العذراء الألبانية
في جبال مقاطعة مالتسيا إي ماد، لا بد أنها حاولت أن تخبرهم باسمها، لكنهم لم يفهموا منها سوى «لوتار». كانت مصابة في ساقها من جرَّاء السقوط على صخور حادة عندما أُصِيبَ مرشدها بطلق ناري. كانت تعاني من حمَّى. لم تكن تعلم كَمْ من الوقت مضى حتى نقلوها عبر الجبال، بعد أن لفُّوها بدثار غليظ ووضعوها بإحكام على ظهر حصان. أعطوها ماءً حتى تشرب بين الحين والآخر، وأحيانًا كانوا يقدِّمون لها شرابًا مسكرًا قويًّا جدًّا يسمُّونه «راكي»، وهو ضربٌ من البراندي. رائحة أشجار الصنوبر كانت تتسلَّل إلى أنفها. ذات مرة، كانوا على متن قارب، فاستيقظتْ وتطلَّعت إلى النجوم وهي تلمع ويخبو بَريقها وتتبدَّل مواقعها — عناقيد غير مستقرة جعلتها تشعر بالغثيان. لاحقًا أدركتْ أنهم في البحيرة لا محالة؛ بحيرة سكوتاري أو سكودر أو سكودرا. توقَّفوا بين أعواد القصب … كان البساط يعجُّ بالحشرات الضارة التي تسلَّلت تحت الخِرقة المربوطة حول ساقها.
في نهاية رحلتها، ولو أنها لم تكن تعلم أنها النهاية، كانت مستلقية في كوخ صغير من الأحجار، وكان هذا الكوخ هو البناء الخارجي الملحق ببيت كبير يُعرَف باسم «كولا»، كان كوخًا للمرضى والمحتضرين. لم يكن مخصَّصًا للولادة؛ فنساءُ هذه البقعة كن ينجبن في الحقول أو على قارعة الطريق بينما كنَّ يَحْمِلْنَ حِمْلًا إلى السوق.
ربما مضى عليها أسابيع وهي مستلقية على فراش من السرخسيات المتراكمة. كان الفراش مريحًا ويمكن تبديله بسهولةٍ إذا ما تلوَّث أو لامَسَه الدم. كان اسم العجوز التي تتعهَّدها بالرعاية تيما. سدت جُرحها بمعجون مصنوع من شمع النحل وزيت الزيتون وراتنج الصنوبر. كانت الضمادة تُستبدَل عدة مرات يوميًّا، وكان الجرح يُغسَل بشراب «راكي». استطاعت لوتار أن ترى ستائر سوداء تتدلَّى من العوارض الخشبية، وحسبت أنها بغرفتها في بيتها بصحبة أمها (التي كانت قد تُوفِّيت) والتي كانت تتعهَّدها بالرعاية. سألت: «لِمَ علَّقتِ هذه الستائر؟ إنها تبدو بَشِعة!»
كانت ترى بالفعل خيوط عنكبوت، خيوطًا غليظة ومغطَّاة بالغبار، خيوط عنكبوت قديمة، لم يمسَسْها شيءٌ على مدار السنين.
وفي هذيانها، شعرت أيضًا بلوح عريض يضغط على وجهها؛ شيء أشبه بلوح التابوت. لكن عندما عادت إلى رشدها، أدركت أن هذا الشيء لم يَعْدُ كونه صليبًا؛ صليبًا خشبيًّا أراد رَجَل أن يحملها على تقبيله. كان الرجل قَسًّا فرنسيسكانيًّا، طويلَ القامة، صارمَ الملامح، أسود الحاجبين والشارب، كريهَ الرائحة، يحمل بخلاف الصليب مسدسًا أدركت لاحقًا أنه من نوع براونينج. علم من هيئتها أنها مسيحية — غير مسلمة — لكنه لم يدرك أنها ربما تكون مُلحِدة. كان يتحدَّث القليل من الإنجليزية، لكنه كان يلفظ الكلمات بطريقة صَعُبَ عليها فهْمُها، ولم تكن تعرف آنذاك شيئًا من لغة الجيج. لكن بعد أن هدأت الحُمَّى، وعندما حاول أن يتحدَّث إليها بالإيطالية، استطاعا أن يتبادلا أطرافَ الحديث لأنها كانت قد تعلَّمت الإيطالية في المدرسة، وجابت إيطاليا لمدة ستة أشهر. أدرك أكثر بكثير من أي شخص ممَّنْ حولها أنها كانت تتوقَّع منه — في البداية — أن يفهم كل ما تقوله.
سألته عن أقرب مدينة، فأجابها أنها سكودرا. طلبت منه أن يقصد هذه المدينة، ويبحث عن القنصل البريطاني، إن وُجِد. أنا أنتمي إلى الإمبراطورية البريطانية. قل لهم إنني هنا، أو إذا لم تجد قنصلًا، فاذهب إلى مخفر الشرطة.
لم تكن تَعِي أن أحدًا لن يقصد مخفر الشرطة أبدًا تحت أي ظرف، لم تكن تعلم أنها أصبحت تنتمي الآن إلى هذه القبيلة التي تُدعَى «كولا»، حتى بالرغم من أنهم لم تكن لديهم نية قطُّ لاحتجازها، بل كان ما حدث خطأً محرجًا.
فالهجوم على امرأة أمرٌ مخزٍ على نحوٍ لا يُصدَّق. عندما أطلقوا النار على مرشدها وأَرْدَوْه قتيلًا، حسبوا أنها ستعود أدراجها على صهوة جوادها، وتسلك طريق الهبوط من الجبل وصولًا إلى الحانة. لكن جوادها أصابه الذعر من صوت الرصاص، وتعثَّر بين الصخور، فسقطت عن صهوته، وأُصِيبت بجرح في ساقها؛ ومن ثَمَّ لم يكن ثمة خيار أمامهم سوى حَمْلها معهم إلى القبيلة عبر الحدود الفاصلة بين كرنا جورا (التي تعني «الصخرة السوداء» أو مونتينيجرو) ومنطقة مالتسيا إي ماد.
سألت ظنًّا منها أن السرقة هي الدافع: «ولكنْ، لِمَ سرقتم مرشدي ولم تسرقوني؟» فكَّرت كَمْ بَدَا الرجل وحصانه يتضوَّران جوعًا، وسرحت بأفكارها في الخِرق البيضاء المتطايرة من عصابة رأسه.
قال القَسُّ الفرنسيسكاني مذهولًا: «أوه، إنهم ليسوا لصوصًا! إنهم رجال شرفاء. لقد أطلقوا النار عليه لأن بينهم وبينه ثأرًا، بينهم وبين عائلته. هذا هو قانونهم.»
قال لها إن الرجل الذي أُصِيبَ بطلق ناري — ويعني مرشدها — قَتل رجلًا من قبيلة «كولا» هذه. ولقد قتله مرشدك؛ لأن رجلًا من هذه القبيلة قتل رجلًا من قبيلة مرشدك. هكذا يدورون في حلقة مفرغة، وهكذا كان الوضع لفترة طويلة، كان هناك دومًا المزيد من الأبناء الذين يأتون إلى الحياة. إنهم يعتقدون أن لديهم من الأبناء ما يتجاوز أبناء غيرهم في شتى أنحاء العالم، وكثرتهم تَفِي بهذا الغرض وتسدُّ هذه الحاجة الماسة.
اختتم القَسُّ الفرنسيسكاني كلامه قائلًا: «حسنٌ، إنها لَجريمة بَشِعة! لكنها ارتُكِبت صونًا لشرفهم، وشرف عائلتهم. إنهم دومًا على استعداد للموت من أجل شرفهم.»
قالت لو كان مرشدها قد فرَّ إلى كرنا جورا، فلم يكن ذلك ليوحي بأنه كان على أهبة الاستعداد.
سألها القس الفرنسيسكاني: «لكن ذلك لم يُحدِث أي فارق، أليس كذلك؟ حتى لو كان قد فرَّ إلى أمريكا، فلم يكن ذلك ليُحدِث فارقًا.»
•••
في مدينة تيريستي ركبت سفينة بخارية لتبحر بطول ساحل دالماتيا. كانت برفقة صديقيها السيد كوزينز وزوجته اللذين التقت بهما في إيطاليا، وصديقهما الدكتور لام الذي انضمَّ إليهما من إنجلترا، ورست بهم السفينة في ميناء بار الصغير الذي يسميه الطليان أنتيفاري، وباتوا ليلتهم في الفندق الأوروبي. بعد العشاء، جالوا في الشرفة، كانت السيدة كوزينز تهاب البرد، فعادوا إلى الداخل ولعبوا لعبة الورق. كان الجو ممطرًا ليلًا؛ استيقظت وأنصتت لصوت قطرات المياه، وشعرت بإحباط شديدٍ أثارَ عندها إحساسًا بالاشمئزاز تجاه هؤلاء الأشخاص الذين ينتمون للعصور الوسطى، وخاصةً السيد لام الذي تعتقد أن آل كوزينز دعواه للمجيء من إنجلترا لتلتقي به. لعلهما ظنَّا أنها ثريَّة! ربما حسباها وريثة لثروة طائلة تجوب الأطلسي بلكنتها الغريبة التي يستطيعان بالكاد أن يتغاضيا عنها. هؤلاء الناس يأكلون بشراهة، ثم يضطرون إلى تعاطي أقراص طبية. وكان القلق يساورهم من الوجود في أماكن غريبة. لِمَ جاءوا إذن؟ في الصباح، سيتعين عليها العودة بصحبتهم إلى السفينة وإلا أحدثوا جلبة. لم يكونوا ليسلكوا الطريق الجبلي أبدًا إلى سيتيني — عاصمة مونتينيجرو — فقد قيل لهم إنه ليس من الحكمة سلوك ذاك الطريق. هي لن ترى أبدًا برج الأجراس الذي كانت رءوس الأتراك تتدلَّى منه، أو شجرة الدلب التي اجتمع الناس حولها ليستمعوا لأمير الشعراء. لم تستطع أن تخلد إلى النوم مجددًا، فقرَّرت أن تنزل مع أول ضوء للنهار حتى لو استمرت الأمطار في هطولها، وأن تقطع ولو مسافةً بسيطة من الطريق لترى فقط الأطلالَ التي كانت تعرف أنها موجودة هناك بين أشجار الزيتون، والقلعة النمساوية القابعة على صخرتها، والوجه المظلم لجبل لوفتشين.
شجَّعَها الجو على المضي قدمًا في خططها، وكذلك موظف الاستقبال بالفندق الذي استدعى لها على الفور مرشدًا رثَّ الهيئة ولكن بشوش الوجه، مع حصانه الهزيل. وانطلقا، هي على صهوة الحصان، ومرشدها سائر على قدميه. كان الطريق منحدرًا ومليئًا بالمنحنيات والصخور، والشمس تزداد حرارة، والظل المتقطع باردًا ومظلمًا. شعرت بالجوع يداهمها، وفكرت في ضرورة أن تعود أدراجها قريبًا. كانت ستتناول طعام الإفطار مع رفاقها الذين يستيقظون في وقت متأخر.
لا شك أن البحث جارٍ عنها الآن بعد العثور على جثة المرشد. لا بد أن السلطات لديها علم بالواقعة — أيًّا كانت هذه السلطات — ولا بد أن السفينة البخارية أبحرت في موعدها المحدد، وأن أصدقاءها رحلوا على متنها. لم تحتفظ إدارة الفندق بجوازات سفرهم، ولم يكن أحد في كندا ليفكر في التحقُّق من الأمر؛ فهي لم تكن تراسل أحدًا بانتظام، انقطعت الاتصالات بينها وبين أخيها إثر وفاة والديها. قال لها أخوها ذات مرة إنها لن تعود إلى أرض الوطن إلا بعد أن تنفق إرثها كله، وتساءل عمَّن سيتعهدها بالرعاية حينئذٍ.
عندما كانت محمولة على الأعناق عبر غابة الصنوبر، أفاقت ووجدت نفسها مكبَّلة ومستسلِمة — على الرغم من الألم، ربما بفعل شراب «راكي» — استسلامَ المذهول. استقرت عيناها على الحزمة التي كانت متدلية من سرج الرجل السائر أمامها، ترتطم بمؤخرة الحصان، كانت بحجم ثمرة الكرنب الملفوفة في قماشٍ مُتَيَبِّسٍ ورَثِّ الهيئة.
•••
سمعتُ هذه القصة في مستشفى سانت جوزيف القديم في فيكتوريا من شارلوت التي كانت صديقتي خلال أيامي الأولى هناك. بَدَتْ صداقاتي حينئذٍ حميمة وغامضة. لم أعرف قطُّ لماذا كان الناس يَقصُّون عليَّ قصصهم، أو ما الذي أرادوا مني تصديقه.
جئتُ إلى المستشفى بالورود والشيكولاتة. رفعت شارلوت رأسها بشعرها المقصوص الخفيف الأبيض اللون لترى الورود، وقالت: «عجبًا! لا رائحة لها! على الأقل بالنسبة إليَّ. إنها جميلة لا شك.» وأضافت: «يجب أن تأكلي الشيكولاتة بنفسك، فكلُّ شيء طعمه كالقطران في فمي. لا أدري كيف تأتَّى لي أن أعرف طعم القطران، ولكن هذا هو ظني.»
كانت محمومة، وعندما أمسكتُ بيدها، وجدتُها ساخنة ومتورِّمة. قصَّ أحدهم شعرها بالكامل مما جعلها تبدو وكأنها فقدت بعضًا من لحمها المحيط بوجهها وعنقها، وبَدَا الجزء المغطَّى من جسدها بملاءات المستشفى مترهِّلًا ومتكتِّلًا كما هو شأنه دائمًا.
قالت: «لكن لا تحسبي أنني ناكرة للجميل! اجلسي، أحضري الكرسي الذي هناك، فهي لا تحتاجه.» كان في الغرفة امرأتان أخريان؛ إحداهما بدت وكأنها حِفنة من الشعر الأشيب المائل إلى الصفرة موضوعًا على الوسادة، والأخرى مقيَّدة في مقعدها تتلوَّى وتتذمَّر.
قالت شارلوت: «هذا مكان مريع! لكن يجب أن نبذل قصارى جهدنا فحسب للتكيُّف معه. إنني مسرورة جدًّا لرؤيتك.» وأضافت مشيرة برأسها تجاه السرير المجاور للنافذة: «هذه المرأة لا تكفُّ عن الصراخ طوال الليل. علينا أن نحمد الرب على أنها نائمة الآن. لا يداعب النوم جفوني مطلقًا، لكنني أستغلُّ الوقت على الوجه الأمثل. ماذا كنتُ أفعل في رأيك؟ كنت أعكف على تأليف قصة لفيلم سينمائي! كل تفاصيلها في ذاكرتي، وأريد أن أقصَّها عليكِ. تستطيعين الحكم عليها بما إنْ كانت تصلح لفيلم جيد أم لا. أعتقد أنها تصلح لفيلم جيد. أريد أن تلعب جينيفر جونز دور البطولة فيه؛ ومع ذلك، فإنني لستُ متأكِّدة، فهي لم تَعُدْ تحتفظ بنفس الروح؛ فقد تزوَّجتْ من ذلك المغولي.»
قالت: «اسمعي — لكنْ هَلَّا رفعتِ هذه الوسادة قليلًا، وراء رأسي؟ — أحداثُ الرواية تدور في ألبانيا، وتحديدًا شمالي ألبانيا التي كانت تُعرَف حينئذٍ باسم مالتسيا إي ماد في عشرينيات القرن العشرين عندما كانت الحياة بدائية جدًّا. تحكي قصةَ فتاة صغيرة تسافر وحدها، اسمها في القصة لوتار.»
جلستُ وأَعَرْتُها انتباهي، كانت شارلوت تميل للأمام، بل إنها حتى تتأرجح بعض الشيء على فراشها غير الوثير لتؤكِّد لي على نقطةٍ ما. كانت تلوِّح بيديها المتورِّمتيْن لأعلى ولأسفل، وعيناها الزرقاوان اتسعتا في حسم، ثم من آنٍ لآخر كانت تتكِئ على الوسادة مجددًا، وتُغلِق عينيها لكي تستجمع تفاصيل القصة. قالت: نعم، نعم. ثم تابعت الحكاية.
وأخيرًا قالت: «نعم، نعم. أعرف كيف تسير الأحداث، ولكن كفاكِ هذا القدر الآن. عليكِ العودة غدًا لتتعرَّفي على المزيد. غدًا، هل ستأتين؟»
أجبتُها: «نعم، غدًا.» وبَدَا أن النعاس غلبها قبل أن تسمع إجابتي.
•••
كان «الكولا» عبارة عن بيتٍ رائع من الأحجار الخشنة يحتوي على إسطبل في الطابق السفلي وأماكن المعيشة في الطابق العلوي. وثمة شرفة كانت تحيط به في كل الجهات، وكانت هناك دومًا امرأة عجوز تجلس بالشرفة تحمل أداة غريبة مزوَّدة ببكرة، تطير كطائر حائر من يدها اليمنى إلى اليسرى تاركةً شريطًا أسود لامعًا. أميالٌ متتابعة من الشرائط السوداء اللامعة التي تزيِّن جميعَ سراويل الرجال. ثمة نساء أخريات كنَّ يعملن على الأنوال، أو يُرَقِّعْن الصنادل الجلدية معًا. لم يجلس أحد هناك ليحيك شيئًا؛ لأن أحدًا لم يفكِّر في الجلوس لإنجاز أعمال الحياكة. الحياكة عمل كُنَّ يضطلعن به كلما ذهبن إلى ينبوع الماء ويرجعن منه ودِلاء المياه مربوطة على ظهورهن، أو كلما سلكن الدربَ المؤدِّي إلى الحقول أو إلى غابة أشجار الزان حيث كنَّ يجمعن الفروع الساقطة. كُنَّ يغزلن الجوارب — باللونين الأسود والأبيض، أو باللونين الأحمر والأبيض — بخطوط متعرجة كضربات البرق. يجب ألَّا تُترَك النساء بلا عمل. قبل الفجر، كُنَّ يعجنَّ دقيقَ الخبز في وعاءٍ خشبي استحال لونُه إلى السواد، ويُشكِّلْنَه في صورة أرغفة من الخبز على الصاج المُعَدِّ لذلك، ويخبزنه على الموقد (كان خبزًا غير مختمر من الذرة، يُؤكَل ساخنًا وينتفخ كالفِطر النفَّاث في المعدة). وبعدها، كُنَّ يكنسن «الكولا»، ويلقين بالسراخس العفنة، ويجمعن حِمْل أذرعهن من السراخس النضرة للنوم عليها الليلة التالية. كانت هذه عادةً إحدى المهام التي اضطلعت بها لوتار بما أنها لم تكن بارعة فيما خلاها من مهام. الفتيات الصغار كُنَّ يقلبن الزبادي حتى لا يتكتل وهو يتخمر، أما الفتيات الأكبر سنًّا، فربما ينحرنَ عنزة صغيرة، ويَخطْنَ بطنها بعد أن يحشينها بالثوم البري والمريمية والتفاح، أو قد يذهبن معًا؛ النساء والفتيات من كل الأعمار، ليغسلن الأوشحة البيضاء للرجال في مياه النهر القريب، الباردة والصافية صفاء الزجاج. كُنَّ يتعهدن محصول التبغ بالرعاية، ويُعلِّقن أوراقه الناضجة لتجف في الحظيرة المعتمة، ويعزقن الذرة والخيار، ويحلبن النِّعاج.
بدت النساء صارمات، لكنهن لم يكنَّ كذلك في واقع الأمر؛ جُلُّ ما في الأمر أنهن كن منشغلات، ومتفاخرات بأنفسهن، وكلهن حماس للمنافسة؛ مَنْ يقدر على رفع أكبر حِمْل من الخشب؟ مَنِ الأسرع في الحياكة وفي قطع أكبر عدد من صفوف أعواد الذرة؟ كانت تيما، التي تعهَّدت لوتار بالرعاية في مرضها، أبرزَ النساء العاملات على الإطلاق؛ فقد كانت تقطع المنحدر المؤدِّي إلى «الكولا» عَدْوًا حاملةً على ظهرها حملًا من الخشب بَدَا أنه عشرة أمثال حجمها، وكانت تقفز من صخرة إلى أخرى في النهر، وتزيح الأوشحة وكأنها تنهال ضربًا على الأعداء. كان النسوة يهلِّلن «أوه، تيما، تيما!» بإعجاب ساخر، و«أوه، لوتار، لوتار!» بالنبرة نفسها تقريبًا عندما تركت لوتار — التي هي على العكس تمامًا من تيما فيما يتعلَّق بجدواها — الملابسَ تنجرف بعيدًا في النهر. أحيانًا كنَّ يضربن لوتار بعصًا كما يضربن الحمير، لكنه ضربٌ يحمل في طيَّاته السخط لا القسوة، وأحيانًا ما كان الصغار يقولون: «تحدَّثي بلغتك!» فتتحدَّث الإنجليزية لتسليتهم. كنَّ يَتجهَّمْنَ ويَبصقْنَ تأفُّفًا من تلك الأصوات الغريبة التي تُصدِرها. حاولتْ أن تُعلِّمهنَّ بعض الكلمات — «يد» و«أنف» وما إلى ذلك — لكن هذه الكلمات بَدَتْ مُضحِكةً بالنسبة إليهنَّ، فكانت الواحدة منهن تردِّدها على مسامع الأخريات، فيقعن على الأرض من فرط الضحك.
كانت النساء ترافقن النساء، والرجال بصحبة الرجال، باستثناء بعض الأوقات ليلًا (النساء اللائي كنَّ يتعرَّضْنَ للسخرية بشأن تلك الأوقات كنَّ يشعرن بحالة من الإحراج الشديد والرفض، وأحيانًا ما كنَّ يصفعن مَنْ يُمازِحهنَّ بشأنها)، وفي أوقات الوجبات التي تقدِّم فيها النساءُ الطعامَ للرجال. ولم يكن للنساء أيُّ دخل بما يفعله الرجال طوال اليوم؛ كان الرجال يصنعون ذخائرهم، ويُولون عنايةً خاصة لبنادقهم التي كانت تُوضَع في صناديق جميلة مزدانة بنقوش فضية، وكانوا ينسفون الصخور بالديناميت أيضًا لإخلاء الطريق، ويتحمَّلون مسئولية الجياد. أينما كانوا، كانت ضحكاتهم وأناشيدهم تتعالى، وتمتزج بأصوات إطلاق العيارات الفارغة، والأوقات التي كانوا يمضونها بالبيت، كانت بمنزلة إجازة بالنسبة إليهم، ثم كان بعضهم ينطلق على صهوة حصانه في رحلة لإنزال العقاب بأحدهم، أو لحضور مجلس كان يُعقَد لوضع حدٍّ لسلسلة من عمليات القتل. ولم تكن تؤمن أيٌّ من النساء بأن تلك المجالس تُجدِي نفعًا؛ كنَّ يضحكن ويقلن إنها ستُفضِي فحسب إلى مقتل ٢٠ آخرين. وكلما انطلق شاب في أول مهمةِ قتلٍ له، كانت النسوة يُحدِثن جلبة كبيرة بشأن ملابسه وتسريحة شعره لتشجيعه. وإذا أخفق، لم يكن يجد لنفسه زوجة؛ فأي امرأة مهما بلغت منزلتها كانت تخجل أن تتزوَّج رجلًا لم يسبق له أن قتل. والجميع كانوا توَّاقين لوجود عرائس جُدد بالبيت ليساعِدنَ في أعماله.
ذات ليلة، بينما كانت لوتار تقدِّم الطعام لواحدٍ من الرجال — وكان ضيفًا؛ حيث جرى العُرْف دومًا على دعوة ضيوف لتناوُل الوجبات على الطاولة المنخفضة التي يسمُّونها «سُفْرَة» — لفت انتباهها كم كانت كفاه صغيرتين، ومعصماه خاليين من الشعر، وعلى الرغم من ذلك لم يكن صغيرًا، لم يكن صبيًّا؛ كان وجهه بلا شارب، مليئًا بالتجاعيد. أنصتَتْ لصوته وهو يتكلم، فبدا لها أجشَّ ولو أنه أنثوي، لكنه كان يدخِّن، ويتناول طعامه بصحبة الرجال، ويحمل بندقية.
سألت لوتار زميلتها في تقديم الطعام: «أهذا رجل؟» هزَّتِ المرأة رأسها مُعرِبةً عن عدم رغبتها في الكلام؛ حيث يمكن للرجال سماعهما، لكن الفتيات اللائي سمعن سؤالها لم يكنَّ حريصات قطُّ؛ أخذنَ يقلِّدن لوتار: «أهذا رجل؟ أهذا رجل؟ أوه، لوتار، يا لكِ من ساذجة! ألَّا تميِّزين العذراء عندما ترين واحدة؟»
لم تسألهم عن شيء آخَر، لكن في المرة التالية التي وقعت فيها عيناها على القس الفرنسيسكاني، جاءته هرولةً لتطرح عليه سؤالها: ما العذراء؟ كان عليها أن تتعقَّبه؛ لأنه لم يكن يتوقَّف ويتبادل معها أطرافَ الحديث كما كانت عادته لمَّا كانت طريحةَ الفراش في الكوخ. كانت دومًا تعمل حين يحضر إلى «الكولا»، ولم يكن بوسعه تمضية وقت طويل مع النسوة على أية حال؛ فقد كان يجالس الرجال. لاحقَتْه عندما رأته يهمُّ بالرحيل بخطواته السريعة على الطريق المحاط بأشجار السماق، متَّجِهًا نحو الكنيسة الخشبية العارية، وصولًا إلى البيت المتاخم للكنيسة حيث كان يقيم.
قال: إنها كانت امرأة، ولكنها امرأة صارت كالرجال؛ فهي لم تُرِدْ أن تتزوَّج، وقطعت على نفسها عهدًا على مرأًى ومسمع من الناس بأنها لن تتزوَّج أبدًا، ثم ارتدت ثياب الرجال، وأصبحت لديها بندقيتها الخاصة. بإمكانها اقتناء حصان إنِ استطاعت، وهي تعيش كيفما يحلو لها. كانت فقيرة عادةً، ولم تكن هناك نساء يعملن لديها، لكنَّ أحدًا لم يكنْ يضايقها، وصار بإمكانها مشاركة الرجالِ الطعامَ على «السُّفْرة».
لم تَعُدْ لوتار تتحدَّث مع القس بشأن الذهاب إلى سكودرا؛ فقد استوعبت أن المسافة التي تفصلها عنها لا بد أنها طويلة جدًّا. كانت أحيانًا تسأله عمَّا إذا كان سمع خبرًا يعنيها، وما إذا كان أحد بصدد البحث عنها، فيُجِيبها بتجهُّم أنْ لا أحدَ فعل. وكلما فكَّرت كيف كانت تتصرَّف خلال الأسابيع الأولى التي عاشتها هنا — تُملِي على الآخرين الأوامر، وتتكلَّم الإنجليزية دون حرج، وتعتقد يقينًا أن حالتها الخاصة جديرةٌ بالاهتمام — خالَجَها شعورٌ بالخزي من ضيق أفقها وقلة استيعابها للأمور. وكلما طال بها الأمد في «الكولا»، برعت أكثر في استخدام لغة قومها، واعتادت على العمل، وبَدَتْ لها فكرةُ الرحيل أمرًا مستغربًا. يومًا ما سيتعيَّن عليها الرحيل، لكن كيف يتسنَّى لها ذلك الآن؟ كيف ترحل في منتصف موسم جمع التبغ، أو حصاد السماق، أو في خِضَمِّ التجهيزات للاحتفال بعيد نقل رُفات القديس نيكولاس؟
في حقول التبغ، كنَّ يخلعن ستراتهن الضيقة وقمصانهن، ويعملن نصف عاريات تحت أشعة الشمس الحارقة، متخفيات بين صفوف النباتات العالية. كانت عصارة التبغ داكنةً وثخينةً كدِبْس السكر، وكانت تسيل على أذرعهن وتلطخ صدورهن. في الغسق، كُنَّ يقصدن النهر ويغتسِلْنَ، ويخضن في المياه الباردة، فتياتٍ ونساءً؛ حيث كانت الواحدة منهن تحاول دَفْع الأخريات ليفقدن توازُنهن، وسمعت لوتار اسمها يتردَّد بنبرات تحذير وانتصار دون احتقار، شأنه شأن غيره من الأسماء: «لوتار، حذارِ لوتار!»
أطلعنها على أشياء. قلن لها إن الأطفال يموتون هنا بسبب «ستريجا»، حتى الكبار يصيبهم الوهن ويموتون أحيانًا عندما تُلقِي عليهم اﻟ «ستريجا» تعويذتها. تبدو «ستريجا» وكأنها امرأة عادية؛ لذا لا يمكن لأحدٍ الجَزْمُ بهويتها. إنها تمصُّ الدماء، وإنْ شئتَ أن تأسرها، فلا بد من وضع صليب على عتبة الكنيسة في عيد الفِصْح عندما يكون الجميع بالداخل؛ حينئذٍ، سيتعذَّر على المرأة التي هي اﻟ «ستريجا» الخروجُ، أو من الممكن تعقُّب المرأة المشتبَه بها لتراها وهي تستفرغ دمًا. وإذا استطعتَ أن تأخذ عينة من هذا الدم على عُملة فضية، وتحملها في جعبتك، فلن تمَسَّكَ أيُّ «ستريجا» أبدًا بسُوءٍ.
ستستحيل قَصَّة الشعر عند اكتمال القمر إلى اللون الأبيض.
إذا كنت تعاني من آلام في الأطراف، فقُصَّ بعضًا من شعر رأسك وإبطيك واحرقْه؛ حينئذٍ ستختفي الآلام.
«الأُوراز» شياطين تخرج ليلًا، وتومض وميضًا زائفًا لتُربِك المسافرين وتجعلهم يضلون الطريق. يجب أن تربض أرضًا وتغطِّي رأسك، وإلا فسيَسُوقونك إلى جرفٍ فتهلك، وكذلك فهم يحاصرون الجياد ويمتطونها حتى تهلك.
•••
جُمِعَ التبغ وسِيقت الأغنام من المنحدرات، وحُوصِر الحيوان والناس على حدِّ سواء في «الكولا» خلال أسابيع الثلج والأمطار الباردة. وذات يوم، مع بشائر الدفء الأولى لشمس الربيع، ساقت النساء لوتار إلى الكرسي الموجود بالشرفة، وهناك في أجواءٍ احتفاليةٍ سارة، قصصْنَ الشَّعْر الذي يعتلي جبينها تمامًا، ثم صففن بعضَ شعرها للوراء، وخلَّلْنَ ما تبقى منه بصبغة للشعر. كانت الصبغة زيتية حتى إن الشعر بَدَا متيِّبسًا جدًّا، فصار بإمكانهن تشكيله على هيئة أجنحة وكعكات. الجميع احتشدن من حولها؛ منهن المنتقِد ومنهن المُعجَب. وضعن دقيقًا على وجهها، وألبسنها ثيابًا أخرجْنَها من واحدة من الخزائن الضخمة المنحوتة. تساءلت عن السبب وراء هذه الجلبة، بينما وجدتْ نفسَها تختفي داخل بلوزة بيضاء مزركشة بنقوش ذهبية، وصدرية حمراء ذات كتفيتيْن محشوتين، ووشاح من الحرير المخطط يبلغ عرضه ياردة كاملة، وطوله اثنتا عشرة ياردة، وتنورة صوفية يجتمع فيها اللونان الأسود والأحمر، بالإضافة إلى سلسلةٍ تلو أخرى من الذهب الزائف الموضوع على شعرها وحول عنقها. قلن لها إن السببَ إبرازُ جمالها، وعندما انتهين قلن: «انظروا! إنها جميلة!» نطقنها بانتصارٍ وتحدٍّ لمَن شككْنَ في إمكانية تحقيق التحوُّل. ضغطن عضلات ذراعيها التي تشكَّلت من العزق وحمل الأخشاب، وربَّتْنَ على جبينها المغطَّى بالدقيق، ثم صِحْنَ لأنهن نسين شيئًا مهمًّا جدًّا؛ قلمَ التبرُّج الأسود الذي يصل ما بين الحاجبين بخطٍّ واحد أعلى الأنف.
صاحت إحدى الفتيات اللاتي لا بد أن إحداهن أوكلتْ إليها مهمةَ الاستطلاع: «القَسُّ قادم!» فقالت النسوة اللائي كنَّ يرسمن الخطَّ الأسود: «لن يعطِّلنا!» لكن الأخريات تنحَّيْنَ جانبًا.
أطلق القَسُّ الفرنسيسكاني عيارين فارغين في الهواء إيذانًا بوصوله كعادته دومًا، وكذلك فعل الرجال الموجودون بالبيت ترحيبًا به، لكنه لم يجالِس الرجال هذه المرة. صعد إلى الشرفة مباشَرةً مناديًا: «عارٌ عليكن! عارٌ عليكن!» وخاطب النسوة قائلًا: «أعرف لِمَ صبغتنَّ شعرها. أعرف لِمَ ألبَسْتُنَّها ثيابَ العروس. كلُّ ذلك من أجل مسلم حقير!»
قال للوتار: «أنتِ! أنتِ التي تجلسين في زينتك هكذا؛ أَلَا تعرفين لِمَ تلك الزينة؟ أَلَا تعرفين أنهم باعوك إلى مسلمٍ؟ سيأتي من فوتهاج، سيأتي إلى هنا بحلول الظلام!»
قالت واحدة من النسوة بجرأة: «وما العيب في ذلك؟ الثلاثة الذين جاءوا بهم من أجلها كانت شخصياتهم أشبه بنابليون. يجب أن تتزوَّج أحدًا على أية حال.»
أخبرها القَسُّ الفرنسيسكاني أن تخرس، وسأل لوتار: «أهذا ما تبغين؟ أتريدين الزواجَ من كافر والعيش معه في فوتهاج؟»
أجابت لوتار أنْ لا، وشعرت كأنها لا تقوى على الحركة أو الكلام تحت ثقل شعرها المدهون بالزيت وحُليِّها وملابسها المبهرجة. تحت ثقل هذه الأشياء، عانت معاناةَ مَن يحمل نفسه على الاستيقاظ ليواجِهَ خطرًا محدقًا به. كانت فكرة الزواج من مسلم أبعد من أن تمثِّل هذا الخطر — جُلُّ ما استوعبَتْه أنها ستُعزَل عن القَس، ولن يتسنى لها بعد الآن أبدًا أن تطالِبه بأي تفسير.
سألها: «هل كنتِ تعلمين أنهم سيزوِّجونك؟ أهذه رغبتك؟ أنْ تتزوَّجي؟»
أجابت أنْ لا، لا. فصفَّق القَس الفرنسيسكاني بيديه وقال: «اخلعن عنها هذه الزينة الذهبية الزائفة وتلك الملابس! سأُعْلِنها عذراء!» وخاطبها قائلًا: «إذا صرتِ عذراء، فستكون الأمور على ما يرام، ولن يضطر المسلم أن يطلق النار على أحد، ولكن يجب أن تُقسِمي على ألَّا ترافقي رجلًا أبدًا. يجب أن تقسمي في حضرة شهود. يجب أن تقسمي بالحجر والصليب. هل تفهمين ذلك؟ لن أدعهم يزوِّجونكِ لمسلم، لكنني لا أريد أن يستمر سفك الدماء على هذه الأرض.»
من بين الأمور التي كان القَسُّ يحاول جاهدًا أن يمنعها بيعُ النساء إلى الرجال المسلمين، فقد كانت ثائرته تثور بسبب ذلك. كانت فكرة تنحية العقيدة جانبًا بهذه السهولة تجعله يستشيط غضبًا. كانوا يبيعون للرجال المسلمين فتياتٍ، مثل لوتار، لا يتمكَّنون من بيعهن بأي طريق آخَر، وكذلك الحال بالنسبة إلى الأرامل اللائي لم يُنْجِبن سوى الإناث.
على مهل وبحزن، نزعَ النسوة عنها كل الملابس الفاخرة، وجِئْنَ بسروال رجالي رثٍّ دون حزام، وقميص ووشاح للرأس ارتدتها لوتار، وقصَّت امرأةٌ تحمل مقصًّا قبيحَ المنظر معظمَ ما تبقَّى من شعر لوتار الذي كان يصعب قصُّه بسبب ما ترتديه.
قلن لها: «كان من الممكن أن تكوني عروسًا غدًا.» وأبدى بعضهن حزنهن، بينما أبدى البعض الآخَر احتقارهن: «لن تكون لكِ ذرية أبدًا الآن.»
تسابقت الفتيات على اختطاف الشعر الذي سقط من رأسها، ووضعنه على رءوسهن، وأخذن يرتِّبنه على هيئة عُقد وشرائط.
حلفت لوتار اليمين على مرأًى ومسمعٍ من اثني عشر شاهدًا كانوا جميعهم — بطبيعة الحال — رجالًا، وبَدَوْا متجهِّمين شأنهم شأن النسوة تمامًا حيال التحوُّل الذي طرأ على الأحداث. لم تَرَ المسلم الذي تقدَّمَ للزواج منها قطُّ. حقَّر القَسُّ الفرنسيسكاني من شأن الرجل، وهدَّد بأن هذه العادة إن لم تنتهِ، فسوف يُوصِد أبواب مدفن الكنيسة، ويتركهم يدفنون موتاهم في أراضٍ غير مقدَّسة. كانت لوتار على مسافة واحدة منهم جميعًا بملابسها غير التقليدية. كان من الغريب وغير المريح أن تظل عاطلة عن العمل. عندما انتهى القَس الفرنسيسكاني من نوبة التوبيخ هذه، تقدَّم نحوها وظلَّ يرمقها واقفًا، وكانت أنفاسه متلاحقةً إما بسبب ثورة غضبه، وإما من فرط الجهود التي بذلها لإقناع حاضري عِظَتِه.
قال: «حسنٌ.» ومدَّ يده في طيَّة في ملابسه وأخرج سيجارة وأعطاها إياها. كانت رائحة جلده تفوح منها.
•••
أحضرتْ ممرضة عشاء شارلوت وكان يتكوَّن من حساء خفيف وخوخ معلب. أزاحت شارلوت الغطاء عن الحساء وشمَّتْه وأشاحت بوجهها عنه. قالت: «ارحلي، ولا تنظري إلى هذا الحساء البَشِع. عودي غدًا؛ فأنت تعلمين أن القصة لم تنتهِ بعدُ.»
رافقتني الممرضة إلى الباب، وفور أن وصلنا إلى الممر قالت: «اللائي لا يشعرن بأن المكان بمنزلة بيت لهن هن الأكثر انتقادًا للأوضاع؛ فهي ليست الأسهل مراسًا على الإطلاق، لكن لا يَسَعكِ إلا أن تُعجَبي بها. لا تربطكما قرابةٌ ما، أليس كذلك؟»
أجبتها أن بلى.
«عندما جاءت كان الأمر مدهشًا؛ كنَّا نخلع عنها أشياءها فأبدى أحدهم إعجابه بسوارها، فعرضته للبيع على الفور! أمَّا زوجُها فكان مختلفًا. هل تعرفينه؟ ثمة فارقٌ كبير بينه وبين زوجته.»
كان جوردي؛ زوج شارلوت، قد جاء إلى مكتبتي بنفسه في صبيحة يوم بارد، قبل ذلك بأقل من أسبوع؛ كان يجرُّ عربة مليئة بالكتب التي لفَّها ببطانية. كان قد حاوَلَ أن يبيع لي بعض الكتب من قبلُ في شقتهما، وحسبتُ أن الكتب هذه المرة هي نفس كتب المرة السابقة. كنتُ قد شعرتُ بالارتباك حينذاك، ولكن الآن بعد أن صرتُ متحكِّمة في مصيري، أمسيتُ قادرةً على الرفض القاطع والحاسم؛ قلت له: «لا.» فأنا لا أتعامل مع الكتب المستعمَلة، وهي لا تثير اهتمامي. أومأ جوردي إيماءةً تفتقر إلى الكياسة وكأنني لم أكن بحاجةٍ لأن أخبره بذلك، وكأنَّ إجابتي لم تكن لها حيثية في حوارنا. أخذ يجمع الكتب واحدًا تلو الآخَر وهو يحثُّني على أن أتحسَّس أغلفة الكتب مُصِرًّا على أن ألاحظ جمالَ الصور، وأنبهر بتواريخ إصدار الكتب. اضطررتُ أن أكرِّر كلامي مرارًا وتكرارًا، واكتشفتُ أنني أردف كلامي باعتذاراتٍ رغمًا عني، وقرَّرَ أن يتعامل مع كل رفضٍ من جهتي وكأنه موجَّهٌ إلى كتاب واحد في كل مرة، فيأتيني بغيره بكل بساطة قائلًا بسرعة: «وهذا أيضًا! هذا كتاب جميل. ستلاحظين جماله. إنه عتيق جدًّا. انظري كَمْ هو كتاب قديم وجميل!»
كانت كتب رحلات، وبعضها كان يرجع إلى بداية القرن. لم تكن قديمةً جدًّا ولا جميلةً جدًّا بصورها الباهتة غير واضحة المعالم؛ «رحلة عبر القمم المظلمة»، «ألبانيا الشاهقة»، «الأراضي الخفية لجنوب أوروبا».
قلتُ له: «سيتعيَّن عليكَ الذهاب إلى مكتبة الكتب القديمة بشارع فورت. ليست بعيدة عن هنا.»
أصدر صوتًا ينمُّ عن الامتعاض، ربما أراد أن يبيِّن لي من خلاله أنه يعرف مكان المكتبة خير المعرفة، أو أن يشير إلى أنه قام برحلةٍ إلى هناك ولم تُكلَّل رحلته بالنجاح، أو أن يوضِّح لي أن أغلب هذه الكتب اشتراها من هناك أساسًا بطريقةٍ أو بأخرى.
قلتُ برقة: «كيف حال شارلوت؟» لم أَرَها منذ فترة، ولو أنها اعتادت زيارة المكتبة كثيرًا. كانت تجلب لي هدايا بسيطة؛ بُنَّ القهوة المغطَّى بالشيكولاتة ليمنحني طاقةً، وقطعةً من الصابون المصنوع كليًّا من الجلسرين لمكافحة آثار جفاف البشرة من فرط التعامُل مع الورق، ومُثَقِّلةً لتثبيت الورق بداخلها عيناتٌ من الصخور التي عُثِرَ عليها في مقاطعة كولومبيا البريطانية، ومزوَّدةً بقلم رصاص يضيء في الظلام (كي أستطيع تعبئة الفواتير حال انقطاع الكهرباء). كانت تحتسي القهوة بصحبتي، وتبادلني أطراف الحديث، وتجوب المكتبة، وتشغل حالها حين أنشغل عنها. خلال أيام الخريف الكئيبة العاصفة، اتَّشَحَتْ بعباءتها السوداء التي كانت المرة الأولى التي أراها ترتديها فيها، وحمت نفسها من المطر بمظلَّة سوداء عتيقة وصفتها بأنها خيمتها. ولمَّا كانت تراني قد انشغلتُ مع زبون أكثر من اللازم، كانت تربِّتُ على كتفي برقة وتقول: «سأرحل في هدوء بخيمتي؛ سنواصل حديثنا في يوم آخَر.»
ذات مرة، سألني زبون بصراحة: «مَنْ هذه المرأة؟ رأيتها في البلدة بصحبة زوجها. أعتقد أنه زوجها. ظننتهما بائعَيْن جائلَيْن.»
تساءلتُ ما إذا كانت شارلوت سمعت هذا الكلام. هل أحسَّتْ ببرودة ولا مبالاة في سلوك موظفتي الجديدة؟ (بالتأكيد كانت شارلوت تعامِلُها بجفاء). ربما انشغلتُ عنها أكثر من اللازم. ولم أكن أظنُّ فعلًا أن زياراتها توقَّفت حقًّا؛ كنتُ أفضِّل الاعتقادَ بأن الفترات الفاصلة بين زياراتها طالت لا أكثر ولا أقل، لسببٍ قد لا يمتُّ لي بصلة. كنت مشغولة ومُنهَكة على أية حال عندما ظهرتْ شارلوت. كان عدد الكتب التي أبيعها مفاجأةً سارَّةً لي.
قالت الموظفة الجديدة لي: «لا أحبُّ أن أشوِّه سُمعة الناس، ولكن أعتقد أنه يجب أن تعلمي أن هذه المرأة وزوجها مُنِعَا من دخول الكثير من المحال في المدينة؛ فهما متَّهمان بالسرقة. لا أدري. إنه يرتدي معطفًا مطاطيًّا طويلَ الكُمَّيْن، وهي ترتدي عباءة، لكنني على يقين من أنهما يجوبان المدينة أثناء عيد الميلاد، وينزعان نبات الإيلكس من حدائق الناس، ثم يحاولان بيعه في البنايات السكنية.»
صباح ذاك اليوم البارد، وبعد أن رفضتُ شراء كل الكتب التي جلبها جوردي في عربته، سألتُه مجدَّدًا عن حال شارلوت، فأجابني بأنها مريضة، وتحدَّث بكآبة وكأنَّ الأمر لا يعنيني.
قلتُ له: «خُذْ لها كتابًا.» واخترتُ كتابًا في الشعر من إصدارات دار نشر بينجوين.
«خُذْ هذا الكتاب لها، وقُلْ لها إني آمل أن يعجبها. وقُلْ لها إني آمل أن تتعافى سريعًا. وربما عرجتُ عليها لزيارتها.»
وضع الكتاب في كومة كتبه الموضوعة على العربة. ظننتُ أنه ربما سيحاول بيعه على الفور.
قال: «هي ليست بالبيت، بل بالمستشفى.»
لاحظتُ أنه كلما مال على العربة تدلَّى من عنقه صليبٌ خشبيٌّ كبير خارجًا من معطفه، وكان يعيده إلى داخله، وعندما تدلَّى من جديد قلتُ له دون تفكير في خضم حيرتي وندمي: «أليس هذا جميلًا؟ يا له من خشب داكن جميل! يبدو من العصور الوسطى.»
رفعه عن صدره قائلًا: «قديم جدًّا، وجميل جدًّا؛ فهو مصنوع من البلوط. نعم.»
قلتُ له: «خشبٌ رائع.» ولما أعاده شعرتُ بالارتياح، ولو أنه ارتياح ممزوج بأسًى شديد.
قلت: «أوه، آمل ألَّا تكون شارلوت في حالة مرضٍ شديدٍ!»
تبسَّمَ بازدراء ضاربًا صدره برفق — ربما ليُرِيني مصدرَ آلام شارلوت، أو ربما ليتحسَّس جلده الذي تعرَّى مؤخرًا.
وبعدها أخذ صليبه وكتبه وعربته وغادر مكتبتي. شعرتُ بأن الإهانات كانت متبادَلة بين الجانبين، وكذا الشعور بالخزي.
•••
في الأعالي وراء حقل التبغ، كانت توجد غابة من أشجار الزان حيث تجمع لوتار عادةً العصي لإشعال النار. ووراء تلك الغابة، كان ثمة منحدرٌ عشبي — مرجٌ عالٍ — وعلى قمة المرج، ثمة مأوًى حجري صغير يبعد عن «الكولا» مسافةَ نصفِ ساعة صعودًا. كان مكانًا بدائيًّا لا نوافذَ له، ذا مدخل خفيض وبلا باب، وكان بأحد أركانه موقدٌ بلا مدخنة. كانت الأغنام تحتمي بهذا المكان؛ ولذا لوَّثَ روثُهم أرضيته.
هنالك ذهبتْ لتعيش بعد أن أمست عذراء.
حدثت واقعة الزواج من مسلم في الربيع، بعد حوالي عام من مجيئها لمقاطعة مالتسيا إي ماد، وحان الوقت لأن تساق الأغنام إلى مراعيها في الأعالي. كان يناط بلوتار أن تحصي القطيع، وأن تحرص على ألَّا تقع الأغنام في الوديان الضيقة، أو تشرد بعيدًا جدًّا، وكان عليها أن تحلب النعاج كلَّ ليلة. كان من المتوقَّع أن تطلق النار على الذئاب إذا حاولت الاقتراب من الأغنام. لكن لم يظهر أيُّ ذئب قطُّ، لم يَرَ أحدٌ ممَّن يعيشون في «الكولا» حينذاك الذئاب قطُّ. الحيوانات البرية الوحيدة التي وقعت عينا لوتار عليها ذات مرة هي الثعلب الأحمر، وكان ذلك بجوار جدول الماء، والأرانب الغفيرة قليلة الحيطة؛ تعلَّمَتْ كيف تصيدها وتسلخ جلدها وتطهوها، وتنظفها كما كانت ترى الفتيات المتخصصات في هذا الشأن تفعلن في «الكولا». كانت تطهو الأجزاء الأكثر لحمًا على نار هادئة في قِدْرها مع إضافة الثوم البري.
لم تودَّ النومَ داخل المأوى، فأقامت لنفسها سقفًا من فروع الأشجار بالخارج إلى جوار الجدار؛ فكان هذا السقف بمنزلة امتداد لسقف البناء. كانت كومة السرخسيات تحتها، وكذلك بساط من اللباد أُعطِيت إياه لتبسطه على كومة السرخسيات كلما خلدت للنوم. ولم تَعُدْ تنتبه للحشرات. ثمة بعض المسامير في الجدار بين الأحجار الجافة. لم تعرف سبب وجود تلك المسامير، لكنها نفعتها في تعليق دِلاء اللبن، والقدور القليلة التي أُعطِيت لها. كانت تجلب المياه من جدول الماء الذي غسلت فيه وشاح رأسها، واغتسلت فيه أحيانًا حرصًا منها على تخفيف وطأة الحرارة أكثر من عنايتها بنظافتها الشخصية.
تغيَّرَ كلُّ شيء؛ لم تَعُدْ ترى النساء، وفقدت عادات العمل المستمر التي اكتسبتها. كانت الفتيات الصغيرات تعرِّجن عليها مساءً لجلب اللبن، ولمَّا كنَّ بعيدات هكذا عن «الكولا» وعن أمهاتهن، كنَّ يتصرَّفن بطيش شديد، فكنَّ يرتقين السقف، فيهشمن — في الأغلب — بعض تعريشات فروع الأشجار التي وضعَتْها لوتار. كنَّ يقفزن على السرخسيات، وأحيانًا كنَّ ينتزعن ملء كفوفهن منه ويجعلْنَه على هيئة كرة بسيطة، وكنَّ يقذف بعضُهن بعضًا بهذه الكرة إلى أن تتفكَّك. استمتعن بأوقاتهن كل المتعة، حتى إن لوتار اضطرت إلى أن تطاردهن في الغسق مذكِّرةً إياهنَّ كَمْ شعرْنَ بالذعر والخوف في غابة أشجار الزان بعد حلول الظلام. اعتقدت أنهن قطعن تلك الغابة عَدْوًا، فسكبن نصف اللبن في طريق عودتهن.
بين الفينة والأخرى، كن يجلبن لها الدقيق الذي كانت تخلطه بالماء وتخبزه على معولها بتعريضه للنار. وذات مرة، جلبن لها هدية؛ رأسَ نعجة — تساءلت ما إذا كنَّ سرقْنَه — لتغليه في قِدْرها. سُمِحَ لها بالاحتفاظ ببعض اللبن؛ وبدلًا من احتسائه طازجًا، عادةً ما كانت تتركه حتى يفسد، فتقلِّبه لتصنع الزبادي الذي تغمس فيه خبزها. هكذا كانت تفضِّله حينذاك.
وكثيرًا ما كان الرجال يأتون عبر الغابة بعد أن تقطعها الفتيات الصغيرات هرولةً قبلهم في طريق نزولهن؛ وبَدَا أن هذه عادة من عاداتهم في الصيف. كانوا يحبون الجلوس على ضفاف جدول الماء، وإطلاق أعيرة فارغة، واحتساء «الراكي» والإنشاد، وأحيانًا كانوا يكتفون بالتدخين وتبادُل أطراف الحديث. لم تكن الغاية من رحلتهم الاطمئنان على حالها، لكن بما أنهم سيحضرون على أي حال، فقد جلبوا لها هدايا من القهوة والتبغ، وتنافسوا على إصلاح سقف مأواها كي لا يسقط عليها، وأوضحوا لها كيف تُبقِي النيران مشتعلةً طوال الليل، وكيف تستخدم بندقيتها.
بندقيتها كانت قديمة من نوع مارتيني الإيطالي، وأُعطِيت إياها عندما رحلت عن «الكولا». بعض الرجال قالوا: إن البندقية تجلب الحظ السيئ؛ لأنها كانت مملوكة لصبي قُتِلَ قبل أن يتمكَّن من قتل أحد، وقال البعض الآخَر إن هذا النوع من البنادق — بصفة عامة — لا يحالفه الحظُّ؛ حيث نادرًا ما كان يُستخدَم.
أنتِ بحاجة إلى بندقية من نوع ماوزر لضمان دقة التصويب وتتابُع إطلاق النار.
لكن رصاصات هذا النوع أصغر من أن تُحدِث ضررًا كافيًا؛ فهناك رجال يعيشون وفي أجسادهم ثقوبٌ ناتجة عن هذا النوع من الرصاص — ستسمعينهم يُصدِرون صفيرًا بأفواههم وهم يمرُّون بكِ.
لا شيء يُقارَن حقًّا ببندقية ذات زناد قوي، لها خزانة تحمل كمية بارود كبيرة، ورصاصات قوية، ومسامير.
وكلما كانوا لا يتحدَّثون عن البنادق وأنواعها، كانوا يتناولون أحدث عمليات القتل، وينهالون عليها بالنكات. أحدهم أخبرها نكتة عن ساحر؛ ثمة ساحر أسَرَه أحد الباشوات، ثم أطلق سراحه ليؤدِّي بعض الحِيَل أمام ضيوفه. طلب منهم الساحر أن يجلبوا له صحنًا به الماء. الآن، هذا الماء يمثل البحر. أي ميناء سأريكم إياه على البحر؟ قالوا له: أَرِنا ميناءً على جزيرة مالطة. وفجأةً ظهر الميناء، وثمة بيوت وكنائس وباخرة على وشك أن تبحر. والآن، أتريدون أن تروني وأنا أصعد على متن هذه الباخرة؟ فضحك الباشا. هيا أَرِنَا! فوضع الساحر قدَمَه في صحن الماء وصعد على متن الباخرة وسافَرَ إلى أمريكا! ما رأيكم في هذا الأمر؟!
قال القَس الفرنسيسكاني الذي كان قد تسلَّق بصحبة الرجال مساء ذلك اليوم كعادته: «لا يوجد سَحَرة على أية حال. لو كنتَ قلتَ قَسًّا لَكانت روايتك منطقيةً بعضَ الشيء.» تحدَّث بصرامة، لكن لوتار حسبته سعيدًا شأنه شأنهم جميعًا، وكذلك كانت هي، بقدر ما سُمِحَ لها، في وجودهم ووجوده، ولو أنه لم يُعِرْها اهتمامه قطُّ. التبغ القوي الذي أعطوها إياه لتدخِّنه جعلها تشعر بدوار، فكان عليها أن تستلقِي على العشب.
•••
حان الوقت لتفكر لوتار في الدخول إلى بيتها. كان الصباح باردًا، والسرخسيات مبلَّلة بالندى، وأوراق العنب تتحوَّل إلى اللون الأصفر. أخذت المِعْوَل وأزالت روث الغنم المتناثر على الأرض استعدادًا لتجهيز فراشها بالداخل، وبدأت بحشو العشب والأوراق والطين داخل الشقوق الفاصلة بين الأحجار.
عندما جاء الرجال سألوها لماذا تفعل ما تفعله، فأجابت استعدادًا للشتاء؛ فضحكوا.
قالوا: «لا أحدَ يستطيع أن يصمد هنا في الشتاء.» بيَّنوا لها كَمْ كانت طبقة الثلج عميقة حيث وضعوا أيديهم على عظام صدرهم. علاوة على ذلك، كل الأغنام كانت ستُساق إلى أسفل.
قالوا: «لن يكون ثمة عمل لكِ. ماذا ستأكلين؟ هل تعتقدين أن النساء سيَدْعُونَكِ لتناول الخبز واحتساء اللبن بلا مقابل؟»
سألت لوتار: «وكيف لي أن أرجع إلى «الكولا»؟ فأنا عذراء. أين يمكنني النوم؟ وأيُّ عمل يمكن أن أقوم به؟» قالوا بلطف متحدِّثين إليها ثم بعضهم إلى بعض: «هذا صحيح! عندما يكون انتماء العذراء للكولا، فإنها تحصل على قطعة من الأرض عادةً حيث يمكنها العيش فيها مستقلة، لكن هذه العذراء لا تنتمي إلى «الكولا» حقًّا، وليس لها أب ليعطيها شيئًا. ماذا ستفعل؟»
بعد ذلك بفترة وجيزة، وفي منتصف النهار حيث لا يتردَّد عليها أحدٌ مطلقًا، تسلَّق القَسُّ الفرنسيسكاني المرجَ وحده.
قال لها: «لا أثقُ بهم. أعتقد أنهم سيحاولون بيعك إلى مسلم، حتى بالرغم من أنكِ حلفتِ اليمين. سيحاولون تحقيق أي مكاسب مادية من ورائك. إذا استطاعوا أن يجدوا لك مسيحيًّا، فلا بأس، لكنني متأكِّد من أنه سيكون كافرًا بديننا.»
جلسَا على العشب، واحتسيا القهوة. قال القَس الفرنسيسكاني: «هل لديكِ أيُّ متعلِّقات شخصية تجلبينها معك؟ سنرحل قريبًا.»
سألت لوتار: «مَنْ سيحلب النعاج؟» كانت بعض النعاج قد بدأت رحلة الهبوط على المنحدر بالفعل؛ ستقف تلك النعاج وتنتظر حضورها.
أجابها الفرنسيسكاني: «اتركيها.»
وبهذه الطريقة رحلت، ولم تترك الأغنام فحسب، بل مأواها أيضًا، والمرج، والعنب البري والسماق وشجرة السمن، وأشجار العرعر، وشجيرات البلوط التي كانت تتطلَّع إليها طوال الصيف، وجلود الأرانب التي استخدمتها كوسادة لها، والمِقلاة التي كانت تحمص فيها القهوة، وكومة الأخشاب التي جمعَتْها لتوِّها صباحَ هذا اليوم، والأحجار المحيطة بالنار التي أشعلتها؛ كل حجر منها مميَّز بشكله ولونه. فهمتْ أنها سترحل؛ لأن القَس الفرنسيسكاني كان صارمًا جدًّا، لكنها لم تستوعب الموقف بطريقةٍ تجعلها تتطلَّع إلى ما حولها لتراه للمرة الأخيرة. لم يكن ذلك ضروريًّا على أية حال؛ فهي لن تنسى أيًّا من تلك الأشياء أبدًا.
بينما دخلا غابة أشجار الزان، قال الفرنسيسكاني: «الآن يجب أن نلتزم الصمت الشديد. سأسلك دربًا آخَر بعيدًا عن «الكولا». إذا سمعنا أحدًا يسلك الدربَ نفسه، فعلينا أن نتوارَى عن الأنظار.»
ساعات من المشي في صمتٍ مطبق بين أشجار الزان بلحائها الأملس الضخم، وأشجار البلوط ذات الأطراف السوداء، وأشجار الصنوبر الجافة. صعدَا وهبطَا، وعبرَا سلاسل التلال، واختار القَس دروبًا لم تكن لوتار تعرف أنها موجودة أصلًا. لم يتردَّد الفرنسيسكاني قطُّ في مسيرته، ولم يقترح أيَّ استراحة قطُّ، وعندما خرجَا من بين الأشجار أخيرًا، ذُهِلت لوتار إذ اكتشفت أن الشمس ما زالت في كبد السماء.
أخرج الفرنسيسكاني رغيفًا من الخبز وسكينًا من جيبٍ في ثيابه، وتناوَلَا الطعام خلال رحلتهما.
وصلا إلى قاع نهر جاف وممهَّد بأحجار غير مسطحة يصعب على المرء السير عليها؛ سيل ساكن من الأحجار بين حقول الذرة والتبغ. تناهَى إلى مسامعهما نباح الكلاب، وأحيانًا أصوات الناس. كانت نباتات الذرة والتبغ التي لم تُحْصَد بعدُ أعلى من رأسهما، فسارا بطول النهر الجاف مستترين بهذا الستار بينما زالت شمسُ النهار تمامًا، ولمَّا لم يَعُدْ بإمكانهما متابعة المسير، وسترتهما ظُلْمة الليل، جلسَا على الأحجار البيضاء لقاع النهر الجاف.
سألته لوتار أخيرًا: «إلى أين ستأخذني؟» في البداية، ظنَّتْ أنهما يسيران لا محالةَ باتجاه الكنيسة وبيت القَس، لكنها اكتشفت الآن أن هذه لا يمكن أن تكون وجهتهما؛ فقد كانا قد ابتعدَا كثيرًا.
أجابها الفرنسيسكاني: «سأصحبكِ إلى بيت الأسقُف. سيعرف كيف يتصرَّف معكِ.»
قالت لوتار: «ولِمَ لا تأخذني إلى بيتك؟ يمكنني أن أعمل خادمةً في بيتك.»
«هذا أمر محظور؛ فلا يُسمَح بتشغيل خادمة في بيتي، أو في بيت أي قِس، وهذا الأسقف لن يَسمح حتى لامرأة عجوز أن تعمل خادمة لديه. وهو على حق؛ فوجود امرأة بالبيت يثير المشكلات.»
بعد أن ارتفع القمر في كبد السماء، تابعَا مسيرتهما، وطفقا يمشيان ويستريحان مرارًا وتكرارًا، لكنهما لم يخلدَا للنوم قطُّ، بل إنهما حتى لم يبحثا عن مكان مريح للاستلقاء. كانت أقدامهما قوية، ونعالهما بالية، لكنهما لم يُصابَا ببثور؛ فقد كانا معتادين على المشي لمسافاتٍ طويلة؛ الفرنسيسكاني في أبرشيته مترامية الأطراف، ولوتار في رعايتها للأغنام ومتابعتها.
أمسى الفرنسيسكاني أقل صرامةً — وربما أقل قَلَقًا — بعد فترة من الوقت، وتحدَّثَ إليها تقريبًا كما كان يتحدَّث إليها خلال الأيام الأولى من تعارُفهما. كان يتكلَّم الإيطالية، ولو أنها صارت بارعة الآن في التحدُّث بلغة الجيج.
قال: «وُلِدتُ في إيطاليا. كان والداي من الجيج، لكنني عشتُ في إيطاليا في فترة صباي، وهنالك أمسيتُ قسًّا. ذات مرة، سافرتُ لزيارة إيطاليا منذ سنوات، وحلقت شاربي، ولا أعرف لماذا فعلت. أوه، نعم أعرف! كان ذلك لأنهم كانوا يسخرون مني في القرية. وبعدها، عندما عدتُ لم أجرؤ على أن أُرِيهم وجهي في ماد؛ فحَلْقُ الرجل شارِبَه يُعَدُّ أمرًا مُخْزِيًا. جلستُ في غرفة في سكودرا حتى نما شاربي مرةً أخرى.»
سألت لوتار: «هل سكودرا هي المدينة التي نقصدها؟»
«نعم، هنالك يعيش الأسقف. سوف يرسل رسالةً مفادها أنه كان من الصائب إبعادك، حتى ولو كان ذلك دون علمك؛ فهناك برابرة في ماد؛ سيأتون ويشدُّونك من كمَّيْكِ في منتصف القداس، ويطلبون منك أن تكتبي رسالة لهم. هل رأيت ما يضعونه على قبورهم؟ الصُّلبان؟ إنهم يُحِيلون الصليبَ إلى هيئة رجل نحيل جدًّا يحمل بندقيةً على ذراعيه. أَلَمْ ترَيْ ذلك من قبلُ؟» ضحك وهزَّ رأسه قائلًا: «لا أعرف كيف أتعامل معهم، ولكنهم أناس طيبون على أية حال؛ فهم لن يخونوكِ مهما حدث.»
«لكنك ظننتَ أنهم سيبيعونني على الرغم من اليمين الذي أقسمتُه؟»
«أوه، نعم! ولكنَّ بيعَ النساء وسيلةٌ من وسائل كسب المال، وهم فقراء جدًّا.»
أدركت لوتار الآن أنها ستكون في وضع غير مألوف في سكودرا؛ أدركت أنها لن تكون مُستضعَفة. عندما يصلان إلى هناك، يُمكنها الفرار منه؛ يمكنها أن تجد شخصًا يتحدَّث الإنجليزية، بل ويمكنها أن تعثر على القنصل الإنجليزي، أو الفرنسي إن لم تعثر على الإنجليزي.
كان العشب مبلَّلًا تمامًا قبل الفجر، وأمسى الليل شديد البرودة، لكن عندما أشرقت الشمس، لم تَعُدْ لوتار ترتعد، وفي غضون ساعة شعرت بالحَرِّ. سارا طوال اليوم، وتناوَلَا بقيةَ الخبز، وكانا يشربان من أي جدول ماءٍ يعثران عليه في طريقهما، وصارت تفصلهما مسافةٌ بعيدة عن النهر الجاف والجبال. نظرت لوتار إلى الوراء، ورأت جدارًا من الصخور المُسَنَّنَة المحاطة بخضرة عند سفحها. كانت تلك الخضرةُ الغاباتِ والمروجَ التي حسبتها عالية جدًّا. سلكَا دروبًا عبر الحقول الحارة، ولم يبعدَا قطُّ عن مجال نباح الكلاب، والتقيا بأناسٍ في دروبهما.
في البداية قال الفرنسيسكاني: «لا تتحدَّثي مع أحد. سيتساءلون عن هويتك.» لكنه اضطرَّ للرد على مَنْ يُلقِي عليه التحية.
فكان يقول لهم: «هل هذا هو الطريق إلى سكودرا؟ إننا في طريقنا إلى سكودرا، وتحديدًا إلى بيت الأسقف. هذه خادمتي التي جاءت من الجبال.»
قال للوتار: «لا بأسَ؛ فأنتِ تبدين أشبه بخادمةٍ بملابسكِ هذه، ولكن لا تتكلَّمي. سيَعْجَبون إنْ تكلَّمتِ.»
•••
كنتُ قد طلَيْتُ جدرانَ مكتبتي بالأصفر الفاتح؛ فالأصفر يرمز إلى الفضول الفكري. لا بد أن أحدهم أخبرني بذلك. افتتحتُ المكتبة في مارس ١٩٦٤، وكان ذلك في مدينة فيكتوريا في مقاطعة كولومبيا البريطانية.
هنالك جلستُ إلى المكتب، وعروض الكتب خاصتي منثورة من ورائي. نصحني مندوبو دور النشر بجلب كتب عن الكلاب والجياد والإبحار وتنسيق الحدائق والطيور والأزهار؛ قالوا إن هذه هي كل الكتب التي يهتم سكان فيكتوريا بالاطِّلاع عليها، لكنني لم أعمل بنصيحتهم، فجلبتُ رواياتٍ وكتبَ أشعارٍ وأخرى تتناول الصوفية والنسبية والكتابة الإغريقية المقدونية، ورتَّبْتُ هذه الكتب عندما جاءوا بحيث يمكن لكتب العلوم السياسية أن تختلط بكتب الفلسفة، ولكتب الفلسفة أن تختلط بدورها بالكتب الدينية دون فواصل واضحة، فيتسنَّى حينئذٍ ضمُّ مؤلَّفات الشعراء المتوافقين فكريًّا في مكان واحد، بحيث يعكس ترتيبُ أرفف الكتب — بحسب ظنِّي — تدفُّقًا طبيعيًّا للفِكر. كنتُ أضع كنوز الكتب الجديدة أو المَنسية على السطح. لقد أوليتُ الأمر كل هذا الاهتمام. وماذا بعدُ؟ الآن أصبحتُ أنتظر، وأشعر وكأنني امرأة تزيَّنَتْ وتأنَّقت لحضور حفلٍ، وربما أيضًا جلبت مجوهرات من محل الرهونات أو خزينة العائلة، لتكتشف في نهاية المطاف — بدلًا من الحفل — عددًا من الجيران يلعبون الورق، ولا يوجد في المطبخ سوى رغيف من اللحم والبطاطس المهروسة، وزجاجة من الخمر الوردي الفوَّار.
كانت المكتبة تخلو من الزوار لبضع ساعاتٍ في بعض الأحيان، وبعدها عندما يأتي أحدهم، كان يسأل عن كتاب تَذكَّره من أيام مكتبة مدرسة الأحد، أو من خزانة كتب جَدَّته، أو ربما تركه منذ عشرين عامًا في فندق أجنبي. وعادةً ما كان العنوان مَنْسِيًّا، لكن السائلَ كان يقصُّ عليَّ القصة. يحكي الكتاب قصة تلك الفتاة الصغيرة التي تسافر إلى أستراليا مع أبيها للتنقيب عن الذهب الذي يزعمان أنهما وَرِثاه، أو عن المرأة التي أنجبتْ طفلًا بمفردها في ألاسكا، أو عن السباق بين واحدة من السفن الشراعية القديمة وأول سفينة بخارية في أربعينيات القرن التاسع عشر.
أوه، حسنٌ! أردتُ أن أستفسر فحسب.
وكانوا يغادرون المكتبة دون أن يلقوا نظرةً على ما تزخر به من كنوز.
عدد من الناس كانوا يهلِّلون بامتنانٍ قائلين لها: «يا لها من إضافة عظيمة للمدينة!» وكانوا يتصفحون الكتب لنصف الساعة، وربما لساعة، قبل أن يبادروا بإنفاق ٧٥ سنتًا.
الأمر يتطلَّب وقتًا.
عثرتُ على شقة من غرفة واحدة تحتوي على مطبخ صغير مُلحَق بها، في بناية قديمة بزاوية تُعرَف باسم «داردينلز»، وكان الفراش يُطوَى في الجدار، لكنني لم أكن أجشِّم نفسي عناءَ طيِّه على أية حال؛ لأنني لا أستضيف أحدًا. وبدا الكُلَّاب غير آمِنٍ بالنسبة إليَّ، فكنتُ أخشى أن يقفز الفراش على حين غرَّة من الجدار أثناء تناوُلي وجبة العشاء المكوَّنة من حساء مُعَلَّب أو بطاطس مطهية في الفرن. قد يقتلني على الفور. كنتُ أيضًا أترك النافذة مفتوحة دومًا؛ لأنني ظننتُ أنني أشمُّ نفحة من رائحة غاز مسرب حتى بعد إطفاء الشعلتين والفرن. ولمَّا اضطررتُ إلى فتح النافذة بالبيت وباب المكتبة لإغراء الزبائن بالدخول، كان من الضروري أن أتِّشِح بسترتي الصوفية السوداء دومًا، أو مِبْذَلي الأحمر القصير (وهو الثوب الذي ترك ذات مرة أثرًا ورديًّا خفيفًا على كل مناديل زوجي الذي هجرتُه وملابسه التحتية). كنت أجد صعوبةً في خلع هذه الملابس، التي تُسليني وتخفِّف من شعوري بالحزن، حتى يتسنَّى لي غسلها. في أغلب الأوقات كنت أشعر بالنعاس وعدم الشبع، وبرعشة في جسدي.
مع ذلك، لم يتمكَّن مني اليأس؛ فقد جاهدتُ نفسي لإدخال تعديل على حياتي، وعلى الرغم من كل الندم الذي كنتُ أشعر به كل يوم، كنتُ فخورة بهذا التعديل. شعرتُ وكأنني خرجتُ للعالم أخيرًا بتغيير جديد وحقيقي. كنتُ أجلس إلى المكتب، وأستمر في احتساء قدح القهوة أو الحساء الأحمر الخفيف لساعة كاملة. كنتُ أستمر في مسك القدح بكلتا يدي ما دام أنه يكسبني شيئًا من الدفء، وكنت أقرأ ولكن دون هدف أو استغراق. كنتُ أقرأ عباراتٍ عشوائية متناثرة من الكتب التي كنت دومًا أنوي الاطِّلاع عليها، وعادةً ما كانت تبدو تلك العبارات مُرْضِية بالنسبة إليَّ، أو مراوِغة، أو محبَّبة جدًّا، لدرجة أنني لم أستطع أن أتخلَّى عن كل الكلمات المحيطة بها، ولم أقدر على منع نفسي من الاستسلام لحالة غريبة. كنتُ أتقلَّب ما بين اليقظة والحلم، معزولةً عن الناس جميعًا، ولكن واعية طوال الوقت بالمدينة نفسها التي بَدَتْ مكانًا غريبًا.
هي مدينة صغيرة هنا على الحدود الغربية للبلاد؛ مناطق صغيرة للاحتيال على السياح. واجهات محل تيودور والحافلات ذات الطابقين وأوعية الزهور، والعربات التي تجرها الخيول؛ كلها أشياء تكاد تكون مهينة، إلا أنه كان هنالك أيضًا ضوء القمر المنعكس على صفحة مياه البحر والممتد إلى الشارع، والمُسِنُّون الأصحاء القليلو العدد الذين يستمتعون بالنسيم وهم يمارسون رياضةَ المشي اليومية بطول المنحدرات التي يعتليها نبات الرتم، والبيوت الرثَّة الهيئة المكوَّنة من طابق واحد والغريبة بعض الشيء بأشجار الأروكاريا وشجيرات الزينة في حدائقها. تزهر أشجار الكستناء بحلول الربيع، وتحمل أشجار الزعرور البري المزروعة بطول الشوارع أزهارًا حمراء وبيضاء، والشجيرات ذات الأوراق الزيتية تنبت ثمارًا وردية اللون لا يرى المرء مثيلًا لها أبدًا في المناطق النائية. حدَّثْتُ نفسي أنها أشبه بمدينة في قصة خيالية، كالمدينة الساحلية في واحدة من القصص التي وقعت أحداثها في نيوزيلندا في تسمانيا، لكنَّ ثمة طابعًا أمريكيًّا شماليًّا مُلِحًّا في المشهد. كثيرٌ من الناس على أية حال وفدوا إلى المدينة من وينيبيج أو ساسكاتشوان. في فترة الظهيرة تفوح رائحة وجبات الغداء من البنايات السكنية الفقيرة؛ فهم يَقْلُون اللحمَ ويسلقون الخضراوات؛ وجبات غداء من المزرعة تُطهَى في منتصف النهار في مطابخ صغيرة وضيقة.
كيف كان يتأتَّى لي أن أعرف ما أحبه كثيرًا؟ لا شك أنه لم يكن ذلك الذي يسعى إليه أي تاجر جديد — أي الجلبة والنشاط اللذين يحييان الأمل في تحقيق النجاح التجاري. لكن الرسالة التي أرسلَتْها لي المدينةُ مفادها أنها «تخلو من النشاط والحركة». وعندما لا يمانع مَنْ يفتتح متجرًا من سماع مثل هذه الرسالة، فالسؤال يطرح نفسه: ما الذي يحدث؟ فالناس يفتتحون المحلات بغية بيع بضاعتهم، ويعقدون الآمال على أن ينشغلوا بأعمالهم حتى يتسنَّى لهم توسعة محلاتهم، فتزداد مبيعاتهم، ويصيبون ثراءً، وفي نهاية المطاف لا يضطرون إلى دخول المحل مطلقًا. أليس هذا بصحيح؟ ولكن هل ثمة مَنْ يفتتح محلًّا على أمل أن يكون له ملاذًا، فيحيط نفسه بالأشياء التي يقيم لها وزنًا أكثر من غيرها — الحكايات الطويلة أو أقداح الشاي أو الكتب — ولا يفكِّر في شيء إلا أن يعلن إعلانًا صريحًا عن موقفه؟ سيُمسِي جزءًا من البناية ومن الشارع، وجزءًا من خريطة المدينة بالنسبة إلى الناس جميعًا، وفي النهاية يصير جزءًا من ذكريات الجميع. سيجلس ويحتسي القهوة في منتصف النهار، وسيُخرِج الحُليَّ المبهرجة إبَّان عيد الميلاد، وسيغسل النوافذ في الربيع قبل عرض البضاعة الجديدة. المحلات بالنسبة إلى هؤلاء لا تختلف عن الأكواخ في الغابات بالنسبة إلى غيرهم؛ مجرد ملاذ ومبرِّر.
وبالطبع، يستوجب الأمر وجود بعض الزبائن؛ فالإيجار يحين موعد سداده، والبضاعة لن تكفي لتغطية تكلفتها. لقد ورثتُ ثروة صغيرة مكَّنَتْني من القدوم إلى المدينة هنا وافتتاح المكتبة، ولكن إذا لم يحقِّق الأمر رواجًا تجاريًّا إلى حدٍّ ما، فلن أصمدَ إلى ما بعد الصيف. أَعِي ذلك تمامًا. شعرتُ بسعادة غامرة إذ شرع المزيد من الناس يتهافتون على المكتبة مع تحوُّل الجو إلى الدفء أكثر فأكثر، وبيع المزيد من الكتب، وبَدَا أن بإمكاني الصمود. كان من المقرَّر منح جوائز في المدارس على هيئة كتب بنهاية الفصل الدراسي؛ ممَّا جعل المدرسين يقصدون مكتبتي بقوائمهم من الكتب وثنائهم وتوقُّعاتهم اليائسة بالحصول على خصومات. كان الذين يزورون المكتبة لتصفُّح الكتب يشترون بانتظامٍ، وما لبث بعضهم أن تحوَّلوا إلى أصدقاء لي — مع اختلاف طبيعة صداقاتي هنا؛ حيث كان يسعدني تبادُل أطراف الحديث يومًا بعد يوم مع أناس لم أعرف أسماءهم قطُّ.
•••
عندما وقعتْ أعين لوتار والقَس على بلدة سكودرا لأول وهلة، بَدَتْ وكأنها تطفو على المسطحات الطينية، وبَدَتْ قبابها وأبراج كنائسها لامعةً وكأنها صُنِعت من السديم، ولكن عندما دخلاها والظلام قد بدأ يسدل أستاره، اختفى هذا السكون كله تمامًا. كانت الشوارع ممهَّدة بأحجار كبيرة وخشنة، وتعجُّ بالناس والعربات التي تجرها الحمير، والكلاب الشاردة، والخنازير التي تساق إلى مكانٍ ما، وتفوح منها رائحةُ النيران والطهي والرَّوْث وجلود الحيوانات العفنة. جاء رجل على كتفه ببغاء، وبَدَا أن ببغاءه يسبُّ ويلعن بلغةٍ غير مفهومة. أكثر من مرة، أوقَفَ القَس الفرنسيسكاني الناسَ في الشارع ليسألهم عن الطريق إلى بيت الأسقف، لكنهم كانوا إما يمرون به مُسرِعين دون أن يُجِيبوه، وإما يسخرون منه، وإما يتلفَّظون بألفاظٍ استعصى عليه فهمها. قال له صبي إنه سيدلُّه على الطريق مقابل مبلغ من المال.
قال الفرنسيسكاني: «لا نملك مالًا.» جذب لوتار إلى مدخلٍ ما، وجلسا ليستريحا، قال لها: «في مالتسيا إي ماد، كثيرون ممَّن لديهم تقديرٌ كبير لذواتهم يمكن أن يغيِّروا موقفهم سريعًا.»
لم تَعُدْ لوتار تفكِّر في الفرار منه وتركه؛ فمن ناحيةٍ لم تكن ستتمكَّن من الاستفسار عن الطريق أفضل منه، ومن ناحيةٍ أخرى، راوَدَها شعور بأنهما حليفان لا يقوى الواحد منهما على البقاء في مكانٍ كهذا بمنأًى عن الآخَر. لم تكن تدرك كَمْ كانت تعوِّل على رائحة جلده، والإصرار المهموم في خطواته الواسعة، ونموِّ شاربه الأسود.
قفز القَس الفرنسيسكاني من مكانه وقال إنه تذكَّرَ توًّا الطريقَ إلى بيت الأسقف. سبقها عبر الشوارع الخلفية الضيقة المحاطة بجدران عالية حيث تعذَّرت رؤيةُ أيِّ شيء داخل البيوت أو الساحات — مجرد جدران وبوابات. لم تكن الشوارع مرصوفة جيدًا، وكان المشي عليها لا يختلف من حيث المشقة عن المشي في مجرى نهرٍ جافٍّ، لكنه كان على حق. أطلق صيحةَ انتصارٍ عندما وصلا إلى بوابة بيت الأسقف.
فتح الخادم البوابة، ودعاهما للدخول، ولكن بعد نقاش محتدم، أُمِرت لوتار بالجلوس على الأرض بعد أن عبرت البوابةَ مباشَرةً، وسِيق القَس الفرنسيسكاني إلى البيت ليرى الأسقف، وسرعان ما أرسل أحدهم إلى القنصل البريطاني (ولم يخبر أحدٌ لوتار بذلك)، وعاد وبصحبته خادم القنصل. كان الظلام قد حلَّ حينئذٍ، وكان خادم القنصل يحمل مشكاة. سِيقت لوتار بعيدًا مرةً أخرى حيث تبعت الخادم ومشكاته حتى القنصلية.
ثمة حوض استحمام به ماءٌ ساخن كان بانتظارها في الساحة. أُخِذت ملابسها بعيدًا، والأرجح أنها أُحرِقت، وقُصَّ شعرها الأسود الدهني المسكون بالقمل، وسُكِبَ الكيروسين على فروة رأسها. كان عليها أن تقصَّ قصَّتها — قصَّة وصولها إلى مالتسيا إي ماد — الأمر الذي شقَّ عليها؛ لأنها لم تكن اعتادت على تحدُّث الإنجليزية بطلاقة، ولأن تلك الفترة أيضًا بَدَتْ بعيدةً جدًّا وغيرَ ذات أهمية. كان عليها أن تتعلَّم النوم على المَرتبة، والجلوس على المقاعد، وتناوُل الطعام بالشوكة والسكين.
وضعوها على متن قارب بأسرع وقتٍ ممكن.
توقَّفَتْ شارلوت عن الحكي وقالت: «هذا الجزء ليس ذا أهمية.»
•••
جئتُ إلى فيكتوريا لأنها أبعد مكان عن لندن وأونتاريو يمكنني الوصول إليه دون مغادرة البلاد؛ فزوجي دونالد يعيش في لندن، وكنتُ قد أجَّرْتُ شقةً بالطابق السفلي في بيتنا إلى الزوجين نيلسون وسيلفيا. كان نيلسون متخصِّصًا في اللغة الإنجليزية بالجامعة، بينما كانت سيلفيا ممرضةً. دونالد طبيب أمراض جلدية. وكنتُ بصدد إعداد أطروحة عن ماري شيلي ولو أنني كنت أتلكَّأ في إنجازها. التقيتُ دونالد عندما زرتُ عيادته إذ أصابني طفح جلدي في رقبتي. كان يكبرني بثماني سنوات، طويل القامة، يغطي النمش بشرته، ويتورَّد خجلًا. كان بارعًا أكثر ممَّا كان يبدو عليه. طبيب الأمراض الجلدية يرى الحزنَ واليأسَ في أعين الناس، ولو أن المشكلات التي يأتيه الناسُ بها قد لا تنتمي إلى فئة الأورام وانسداد الشرايين؛ فهو يرى الانهيار الذي يصيب الناسَ من الداخل، والأقدار التَّعِسة حقًّا؛ إنه يرى كيف أن أمورًا كالحب والسعادة يمكن أن تتحكَّم فيها مجموعة من الخلايا المتهيجة. جعلتْ هذه التجربة دونالد طيبَ القلب بطريقة حَذِرة ومتجردة. قال إن الطفح الجلدي الذي كنتُ أُعانِيه ربما مرجعه التوتُّر، كما أخبرني بأنه يرى أنني سأُمسِي امرأة رائعة حالما أسيطر على القليل من المشكلات التي أعانيها.
دَعَونا سيلفيا ونيلسون لتناوُل العشاء بالطابق العلوي، وأخبرتنا سيلفيا عن المدينة الصغيرة التي ترعرعا فيها شماليَّ أونتاريو، وقالت إن نيلسون كان دائمًا أذكى الطلاب في صفِّهما وفي المدرسة كلِّها، وربما حتى في المدينة بأسرها. وعندما قالت ذلك، رمقها نيلسون بنظرة غير عابئة ولاذعة تمامًا، نظرةٍ بَدَا بعدها وكأنه بانتظارِ تفسيرٍ على أحرِّ من الجمر، وبشيء من الفضول، فضحكَتْ سيلفيا وقالت: «إنني أمزح فحسب.»
عندما كانت سيلفيا تعمل لنوباتٍ متأخرة بالمستشفى، كنتُ أدعو نيلسون أحيانًا لمشاطرتنا الطعام بطريقةٍ أقل رسمية. اعتدنا على صمته وميله إلى اللامبالاة أثناء الوجبات، وحقيقةً هو لا يأكل الأرز أو النودلز أو الباذنجان أو الزيتون أو الجمبري أو الفلفل أو الأفوكادو، وغير ذلك من أطعمةٍ كثيرة؛ لأنها ليست بالأطعمة الشائعة في بلدته بشمال أونتاريو.
بدا نيلسون أكبر سنًّا ممَّا هو عليه في الواقع. كان قصير القامة، قوي البنية، شاحب البشرة، عابس الوجه، ينمُّ محياه عن ازدراء الراشدين ومشاكسة جاهزة، لدرجة أنه بدا أشبه بمدرِّب هوكي، أو رئيس عُمَّال ذكي وأمِّيٍّ ومُنْصِف وبذيء اللسان، منه بطالبٍ خجول يبلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا.
لكنه لم يكن خجولًا متى تعلَّق الأمر بالحب؛ فقد اكتشفتُ أنه واسع الحيلة شديد الإصرار. كان الإغواء متبادلًا بيننا، وكانت هذه أول علاقة غرامية لنا. سمعتُ أحدهم ذات مرة يقول في حفل من الحفلات إن أفضل ما في الزواج أن المرءَ يستطيع أن يُقِيم علاقات غرامية حقيقية خلاله؛ فالعلاقة الغرامية السابقة على الزواج قد يتبيَّن أنها لا تزيد عن مجرد تودُّد. شعرتُ بالاشمئزاز من كلامه، والخوف من أن تكون الحياة بهذه الكآبة والعبث، ولكن ما لبثت أنْ بدأت علاقتي الغرامية بنيلسون، انتابني دومًا شعور بالذهول؛ فلم تكن العلاقة كئيبةً ولا عابثةً، بل اتسمت بالجموح، ووضوح الرغبة، والإغواء الصريح.
كان نيلسون أول مَنْ كان عليه مواجَهة تبعات العلاقة. ظُهْر يوم من الأيام، أشاحَ بوجهه عني وقال بخشونة وتحدٍّ: «سيتعيَّن علينا الرحيل.»
حسبتُ أنه يعني أنه وسيلفيا سيتعيَّن عليهما الرحيل، فمن غير المنطقي أن يواصِلَا العيش في هذا البيت، لكنه كان يقصد أنا وهو. «علينا» كانت تعني أنا وهو. لا شك أن كِلَيْنا تحدَّث عن اتفاقاتنا وتجاوزاتنا بصيغة «المثنى»، وها هو الآن يستخدم الصيغة نفسها إشارةً إلى القرار الذي يتحدَّث عنه، وربما في إشارة إلى حياة نحياها معًا.
من المفترض أن أطروحتي تتناول الروايات اللاحقة لماري شيلي؛ تلك التي لا يعرف عنها أحد شيئًا. «لودور» و«بيركين وربيك» و«الرجل الأخير»، لكنني في حقيقة الأمر كنتُ أكثر اهتمامًا بحياة ماري قبل أن تتعلَّم دروسها القاسية، وتستقر لتربي ابنها وتؤهِّله ليكون بارونًا. كنتُ أعشق القراءة عن النساء الأخريات اللائي كَرِهْنَ ماري شيلي، أو حقدْنَ عليها، أو تسكَّعْنَ معها: هارييت الزوجة الأولى لشيلي زوج ماري، وفاني إملاي التي كانت أخت ماري غير الشقيقة، وربما كانت تهيم هي نفسها عشقًا بشيلي، وماري جين كليرمونت؛ أخت ماري غير الشقيقة التي صادف أن اسمها على اسمي — كلير — ورافقت ماري وشيلي في رحلتهم لقضاء شهر العسل — التي قاما بها دون أن يتزوَّجَا — كي تتمكَّن من مواصلة مطاردة بايرون. كثيرًا ما كنتُ أقصُّ على دونالد قصصَ ماري الطائشة، وشيلي المتزوِّج، ولقائهما أكثر من مرة عند قبر والدة ماري، كما كنتُ أتحدَّث عن انتحار هارييت وفاني، وإصرار كلير التي أنجبت طفلًا من بايرون ومثابرتها، لكنني لم أذكر كلَّ هذه الروايات لنيلسون؛ من ناحيةٍ لأنه لم يكن لدينا الوقت الكافي لتبادل أطراف الحديث، ومن ناحيةٍ أخرى كي لا يحسب أنني أجدُ شيئًا من العزاء أو الإلهام في ذاك المزيج من الحب واليأس والخيانة والدراما المبالَغ فيها. لم أُرِدْ أن أفكِّر أنا نفسي في ذلك. ولم يكن نيلسون من عشَّاق القرن التاسع عشر أو الرومانسيين. هذا ما صرَّح به؛ قال إنه يودُّ أن ينجز بحثًا عن كاشفي الفساد في المجتمع، ولعله كان يمزح بهذا الصدد.
لم تكن سيلفيا تتصرف كهارييت؛ فعقلها لم يؤثر فيه الأدب أو يعرقله، وعندما اكتشفتْ ما كان يجري، ثارت ثائرتها.
قالت لنيلسون: «أيُّها الأحمق الثرثار.»
وقالت لي: «أيتها العاهرة المخادعة.»
كان أربعتنا في غرفة المعيشة. بادَرَ دونالد بتنظيف غليونه وملئه وضبطه وفحصه وإشعاله وتجريبه، ثم إعادة إشعاله من جديد، تمامًا مثلما يفعل ممثِّل في فيلم سينمائي، لدرجة أنني شعرتُ بالحرج له. وبعدها وضع بعض الكتب وأحدث إصدار من مجلة «ماكلينز» في حقيبته، وذهب إلى دورة المياه ليجلب شفرتَي ماكينة الحلاقة خاصته، ومنها إلى غرفة النوم ليجلب مَنامته، ثم خرج.
واتجه مباشَرةً إلى شقة أرملة شابة كانت تعمل سكرتيرة بعيادته. وفي رسالة — كتبها لي لاحقًا — قال إنه لم ينظر لهذه المرأة إلا من باب الصداقة فحسب إلى أن حلَّت تلك الليلة، حين خطر له فجأةً كَمْ سيكون من الممتع أن يقع في حب امرأة طيبة القلب، متَّزِنة التفكير، و«متماسِكة».
كان على سيلفيا أن تصل إلى المستشفى في تمام الحادية عشرة، وعادةً ما كان نيلسون يصحبها إلى المستشفى سيرًا على الأقدام؛ حيث لم تكن لديهما سيارة. في تلك الليلة، قالت له إنها لا ترغب في رفقته نهائيًّا.
وبذلك أمسينا أنا ونيلسون وحدنا معًا. لقد استمرَّ المشهد وقتًا أقصر ممَّا كنتُ أتخيَّل. بَدَا نيلسون مكتئبًا وشاعرًا بالارتياح في الوقت نفسه، ومع أني كنتُ قد شعرت بأن هذه كانت ضربةً قاسية لفكرة الحب، وبمنزلة حدث عظيم ومفجع، كنتُ أعلم أنه من الحكمة ألَّا أُظهِر شعوري هذا.
استلقينا على السرير، وتحدَّثنا عن خططنا للمستقبل، وانتهى بنا الأمر بممارسة الجنس؛ لأن هذه كانت عادتنا. في وقتٍ ما خلال الليل، استيقظ نيلسون، ورأى أنه من الأفضل أن ينزل إلى الطابق السفلي ويخلد إلى النوم في فراشه.
استيقظتُ في ظلمة الليل، وارتديتُ ملابسي، وحزمتُ أمتعتي، وتركتُ رسالةً، واستدعيتُ سيارة أجرة هاتفيًّا. ركبتُ القطار المتجه إلى تورونتو في تمام السادسة، ومنه إلى القطار المتجه إلى فانكوفر. كان السفر بالقطار أرخص تكلفةً إذا كان المرءُ على استعدادٍ لأنْ يظل مستيقظًا لثلاث ليالٍ، وكانت هذه نيتي.
ها أنا ذا جالسة في الصباح البائس الذي يمر ببطء في كابينة القطار الذي يهبط منحدر فريزر المحاط بصخور شاهقة، ومنه إلى وادي فريزر حيث غطَّى الدخانُ البيوتَ الصغيرة المتناثرة، ونباتات الكروم البُنية اللون، والآجام ذات الأشواك والأغنام المحتشِدة. هذا الزلزال الذي ضرب حياتي كان في ديسمبر. أُلغِيت احتفالات عيد الميلاد بالنسبة إليَّ، وانتهى الشتاء بتراكماته وأمطاره الثلجية وعواصفه الجليدية العنيفة المنعشة بسبب هذا الموسم الضبابي من الطين والأمطار. كنتُ مصابةً بإمساك، وكنت أعلم أن رائحة أنفاسي كريهة، وأطرافي مصابة بتشنجات عضلية، وروحي المعنوية في الحضيض. أَلَمْ أحدِّثُ نفسي حينئذٍ أنه من العبث الافتراض أن ثمة رجلًا يختلف كل الاختلاف عن رجل آخَر، في الوقت الذي يمكن أن تختزل فيه الحياة حقًّا في الحصول على قَدَح رائع من القهوة، وامتلاك غرفة يستطيع أن يستلقي المرءُ فيها؟ أَلَمْ أحدِّثُ نفسي أنه حتى لو كان نيلسون يجلس هنا إلى جواري، لَتحوَّلَ إلى شخص غريب ذي ملامح مُنهَكة، ولم تكن عزلته واضطرابه إلا سيزيدان مِن عزلتي واضطرابي؟
لا، لا، سيظل نيلسون هو نيلسون بالنسبة إليَّ على أية حال. لم تتغيَّر نظرتي إلى بشرته ورائحته وعينيه الزاجرتين. لا بد أن المظهر الخارجي لنيلسون هو الذي كان يحضرني أكثر من غيره، وأما بالنسبة إلى دونالد، فكانت اضطراباته الداخلية، ومشاعره العاطفية، وطيبته المبالَغ فيها، وتلك الهواجس الخاصة التي اكتشفْتُها بالتزلُّف تارةً والتحايل تارةً أخرى؛ هي التي خطرت لي دومًا. لو كان لي أن أجمع بين حبي للرجلين معًا وأُكرِّسه لرجل واحد، لَأمسيتُ امرأة سعيدة. لو استطعتُ أن أهتمَّ بالناس جميعًا اهتمامي الشديد بنيلسون، وعنايتي المتروية الخالية من الشهوات بدونالد، لَأمسيتُ قديسة. بدلًا من ذلك، فقد وجهت ضربة مزدوجة طائشة في ظاهرها.
•••
الزبائن المعتادون الذين أمسوا أشبه بأصدقاء لي كانوا امرأةً في منتصف العمر تعمل محاسبة معتمَدة، لكنها كانت تفضِّل قراءة كتب مثل «ستة مفكرين وجوديين» و«جوهر المعنى»؛ وموظفًا رسميًّا يعمل بالبلدية ويطلب أعمالًا إباحية رائعة وباهظة الثمن لم أسمع بها من قبلُ (فقد بَدَتِ ارتباطاتُ هذه الأعمال بالشرق والحضارة الإترورية بالنسبة إليَّ بَشِعةً وغيرَ ذات أهمية لو قُورِنت بالطقوس البسيطة الفعَّالة المشوقة التي كنَّا نمارسها أنا ونيلسون)؛ وكاتبَ عدلٍ كان يعيش خلف محل عمله على ناصية شارع جونسون (قال لي: أنا أعيش في المناطق العشوائية، وأتوقَّع أن يفاجئني في ليلةٍ من الليالي رجلٌ ضخم الجثة يترنَّح على ناصية الشارع ويصرخ: «ستيلا»)؛ والمرأة التي عرفتها لاحقًا باسم شارلوت — كان كاتبُ العدل يُسمِّيها «الدوقة». لم يهتم أيٌّ من هؤلاء بالآخرين، وباءت بالفشل محاولةٌ مبكرة قمتُ بها لبدء حوار بين المُحاسِبة وكاتِب العدل.
قال كاتب العدل: «أعفيني من النساء الذابلات المُحَيَّا اللائي تملأ وجوههن مستحضرات التجميل.» وفي المرة التالية التي جاء فيها المكتبة قال: «آمل ألَّا تتسكَّع في المكان الليلةَ.»
صحيحٌ أن المحاسِبة بالَغَتْ في تجميل وجهها الناحل البالغ من العمر خمسين عامًا، الذي يبدو عليه الذكاء، ورسمت حاجبَيْها فصارا أشبه بخطين مرسومين بالحبر الهندي، ولكن مَنْ هو كاتب العدل لينتقدها بأسنانه الصغيرة المصبوغة بالنيكوتين، ووجنتَيْه المليئتين بالبثور؟!
قالت المحاسِبة وكأنها خمَّنت الانتقادات التي وُجِّهت إليها وفنَّدَتْها بشجاعة: «شعرتُ أنه شخص سطحي إلى حدٍّ ما.»
راسلتُ دونالد قائلةً: «إنني أخفقت في محاولاتي التوفيق بين الناس. ومَن أنا لأحاول على أية حال؟» اعتدتُ على مراسلة دونالد بانتظام واصفةً بقدر الإمكان المكتبةَ والمدينةَ وحتى مشاعري التي لا تفسير لها. كان يعيش مع هيلين سكرتيرته. وراسلتُ نيلسون أيضًا الذي ربما يعيش وحيدًا، وربما لا، وربما عاد إلى سيلفيا. لا أحسبه عاد إليها؛ ظننتُ أنها ستؤمن بالسلوك الذي لا يُغتفَر والنهايات الحاسمة. أمسى له عنوان جديد. بحثتُ عنه في دليل هاتف لندن بالمكتبة العامة، وبعد بدايةٍ محمَّلة بالسخط، استأنف دونالد الردَّ على رسائلي. كتبَ لي رسائل عادية بعيدة عن الأمور الشخصية، وممتعة نوعًا ما عن أناسٍ كنَّا نعرفهم، ومواقف وقعت في العيادة. ولم يراسِلني نيلسون قطُّ، فبدأتُ في إرسال خطابات مسجَّلة؛ حينئذٍ علمتُ أنه يستلمها على الأقل.
لا بد أن شارلوت وجوردي دلَفَا إلى المكتبة معًا، لكنني لم أعلم أنهما زوجان حتى حان وقت رحيلهما. كانت شارلوت بدينة وغير متناسقة القوام، لكنها كانت سريعة الحركة، وردية البشرة، زرقاء العينين، يغطي رأسها كثيرٌ من الشعر الأبيض اللامع، وكانت تصفِّفه كما تفعل الفتيات؛ حيث تدلَّى متموجًا على كتفيها. وعلى الرغم من دفء الجو نوعًا ما، كانت ترتدي رداءً خارجيًّا رماديًّا داكنًا بلا أكمام من القطيفة يحيط بحوافه فرو رمادي؛ رداءٌ بَدَا وكأنه يُستعمَل أو كان يُستعمَل في فترة من الفترات كثوبٍ مسرحي. تحت هذا الرداء، كانت ترتدي قميصًا فضفاضًا وبنطالًا صوفيًّا مربع النقش، وفي قدمَيْها العريضتين العاريتين المغبرتين كانت تنتعل صندلًا مفتوحًا. كان يصدر عنها صوتُ صليلٍ كأنها ترتدي درعًا مخبوءًا. وعندما كانت تمدُّ ذراعَها لأعلى كي تجلب كتابًا، كان يظهر هذا الشيء الذي يُصدِر الصليل. لقد كان ذلك صوت أساور كثيرة لا حصرَ لها، منها الثقيل ومنها الخفيف، منها اللامع ومنها ما فقَدَ بريقَه، وبعضها ازدان بمجموعة من الأحجار الكبيرة المربعة الملونة بلونِ حلوى الطُّوفي أو بلون الدم.
قالت لي وكأنها تستكمل حوارًا عارضًا وممتعًا: «تخيَّلي ذلك المخلوق المحتال العجوز ما زال يتحرَّك.» التقطتْ كتابًا لأناييز نين.
قالت: «لا تهتمي؛ فأنا أقول أشياءَ مريعة. إنني أحبُّ هذه المرأة كثيرًا، ولكن ذاك الرجل هو الذي لا أطيقه.» سألتُها وقد بدأت تمسك بطرف الخيط: «هنري ميلر؟»
تابعتْ حديثها عن هنري ميلر وباريس وكاليفورنيا بنبرة تخلَّلها التهكُّم والحماس ومسحة من التعاطُف: «هذا صحيح.» بَدَا أنها كانت تعيش، على الأقل، إلى جوار الناس الذين كانت تتحدَّث عنهم. وأخيرًا، وبسذاجة، سألتُها ما إذا كان هذا هو الحال.
فأجابتني قائلة: «لا، لا. أشعرُ وكأنني أعرفهم فحسب. ليس على المستوى الشخصي. حسنٌ، بل على المستوى الشخصي. نعم، على المستوى الشخصي. هل هناك من مستوًى آخَر أعرفهم على أساسه؟ أعني أنني لم أَلْتَقِ بهم وجهًا لوجه، ولكن في كتبهم؟ بالتأكيد هذا ما كانوا يقصدونه؟ أنا أعرفهم، أعرفهم لدرجة أنهم يصيبونني بالضجر؛ شأنهم شأن أي شخص تعرفينه. أَلَا تشعرين بذلك؟»
تحركتْ باتجاه الطاولة حيث وضعتُ مجموعة كتب أدبية صادرة عن مؤسسة «نيو دايريكشنز». قالت: «هذه هي المجموعة الجديدة إذن.» وأردفتْ وقد اتسعت عيناها إذ رأت صور جينزبرج وكورسو وفيرلينجتي: «يا للعجب!» وشرعت في القراءة باهتمامٍ شديد جدًّا، لدرجة أنني حسبت أن أول شيء ستقوله سيكون جزءًا من قصيدةٍ ما.
قالت: «كنتُ مارة بالجوار ورأيتُكِ هنا.» ثم وضعت الكتاب جانبًا، وأدركتُ أنها تقصدني بكلامها. «رأيتُكِ جالسةً هنا، وحدَّثْتُ نفسي أن أي امرأة شابة سيطيب لها — على الأرجح — أن تخرج لتقضي بعض الوقت في الخلاء، تحت ضوء الشمس. هل فكرتِ في تعييني هنا بحيث يتسنَّى لكِ الخروج؟»
قلتُ لها: «حسنٌ، يسعدني أن …»
«إنني لست بلهاء بالمرة؛ فلديَّ قَدْرٌ من المعرفة حقًّا. سَليني عن مؤلف قصيدة «التحوُّلات» للشاعر أوفيديوس. لا بأس، لا داعي للضحك.»
«يسعدني ذلك حقًّا، ولكنني لا أستطيع أن أتحمَّل تكلفة تعيينك.»
«آه، حسنٌ! لعلك على حق؛ فأنا لستُ أنيقة بالقدر الكافي. الأرجح أنني سأتسبَّب في إحداث حالة من الفوضى هنا. الأرجح أنني سأجادِل الناس إنْ أرادوا أن يشتروا كتبًا أراها مخيفةً.» لم يَبْدُ عليها الإحباط. أمسكَتْ بنسخة من كتاب «نبتة الأفوكادو الفاسدة» وقالت: «ها هو! يجب أن أشتري هذا الكتاب لعنوانه المثير.»
أطلقتْ صفيرًا خافتًا، وأشاحَ الرجلُ الذي بَدَا مقصودًا بالصفير بوجهه عن طاولة الكتب التي كان يحملق فيها بالقرب من الجزء الخلفي من المكتبة. كنتُ أعلم أنه هناك، لكنني لم أربط بينه وبينها؛ حسبته واحدًا من الذين يتسكَّعون في الشارع وحدهم فحسب، ويقفون ويتطلَّعون إلى ما حولهم وكأنهم يحاولون التعرُّف على المكان المحيط بهم، أو تفسير العلة وراء وجود هذه الكتب. لم يكن مخمورًا ولا متسوِّلًا، وبالتأكيد لم يكن بالشخص الذي يثير القلق أو الشبهات؛ كان واحدًا من المُسِنِّين الرثِّي الهيئة الذين ليس بمقدورهم التواصُل مع الآخرين، والذين يرتبطون بالمدينة ارتباطَ الحمَام بها؛ حيث كانوا لا يكفُّون عن الحركة طوال اليوم في مساحة محدودة دون أن ينظروا إلى الناس وجهًا لوجه مطلقًا. كان يرتدي معطفًا يمتد إلى كاحلَيْه؛ معطفًا من مادة لامعة مطاطية بلون بُنيٍّ مائل إلى الحمرة، وقبعةً مخملية بُنية اللون تتدلَّى منها مجموعةٌ من الخيوط المؤتلفة كتلك التي ربما يرتديها عالِمٌ كبير في السن أصابه الوهن، أو كاهنٌ في فيلم إنجليزي. ثمة تشابُه بينهما إذن؛ فقد كانا يرتديان أشياءَ ربما كانت مهملة في صندوق أزياء، ولكن عند تدقيق النظر فيه، سنجده يبدو أكبر منها سنًّا بسنواتٍ بوجهه الكئيب الشاحب، وعينيه البُنيتين الذابلتين، وشاربه الكريه المنظر غير المُشذَّب. ولعل بعض آثار الوسامة أو القوة بقيت لديه. شراسة مكبوتة. جاء تلبيةً لصفيرها الذي بَدَا مزيجًا من الجِدِّ والهَزْل، ووقف على مقربة منَّا ساكنًا وطيِّعًا ككلب أو حمار، بينما تأهَّبَتِ المرأة لسداد ثمن الكتاب.
آنذاك، كانت حكومة كولومبيا البريطانية قد فرضتْ ضريبةَ مبيعات على الكتب؛ وفي حالتها، بلغت الضريبة أربعة سنتات. قالت: «لا يمكنني دفع هذا المبلغ ضريبةً على الكتب. أعتقد أن في ذلك انعدامًا للأخلاق. أُفضِّل أن أُسجَن على أن أدفع هذا المبلغ. أَلَا توافقينني الرأي؟»
كان رأيي من رأيها، ولم أوضِّح لها — كعادتي مع الآخرين — أن المكتبة لن تُعفَى من دفع الضرائب لإحجام المشترين عن سدادها.
قالت: «أَلَا أبدو بَشِعة؟ هل ترين ماذا يمكن أن تفعل هذه الحكومة بالناس؟ إنها تصنع منهم «خُطَبَاء يدافعون عن حقوقهم».»
وضعت الكتاب في حقيبتها دون أن تدفع السنتات الأربعة، ولم تدفع ضريبة المبيعات لاحقًا قطُّ.
وصفتُ هيئتهما لكاتب العدل، فعرف على الفور عمَّن كنتُ أتحدَّث.
قال: «أسمِّيهما الدوقة والجزائري. لا أعرف ما الخلفية التي دَعَتْني لتسميتهما هكذا. أعتقدُ أنه إرهابي متقاعِد؛ فهما يجوبان المدينة ويجرَّان عربةً كعاملي النظافة.»
•••
استلمتُ رسالة فيها دعوة لي على العشاء ليلةَ الأحد، وكانت ممهورة بتوقيع شارلوت دون لقب العائلة، لكن الكلمات والكتابة كانت رسمية جدًّا.
«يسعدني أنا وزوجي جوردي أن …»
حتى تلك اللحظة، لم أكن أعقد الآمال على تلقِّي دعواتٍ كهذه قطُّ، وكنتُ سأشعر بالإحراج والاضطراب لو جاءني مثلها؛ ولذلك فاجَأَني الشعور بالسعادة الذي غمرني. كانت علاقتي بشارلوت واعدة؛ فهي لم تكن كالآخرين الذين لم أودَّ رؤيتَهم إلا في المكتبة فحسب.
كانت البناية التي يعيشان فيها تقع في شارع باندورا، وكانت مغطَّاة بالجبس الأصفر، وتحوي دهليزًا صغيرًا ممهَّدًا بالبلاط ذكَّرني بالمراحيض العامة، لكن لم تكن تفوح منه رائحة كريهة، والشقة لم تكن في واقع الأمر متَّسخة، كل ما هنالك أنها كانت غير مُرتَّبة؛ فالكتب مكدَّسة عند الجدار، وثمة قصاصات من قماش ذي نقوش تدلَّتْ على الجدار لتُخفِي تحتها ورقَ الحائط، وثمة ستائر من الخيزران على النوافذ، وصفحات من الورق الملوَّن — القابل للاشتعال بالتأكيد — معلَّق على اللمبات.
صاحت شارلوت: «كَمْ هو لطيف منكِ أن تحضري! كنَّا نخشى أن تشغلكِ عن زيارتنا أمورٌ أكثر أهميةً. أين ترغبين في الجلوس؟ ما رأيكِ أن تجلسي هنا؟» أزاحتْ كومة من المجلات عن كرسي من الخيزران، وقالت: «أهذا الكرسي مريح؟ إنه يُصدِر أصواتًا مثيرة، فهو من الخيزران. أحيانًا أجلس هنا وحدي، وأسمعه يُصدِر صريرًا وكأنَّ أحدًا يتحرَّك به من مكانٍ إلى آخَر. يمكنني أن أقول إن ثمة قوًى خارقةً للطبيعة هي التي تفعل ذلك، لكنني لا أؤمن بهذه التُّرَّهات؛ فقد جرَّبْتُ بنفسي.»
صبَّ جوردي خمرًا حلوًا أصفر اللون لي في كأسٍ طويلة لامعة، ولشارلوت في قَدَح، ولنفسه في كوب بلاستيكي. بَدَا أنَّ من رابع المستحيلات إعدادَ عشاء في ذلك المطبخ المتناهي الصِّغَر الذي تراكمتْ فيه الأطعمةُ والقدور والأطباق، لكنَّ ثمة رائحةَ دجاجٍ مشويٍّ شهية تفوح في المكان. وبعد برهة جاء جوردي بالصنف الأول من الطعام؛ صحونٍ صغيرة تحوي شرائحَ الخيار وأطباق الزبادي. جلستُ على الكرسي المصنوع من الخيزران، بينما جلست شارلوت على كرسيٍّ بذراعين، أما جوردي فجلس على الأرض. كانت شارلوت ترتدي بنطالها وقميصًا قصيرَ الكُمَّيْن زهريَّ اللون التصق بصدرها الذي لم تكن تحمله حمَّالةٌ. كانت قد طَلَتْ أظافر قدميها بلون يتماشى مع قميصها. وكانت أساورها تُصدِر خشخشةً كلما لامستِ الطبقَ وهي تتناول شرائح الخيار (كنَّا نأكل بأصابعنا). كان جوردي يعتمر قبعته ومبذله الحريري الأحمر القاني على بنطاله. اختلطت البُقَع مع الرسوم التي زَيَّنت مبذله.
بعد الخيار، تناولنا الدجاجَ المطهوَّ مع الزبيب والتوابل الذهبية اللون، والخبز الحامضي، والأرز. حصل كلٌّ منَّا أنا وشارلوت على شوكة، لكن جوردي طفق يأكل الأرز بالخبز. ظللتُ أتذكَّر هذه الوجبة على مدار السنوات التالية عندما أصبح هذا النوع من الطعام، وهذه الطريقة غير الرسمية في الجلوس والأكل، وحتى شكل الغرفة وافتقارها إلى الترتيب؛ أمرًا شائعًا وعصريًّا. الذين أعرفهم — وأنا شخصيًّا كذلك — لا بأسَ عندهم من التخلِّي، لفترةٍ، عن طاولات غُرَف الطعام، وكئوس الخمر المتطابقة، وإلى حدٍّ ما عن أدوات المائدة أو الكراسي. عندما يستضيفني الآخَرون، أو أحاول أنا استضافة الناس بهذه الطريقة، تخطر شارلوت وزوجها على بالي، وأفكِّر في معنى الحرمان الحقيقي، والأصالة المحفوفة بالخطر التي تميِّزهما عن كل محاولات التقليد اللاحقة. كنت حديثةَ عهدٍ بموقف كهذا آنذاك، وكنت أشعر بالاضطراب والسعادة في آنٍ واحد. كنت آمل أن أكون جديرة بهذه الطريقة الغريبة في التعامُل، ولكن دون أن يُمتحَن صبري أكثر من اللازم.
خطرت ماري شيلي ببالي بعد ذلك بوقتٍ قصير، وأخذتُ أسرد عناوين الروايات الأخيرة لها، وقالت شارلوت بنبرة حالمة: «بيركن ووربيك. أَلَمْ يكن هو؟ أَلَمْ يكن هو الذي تظاهَرَ بأنه أمير صغير قُتِل في البرج؟»
كانت الشخص الوحيد الذي قابلته — ولم يكن مؤرخًا، لم يكن مؤرخًا لعائلة تيودور — ويعرف هذه المعلومة.
قالت: «هذا الكتاب يستحق أن يتحوَّل إلى فيلم، أليس كذلك؟ السؤال الذي دائمًا ما يلحُّ عليَّ بخصوص المطالبين بالعرش أمثاله هو: ماذا يظن «هؤلاء» بأنفسهم؟ هل يؤمنون بما يدَّعُونه أم ماذا؟ لكن حياة ماري شيلي الخاصة هي الفيلم نفسه، أليس كذلك؟ أنا أتساءل لماذا لم يُصنَع فيلمٌ كهذا من قبلُ! مَنْ ذا الذي سيلعب دورَ ماري في رأيك؟ لا، لا، لنبدأ بهارييت أولًا. مَن سيلعب دور هارييت؟»
أردفت وهي تمزِّق قطعةً ذهبية اللون من الدجاج: «لا بد أن تكون ممثلة بارعة في لعب دور الغارقة. إليزابيث تايلور؟ ليس بالدور الذي يشبع غرورها. سوزانا يورك؟»
تساءلت مشيرة إلى رضيع هارييت الذي لم يُولَد: «مَنْ كان والد الرضيع؟ لا أعتقد أنه كان شيلي. لم أظن ذلك قطُّ. هل ظننتِ ذلك؟»
كان كل ذلك رائعًا وممتعًا جدًّا، ولكنني كنت أعقد الآمال على أن نصل إلى مرحلة التفسيرات — اعترافات شخصية إنْ لم تكن أسرارًا بالفعل. هكذا يتوقَّع المرء في مناسباتٍ كهذه. أَلَمْ تَحْكِ لنا سيلفيا وهي جالسة إلى طاولتي عن تلك المدينة في شمال أونتاريو، وعن نيلسون باعتباره أذكى طلاب المدرسة؟ ذُهِلت من فرط شعوري بالحماس لأن أقصُّ قصتي. دونالد ونيلسون — كنت أتطلَّع إلى أن أقصَّ الحقيقة أو جزءًا منها، بكل ما فيها من تعقيدات جارحة، على شخصٍ لم يكن ليصيبه الذهولُ منها، أو تثور ثائرته بسببها. كنت أودُّ أن أحاول فهم سلوكي العجيب كلما كنتُ برفقة أناس طيبين. هل تعاملتُ مع دونالد باعتباره رمزًا للأب — أو رمزًا للوالد بصفة عامة — بما أن والديَّ لم يكونا على قيد الحياة؟ وهل هجرتُه لأنني كنتُ غضبى «منهما» إذ فارَقَاني؟ ماذا كان يعني صمتُ نيلسون؟ وهل صار صمته دائمًا؟ (لكنني لم أكن أحسب على أية حال أنني سأخبر أحدًا أبدًا عن الخطاب الذي أُعِيدَ لي الأسبوع الماضي مُذيَّلًا بعبارة: «لم يُستدَل على العنوان».)
لم يكن ذلك ما كانت شارلوت تفكِّر فيه، فلم تكن الفرصة سانحة، ولم يكن بيننا تبادُل للأسرار. بعد أن انتهينا من تناوُل الدجاج، أُزِيل كأس الخمر والقَدَح والكوب ومُلِئت بشرباتٍ وردي اللون حلو المذاق كان احتساؤه أسهل من تناوُله بالملعقة. وأُتبِع ذلك بأقداح صغيرة من القهوة المركَّزة جدًّا. أشعل جوردي شمعتين بينما ازدادت الغرفة عتمةً، وأخذتُ واحدة منهما معي إلى الحمَّام الذي اتضح أنه عبارة عن مرحاض ودشٍّ فحسب. قالت شارلوت إن المصابيح لا تعمل.
قالت: «ثمة إصلاحات تتمُّ، أو ربما أن التيار الكهربي له تقلباته. أعتقد بالفعل أن له تقلباته، ولكن من حُسْن الطالع أن لدينا موقدًا يعمل بالغاز الطبيعي، وما دام لدينا هذا الموقد، فإننا لا نعبأ كثيرًا بتقلبات التيار الكهربي. جُلُّ ما يحزنني أننا لا نستطيع تشغيل الموسيقى. كنت أعتزم تشغيل بعض الأغاني السياسية القديمة — حَلمتُ بأنني رأيت جو هيل ليلةَ أمس.» أنشدَتْها بصوت جهير ساخر وسألتني: «هل تعرفين هذه الأغنية؟»
كنت أعرفها بالتأكيد؛ كان دونالد ينشدها عادةً كلما لعبت الخمر برأسه. عادةً ما يتمتع الذين ينشدون أغنية «جو هيل» بميول سياسية غامضة لكنها مميَّزة، لكنني لم أكن أحسب أن الأمر سيكون كذلك بالنسبة إلى شارلوت؛ فهي لا تعوِّل على الميول في حكمها على الأمور ولا على المبادئ؛ فقد كانت تتعامل بهزل مع ما يتعاطى معه الناس بجدية. لم أكن متأكِّدة من شعوري تجاهها؛ لم يكن الإعجاب أو الاحترام. كنت أشعر برغبة في أن أكون مكانها، وهي رغبة لم تكن تدهشني. كنت أود أن أكون مثلها؛ شخصيةً مبتهجةً وساخرةً من ذاتي، وخبيثةً خبثًا رفيقًا، ولا شيءَ يُشبِع رغباتي.
في تلك الأثناء، كان جوردي يُرِيني بعض الكتب. كيف بدأ ذلك النقاش؟ ربما انبثق من تعليقٍ أبديتُه — ربما كان عن عدد الكتب التي يملكانها؛ شيء من هذا القبيل — عندما تعثرتُ في بعضها أثناء عودتي من الحمَّام. كان يجلب كتبًا بأغلفة جلدية أو جلدية مُقَلَّدة — كيف لي أن أميِّز الفارق؟ — كتبًا ذات أوراق أخيرة بها ألوان وخطوط تشبه الرخام، وأغلفة أمامية مُزيَّنة بألوان مائية ونقوش فولاذية. في البداية، ظننتُ أن الأمر لا يتطلَّب سوى الإعجاب، وأُعجِبت بالفعل بكل شيء، ولكن تناهَتْ إلى مسامعي كلمةُ المال. هل هذا أول شيء مميَّز سمعتْ جوردي يقوله؟
قلت له: «لا أتعاطى إلا مع الكتب الجديدة. هذه كتب مذهلة، لكنني لا أعرف عنها شيئًا في حقيقة الأمر. ثمة نشاط تجاري مختلف تمامًا يتعامل مع هذا النوع من الكتب.»
هزَّ جوردي رأسه نافيًا وكأنني لم أستوعب كلامه؛ لذا سيحاول الآن أن يفسِّر مجددًا وبحسم هذه المرة. كرَّرَ على مسامعي السِّعْرَ بنبرة أكثر إصرارًا. أكان يعتقد أنني سأساوِمه؟ أم كان يخبرني عن السعر الذي دفَعَه لقاء الكتب؟ لعلَّنا نُجرِي حوارًا تنبُّئِيًّا عن السعر الذي يمكن أن تباع به الكتب، لا عمَّا إذا كان ينبغي لي شراؤها.
أخذت أجيبه تارةً بالنفي وتارةً بالإيجاب بما يتناسب مع السؤال؛ «لا» أستطيع أن آخذها إلى مكتبتي. «نعم»، إنها كتب رائعة. «لا»، أنا آسفة فعلًا؛ فأنا لستُ مؤهَّلة للحكم على ذلك.
كانت شارلوت تقول: «لو كنَّا نعيش في دولة أخرى، لربما حقَّقْنا أنا وجوردي إنجازًا، أو حتى لو كانت السينما في بلدنا هذا قد قامت لها قائمة، فهذا ما كنت أهوى القيام به حقًّا؛ العمل في السينما كممثلين ثانويين، أو ربما أننا لسنا عاديين بالقدر الكافي للتمثيل الثانوي. ربما عثروا لنا على أدوار صغيرة. أعتقد أن الممثلين الثانويين يجب ألَّا يكونوا بارزين بحيث يمكن استخدامهم مرارًا وتكرارًا. أنا وجوردي لا نُنْسَى بسهولة هكذا، وتحديدًا جوردي — يمكنك «استغلال» هذا الوجه سينمائيًّا.»
لم تُعِرِ انتباهًا للحوارَ الذي دار لاحقًا، لكنها استمرت في توجيهِ كلامها لي، وهزِّ رأْسِها بين الحين والآخر لجوردي؛ لتوحي له بأنه يتصرَّف بطريقة جذابة وإنْ كان من المحتمل أنها لَحُوحة. كان عليَّ أن أتحدَّث إليه برفقٍ ناظرةً إليه بطرف عيني، ومُومِئة إليها في الوقت نفسه استجابةً لها.
قلت: «ينبغي أن تعرضها حقًّا على مكتبة الكتب العتيقة. نعم، إنها كتب بديعة فعلًا. كتب كهذه خارج نطاق عملي.»
لم يتذمَّر جوردي، ولم يكن متملِّقًا بل حاسمًا. بَدَا وكأنه على استعداد لأن يملي عليَّ أوامره، وأنه سيصاب بالغثيان الشديد إنْ لم أُذعِن له. في خضم حيرتي وارتباكي، أعددتُ لنفسي كأسًا من الخمر الأصفر حيث صببتُ الخمر في كأس الشربات التي لم تُغْسل. ربما كانت هذه بادرة فيها إساءة شديدة؛ حيث بَدَا جوردي مستاءً جدًّا.
قالت شارلوت بعد أن وافقت أخيرًا على الربط بين الحوارين الجاريين: «هل يمكنكِ أن تتخيَّلي الصور في الروايات الحديثة؟ على سبيل المثال في روايات نورمان ميلر؟ يجب أن تكون صورًا تجريديةً. أَلَا تعتقدين ذلك؟ ربما تكون أسلاكًا شائكة وبقعًا!»
عدت إلى البيت وقد أصابني صداعٌ فظيع، وشعورٌ بالوهن الشديد. جُلُّ ما في الأمر أنني كنت متحفِّظة متى تعلَّقَ الأمر بالخلط ما بين البيع والشراء والحفاوة، وربما تصرَّفت على نحوٍ أخرق لدرجة أنني أحبطتُهما. لقد خيَّبَا ظني هما أيضًا؛ حيث جعلاني أتساءل عن سبب تركي للأمور تأخذ هذا المنحى.
شعرت بالحنين إلى دونالد على ذِكْر «جو هيل».
وشعرتُ باشتياق أيضًا لنيلسون بسبب تعبيرٍ بَدَا على وجه شارلوت أثناء مغادرتي؛ نظرة إعجاب ورضًا علمتُ أنها مرتبطة بجوردي، ولو أنه شقَّ على نفسي أن أصدِّق ذلك. جعلني هذا التعبير على وجهها أعتقد أنه بعد أن أهبط الدَّرَج وأغادر البناية وأقصد الشارع، ثمة وحشٌ عجوز نحيل وهائج يميل لونه إلى الصفرة، ثمة نمرٌ عجوز أجرب ولكنْ لحوح سينقضُّ على الكتب والأطباق المتَّسِخة ويُحْدِث جلبة.
بعد هذه الزيارة بيوم تقريبًا، استلمتُ رسالةً من دونالد؛ يريد الحصول على الطلاق كي يتسنَّى له الزواج من هيلين.
•••
عيَّنْتُ موظفة، فتاةً جامعية، للعمل لبضع ساعات في فترة الظهيرة؛ بحيث يتسنَّى لي الذهاب إلى البنك وإنجاز بعض الأعمال الورقية. وفي المرة الأولى التي رأتها شارلوت، اتجهت إلى المكتب وربَّتت على كومة من الكتب موضوعة على المكتب كانت على وشك أن تُباع إلى الجمهور.
سألتها: «أهذا هو الكتاب الذي يطلب مديرو المكاتب من موظفيهم شراءه؟» تبسَّمَتِ الفتاة بحذرٍ ولم تردَّ عليها.
كانت شارلوت على حقٍّ؛ كان الكتاب الذي أشارت إليه تحت عنوان «التحكم الآلي النفساني»، ويتناول تبنِّي المرء لتصوُّر إيجابي عن ذاته.
قالت شارلوت: «ذكاءٌ منكِ أنِ استعنتِ بها بدلًا مني؛ فهي أكثر أناقةً، ولن تثرثر فتنفر الزبائن، ولن يكون لها رأيٌ شخصي.»
قالت الموظفة الجديدة بعد أن رحلت شارلوت: «ثمة شيء يجب أن أخبركِ إياه بشأن هذه المرأة.»
•••
«هذا الجزء ليس مهمًّا.»
سألتُها: «ماذا تعنين؟» لكن عقلي كان شاردًا ظهيرة اليوم الثالث بالمستشفى بالتزامن تحديدًا مع الجزء الأخير من قصة شارلوت؛ حيث جال بخاطري كتاب لم يُرسَل بعدُ يتناول الرحلات البحرية في البحر المتوسط، وكنت أفكِّر أيضًا في كاتب العدل الذي ضربه أحدُهم على رأسه ليلةَ أمس في مكتبه بشارع جونسون. لم يَلْقَ حتفه، لكنه ربما أُصِيبَ بالعمى. أكانت عملية سرقة؟ أم عملًا انتقاميًّا بدافع الغضب يرتبط بفترةٍ من حياته لم أُخمِّنها من قبلُ؟
جعلت الأحداثُ الدرامية المبالَغ فيها والارتباكُ هذا المكانَ أكثر اعتيادًا، ولكن أقل استيعابًا بالنسبة إليَّ.
قلتُ لها: «بالطبع هو جزء مهم. كله مهم. إنها قصة مذهلة.»
ردَّدَتْ شارلوت بطريقة متكلفة: «مذهلة.» تجهَّمَتْ فبدت أشبه برضيع يستفرغ ملء ملعقة من طعام الأطفال، وبدت عيناها اللتان لم تفارقاني وكأنهما تفقدان لونهما وزُرْقتهما الطفولية اللامعة الأنوفة، وتحوَّلت شكاستهما إلى اشمئزاز، وبدا عليها تعبير ينمُّ عن الاشمئزاز الخبيث، والإنهاك الذي لا يُوصَف كذلك، الذي يُبْدِيه الناسُ للمرآة ونادرًا ما يبدونه للآخرين؛ ربما كان بسبب الأفكار التي كانت تجول في رأسي، خطر لي أن شارلوت قد تموت؛ قد تموت في أي لحظة، قد تموت توًّا؛ الآن.
أشارت إلى كأس الماء بشفَّاطتها البلاستيكية المعقوفة. أمسكتُ الكأسَ لها بحيث يمكنها أن تشرب، وسندتُ رأسها، وأمكنني أن أحس بحرارة فروة رأسها ونبضها أسفل جمجمتها. شربَتْ وارتوَتْ من ظمأ، وتبدَّدَتْ من وجهها النظرةُ المروعة.
قالت: «فكرة بالية.»
قلت بينما أَعَدْتُها برفق إلى وسادتها: «أعتقد أنها ستكون مادة ثرية لفيلم رائع.» أمسكتْ بمعصمي ثم تركته.
سألتها: «من أين أتيتِ بالفكرة؟»
قالت شارلوت بغموض: «من الحياة. انتظري لحظة.» أشاحت بوجهها على الوسادة وكأنها بصدد ترتيبِ شيءٍ ما سرًّا، ثم عادت لوضعيتها وأخبرتني المزيد.
•••
لم تَمُت شارلوت. على الأقل لم تمت في المستشفى. عندما وصلتُ متأخِّرة بعضَ الشيء ظُهْرَ اليوم التالي، كان فراشها خاليًا وقد تمَّ ترتيبه منذ لحظات، وكانت الممرضة التي تحدَّثْتُ إليها من قبلُ تحاوِل قياس درجة حرارة امرأة مقيَّدة بكرسي متحرك، وضحكتْ من النظرة التي بَدَتْ على وجهي.
قالت: «أوه، لا! ليس الأمر كما تتخيَّلينه؛ لقد خرجت شارلوت صباحَ اليوم. جاء زوجها واستلمها. كنَّا بصدد نقلها إلى مستشفى رعاية ممتدة في مدينة سانيتش، ومن المفترض أن يصحبها إلى هناك. قال إن سيارة الأجرة بانتظاره بالخارج، وبعدها تلقَّيْنا مكالمةً هاتفية بأنهما لم يصلا إلى المستشفى قطُّ! كانا في حالة انتشاء عندما غادرا. جلب لها مبلغًا كبيرًا، وأخذت تُلقِي به في الهواء! لا أعرف. لعلَّها أوراق نقدية، لكننا لا نعرف من أين حصلا عليها.»
سِرتُ حتى البناية السكنية الواقعة في شارع باندورا؛ حسبتُ أنهما ربما عادا إلى البيت، ولعلهما فقدا تعليمات الوصول إلى مستشفى الرعاية الممتدة، ولم تكن لديهما رغبةٌ في الاستفسار، وربما قرَّرَا الإقامة معًا في شقتهما مهما كلَّفَهما الأمر، وربما شغَّلَا الغاز.
في البداية، لم أتمكن من العثور على البناية، وحسبتُ أنني ربما ضللت الطريق، لكنني تذكَّرت متجرًا على أحد جانبَي الطريق، وبعض البيوت. تغيَّرت البناية — هذا ما حدث — فقد طُلِيَ الجص باللون الزهري، وتم تركيب نوافذ جديدة كبيرة وأبواب فرنسية، وأُلحِقت بها شُرفات صغيرة ذات حواجز حديدية مشغولة، وطُلِيت الشُّرفات الفاخرة باللون الأبيض حتى بَدَا المكان بأسره وكأنه محلٌّ لبيع البوظة. لا شك أنه شهدَ تجديداتٍ من الداخل أيضًا، ولا مراءَ أن الإيجار قد زاد، فلم يَعُدْ في مقدور أناس على شاكلة شارلوت وجوردي الإقامة فيه بعد الآن. تحقَّقْتُ من الأسماء الموجودة على الأبواب، وبالطبع لم أجد اسمَيْهما؛ لا بد أنهما تركا المكان منذ فترة من الزمن.
بَدَا أن التغيُّر الطارئ على البناية السكنية يحمل في طيَّاته رسالةً ما لي؛ رسالة جوهرها الاختفاء. علمتْ أن شارلوت وجوردي لم يختفيَا فعلًا — فهما في مكانٍ ما، سواءٌ أكانا على قيد الحياة أم فارقاها — لكنهما اختفيا بالنسبة إليَّ. وبسبب هذه الحقيقة — لا بسبب فقداني لهما في واقع الأمر — غمرني شعور بالأسى أسوأ وأخطر أثرًا بكثير من أي إحساس بالندم شعرتُ به على مدار العام الماضي كله. كنت قد فقدت اتِّزاني. يجب أن أرجع إلى المكتبة كي تستطيع موظفتي الجديدة أن تعود إلى بيتها، لكنني شعرتُ وكأنني أستطيع أن أسير في طريق آخَر بنفس السهولة؛ أي طريق. صلتي بالعالم أصبحتْ في خطر؛ هذا كل ما في الأمر. أحيانًا تضعف صلتنا بالعالم وتكون عرضةً للخطر، وأحيانًا نكاد نفقدها، وتنكر الاتجاهات والشوارع معرفتها بنا، ويمسي الهواء شحيحًا. أليس من الأفضل أن يكون لنا قَدَرٌ نسلِّم له ثم يتملَّكنا شيءٌ ما؛ أيُّ شيء بدلًا من تلك الخيارات الواهية والأيام المستبدة؟
تركتُ نفسي تنسلُّ مني إلى خيالاتٍ بحياة أعيشها مع نيلسون. لو كنتُ قد فعلت ذلك بدقة متناهية، لَسارت الأمور على هذا النحو.
يأتي إلى فيكتوريا، لكنه لا يهوى فكرةَ العمل بالمكتبة في خدمة العامة، فيحصل على وظيفة مدرِّس بمَدرسةٍ للبنين؛ وهي مكان للطبقة الراقية سرعان ما تُحِيله فيه قسوتُه التي تميِّز الطبقةَ الفقيرة وطباعُه الفظَّةُ إلى شخصية محبوبة.
ننتقل من الشقة الكائنة في شارع داردنالز إلى بيتٍ فسيح من طابق واحد على بُعْد بنايات قليلة من البحر ونتزوَّج.
لكن هذه هي بداية فترةٍ من الوحشة. أصبح حُبلى، ويقع نيلسون في حبِّ أمِّ واحد من طلابه، بينما أهيم أنا عشقًا بطبيبٍ مقيم بالمستشفى أثناء المخاض.
نتجاوز أنا ونيلسون كلَّ هذه التعقيدات وننجب طفلًا آخَر. نكتسبُ صداقات وأثاثًا وطقوسًا جديدة، ونتردَّد على عدد كبير جدًّا من الحفلات في مواسم بعينها من العام، ونتكلَّم بانتظام عن بدء حياة جديدة في مكانٍ ما بعيدٍ حيث لا نعرف أحدًا ولا يعرفنا أحدٌ.
ونتباعد ونتقارب مرارًا وتكرارًا.
عندما كانت لوتار بصدد مغادرة ساحة بيت الأسقف، كانت متشحة بعباءة طويلة أعطوها إياها؛ ربما لستر ملابسها الرثة أو لاحتواء رائحتها الكريهة. خاطَبَها خادم القنصل بالإنجليزية شارحًا لها إلى أين هما يتجهان. كانت تفهمه، لكنها عجزت عن الرد. لم يكن الظلام قد حلَّ بالكامل. ما زال بإمكانها رؤية الأشكال الباهتة للزهور والبرتقال في حديقة الأسقف.
كان خادمُ الأسقف مُمسِكًا بالبوابة كي لا تُوصَد.
لم تَرَ الأسقف قطُّ، ولم تَرَ القَس الفرنسيسكاني منذ أن تبع خادم الأسقف إلى داخل البيت. نادَتْه الآن بينما كانت تهمُّ بالرحيل. لم تكن تعرف له اسمًا لتناديه به، فصاحت قائلة: «زوتي! زوتي! زوتي!» وهي كلمة تعني «قائد» أو «سيد» بلغة الجيج، لكنها لم تتلقَّ جوابًا، ولوَّحَ خادم القنصل بمشكاته بنفاد صبر مُشِيرًا إلى الطريق الذي يجب أن تسلكه. ومصادفةً وقع ضوء المشكاة على الفرنسيسكاني واقفًا يستتر نصف جسده وراء شجرة. كانت شجرة برتقال صغيرة تلك التي وقفَ خلفها. تطلَّعَ إلينا بوجهه الشاحب — الذي كان شاحب اللون شأنه شأن البرتقال في ضوء المشكاة — من بين الفروع وقد ذهبت عنه سُمرته بالكامل. لقد كان وجهًا واهنًا معلَّقًا في الشجرة، وتعبيراته الحزينة محايدة وقنوعة شأنها شأن التعبيرات التي يمكن أن نراها على مُحَيَّا حواريٍّ تقيٍّ، ولكن مُعْتَدٍّ بنفسه في نافذة كنيسةٍ ما. وبعدها اختفى وجهُه، فاحتبست أنفاسها حيث أدركت غيابَه بعد فوات الأوان.
•••
أخذت تناديه مرارًا وتكرارًا، وعندما رسا القارب في الميناء بمدينة تريستي، كان بانتظارها على رصيف الميناء.