمٍ وكلماتٍ قاسية وتصرفاتٍ مسيئة، وربما تحذير من مجلس إدارة المدرسة. كان على الآنسة سنو أن تُحْسِن التصرُّف. كان الناس يرونها مثالًا سيئًا؛ زوجة عبر الهاتف، فيحادثها أحدهم قائلًا: «آنسة سنو، يؤسفني أننا بصدد إنهاء العلاقة.» أو ببساطة يلزم الصمت، فلا يعاود الاتصال بها مجددًا؛ ومن ثَمَّ، كانت بين موعد لا يُحْتَرَم، أو رسالةٍ تُقَابَل بالتجاهل، أو اسمٍ لا يأتي ذِكْره مجددًا.
قالت موريل: «لا أنتظر الكثير، أنتظر من الأصدقاء أن يكونوا أصدقاء، وفجأةً أراهم ينسحبون عند أول مشكلة تلوح في الأفق بعد أن يزعموا أنهم سيدعمونني دومًا. لِمَ يحدث ذلك؟»
قالت ميليسينت ذات مرة: «حسنٌ، أنت تعرفين يا موريل، الزوجة زوجة. لا بأس من أن يكون للمرء أصدقاء، لكن الزواج زواج، ولا مساسَ به.»
استشاطت موريل غضبًا لكلمات ميليسينت؛ حيث حسبت أن ميليسينت تظن فيها ظن السوء شأنها شأن الآخرين. أَلَمْ يكن من حقها أن تمضي وقتًا ممتعًا؛ وقتًا بريئًا ممتعًا؟ صفقت الباب وراءها، ودهست بسيارتها نبات زنبق الكالا، عن عمدٍ بالطبع. ليوم كامل، اكتسى وجه ميليسينت بالبُقَع من فرط البكاء. لكن العَداء لم يستمر، وعادت موريل وهي تجهش بالبكاء أيضًا، وألقَتْ باللائمة على نفسها، قالت: «كنتُ ساذجة من البداية.» ودخلت الغرفة كي تعزف على البيانو. تعوَّدَتْ ميليسينت على هذا الموقف المتكرِّر، كلما كانت موريل سعيدة، وبرفقة صديق جديد، كانت تعزف أنغامًا شجيَّة رقيقة مثل «أزهار الغابة»، أو:
وكلما تمكَّنَ منها الحزن والإحباط، كانت تضرب مفاتيح البيانو بقوة وعصبية، وتنشد بازدراء:
أحيانًا كانت تدعو ميليسينت الناسَ إلى تناوُل العشاء (ولو أنها تجاهلت آل فينيجان، وآل نيسبيت، وآل دُودْ)، ثم يطيب لها أن تدعو دوري وموريل أيضًا. وكانت دوري خير عون لها في غسل الأواني والقلايات فيما بعدُ، بينما تسلي موريل الزوَّار بعزفها على البيانو.
دَعَتِ القس الأنجليكاني للحضور يوم الأحد بعد صلاة المساء، ومعه الصديق الذي تناهى إلى مسامعها أنه مُقِيم لديه. كان القس الأنجليكاني عازبًا، لكن موريل فقدت الأمل فيه سريعًا. قالت إنه غير مناسب لها؛ فشخصيته غير واضحة. يا للأسف! فقد كان يروق لميليسينت، خاصةً صوته العذب. لقد ترعرعت ميليسينت تحت مظلة الكنيسة الأنجليكانية، وعلى الرغم من أنها تحوَّلت إلى الكنيسة المتحدة التي زعم بورتر انتماءَه لها (وهكذا كان انتماء الجميع، وكذلك جميع الشخصيات البارزة في المدينة)، فإنها ما زالت تفضِّل التقاليد الأنجليكانية؛ صلاة المساء، وصوت أجراس الكنيسة، والجوقة التي تتقدَّم المَمْشَى بهيبة ووقار قدر الإمكان وهي تنشد — بدلًا من التكدُّس في المكان والجلوس في صمتٍ فحسب. وأجمل ما في الأمر الكلمات: «لكن ارحمنا يا الله، نحن المُذنِبين الأشقياء، واغفرْ لأولئك المعترفين بخطاياهم، وَرُدَّ التائبين بحسب وعدك …»
رافَقَها بورتر إلى الكنيسة الأنجليكانية ذات مرة، ولم تَرُقْ له قطُّ.
كانت التجهيزات لعشاء تلك الليلة كبيرة، فقد أتوا بالإستبرق، وملعقة الغَرْف الفضية، وأطباق الحلوى السوداء ذات الأزهار المرسومة عليها يدويًّا، ودعت الحاجة إلى كَيِّ مفرش الطاولة، وتلميع كل أدوات المائدة الفضية، ثم كان يُخْشَى من أن بقعة صغيرة من المُلَمِّع ربما لا تنمحي، أو تلتصق علكة رمادية على أسنان الشوكات أو بين العنب حول حافة إبريق الشاي الذي كان ضمن جهاز الزفاف. طوال يوم الأحد، كانت ميليسينت تتقلَّب بين المتعة والعذاب والتشويق. تضاعفت المشكلات التي كان يمكن أن تحدث؛ قد لا تحتفظ الكِريمة البافارية بتماسُكها (لم تكن لديهم ثلاجةٌ بعدُ، فاضطروا إلى وضع الأشياء التي أرادوا تبريدها في الصيف على أرضية القبو)، وربما لن تصير كعكة الآنجل هشَّة بالقدر الكافي، وإذا صارت هشَّة، فربما تصير يابسة، وقد يفوح من البسكويت طَعْمُ الدقيق الفاسد، أو ربما تزحف خنفساء خارجةً من طبق السلطة. بحلول الخامسة مساءً، كانت في حالةٍ هستيرية من التوتُّر والعصبية لدرجةِ أن أحدًا لم يستطع أن يظل معها في المطبخ. وصلت موريل مبكرًا لتُعاوِنها، لكن البطاطس التي قطَّعَتْها إلى شرائح لم تكن رقيقة بالقدر الكافي، كما أنها جرحت أصابعها وهي تَبْشر الجزر؛ ولذلك طُلِب منها أن تغادر المطبخ لأنها عديمة الجدوى، فخرجت للعزف على البيانو.
كانت موريل ترتدي ثوبًا رقيقًا مجعدًا فيروزي اللون، وفاحت منها رائحةُ عطرٍ إسباني. لعلها أسقطَتِ القس من حساباتها، لكنها لم تَرَ ضيفه بعدُ. لعله عازب أو أرمل ما دامَ يسافر وحيدًا، والأغلب أنه ثري، وإلا فلم يكن ليسافر أبدًا، لم يكن ليقطع كل هذه المسافة. قال الناس إنه جاء من إنجلترا، ونفى أحدهم ذلك زاعمًا أنه وفد من أستراليا.
كانت تحاول عزف مقطوعة «الرقصات البوليفستية».
تأخَّرت دوري، ممَّا زاد الأمور تعقيدًا؛ فالسَّلاطة المغطَّاة بالجيلاتين لا بد أن تُوضَع في القبو مرةً أخرى خشيةَ أن تلين زيادة عن اللازم، والبسكويت الذي وُضِع في الفرن كي يسخن لا بد من إخراجه خشيةَ أن يجفَّ بشدة. جلسَ الرجال الثلاثة في الشرفة حيث كان من المخطَّط تقديم الوليمة على طريقة البوفيه، واحتسَوْا عصير الليمون الفوَّار. أدركت ميليسينت أثر الخمر على أهلها؛ فقد لقي أبوها حتفَه بسبب الخمر وهي في العاشرة من عمرها، وطلبت من بورتر أن يقطع على نفسه عهدًا بألَّا يمسَّ الخمر بعد الزواج قطُّ، وبالطبع لم يَفِ بعهده؛ لكنه كان كلما احتسى الخمر نأى بجانبه عنها، فظنَّتْ أنه حفظ عهده لها حقًّا. كان هذا وضعًا معتادًا جدًّا آنذاك، على الأقل بين المزارعين الذين درجوا على احتساء الخمر في الحظيرة، والامتناع عنه في بيوتهم. أغلب الرجال كانوا يعتقدون أن ثمة خطبًا في أي امرأة لا تضع هذه القاعدة.
لكن موريل عندما خرجت إلى الشرفة بكعبها العالي وثوبها الرقيق المجعد صاحت فجأةً: «أوه، شرابي المفضَّل! الخمر والليمون!» رشفت رشفة وزَمَّتْ شفتيها في وجه بورتر.
«فعلتموها مجددًا! نسيتم الخمر مرةً أخرى!» ثم استفزت القس سائلةً إياه إن كانت بحوزته قارورة من الخمر في جيبه. كان القس لَبِقًا، ولكنه ربما صار متهورًا بفعل الملل، قال ليت كان بحوزته قارورة من الشراب!
كان الزائر، الذي نهض كي يتعرَّف إليه الآخرون، طويلَ القامة نحيلَ البدن شاحبَ البشرة، ووجهه بَدَا مجعدًا ومحدد الملامح وحزينًا. لم تدع موريل خيبةَ الأمل تتمكَّن منها، جلست إلى جواره وحاولت بحماسٍ أن تُجرِي معه حوارًا. أخبرته عن تدريسها للموسيقى، وكان نقدها لاذعًا إذ تحدَّثت عن فِرَق الجوقة المحلية والموسيقيين، ولم يسلم الأنجليكانيون من لسانها، وألقت اللوم على القس وعلى بورتر، وقصَّتْ قصة الدجاج الذي صعد على خشبة المسرح خلال حفل مدرسي أُقِيم بالمدينة.
نهض بورتر بالأعمال المُوكَلة إليه مبكرًا، واغتسل وبدَّل ملابسه، لكنه ظلَّ يتطلَّع بعصبية باتجاه الحظيرة وكأنه تذكَّرَ شيئًا لم ينجزه. ثمة بقرة كانت تصيح بصوتٍ عالٍ في الحقل، وفي نهاية المطاف استأذن في أن يذهب ويرى ما ألَمَّ بها من خطب. اكتشف أن صغيرها علق في أسلاك السياج، وشنق نفسه. لم يتكلَّم عن هذه الخسارة التي مُنِيَ بها بعد أن عاد وقد غسل يديه، كل ما قاله: «العجل علقَ بالسياج.» لكنه ربط بطريقةٍ ما بين الواقعة المؤسفة وهذه الجلسة الترفيهية، حيث التأنُّق والبذخ، ظنَّ أن ذلك لم يكن بالأمر الطبيعي.
قالت ميليسينت: «هذه الأبقار شقية كالأطفال تمامًا، فهي دائمًا ما تريد أن تستحوذ على انتباهك في الوقت غير المناسب!» أطفالها، الذين أُطعِموا في وقت مبكر، اختلسوا النظر من بين الدرابزين على الطعام وهو يُحْمَل إلى الشرفة. وتابعت قائلة: «أعتقدُ أننا يجب أن نبدأ دون دوري! لا بد أنكم تتضوَّرون جوعًا أيها الرجال، هذه مجرد وليمة بسيطة. أحيانًا ما نستمتع بالطعام خارج البيت ليلة الأحد.»
صاحت موريل التي ساعدت في حمل العديد من الأطباق إلى خارج البيت، بما في ذلك سلاطة البطاطس، وسلاطة الجزر، والسلاطة المغطَّاة بالجيلاتين، وسلاطة الملفوف، والبيض المتبل، والدجاج المشوي البارد، ورغيف السلمون، والبسكويت الساخن، والمُقبِّلات: «فلنبدأ، فلنبدأ!» فور أن جهَّزوا كل شيء على الطاولة، ظهرت دوري بجوار البيت، وبَدَتْ مفعمة بالحماس إما بسبب المسافة التي قطعَتْها عبر الحقل، وإما بفعل الإثارة. كانت ترتدي ثوبًا صيفيًّا جميلًا من نسيج شفاف أزرق زُرْقة البحر، يزدان بنقاط بيضاء، وياقة بيضاء، ويناسب فتاة صغيرة أو سيدة عجوز. ظهرت بعض الخيوط في المواضع التي حاولت فيها نزع خيوط مهترئة من الياقة بدلًا من إصلاحها، وعلى الرغم من الجو الحار ذاك اليوم، كانت ترتدي قميصًا داخليًّا تدلَّى طرفه من أحد كُمَّيْها، ومن الواضح أن حذاءَها لمَّعَتْه منذ برهة قصيرة وبطريقةٍ تفتقر إلى البراعة، لدرجة أن المادة المُستخدَمة في تلميعه تركت آثارًا على العُشْب.
قالت دوري: «كنت سأصل في الموعد المحدد، لكنني اضطررتُ إلى مطاردة قطة برية وإطلاق النار عليها. ظلَّت تحوم حول بيتي ولم تكف قطُّ، فاقتنعتُ بأنها مسعورة.»
كانت قد بللتْ شعرها، وأعادته إلى الهيئة التي كان عليها مستعينةً بدبابيس الشعر. بالنظر إلى شعرها على هيئته هذه، ووجهها الوردي اللامع، بدت أشبه بدمية لها رأس صيني وأطراف ملحقة بجذع قماشي ومحشوَّة بالقش.
واصلَتْ دوري حديثها قائلة: «حسبتُها لأول وهلة تستعِدُّ للتزاوُج، لكنها لم تتصرَّف على النحو الذي يوحي بذلك، فهي لم تكن تَدْعَك بطنها مثلما اعتدتُ أن أرى. ولاحظتُ بعض البصاق، فحدَّثْتُ نفسي أنه من الأفضل أن أطلق النار عليها، ثم وضعتُها في كيس، واتصلتُ بفريد نان لأرى إن كان يستطيع أن ينقلها إلى الطبيب البيطري في منطقة والي، أريد أن أتأكَّد إن كانت مسعورةً حقًّا. ويطيب لفريد دومًا أن يجد عُذْرًا ليخرج بسيارته، قلت له أن يترك الكيس على الدَّرَج لو لم يكن الطبيب البيطري بالبيت مساء الأحد.»
سألت موريل: «تُرَى ماذا سيظنها؟ هدية؟» فأجابتها دوري: «لا، فقد ألصقتُ قصاصة على الكيس تحسُّبًا لتساؤُله. كانت القطة تبصق ويسيل لعابها لا شك.» لمستْ وجهها لتوضِّح لهم أين كان السيلان. سألت القس الذي أقام في المدينة ثلاث سنوات، وكان هو الذي دفن أخاها: «هل تستمتع بزيارتك للمدينة؟»
قالت ميليسينت: «السيد سبيرز هو الزائر يا دوري.»
تعرَّفت دوري على الضيفين، ولم يَبْدُ عليها أيُّ حرج من زلتها. قالت إن السبب الذي دعاها للاعتقاد بأنها قطة برية هو أن فروها كان كله أشعث وبشعًا، وظنت أن أيَّ قطة برية لم تكن لتحوم ببيتها ما لم تكن مصابةً بالسعار.
«لكنني سأضع تفسيرًا في الجريدة تحسُّبًا لأي مستجدات. سأشعر بالأسى إذا كان الحيوان الأليف لأحدهم، فقد فقدتُ حيواني الأليف منذ ثلاثة أشهر؛ كلبتي دليلة، فقد صدمتها سيارة.» كان من الغريب أن يصف أحدٌ هذه الكلبة بالحيوان الأليف؛ فتلك الكلبة السوداء الضخمة التي اعتادت أن تهرول دومًا إلى جوار دوري في أرجاء الريف، كانت تقطع الحقول باندفاعٍ وشراسةٍ لتشنَّ هجماتها على السيارات. لم تُصَبْ دوري باكتئابٍ على خلفية نفوق كلبتها؛ قالت إنها توقَّعَتْ أن هذا سيكون قَدَرها ذات يوم. ولكن، الآن بعد أن سمعتها ميليسينت تقول: «حيوان أليف»، حدَّثَتْ نفسها بأنها ربما شعرت بشيءٍ من الأسى ولم تُظهِره.
قالت موريل للسيد سبيرز: «تعالَ واملأ طبقك وإلا تضوَّرت جوعًا! أنت الضيف، ولا بد أن تبدأ أولًا. إذا بدا صفار البيض داكنًا، فاعلم أن السبب يرجع إلى طبيعة الغذاء الذي كان يأكله الدجاج؛ اطمئن، لن تصاب بالتسمُّم. بَشرتُ الجزر للسلاطة بنفسي، فإذا وجدتَ بضع قطرات من الدم، فاعلم أنني كنت متحمِّسة جدًّا لدرجة أنني جرحتُ أصابعي. من الأفضل أن ألتزم الصمت الآن وإلا قتلتني ميليسينت!» ضحكت ميليسينت بغضبٍ وقالت: «أوه، هذا ليس صحيحًا! أنتِ لم تفعلي!»
أصغى السيد سبيرز باهتمامٍ شديد لكل ما قالته دوري، ربما هذا ما جعل موريل تتحدَّث بهذه الوقاحة. حسبت ميليسينت أنه ربما وجد دوري امرأةً كندية غير تقليدية تميل إلى الشراسة وتطارد الحيوانات وتطلق عليها النيران، لعله يتفحَّصها ليرجع إلى أرض الوطن ويصفها لأصدقائه في إنجلترا.
التزمَتْ دوري الصمتَ أثناء الأكل، وتناولت كميات كبيرة من الطعام، وتناول السيد سبيرز كثيرًا من الطعام أيضًا — الأمر الذي أسعدَ ميليسينت — وبَدَا أنه إنسان يميل إلى الصمت طوال الوقت. أدار القس دفَّة الحوار متحدِّثًا عن الكتاب الذي كان يُطالِعه، كان بعنوان «طريق أوريجون تريل»، قال: «المعاناة التي فيه بَشِعة!»
قالت ميليسينت إنها سمعت بالمكان، «لديَّ بعض أولاد العمِّ يعيشون في أوريجون، لكنني لا أستطيع أن أذكر اسم البلدة. تُرَى هل سلكوا ذاك الدرب!»
قال القس إنهم لو خرجوا منذ مائة عام، لَربما كان ذلك محتملًا.
قالت: «لا أعتقد أن ذلك كان منذ فترة طويلة؛ كان اسم عائلتهم رافيرتي.»
قال بورتر بحماس مفاجئ: «يا إلهي! ثمة رجلٌ بالاسم نفسه كان يهوى سباقات الحمام، كان ذلك منذ فترة بعيدة حيث كانت هذه الرياضة شائعةً، وكانت ثمة رهانات أيضًا. حسنٌ، كان يعاني من مشكلةٍ ما في بيت الحمام حيث لم تكن حماماته ترجع مباشَرةً إلى بيتها؛ وهذا يعني أنها لم تكن تمرُّ على الأسلاك، ولم تكن تُحصَى في السباق؛ ولذا، فقد أخذ بيضةً كانت إحدى حماماته ترقد عليها، وأفرغها ووضع فيها خنفساء، فجعلت تُصدِر أصواتًا داخل البيضة، فحسبت الحمامة بطبيعة الحال أن بيضتها على وشك أن تفقس، فطارت في خط مستقيم عائدة إلى البيت، ومرت فوق الأسلاك، وكل الذين راهنوا عليها حقَّقوا مكاسبَ كبيرة، وكذلك هو. حقيقة الأمر أن ذلك كان في أيرلندا، والرجل الذي قصَّ هذه القصة جاء إلى كندا بعد أن حقَّقَ مكاسب في المراهنات على الحمام.»
لم تصدق ميليسينت أن اسم الرجل كان رافيرتي قطُّ، كان ذلك حجةً فحسب.
سأل القس دوري: «هل تحتفظين بمسدس في بيتك؟ وهل هذا يعني أنك قَلِقة بشأن المتجولين بغرض السرقة وما شابه ذلك؟»
تركت دوري سِكينها وشوكتها، ومضغت الطعام بحرص وتلذُّذ وابتلعته، ثم قالت: «أحتفظ به لأغراض الصيد.»
بعد برهة قالت إنها تصطاد جرذان الأرض والأرانب، وكانت تنقل جرذان الأرض إلى الجانب الآخر من المدينة، وتبيعها في مزرعة للمنك. وكانت تسلخ الأرانب، وتبسط فروها وتبيعه في مكانٍ ما في مدينة والي، تروج فيه التجارة حيث يَفِد عليه السائحون. كانت تستمتع بلحم الأرانب المقلي أو المسلوق، لكنها لم تكن تستطيع تناوُله كله بنفسها، فكانت تأخذ الأرنب بعد سلخه وتنظيفه، وتعطيه إلى عائلةٍ من العائلات الفقيرة. وكثيرًا ما كانت عطياتُها تُرفَض؛ كان الناس يعتقدون أن أكل الأرانب أمرٌ سيئ، مثله مثل أكل الكلاب أو القطط، ولو أن ذلك، بحسب اعتقادها، لم يكن شيئًا مخالفًا للمألوف في الصين.
قال السيد سبيرز: «هذا صحيح، فقد تناولتُ الاثنين من قبلُ.»
قالت دوري: «حسنٌ، أنت تعرف إذن أن للناس تحيُّزاتهم.»
سألها عن الجلود قائلًا إنها يجب أن تُنزَع بعناية شديدة، وقالت دوري إن ذلك صحيح مضيفةً أن على المرء استخدام سكين يثق به. وصفت له باستمتاع الشقَّ الطولي الأول وصولًا إلى البطن، وقالت: «العملية أصعب عند التعامُل مع فئران المسك؛ لأنك يجب أن تكون أكثر حرصًا عند التعامُل مع الفرو، فهو أغلى ثمنًا، إنه فرو أكثر سُمْكًا ومضاد للماء.»
سأل السيد سبيرز: «إنكِ لا تطلقين النار على جرذان المسك، أليس كذلك؟»
نفت دوري ذلك، كانت تنصب لهم فخاخًا. فخاخٌ، نعم. هكذا أجابها، فوصفت له دوري فخَّها المفضَّل الذي أجرت عليه بعض التعديلات الطفيفة، فكَّرت في استصدار براءة اختراعٍ له، لكنها لم تشرع في ذلك قطُّ. تحدَّثت عن الممرات المائية الربيعية، ونظام الجداول الصغيرة الذي كانت تتبعه حيث كانت تسير لأميالٍ يومًا بعد يوم بعد أن يكون الجليد قد ذاب تقريبًا، ولكن قبل أن تزهر أوراق الشجر، وهي الفترة التي يكون فيها فرو جرذان المسك في أفضل حالاته. كانت ميليسينت تعلم أن دوري تقوم بهذه الأعمال، لكنها ظنَّتْ أنها تقوم بها لكسب بعض المال، ولمَّا سمعتها تتحدَّث الآن، بَدَا أنها متيَّمة بهذه الحياة فعلًا؛ البعوض الأسود الذي يجوب المكان، والمياه الباردة التي تمر على رأس حذائها الطويل، والجرذان الغارقة. وأنصت إليها السيد سبيرز ككلب عجوز، أو ربما ككلب صيد، جالسًا وعيناه نصف مفتوحتين، لم يمنعه من الدخول في حالة غير لائقة من غياب الوعي سوى تقديره الجيد لذاته. كانت حوله هالة من نوعٍ ما لم يستطع أحدٌ أن يستوعبها؛ عيناه جاحظتان، وأنفه يرتعش، وعضلاته تجيب عنه، وتسري قشعريرة في بدنه بينما يسترجع في ذاكرته يومًا من الطيش والانشغال. سألها عن بُعْدِ المياه وارتفاعها، وسألها عن وزن الفرو، وعدد الحيوانات التي يمكنها صيدها يوميًّا، وهل كان السكين نفسه يُستعمَل لسلخ جرذان المسك؟
طلبت موريل من القس سيجارة، وحصلت عليها، ودخَّنتها للحظات، ثم سحقت عقبها في وسط الكِريمة البافارية.
قالت: «إذن لن آكلها فيزداد وزني!» نهضت وشرعت في المشاركة في رفع الأطباق عن المائدة، لكنها في النهاية اتجهت إلى البيانو، وعاودت عزف مقطوعة «الرقصات البوليفستية».
سعدت ميليسينت بالحوار الدائر مع الضيف، ولو أن جاذبية الحوار أربكتها واستغلقت عليها، وظنت أيضًا أن الطعام كان شهيًّا، ولم يكن ثمة أي لحظات حرجة، أو مذاق غريب، أو يد كأس لَزِجة.
قال السيد سبيرز: «كنت أحسب خبراء نصب الفخاخ يعيشون في الشمال جميعًا. كنت أظنهم يعيشون فيما وراء الدائرة القطبية، أو على الأقل على الدرع الكندي ما قبل العصر الكمبري.»
قالت دوري: «خطر لي أن أزور هذه المنطقة.» بدا صوتها غليظًا لأول مرة؛ إما بفعل الحرج وإما الإثارة، «ظننت أنني أستطيع العيش في كابينة ونصب فخاخٍ طوال الشتاء، لكنني كنت أتعهَّد أخي بالرعاية، ولم يكن باستطاعتي تركه، وإنني مُلِمَّة بالمكان هنا.»
•••
في أواخر الشتاء، وصلت دوري إلى بيت ميليسينت حاملةً قطعة كبيرة من الحرير الأبيض، قالت إنها كانت تعتزم صنع ثوبِ زفافٍ. كانت هذه أول مرة يسمع فيها أحدٌ عن حفل الزفاف هذا — قالت إنه سيقام في شهر مايو — أو يعرف الاسمَ الأول للسيد سبيرز، كان اسمه الأول ويلكنسون، ويلكي.
متى قابلَتْه دوري؟ وأين قابلَتْه؟ منذ ذلك العشاء في الشرفة؟
لم تقابله في أي مكان، كان قد رحل إلى أستراليا حيث اشترى أملاكًا، وتبادلَا الرسائل.
فُرِشَت سجادة على أرضية غرفة الطعام بعد أن أُزِيحت الطاولة إلى جوار الجدار، ووُضِعَ الحرير على السجادة، وألقى امتداده الشاسع اللامع، ورقَّته البراقة بستار من الصمت على البيت بأسره. وجاء الأطفال ليحدِّقوا فيه، فصاحت فيهم ميليسينت أن يبتعدوا؛ كانت تخشى أن يقطعوه. ووضعت دوري — التي تستطيع بكل سهولة أن تسلخ جلود الحيوانات — المقص جانبًا، وأقرَّتْ بأن يديها ترتعشان.
استُدعِيت موريل كي تعرج عليهما بعد انتهاء اليوم الدراسي. ضربت بيدها على صدرها فور أن سمعت بالأنباء، ووصفت دوري بالخبيثة، وشبَّهَتْها بكليوباترا لأنها أغوت مليونيرًا.
قالت: «أُراهن أنه مليونير؛ أملاكٌ في أستراليا، ماذا يعني ذلك؟ أُراهن أنها ليست مزرعة خنازير! كل ما آمله أن يكون له أخ! أوه، دوري، كَمْ أفتقر إلى الكياسة إذ لم أهنِّئْكِ!»
أغدقت على دوري سيلًا من القبلات التي لها صوتٌ مسموع، بينما تسمَّرَتْ دوري في مكانها تتلقى القبلات وكأنها طفلة في الخامسة من عمرها.
ما قالته دوري هو أنها والسيد سبيرز خطَّطَا لإتمام «شكل من الزواج»، سألتها ميليسينت عمَّا تعنيه: «هل تعنين حفل زفاف؟ أهذا ما تعنينه؟» أجابت دوري: «نعم.»
بدأت موريل في شق الحرير بالمقص قائلة إن شخصًا آخَر كان يجب أن يقوم بهذه المهمة، وإنه إذا قُدِّر لها أن تقوم بها مجددًا فلن تفعلها في مكان كهذا.
سرعان ما اعتادوا على الأخطاء، الأخطاء والتصحيحات. في وقت متأخِّر بعد ظهر كل يوم، عندما تصل موريل، كانوا يتعاملون مع مرحلة جديدة — القص والتشبيك بالدبابيس، والتسريج، والحياكة — بأسنان مُطبقة وصيحاتٍ غاضبة. اضطررن إلى تغيير النمط وهن يعملْنَ، بما يسمح لهن بالكشف عن المشكلات غير المتوقَّعة؛ مثل ضيق الأكمام، وتجميع القماش الحريري الثقيل عند الخصر، والأجزاء الغريبة التكوين في جسد دوري. كان وجود دوري يعرِّض المهمة للخطر؛ ولذا فقد أوكلتا إليها مهمة إزالة القصاصات وملء البكرات. وكانت كلما جلست إلى ماكينة الخياطة عضَّتْ على لسانها.
أحيانًا لم يكن ثمة شيء تفعله، فكانت تجوب المكان من غرفة إلى أخرى في بيت ميليسينت، وتتمهَّل لتتطلَّع من النوافذ على الثلج وطبقة الجليد الرقيقة، ونهاية الشتاء الذي يغطي الأرجاءَ بالخارج، وإلا كانت تقف كوحشٍ سهلِ الانقياد في ملابسها الداخلية الصوفية التي كانت تفوح برائحة جسدها، بينما انشغلا بشدِّ الفستان حولها.
تولَّت موريل مسئولية الملابس. كانت تعلم ما يتعيَّن وجوده، يجب أن تكون هناك ملابس أخرى بخلاف فستان الزفاف، يجب أن يكون هناك ثوب للخروج، وثوب للنوم ليلة الزفاف، وروب يناسبه، وبالطبع مجموعة جديدة كليًّا من الملابس الداخلية، وجوارب حريرية وحمَّالة صدر — وهي الأولى التي سترتديها دوري على الإطلاق.
لم تكن دوري على دراية بأيٍّ من ذلك، قالت: «كنتُ أعتبر فستان الزفاف العقبة الأساسية، ولم أستطع أن أفكِّر في شيء سواه.»
ذابَ الثلج، وامتلأت الجداول بالمياه. لا بد أن جرذان المسك تسبح الآن في المياه الباردة برشاقة وحماس حاملةً كنزًا من الفرو على ظهورها. لو جالت الفخاخ بخاطرها، فإنها لم تكن تفصح عن ذلك. النزهة الوحيدة التي قامت بها تلك الأيام كانت عبر الحقل من بيتها إلى بيت ميليسينت.
حفَّزَتِ التجربة موريل، فصمَّمت معطفًا على أعلى مستوًى من الصوف، خمري اللون، عالي الجودة، وألحقت به بطانة. أهملت بروفات جوقتها.
كان على ميليسينت أن تفكِّر في غداء الزفاف، كان من المقرر إقامته في فندق برونزويك. ولكن، مَنِ الذي سيُدعَى للحضور بخلاف القس؟ كثير من الناس يعرفون دوري، لكنها مشهورة في أذهانهم بالسيدة التي تترك الأرانب المسلوخة على أعتاب الأبواب، المرأة التي كانت تجوب الحقول والغابات مع كلبها وفي يدَيْها بندقيتها، المرأة التي خاضت في الجداول المغمورة بالمياه مرتديةً حذاءَها المطاطي الطويل. قليل هم مَن كانوا يعرفون آل بيك القدامى، ولو أن الجميع كانوا يذكرون ألبرت وكانوا يحبونه. لم تكن دوري محطَّ سخرية — ثمة شيء كان يوفر لها الحماية من سخرية الآخرين؛ إما شعبية ألبرت وإما فظاظتها ومهابتها — لكن أنباء زواجها أثارت بعض الاهتمام الذي لم يكن وديَّ الطابع قطُّ. كان الناس يتكلَّمون عن الأمر باعتباره حدثًا عجيبًا، ومخزيًا بعض الشيء، وربما كان خدعة. قال بورتر إن الناس كانوا يراهنون على ما إن كان العريس سيحضر أم لا.
في نهاية المطاف، تذكَّرَتْ ميليسينت بعض أبناء العمِّ الذين حضروا جنازة ألبرت؛ هم أناسٌ عاديون محترمون، كانت دوري تحتفظ بعناوينهم، فأرسلت إليهم الدعوات. ومن بعدهم تذكَّرت أصحاب بقالة نان — التي كان يعمل ألبرت بها — وزوجاتهم، واثنين من رفاق ألبرت في لعبة البولينج وزوجتَيْهما. وربما أصحاب مزرعة المنك حيث تبيع دوري جرذان الأرض، والمرأة التي تعمل بالمخبز التي كانت ستُجَمِّل الكعك.
كانت الكعكة تُصنَع بالبيت، ثم تُؤخَذ إلى المحل لتزيِّنها تلك المرأة التي حصلت على دبلوم في تزيين الكعك من مكانٍ ما في شيكاجو. ستُغطَّى بورود بيضاء والأسقلوب الشريطي، والقلوب والأكاليل، وأوراق الشجر الفضية اللون، وتلك الحلوى الفضية الصغيرة التي قد تنكسر أسنان المرءِ وهو يتناولها. وفي تلك الأثناء، كان يتعيَّن خلطها وخبزها، وفي هذه المرحلة يمكن الاستعانة بذراعَيْ دوري القويتين لتقليب المزيج مرارًا وتكرارًا حتى يصبح متماسِكًا جدًّا، لدرجة أنه بَدَا وكأنه فاكهة مُسكَّرة وزبيب وكشمش، مع مخيض من اللبن والبيض بنفحة من الزنجبيل يساعد على تماسُكه كالصمغ. عندما حملت دوري الوعاء الكبير في حضنها، وأمسكت بملعقة العجن، سمعت ميليسينت دوري تتنفَّس الصعداء لأول مرة منذ فترة طويلة.
قرَّرَتْ موريل أنه لا بد أن تكون هناك وصيفة عزباء للعروس، أو وصيفة متزوِّجة للعروس، وهي تحديدًا خارج المعادلة؛ لأنها ستنشغل بالعزف على الأُرغن؛ ستعزف مقطوعة «أوه، أيُّها الحب المثالي» وأعمال الموسيقار الألماني مندلسون.
يجب أن تكون ميليسينت هي الوصيفة، لم تكن موريل لتقبل رفضها. أحضرت معها ثوبًا مسائيًّا لها، وثوبًا أزرق سماويًّا طويلًا شقَّتْه من الخصر — كَمْ كانت واثقة من نفسها وجريئة الآن فيما يتعلَّق بالحياكة! — واقترحت فستانًا قصيرًا أكثر زُرْقةً من الدانتيل، ومعه سترة نسائية قصيرة من الدانتيل مناسبة له. «ستبدو جديدة كليًّا وستناسبك جدًّا.» هكذا قالت.
ضحكت ميليسينت عندما جرَّبت الثوب لأول مرة، وقالت: «شكلي يفزع الحَمَام!» لكنها كانت سعيدة.
لم تَحْظَ ميليسينت وبورتر بحفل زفاف بالمعنى الحرفي، كل ما في الأمر أنهما ذهبا إلى بيت القس، وقرَّرَا ادِّخار المال لشراء الأثاث، قالت: «أفترض أنني سأكون بحاجةٍ إلى شيء آخَر؛ شيء يغطي رأسي.»
صاحت موريل: «غطاء الرأس! ماذا عن غطاء رأس دوري؟ لقد انشغلنا أكثر من اللازم بفساتين الزفاف لدرجة أننا نسينا مسألة غطاء الرأس تمامًا.»
تكلَّمت دوري بصراحةٍ على غير المتوقَّع، وقالت إنها لن ترتدي غطاءً للرأس أبدًا؛ فهي لا تحتمل شيئًا كهذا يتدلَّى من فوق رأسها، ستشعر وكأنه بيت عنكبوت! تشبيهها لغطاء الرأس ببيت العنكبوت فاجَأَ موريل وميليسينت؛ وذلك لأن النكات الشائعة عن بيت العنكبوت كان يتردَّد صداها في أماكن أخرى.
قالت موريل: «هي على حق، سيكون غطاء الرأس شيئًا مبالغًا فيه.» فكَّرت في بديل. إكليلٌ من الزهور؟ لا، مبالغ فيه أيضًا. قبعة كلاسيكية كبيرة؟ نعم، لنأتِ بقبعة صيفية قديمة، ونُغطِّها بالحرير الأبيض، ثم لنأتِ بأخرى ونُغطِّها بشريط زينة ذي لون أزرق داكن.
قالت ميليسينت بارتياب: «ها هي قائمة الطعام؛ دجاجٌ بالكريمة في لفائف المعجنات، وبسكويت صغير دائري الشكل، وقوالب الجيلي، وسلاطة مع التفاح والجوز، وبوظة وردية وبيضاء مع الكعك …»
قالت موريل وهي تفكِّر في الكعك: «هل لديه سيفٌ بأي حال من الأحوال يا دوري؟»
سألت دوري: «مَنْ؟»
فأجابتها موريل: «ويلكي، حبيبكِ ويلكي. هل لديه سيف؟»
سألت ميليسينت: «وماذا يدعوه لأن يكون لديه سيف؟»
قالت موريل: «حسبتُ أنه ربما لديه واحد.»
قالت دوري: «ليست لديَّ معلومات تفيدك.»
خيَّمَ الصمت للحظات على الجميع؛ لأنهن انشغلن بالتفكير في العريس. كان عليهن أن يدخلنه إلى الغرفة، ويُجلِسنه بين كل ذلك؛ القبعات الكلاسيكية الضخمة، الدجاج بالكريمة، أوراق الأشجار الفضية. ساورتهن الشكوك، أو على الأقل تسلَّلَتِ الشكوك إلى ميليسينت وموريل، ولم تجرؤ واحدة منهن أن تتطلَّع في عين الأخرى.
قالت موريل: «ظننت ذلك فحسب بما أنه إنجليزي، أو أيًّا كانت جنسيته.»
قالت ميليسينت: «إنه رجلٌ لا بأس به على أي حال.»
•••
موعد الزفاف وافَقَ السبت الثاني من شهر مايو، وكان من المقرَّر أن يصل السيد سبيرز الأربعاء ويُقِيم لدى القس. في الأحد السابق عليه، كان من المفترض أن تزور دوري ميليسينت وبورتر وتتناول معهما العشاء. كانت موريل هناك أيضًا. لم تصل دوري، فشرعوا في تناوُل العشاء دونها.
في منتصف العشاء، نهضت ميليسينت فجأةً وقالت: «سأذهب إليها، من الأفضل أن تكون أكثر حفاظًا على المواعيد ليلةَ زفافها.»
قالت موريل: «يمكنني أن أصحبك.»
رفضت ميليسينت صحبتها وشكرت لها عرضها؛ فاثنتان ستجعلان الموقف أسوأ ممَّا هو عليه.
أيُّ موقف؟
لم تكن تعرف.
قطعت الحقل وحدها. كان الجو دافئًا، والباب الخلفي لبيت دوري مفتوحًا على مصراعَيْه. بين البيت والمكان الذي كانت تحتله الحظيرة، كان هناك بستان من أشجار الجوز التي ما زالت فروعها عارية؛ إذ إن أشجار الجوز من بين الأنواع التي يتأخر فيها نمو الأوراق. بدت أشعة الشمس الحارقة التي تتسلَّل من بين الفروع العارية غيرَ طبيعية. قدماها لم تُصدِران أيَّ صوت على العشب.
وهناك على المنصة الخلفية استقرَّ كرسي ألبرت القديم ذو الذراعين، الذي لم يُوضَع بالداخل طوال الشتاء.
خطر لها أن دوري ربما تعرَّضت لحادث، حادث يرتبط ببندقيتها، ربما أثناء تنظيفها لها، فهذا حادث شائع بين الناس. أو لعلها مستلقية في الحقل في مكانٍ ما. لعلها مستلقية في الغابات بين أوراق الأشجار العتيقة الميتة والكراث ونبات الدَّمَوِيَّة. ربما تعثَّرت أثناء عبورها لحاجزٍ ما. ربما اضطرت للخروج مرة أخيرة. وبعدها، وبعد كل المحاولات الآمنة، انطلقت رصاصة من البندقية. لم تحدو ميليسينت أيُّ مخاوف كهذه من قبلُ بشأن دوري، وكانت موقنة بطريقةٍ ما أن دوري حريصة جدًّا وبارعة جدًّا. لا بد أن ما حدث العام الجاري فتح الباب على مصراعيه لكل الاحتمالات. عرضُ الزواج، الذي جاء كضربةِ حظٍّ، يمكن أن يجعل المرء يؤمن بالكوارث أيضًا.
تحت ستار هذه الخيالات المفزعة التي تصارعت في رأسها، أخفت ميليسينت ما كانت تخشاه حقًّا.
نادت اسم دوري عند الباب المفتوح، وكانت متأهِّبة جدًّا للصمت الذي سيجيبها، صمت خبيث ولامبالاة من بيتٍ خلا مؤخرًا من شخص تعرَّض لكارثة (أو ربما لم يَخْلُ بعدُ من جثة ذاك الشخص الذي تعرَّض لتلك الكارثة، أو ربما عرَّضَ نفسه لها)؛ كانت مستعدة لأسوأ السيناريوهات لدرجة أنها صُدِمت، وبالكاد حملتها قدماها إذ وقعت عيناها على دوري نفسها ترتدي بنطالها وقميصها القديمين.
قالت: «لقد كنَّا بانتظارك، كنَّا بانتظارك على العشاء.»
قالت دوري: «لا بد أن الوقت سرقني.»
قالت ميليسينت وهي تستعيد رباطة جأشها بينما ساقتها دوري عبر الردهة الخلفية بحطامها المألوف الغامض: «أوه، هل توقَّفت كل ساعاتك عن العمل؟» استطاعتْ أن تشمَّ رائحة الطهي.
كان المطبخ معتمًا بسبب أزهار الليلك الضخمة الجامحة التي التصقت بالنافذة. استخدمت دوري الفرن الخشبي الأصلي للبيت، وكانت لديها واحدة من طاولات المطبخ العتيقة التي بها دُرْج للسكاكين وشوكات الطعام. شعرت بارتياح لما رأت أن الروزنامة المعلقة على الحائط تشير إلى العام الجاري.
كانت دوري تطهو طعام العشاء. كانت بصدد تقطيع بصلة أرجوانية اللون لتُضِيفها إلى قِطَع من اللحم وشرائح البطاطس التي طهتها في المقلاة. كلُّ هذا كفيلٌ بأن ينسيها متابَعةَ الوقت.
قالت ميليسينت: «تابعي إعداد طعامك، تناولتُ بعض الطعام قبل أن أقنع نفسي بالخروج للبحث عنك.»
قالت دوري: «أعددتُ الشاي.» كان لا يزال يحتفظ بحرارته على ظهر الفرن، عندما صبَّتْه بَدَا أشبه بالحبر.
قالت وهي تعيد بعض اللحم الذي كاد يخرج من المقلاة: «لا يمكنني الرحيل … لا يمكنني الرحيل عن المكان هنا.»
قرَّرَتْ ميليسينت أن تتعامل مع موقفها هذا تعامُلها مع طفل صغير متذمِّر، راغِب عن الذهاب إلى المدرسة.
قالت: «سيكون هذا خبرًا عظيمًا للسيد سبيرز في الوقت الذي قطع هو فيه كلَّ هذه المسافة.»
مالت دوري للخلف بينما صار الشحم فوَّارًا.
قالت ميليسينت: «الأفضل أن تزيحي هذا القِدْر بعيدًا عن النار لبرهة.»
«لا يمكنني الرحيل.»
«سمعتُ هذه العبارة من قبلُ.»
أنهتْ دوري الطهي، وغرفت الطعام في طبق، وأضافت صلصلة الطماطم، وشريحتين كبيرتين من الخبز المغموس في الدهن المتبقي في المقلاة. جلست لتتناوُل الطعام والتزمَتِ الصمت.
كانت ميليسينت جالسة أيضًا بانتظارِ أن تفرغ من الطعام، وأخيرًا قالت: «أعطني سببًا واحدًا!»
هزَّتْ دوري كتفَيْها ومضغت طعامها.
قالت ميليسينت: «لعلك تعرفين شيئًا لا أعرفه! ماذا تكشَّفَ لك؟ أهو فقير؟»
هزَّتْ دوري رأسها نافية، وقالت: «إنه غني.»
إذن كانت موريل على حق.
«أكثر النساء يضحِّين بأي شيء من أجل زيجة كهذه.»
قالت دوري: «لا أعبأ بذلك.» ومضغت طعامها وابتلعَتْه وكرَّرت عبارتها: «لا أعبأ بذلك.»
كان على ميليسينت أن تخاطر، ولو أنها شعرت بالحرج. «إذا كنتِ تفكِّرين فيما أظن أنكِ تفكِّرين فيه، فالأرجح أن قلقك ليس في موضعه. في كثيرٍ من الأحيان، هم لا يهتمُّون بهذه المسألة عندما يكبرون في السن.»
«أوه، ليس هذا ما يقلقني! فأنا أعرف كل شيء عن هذه المسألة.»
تساءلت ميليسينت: أتعرفُ حقًّا؟ وإنْ صحَّ ذلك، فكيف؟ لعل دوري تتخيَّل أنها تعرف، ربما من الحيوانات. ظنت ميليسينت أحيانًا أنه لو كانت النساء تعرف حقًّا، لَمَا تزوَّجَتْ أي امرأة.
ومع ذلك، قالت: «الزواج يُخرِجك من قوقعتك ويمنحك حياةً حقيقيةً.»
قالت دوري: «لديَّ حياة.»
قالت ميليسينت وكأنها يئست من الجدال: «حسنٌ.» جلست واحتست كأس الشاي العكرة. كانت بانتظار الإلهام يهبط عليها، تركت الوقت يمر ثم قالت: «الأمر يرجع إليه على أي حال. لكن هناك مشكلة تتعلَّق بمكان إقامتك؛ لا يمكنك العيش هنا بعد الآن؛ فعندما عرفنا أنا وبورتر أنك ستتزوَّجين، عرضنا بيتك للبيع بالأسواق، وبِعْنَاه بالفعل.»
قالت دوري فورًا: «أنتِ تكذبين!»
«لم نُرِد أن نتركه خاليًا ليكون ملاذًا للمتشردين؛ فبادرنا ببيعه مباشَرةً.»
«لن تستطيعي مخادعتي بحيلةٍ كهذه أبدًا.»
«عن أي حيلة تتحدَّثين إنْ كنتما ستتزوجان؟»
كانت ميليسينت تؤمن فعلًا بما تقوله؛ فمن الممكن بيع البيت سريعًا، من الممكن أن يعرضا البيت بسعر زهيد، فيشتريه مَنْ يشتريه. لا يزال بالإمكان عمل الترتيبات اللازمة. أو من الممكن هدمه للاستفادة من الطوب والأعمال الخشبية؛ سيسعد بورتر بالتخلُّص منه.
قالت دوري: «لا أتوقع منكِ أن تطرديني من بيتي.» والتزمت ميليسينت الصمت.
سألت دوري: «إنكِ تكذبين، أليس كذلك؟»
قالت ميليسينت: «إليَّ بكتابك المقدَّس لأقسم لكِ!»
بحثت دوري عنه فعلًا، قالت: «لا أعرف أين هو.»
«دوري، أنصتي إليَّ! كل ذلك لمصلحتكِ أنتِ. قد يبدو لكِ أنني أدفعك إلى الرحيل يا دوري، لكنني أحثُّكِ على الإقدام على الشيء نفسه الذي أراكِ غير مؤهَّلة للإقدام عليه من تلقاء نفسكِ.»
قالت دوري: «أوه، لماذا؟»
حدَّثَتْ ميليسينت نفسها: لأن كعكة الزفاف قد صُنِعت بالفعل، وكذا فستان الزفاف، والغداء قد طُلِب، والدعوات أُرسِلت؛ كل هذا العناء الذي تجشَّموه! قد يقول الناس إن هذا لَسبب سخيف، لكن الذي سيقول ذلك لن يكون من بين مَنْ تجشَّموا كلَّ هذا العناء. ليس مِنَ المُنصِف إهدارُ جهودهم.
لكن الأمر كان أكبر من ذلك، حيث كانت مؤمنة بما قالته لدوري بأن زواجها هو الطريقة الوحيدة التي ستنعم من خلالها بحياة. وماذا كانت دوري تعني ﺑ «لا يمكنني الرحيل عن المكان هنا»؟ لو كانت تعني أنها ستشعر بالحنين إلى الوطن، فَلْتشعر به! لم يكن الحنين إلى الوطن شعورًا يصعب التغلُّب عليه قطُّ. لم تكن ميليسينت لتُلقِي بالًا لحديث دوري عن «المكان هنا»، لم يكن من مصلحةِ أحدٍ أن يحيا «هنا» لو عُرِض عليه ما عُرِض على دوري. إنها لَخطيئة أن ترفض عرضًا كهذا بسبب العناد والرهبة والسذاجة.
بدأت تشعر أن دوري حُوصِرت، لعل دوري ستتراجع عن موقفها، أو تسمح على الأقل لفكرة التراجُع عن موقفها بالتسلُّل إليها، ربما. جلست كجذع شجرة دون أن تُحرِّك ساكنًا، لكن هذا الجذع ربما كان ليِّنًا من الداخل.
لكن ميليسينت هي التي شرعت في البكاء والنحيب فجأةً، وقالت: «أوه، دوري … لا تكوني ساذجة!» نهضتَا وتعانقَتَا، ثم أخذت دوري تُهدِّئ من روع صديقتها، وتربِّت على كتفَيْها بطريقة موقرة، بينما بكت ميليسينت وكرَّرت بعض الكلمات التي خلت من أي رابط: «سعيدة»، «مساعدة»، «سخيفة».
قالت عندما هدأت بعض الشيء: «سأتعهد ألبرت بالرعاية، وسأضع أكاليل الزهور على قبره، ولن أخبر موريل سنو بذلك، ولا بورتر. لا حاجة لأن يعرف أحدٌ بذلك.»
لم تقل دوري شيئًا، بَدَتْ ضائعة وشاردة قليلًا، وكأنها كانت منشغلة بالتفكير في شيء ما مرارًا وتكرارًا، وأسلمت نفسها لثقله وغرابته.
قالت ميليسينت: «هذا الشاي سيئ جدًّا؛ أَلَا يمكننا أن نصنع بعض الشاي الصالح للشرب؟» ذهبت لتُلقِي بمحتوى كأسها في دلو المخلفات السائلة.
هنالك وقفت دوري في دائرة الضوء الخافت للنافذة — عنيدة وطيِّعة وطفولية وأنثوية — أكثر إنسانة غرابة وجنونًا، بَدَا أن ميليسينت تمكَّنَتِ الآن من إخضاعها؛ إخضاعها وإقناعها بالرحيل. أقنعتها بالرحيل على حسابها الشخصي، هكذا حدَّثَتْ ميليسينت نفسها بأن الأمر كلَّفَها أكثر مما كانت تتوقَّع. حاولَتْ أن تلفت انتباه دوري بنظرة كئيبة ولكن مشجِّعة، فبدَّدَتْ نوبةَ بكائها. قالت: «سبق السيف العَذَل.»
•••
مضت دوري قدمًا في خطط زفافها.
لم يكن أحدٌ يعلم أنها كانت تعتزم القيام بذلك. عندما أوقف بورتر وميليسينت سيارتهما أمام بيتها لتوصيلها، كانت ميليسينت لا تزال تشعر بالقلق.
قالت: «اضغط على آلة التنبيه، الأفضل أن تكون جاهزة الآن.» قال بورتر: «أليست هي التي تهبط الدَّرَج هناك؟»
كانت هي. وكانت ترتدي على فستانها الحريري معطفًا رماديًّا فاتحًا كان لألبرت، وتحمل قبعتها الكلاسيكية الكبيرة في يدها، وفي اليد الأخرى باقة من أزهار الليلك. أوقفا محرك السيارة، فقالت: «لا، أريد أن أمشي، فالمشي يساعدني على تصفية ذهني.» لم يكن لديهما خيار سوى أن يواصِلَا قيادة السيارة وينتظراها في الكنيسة، ويريَاها وهي تقترب على مرأى الناس في الشارع، والناس يخرجون من المحلات لينظروا إليها، وبضع سيارات تطلق أصواتًا من آلة التنبيه تشجيعًا لها، وآخَرون يلوِّحون ويصيحون: «ها هي العروس!» وإذ دنت من الكنيسة، توقَّفت وخلعت معطف ألبرت، وحينئذٍ بَدَتْ برَّاقة ورائعة كعمود الملح في الكتاب المقدس.
كانت موريل داخل الكنيسة تعزف على الأُرغن؛ ولذا لم تدرك، في هذه اللحظة الأخيرة، أنهم نسوا تمامًا أمر الجوارب، وأن دوري أمسكت بسيقان نبات الليلك بيدين عاريتين. كان السيد سبيرز في الكنيسة أيضًا، لكنه خرج ضاربًا بكل القواعد والأعراف عرض الحائط، تاركًا القس واقفًا وحده. كان رشيقًا وشاحبًا وهمجيًّا تمامًا كما تذكَّرَتْه ميليسينت، لكنه عندما رأى دوري وهي تُلقِي بالمعطف القديم في مؤخرة سيارة بورتر، وتعتمر تلك القبعة على رأسها — كان على ميليسينت أن تهرع إليها لتصلح من هيئتها — بَدَا قانعًا بطريقةٍ تنمُّ عن النُّبْل. كان لدى ميليسينت صورة متخيَّلة عنه هو ودوري وهما يرتقيان ظهر الفِيَلة في ثياب رسمية، تسير بهما الدواب بمشقة، ويعيشان المغامرة معًا. مجرد رؤية. كانت متفائلة إلى أبعد الحدود، شاعرة بالارتياح، وهمست لدوري قائلة: «سيجوب بكِ العالَمَ كله! سيجعلك ملكة!»
•••
بعدها ببضع سنوات، كتبت دوري من أستراليا قائلةً: «زاد وزني بشدة، فأصبحت أشبه ملكة تونجا.» ثمة صورة ملحقة برسالتها أثبتَتْ أنها لم تكن تبالغ في قولها. كان شعرها أبيض، وبشرتها بُنية، وكأن نمشها ذاب على بشرتها وخضَّبها بالكامل. كانت ترتدي معطفًا كبيرًا يشع بألوان الأزهار الاستوائية. اندلعت الحرب ووضعت حدًّا لفكرة السفر إلى أي مكان، وعندما وضعت الحربُ أوزارَها، كان ويلكي يلفظ أنفاسه الأخيرة. لم تبرح دوري كوينزلاند حيث عاشت في مزرعة كبيرة، وعكفت على زراعة قصب السكر والأناناس والقطن والفول السوداني والتبغ. كانت تركب الخيل على الرغم من حجمها، وتعلَّمت أيضًا قيادة الطائرات، وحلَّقت وحدها بضع مرات في تلك البُقعة من العالَم، واصطادت التماسيح. وقضت نحبها في الخمسينيات من عمرها في نيوزيلندا وهي تتسلَّق جبلًا كي تتطلَّع إلى أحد البراكين.
أخبرت ميليسينت الجميع بما زعمت أنها لن تفصح عنه. وبالطبع كان لها الفضل. تذكَّرَتْ مصدرَ وحيها، تذكَّرَتْ حيلتها بلا ندم، قالت: «كان على أحدهم أن يأخذ بزمام الأمور.» شعرت أنها نجحت أن تَهِبَ دوري حياةً جديدة على نحوٍ أكثر فاعليةً ممَّا فعلت مع أبنائها؛ فقد خلقت حالة من السعادة، أو ما شابه ذلك. نسيتْ كيف بكت دون أن تعرف السبب.
كان لحفل الزفاف أثره على موريل، فقد قدَّمت استقالتها، وسافرت إلى ألبرتا، قالت: «سأمنح نفسي مهلة عام.» وفي غضون عام، كانت قد عثرت على زوج يختلف كل الاختلاف عن الرجال الذين كانت تعرفهم في الماضي. كان رجلًا أرمل لديه طفلان صغيران؛ كان قسًّا مسيحيًّا. تعجَّبَتْ ميليسينت من وصف موريل له، أليس جميع القساوسة مسيحيين؟ عندما عادَا لزيارتها — بعد أن أمسى عندهما طفلان آخَران — فهمت الهدف من هذا الوصف؛ فقد طُوِيت صفحة التدخين وشرب الخمر والسباب وكذلك التبرُّج، ونوعية الموسيقى التي اعتادت موريل على عزفها؛ أمست تعزف الآن تراتيل كتلك التي كانت تسخر منها في السابق. وأضحت لا تهتم بألوان ثيابها، ولا تستخدم مثبتًا جيدًا لشعرها الذي أصابه الشيب وبرز عند جبهتها متجعدًا. قالت: «عندما أسترجع فتراتٍ كثيرة من حياتي السابقة، أشعرُ بالغثيان.» وأحَسَّتْ ميليسينت أن موريل تحسبها هي وبورتر على أغلب الظن من المنتمين إلى تلك الأوقات التي كانت تُشعِرها بالغثيان.
•••
لم يُبَعِ البيت أو يُؤجَّر لأحد. ولم يُهدَم أيضًا، فبنيانه كان قويًّا لدرجة أنه لم يَنْهَرْ بسرعة. كان من الممكن أن يصمد لسنين طويلة، ويحتفظ بشكله المقبول. من الممكن أن تتفرَّع الشقوق بين الطوب دون أن ينهار الجدار. أُطُر النوافذ كانت مائلة، لكن النوافذ لم تسقط. وكانت الأبواب مُوصَدة، لكن يُحتمَل أن الأطفال تسلَّلوا ليكتبوا على الجدران، ويكسروا الآنية الفخارية التي خلَّفَتْها دوري وراءها. لم تدخل ميليسينت إلى البيت قطُّ لتُلقِي نظرة.
كان ثمة شيء اعتاد كلٌّ من دوري وألبرت القيام به، وبعدها أمست دوري تفعله وحدها … لا بد أنهما اعتادا عليه في طفولتهما. كلَّ عام في فصل الخريف، كانا يجمعان — ثم هي من بعده — كلَّ الجوز الذي يسقط من الأشجار، وكانا يعكفان على جمع عددٍ أقل شيئًا فشيئًا من ثمار الجوز حتى يوقنان إلى حدٍّ كبير بأنهما جمعَا آخِر ثمرة، أو على الأقل الثمرة قبل الأخيرة، ثم يعدَّان ما جمعاه، ويدونان الإجمالي على جدار القبو؛ التاريخ والعام والإجمالي. لم تكن ثمار الجوز تُستخدَم في أي شيء ما إن تُجمَع، بل كان يُلقَى بها بطول الحقل وتُترَك حتى تتعفَّن.
لم تواصِل ميليسينت هذه المهمة العقيمة بعد دوري، فقد كان لديها الكثير من المهام الأخرى التي يجب أن تضطلع بها، وكثير من المهام المتعلِّقة بأطفالها. ولكن، عندما آن أوان سقوط ثمار الجوز على العشب الطويل، كانت تفكِّر في هذه العادة، وكيف أن دوري كانت تتوقَّع ألَّا تنقطع عنها حتى مماتها. حياة حافلة بالعادات، بالمواسم؛ ثمار الجوز تسقط، وفئران المسك تسبح في جدول الماء. لا بد أن دوري ظنَّتْ أن هذه هي الحياة المُقدَّرة لها، هذه الحياة الغريبة الأطوار نوعًا ما، لا بد أنها ظنَّتْ أن القَدَر كتب لها أن تحيا حياةَ الوحدة التي يمكنها أن تتحمَّلها. الأرجح أنها كانت ستشتري كلبًا آخَر.
حدَّثَتْ ميليسينت نفسها بأنها لم تكن لتسمح لها بذلك، لم تكن لتسمح بذلك، ولا شك أنها على حقٍّ. لقد عاشت حتى طعنت في السن، وما زالت على قيد الحياة، ولو أن بورتر مات منذ عقود. البيت لا يلفت انتباهها كثيرًا، ها هو قابع هناك وكفى. لكن بين الحين والآخر، ترى واجهته التي ملأتها الشقوق، نوافذه الخاوية المائلة، وأشجار الجوز خلفه تفقد مرارًا وتكرارًا ظُلَّتها الرقيقة من الأوراق.
قالت إنه حريٌّ بها أن تهدم هذا البيت، وتبيع لَبِناته، وتساءلت لماذا لم تُقدِم على ذلك حتى الآن.