مكانٌ في البرية
١
السيدة مارجريت كريسويل؛ المديرة، دار هاوس أوف إندستري، تورونتو، إلى السيد سايمون هيرون، نورث هورون، ١٥ يناير ١٨٥٢.
بما أن خطابك مشفوعٌ باعتماد من القَس، فيسعدني الرد عليه. تَرِد إلينا طلبات من هذا النوع بصفةٍ مستمرة، لكنْ ما لم يكن الطلب مُعتمِدًا من القَس، فلا يسعنا الوثوق في أنه حَسَنُ النية.
ليس لدينا أي فتيات بالدار في سن الزواج، فنحن نرسل الفتيات إلى الخارج ليكسبن قوتَ يومهن في سنِّ الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة في العادة، لكننا نظل بالفعل على اتصالٍ بهن لبضع سنوات أو حتى يتزوَّجْنَ عادةً. في حالاتٍ كهذه نزكِّي واحدةً من أولئك الفتيات ونرتِّب للقاء، وبعد ذلك بالطبع يعود الأمر إلى الطرفين المعنِيَّيْن فيما إذا كان يلائِمُهما الأمر أم لا.
ثمة فتاتان في الثامنة عشرة من عمرهما لا نزال على اتصالٍ بهما. كلتاهما تتدرَّبان لدى صانع قبعات نسائية، وهما خيَّاطتان بارعتان، لكن الزواج برجلٍ مناسب هو — على الأرجح — الأفضل لهما من قضاء حياتهما في ذلك العمل. لا يمكننا ذِكْر أكثر من ذلك، ولا بد أن يُترَك الأمرُ للفتاة نفسها، وبالطبع لإعجابك بها، أو العكس.
الفتاتان هما الآنسة سادي جونستون والآنسة آني ماكيلوب، وهما فتاتان شرعيتان لآباء مسيحيين، أُودِعتا في الدار من جرَّاء وفاة آبائهما. لم يكن الثَّمَل أو الفسوق سببًا في الوفاة. في حالة الآنسة جونستون، كان السبب هو الإصابة بالدرن. وعلى الرغم من أنها أجمل من الفتاة الأخرى، وهي فتاة ممتلئة القوام متورِّدة البشرة، أشعرُ أنَّ عليَّ تحذيرك من أنها ربما لا تتكيَّف مع مَشَقَّة الحياة في الأدغال. الفتاة الأخرى؛ الآنسة ماكيلوب، تتمتَّع ببنية أقوى، على الرغم من أنها أنحفُ وبشرتُها أقلُّ جمالًا، ولديها ضعفٌ في إحدى العينين، لكنه لا يؤثِّر على رؤيتها، وهي تحيك الملابس ببراعة. إن عينيها السوداوين وشعرَها الأسود والمسحةَ البُنية ببشرتها ليست بإشارةٍ على أنها مختلطة العِرْق؛ إذ إن والدَيْها كانا من مقاطعة فايف. هي فتاة قوية وأعتقد أنها ستتكيَّف مع طبيعة الحياة التي يمكنك أن توفِّرها لها، لكونها أيضًا لا تتَّسِم بالخجل السخيف الذي نراه — في أغلب الأحيان — في الفتيات اللائي في عمرها. سأتحدَّث معها وأُطلِعها على الفكرة، وسأنتظر خطابَك الذي ستُطلِعني فيه على الموعد المقترح للقائها.
٢
كارستيرز آرجوس، إصدار العيد السنوي الخمسين، ٣ فبراير ١٩٠٧. ذكريات السيد جورج هيرون.
في اليوم الأول من شهر سبتمبر، حَمَلتُ أنا وأخي سايمون صندوقًا به أغطية أسرَّة وأواني منزلية، ووضعناه في عربة يجرُّها حصان، وانطلقنا من مقاطعة هالتون لنجرِّب حظَّنا في براري هورون وبروس، مثلما كان يُطلِق عليهما الناسُ حينذاك. كانت هذه الأشياء من آرتشي فريم الذي يعمل سايمون لحسابه، وحُسِبَتْ كجزءٍ من أجره. اضطررنا أيضًا إلى استئجار المنزل منه، وحضر معنا خادمه الذي كان في مثل عمري تقريبًا لاسترداد المنزل والعربة.
عليَّ أن أوضِّح في البداية أنني وأخي تُرِكنا وحدنا، بعد أن مات أبي أولًا ثم أمي بسبب إصابتهما بالحمى في غضون خمسة أسابيع من وصولنا هذه البلاد، عندما كنتُ في الثالثة من عمري وسايمون في الثامنة. عمل سايمون لدى آرتشي فريم؛ وهو ابنُ عمِّ أمي، وذهبتُ أنا للعيش مع معلِّمٍ وزوجته، ليس لديهما أبناء. كان ذلك في هالتون، وكنت سأرضى بالعيش هناك لبقية حياتي، لكن سايمون الذي لا يبعد عني سوى بضعة أميال استمرَّ في زيارتي وظلَّ يخبرني أنه بمجرد أنْ نصل إلى السنِّ المناسبة سنرحل ونحصل على أرضٍ لنا، ونعتمد على أنفسنا، ولن نعمل لحسابِ أحدٍ؛ حيث إن ذلك ما كان ينويه أبي. لم يرسل آرتشي فريم سايمون إلى المدرسة مثلما حدَثَ معي؛ لذا عزم سايمون دائمًا على الفرار. عندما بلغتُ الرابعة عشرة من عمري وأصبحتُ صبيًّا قويَّ البنية، مثلما كان أخي، أخبرني أنه ينبغي علينا الرحيل والاستحواذ على أرضٍ من أراضي التاج الملكي شمال هورون.
في اليوم الأول لم نستطع الوصول إلى أبعد من بريستون؛ إذ كانت الطرقات وعرة وسيئة عبر بلدتَيْ ناساجاويا وبوسلينش. في اليوم التالي، وصلنا إلى بلدة شكسبير، وفي اليوم الثالث إلى ستراتفورد. كانت الطرقات تزداد سوءًا مع اتجاهنا غربًا؛ لذا فكَّرنا أنه من الأفضل إرسال الصندوق إلى مدينة كلينتون عبر عربة النقل، لكنها كانت قد توقَّفَتْ عن السير نظرًا لهطول الأمطار، وكانت تنتظر تجمُّدَ المياه فوق الطرق؛ لذا أخبرنا خادم آرتشي فريم أن يستدير ويعود أدراجَه بالعربة والحصان والصندوق إلى هالتون، ثم حملنا فئوسنا فوق أكتافنا، وسِرنا باتجاه كارستيرز.
لم نرَ أحدًا أمامنا. أضحت كارستيرز على مقربةٍ منَّا؛ حيث ظهرت منها بنايةٌ متهدِّمة تجمع بين متجر ونُزُل، وكان هناك رجل ألماني يُدعَى روم يصنع ماكينةً لنَشْرِ الأخشاب. كما وصلَ قبلنا رجلٌ يُدعَى هنري تريس وصنَعَ بالفعل كوخًا ذا حجم مناسب، وقد أصبح فيما بعدُ والِد زوجتي.
نزلنا بالنُّزُل حيث نِمْنَا فوق أرضيةٍ جرداء ببطانية أو لحاف واحد نتقاسَمُه. جاء الشتاء مبكرًا بأمطار باردة، وكان كلُّ شيء ندِيًّا، لكننا كنَّا نتوقَّع مواجَهة الصعاب، أو على الأقل توقَّعَ سايمون ذلك؛ فقد أتيتُ من مكان أكثر اعتدالًا. قال إن علينا التكيُّف مع الأمر، ففعلتُ ذلك.
شرعنا في زراعة الطريق المُوصِّل إلى قطعة الأرض الخاصة بنا بالشجيرات، ثم ميَّزْنَاها واستخدمنا قِطَع الأخشاب التي أتينا بها من الأشجار لبناء كوخنا وتشييد السقف. تمكَّنَّا من اقتراضِ ثورٍ من هنري تريس لجرِّ قِطَع الأخشاب هذه، لكن لم يكن سايمون ميَّالًا إلى اقتراض أيِّ شيء أو الاعتماد على أي شخص؛ كان عازمًا على محاولة بناء الكوخ بأنفسنا، لكن عندما تبَيَّنَّا أنه ليس في استطاعتنا فعل ذلك، توجَّهْتُ إلى منزل تريس وأنجزنا بناء الكوخ بمساعدة هنري واثنين من أولاده، ورجل من الطاحونة. بدأنا في اليوم التالي في ملء الشقوق بين جذوع الأشجار بالطين، وجئنا ببعض أغصان نبات الشوكران، بحيث لا تنفد أموالنا بالمكوث في النُّزُل ونتمكَّن من النوم في منزلنا الخاص. وضعنا لوحًا ضخمًا من خشب الدردار كبابٍ للكوخ. سمع أخي من بعض الرفاق الكنديين ذوي الأصول الفرنسية؛ ممَّنْ كانوا يعملون لدى آرتشي فريم، أنه في مخيمات الأكواخ الخشبية لا بد أن تكون نيرانُ التدفئة في منتصف الكوخ الخشبي؛ لذا قال إنه يجب أن نُشعِل النيران بتلك الطريقة، فأقمنا أربعَ ركائز وبَنَيْنَا المدخنة فوقها، على غرار المنازل، وعزمنا على لصق أجزائها بواسطة الطين من الداخل والخارج. أَوَينا إلى فراشنا المصنوع من الدردار بعد أن أوقدنا نيرانَ جيدة بغرض التدفئة، لكننا استيقظنا في منتصف الليل لنجد الأخشابَ التي استخدمناها في بناء الكوخ والسقف بدأت في الاحتراق بسرعةٍ، فهَدَمنا المدخنة. ولم يكن من الصعب إخماد النار التي اشتعلت بالسقف؛ لأنه كان مصنوعًا من خشب الزيزفون. ما إنْ حلَّ النهار حتى شرعنا في بناء المدخنة بالطريقة العادية في نهاية المنزل، وظننت أنه من الأفضل ألَّا أُبْدِي أيَّ ملاحظات.
بعد أن أخلينا الأرض لحدٍّ ما من الشجيرات والأفرع المتكسرة، شرعنا في قَطْع الأشجار الضخمة. قطعنا شجرة دردار ضخمة وقسَّمْناها إلى شرائح كبيرة لاستخدامها في صُنْع الأرضية. لم يكن الصندوق الخاص بنا قد وصل بعدُ، وقد كان من المفترض إرساله من هالتون؛ لذا أرسَلَ لنا هنري تريس قطعةً ضخمة ووثيرة من جلد الدُّب كي نستخدِمَها غطاءً لنا، لكن أخي لم يقبل المعروف وأعاده له وقال: إننا لسنا بحاجةٍ إليه. بعد ذلك بعدة أسابيع وصل إلينا الصندوق، واضطررنا إلى طلب الثور لإحضاره من مدينة كلينتون، لكن أخي قال: إن هذا سيكون آخِر شيء نحتاج إلى طلبه من أي شخص.
سِرنا حتى مدينة والي وأحضرنا طحينًا وسَمَكًا مُملَّحًا على ظهورنا. جدَّفَ بنا رجلٌ عبر النهر بمانشستر مقابل أجرٍ مرتفع. لم يكن ثمة جسور حينئذٍ ولم يُجمِّد الشتاء الأنهارَ بحيث يسهل العبور فوقها.
بحلول عيد الميلاد قال أخي إنه يرى أن المنزل أضحى بهيئةٍ جيدة الآن، وأصبح يلائم إحضار زوجةٍ له؛ بحيث يكون معنا شخصٌ يطهو ويخدمنا ويحلب البقرة عندما نتمكَّن من شراء واحدة. كانت هذه المرة الأولى التي سمعته يتحدَّث فيها عن زوجةٍ، وأخبرته أنني لا أدري إن كان يعرف فتاةً معينة. أخبرني أنه لا يعرف أي فتاة، لكنه سمع أنه من الممكن مخاطبة دار الأيتام وسؤالهم ما إذا كانت لديهم فتاةٌ راغبةٌ في التفكير في الأمر يُزكُّونها له، وإن كان الأمر كذلك سيذهب لمقابلتها. أراد فتاةً ما بين الثامنة عشرة والعشرين من عمرها، تتمتَّع بصحة جيدة، ولا تخشى العمل، ونشأت في دار أيتام، ولم تلتحق بالدار حديثًا؛ حتى لا تتوقَّع أيَّ ترفٍ أو أن يقوم أحدٌ على خدمتها، وحتى لا تراوِدها ذكرياتُ أيامٍ كانت فيها أيسرَ حالًا. من المؤكَّد أن مَنْ يسمع هذا الكلام في هذه الأيام يشعر بأن ذلك أسلوبٌ غريب في التعامُل مع الأمور. لم تكن المشكلة في أن أخي لا يستطيع التودُّد إلى فتاةٍ، والحصول على زوجة بنفسه، لأنه كان شابًّا وسيمًا، لكن لم يكن لديه الوقت أو المال أو المَيْل، كان ذهنه منشغِلًا بتأسيس مزرعتنا. وإنْ كان للفتاة أبوان فلن يرغبا — على الأرجح — في إرسال ابنتهما بعيدًا؛ حيث لا يتوافر سوى القليل من وسائل الراحة والكثير من العمل.
وممَّا يبيِّن أن ذلك كان أسلوبًا مهذَّبًا في التعامُل مع الأمور، حقيقةُ أنَّ القَس السيد ماكبين، الذي حضر مؤخرًا إلى الضاحية، ساعَدَ سايمون في كتابة الخطاب وأرسَلَ خطابًا بنفسه داعمًا إياه.
وَرَدَ خطابٌ يفيد بأن ثمة فتاةً ربما تكون مناسِبةً، وغادَرَ سايمون إلى تورونتو وأحضرها. كان اسمها آني، لكنني نسيتُ لقبَها قبل الزواج. اضُطرَّا إلى الخوض في الجداول النهرية في هيوليت واجتياز الثلوج الرخوة العميقة بعد أن ترجَّلَا من المركبة في مدينة كلينتون، وعندما عادَا كانت مُنهَكة ومندهِشة للغاية لما رأته؛ حيث قالت إنها لم تكن تتخيَّل وجود كل هذه الأدغال. كان تحمل في صندوقها بعضَ الملاءات والأواني والصحون التي أعطَتْها إيَّاها صديقاتُها؛ ممَّا جعل المكان أكثر راحةً.
في أوائل شهر أبريل، خرجتُ أنا وأخي لقَطْع بعض الأشجار في الأدغال في أبعد ركنٍ من ملكيتنا. وأثناء غياب سايمون للزواج، كنتُ قد قطعتُ بعضَ الأشجار في الاتجاه الآخَر ناحيةَ آل تريس، لكن سايمون أراد إخلاءَ حدودِ ملكيتنا من الأشجار، وأراد ألَّا نذهب لقَطْع الأشجار في المكان الذي كنتُ فيه. كان الجو معتدلًا في بداية النهار، وكان لا يزال الثلج الرقيق بالأدغال. كنَّا نقطع الأشجار حيث أراد سايمون، وبطريقةٍ ما لا أستطيع وصفها، سقط غصنٌ حيث لم نكن نتوقَّع. سمعنا فقط الأغصان الصغيرة وهي تتكسَّر في المكان الذي سقط فيه، فرفعنا رءوسَنا لنراه. وقد اصطدم برأس سايمون وقتَلَه على الفور.
اضطررتُ إلى جرِّ جسده حينئذٍ إلى الكوخ عبر الجليد. كان شابًّا وسيمًا وإنْ لم يكن ممتلئ الجسم، وكان الأمر مُربِكًا ومُرهِقًا للغاية. أصبح الجو أكثر برودةً بحلول ذلك الوقت، وعندما وصلتُ إلى قطعةِ أرضٍ فضاء تبيَّنْتُ ثلوجًا في الرياح وكأنها بدايةٌ لعاصفةٍ ما. امتلأتِ الآثارُ التي صنعَتْها أقدامُنا بالثلوج من ورائنا. كان سايمون مكسُوًّا تمامًا بالثلج الذي لم يكن قد ذابَ فوقَه بحلول ذلك الوقت، وحضرتْ زوجتُه عند الباب وتملَّكَتْها الحِيرة كثيرًا، وظنَّتْ أنني كنتُ أجرُّ جذعَ شجرةٍ.
غسَّلَتْه آني داخل الكوخ، وجلسنا في سكونٍ لا ندري ماذا ينبغي لنا فعله. كان الواعِظ يمكث بالنُّزُل؛ إذ لم تكن له كنيسة أو منزل بعدُ. وكان النُّزُل يبعد عنَّا أربعة أميال تقريبًا، لكن العاصفة هبَّتْ بضراوةٍ بحيث لا يستطيع المرءُ حتى رؤية الأشجار عند حافة الأرض الفضاء. بَدَتِ العاصفة من ذلك النوع الذي يستمر ليومين أو ثلاثة، لكَوْنِ الرياح قادمةً من الشمال الغربي. علمنا أنه ليس بمقدورنا الاحتفاظ بالجثمان في الكوخ، ولا نستطيع وضعه في الثلوج في الخارج خشيةَ أن تلتهمه القططُ البرية؛ لذا اضطررنا إلى الحفر لدَفْنه. لم تكن الأرض متجمِّدةً أسفل الثلوج؛ لذا حفرتُ قبرًا بالقرب من الكوخ، وحاكت آني ملاءةً من حوله، ووضعناه في القبر. لم نُطِلِ الوقوفَ في الرياح، لكننا تَلَوْنا الصلاةَ الرَّبِّية، وأنشدنا مزمورًا واحدًا من الإنجيل. لستُ متأكِّدًا أي مزمور أنشدنا، لكنني أذكر أنه كان قُرْبَ نهاية كتاب المزامير، وكان قصيرًا للغاية.
حدث ذلك في اليوم الثالث من شهر أبريل عام ١٨٥٢.
كانت تلك آخِر ثلوج العام، وفي وقتٍ لاحق حضَرَ القَس وأقام القُدَّاس، ووُضِعتْ علامةٌ خشبية عند قبره. بعد حين أخذنا قطعة أرض خاصة بنا في المقابر، ووضعنا شاهد قبر له هناك، لكنه لم يكن تحته؛ إذ إنني أرى أنه من الحماقة وعدم الجدوى أن أنقل عظامَ شخصٍ ميت من مكان لآخَر، في حين أنها ليست سوى عظام، وروحه قد صعدت إلى السماء.
أصبحتُ وحدي أقطع الأشجار وأُخلِي الأرض، وسرعان ما بدأتُ أعمل جنبًا إلى جنب مع آل تريس، الذين عامَلُوني بلطفٍ بالغ. عملنا معًا في أرضي أو في أرضهم، دون أن نعبأ بما إذا كان العمل بأرضي أم بأرضهم. بدأتُ في تناوُل وجباتي عندهم، بل حتى النوم في منزلهم أيضًا، وتعرَّفْتُ إلى ابنتهم جيني التي كانت في مثل عمري تقريبًا، وخطَّطْنا للزواج، وتزوَّجْنا بالفعل في الوقت المحدد. عِشْنا معًا حياةً طويلة تخلَّلَها الكثير من الصعاب، لكن الحظ ابتسَمَ لنا في النهاية، وأنجبنا ثمانيةَ أطفال وتولَّيْنا تربيتهم. شاهدتُ أبنائي وهم يستملكون أرضَ والِد زوجتي وأرضي بعد أنْ رحَلَ خالاهم وحقَّقَا ثراءً في الغرب.
لم تستمر زوجة أخي في العيش بهذا المكان وشقَّتْ طريقها إلى مدينة والي.
الآن توجد طرقٌ مفروشة بالحصى تجاه الشمال والجنوب والشرق والغرب، وسكةٌ حديدية لا تبعد أكثر من نصف ميل عن مزرعتي، وباستثناء المزارع الشجرية، لم يَعُدْ للأدغال وجودٌ، وكثيرًا ما أفكِّر في الأشجار التي قطعْتُها وأقول لنفسي: لو أنها كانت موجودةً اليومَ لقطعتُها وأصبحتُ رجلًا ثريًّا.
•••
من المُوقَّر والتر ماكبين؛ قَسُّ الكنيسة المشيخية الحرَّة بنورث هورون، إلى السيد جيمس مالن؛ كاتِب المحكمة، مدينة والي، مقاطعتا هورون وبروس المتحدتان، ١٠ سبتمبر ١٨٥٢.
أكتبُ إليك سيدي لإبلاغك بالوصول المُحتمَل لسيدةٍ شابة من هذه الضاحية إلى بلدتكم، تحمل اسم آني هيرون، وهي أرملة وأحد أعضاء أبرشيتي. هذه الشابة تركت منزلها هنا في المنطقة المحيطة بكارستيرز ببلدة هولوواي، وأعتقد أنها تنوي التوجُّه إلى مدينة والي. ربما تذهب إلى السجن طالبةً احتجازَها بها؛ لذا أظن أنه من واجبي أن أُطلِعك بهويتها وقصتها؛ حيث إنني أعرفها.
حضرتُ إلى هذه المنطقة في نوفمبر العام الماضي، وكنت أولَ قَسٍّ على الإطلاق يُقدِم على ذلك. لا تزال أبرشيتي دَغَلًا في أغلبها، ولم يكن ثمة مكان لي لأمكث به سوى نُزُل كارستيرز. وُلِدت في غرب اسكتلندا وحضرتُ إلى هذا البلد في كنف إرسالية جلاسكو. بعد أن اجتهدتُ لمعرفة مشيئة الرَّب، أرشدني الرَّب إلى الذهاب وإلقاء الوعظ في أي مكانٍ بحاجة ماسَّةٍ إلى قَسٍّ. أُخبِرك بهذا كي يتسنَّى لك معرفة شخصية مَنْ سيسرد لك القصة، ووجهة نظري في شأن هذه المرأة.
حضرتْ هذه المرأة إلى البلاد في أواخر شتاء العام الماضي كعروسٍ للشاب سايمون هيرون. كان سايمون قد خاطَبَ — عملًا بنصيحتي — دارَ هاوس أوف إندستري بتورونتو ليرشِّحوا له فتاةً مسيحية، تابعةً للكنيسة المشيخية على الأفضل، تَفِي بمتطلباته، وكانت هي الفتاة التي رشحَّوها له. تزوَّجها على الفور وأحضرها إلى الكوخ الذي بناه هو وشقيقه. حضر هذان الشابان الصغيران إلى البلاد ليخليَا لنفسيهما قطعةَ أرض من الأشجار ويستحوذان عليها؛ إذ إنهما كانا يَتيمَيْن وبلا أي تطلُّعات. خرجا إلى العمل في أحد الأيام في نهاية الشتاء فوقعت لهما حادثة؛ إذ سقط غصن فوق الأخ الأكبر أثناء قطع شجرةٍ ما؛ ممَّا تسبَّبَ في وفاته على الفور. تمكَّنَ الشقيق الأصغر من إحضار الجثمان إلى الكوخ، ونظرًا لأنهما احتجزاه داخله من جرَّاء العاصفة الثلجية القوية أقامَا مراسمَ الجنازة والدفن.
إن الرَّب رحيمٌ للغاية، ونحن نتلقَّى ابتلاءاته كأماراتٍ على عنايته وَجُودِه؛ لأنه سيتبيَّن لنا أنها كذلك بالفعل.
عثر الفتى، بعد أن حُرِم من عون شقيقه، على مكانٍ له بين عائلة في الجوار؛ وهم أناسٌ ذوو منزلة طيبة في أبرشيتي، قبلوا به كابنٍ لهم، ومع ذلك عَمِل على اكتساب ملكية أرضٍ خاصةٍ به. أرادتْ تلك العائلة الاعتناءَ بالأرملة الشابة أيضًا، لكنها لم تقبل عرْضَهم، وبدا أنه يتنامى لديها شعورٌ بالمَقْت تجاه جميع الأشخاص الذين يودُّون مساعدتها، وعلى وجه الخصوص بَدَتْ كذلك تجاه شقيق زوجها، الذي قال إنه لم ينشب بينهما أيُّ شجارٍ على الإطلاق من قبلُ، وتجاهي أنا أيضًا. عندما تحدَّثْتُ إليها، رفضتْ إبداء أي إجابة أو إعطاء أي أمارةٍ تُظهِر رضوخها. إنه عيبٌ بشخصي؛ لأنني لستُ مؤهَّلًا على نحوٍ جيد للحديث مع النساء؛ لا أتمتَّع بالمرونة التي تخوِّلني كسبَ ثقتهن، فعِنادُهنَّ مختلفٌ عن عناد الرجال.
قصدتُ فقط أن أقول إنني لم أستطع ترْكَ أيِّ تأثير إيجابي عليها. توقَّفَتْ عن حضور القدَّاس، وعكَس تدهورُ أرضِها ومنزلها تدهورَ حالتها الذهنية والنفسية. لم تزرع البازلاء والبطاطا على الرغم من إعطائها إياها كي تزرعها بين جُذول الأشجار، ولم تقطع أوراقَ العنب البري النامية حول بابها. وفي كثير من الأحيان، لم تشعل النيران بحيث تصنع كعك الشوفان أو العصيدة. وبعد أن أُبعِد شقيق زوجها، لم يَعُدْ ثمة نظامٌ يحكم أيامها. عندما ذهبتُ لزيارتها كان الباب مفتوحًا، وكان واضحًا أن الحيوانات كانت تدخل المنزل وتخرج منه. إن كانت بداخله، فإنها كانت تختبئ لتسخر مني. ذكر الناسُ الذين رأوها أن ثيابها كانت متَّسِخة وممزَّقة نتيجةً لتجوُّلها في الأدغال، وظهر عليها آثار خدوش الأشواك ولدغات البعوض، وتركت شعرها غير ممشط أو معقوص. أظنُّ أنها عاشت على تناول السَّمك المُملَّح وخبز الشوفان اللذَيْن كانا يتركهما لها الجيران أو شقيق زوجها.
وبينما كنتُ لا أزال في حيرةٍ من البحث عن سبيلٍ لحماية جسدها خلال فصل الشتاء والتعامُل مع الخطر الأهم المُحدِّق بها، انتشر خبر رحيلها. تركتِ البابَ مفتوحًا ورحلتْ دون أن ترتدي عباءةً أو قلنسوةً، وكتبت فوق أرضية الكوخ بعود محترق كلمتين: «والي، السجن.» فهمتُ من هذا أنها تنوي الذهاب إلى هناك لتسلِّم نفسها. لا يرى شقيقُ زوجها جدوى من ذهابه وراءها بسبب موقفها العدائي منه، وأنا لا أستطيع المغادرة؛ إذ عليَّ الوقوف بجانب شخصٍ يحتضر؛ ومن ثَمَّ، أطلب منك إخطاري ما إذا كانت قد وصلتْ إليكم، وكيف حالها، وكيف ستتعامل معها. لا أزالُ أعتبرها نَفْسًا أتحمل مسئوليتها، وسأحاول زيارتها قبل الشتاء إذا أبقيتَها هناك. إنها ابنةٌ من أبناء الكنيسة الحُرَّة والعهد؛ ومن ثَمَّ لها الحقُّ في أن يتعامل معها قَسٌّ ينتمي لعقيدتها، ويجب ألَّا تفكر في أنه يكفي إرسال قَسٍّ من الكنيسة الإنجليزية أو المعمدانية أو الميثودية إليها.
في حال عدم ذهابها إلى السجن وتجوُّلها في الشوارع، يتعيَّن عليَّ أن أخبرك بأنها ذات شعر داكن اللون، وأنها طويلة القامة، وهزيلة القوام. ليست جميلة، ولكنها ليست قبيحة فيما عدا أنَّ لها عينًا حولاء.
•••
من السيد جيمس مالن؛ كاتِب المحكمة، والي، إلى المُوقَّر والتر ماكبين، كارستيرز، نورث هورون، ٣٠ سبتمبر ١٨٥٢.
وافر التقدير لخطابك الذي وصلني في الوقت المناسب، والمتعلِّق بالشابة آني هيرون. لقد أكملتْ رحلتها إلى مدينة والي سالمةً ودون أن يلحق بها ضررٌ بالغ، على الرغم من أنها كانت واهنةً وجائعةً عندما سلَّمَتْ نفسَها إلى السجن. لدى سؤالها عمَّا فعلَتْه هناك، قالت إنها أتت للاعتراف بارتكابها جريمةَ قتل، ولكي تُودَع في السجن. وبعد مشاوراتٍ هنا وهناك أُرسِلتُ من أجلها، وافقتُ على ضرورةِ إبقائها في السجن؛ حيث إن الوقت كان يقترب من منتصف الليل، وفي اليوم التالي زُرتُها وحصلتُ على تفاصيل قدرَ استطاعتي.
إنَّ قصتها حول نشأتها في دارِ أيتامٍ وتدرُّبها لدى صانع قبعاتٍ، وزواجها، وذهابها إلى نورث هورون، تتفق كثيرًا مع ما أخبرتَني به، لكنَّ الأحداث في روايتها تختلف فقط فيما يتعلَّق بوفاة زوجها. في هذا الصدد، إليكَ ما أخبرتني به:
في أحد الأيام الأولى من شهر أبريل، عندما خرج زوجها وشقيقه لقطع الأشجار، طلب منها أن تُعِدَّ الطعامَ لهما من أجل وجبة الظهيرة، وحيث إنها لم تكن قد انتهتْ بَعدُ من إعداد الطعام عندما هَمَّا بالخروج، وافقتْ على إحضار الوجبة إليهما في الغابة؛ وبناءً عليه، خبزت بعض كعك الشوفان وأخذت بعض السَّمك المُملَّح واقتفت آثارَهما، ووجدَتْهما يعملان على مسافةٍ منها، لكن عندما فتح زوجها كيس الطعام استاء كثيرًا؛ لأنها غلَّفَتِ الطعام بطريقةٍ جعلت كعك الشوفان يتشرَّب بالزيت المُملَّح من السَّمك، وكان الطعام مفتتًا وكريهَ المنظر؛ وفي غمرة شعوره بالإحباط ثارَتْ ثائرته، وتوعَّدَها بالضرب عندما تسنح الفرصةُ لذلك. أدارَ لها ظهره بعد ذلك وهو جالسٌ فوق جذع شجرة، فالتقطت حجرًا وقذفَتْه به، فارتطَمَ برأسه؛ ومن ثَمَّ سقط فاقدًا الوعي. في واقع الأمر، فارَقَ الحياة. بعد ذلك حملته مع شقيقه وجرَّتْ جثمانه إلى المنزل. بحلول ذلك الوقت، هبَّتْ عاصفةٌ ثلجية واحتُجِزَا في الداخل. قال شقيقه إنه ينبغي عدم كشف الحقيقة؛ لأنها لم تكن تنوي قتْلَه، ووافقَتْ. بعد ذلك دفَنَاه — وهنا تتفق روايتها ثانيةً مع روايتك — وكان من الممكن أن تكون هذه هي نهاية الأمر، لكنها ازدادت اضطرابًا لاقتناعها أنها نوتْ قتله قطعًا. قالت لو أنها لم تقتله، فهذا كان سيعني تعرُّضها لمزيدٍ من الضرب المُبرح. ولماذا تخاطر بذلك؟ لذا قرَّرَتْ في النهاية الاعترافَ بجريمتها، وكما لو كانت تريد إثبات شيءٍ ما، أعطَتْني خصلةً من الشعر متيَبِّسةً بالدماء.
هذه روايتها، ولا أصدِّقها على الإطلاق. ليس ثمة حجر تستطيع هذه الفتاة حَمْلَه فيؤدي إلى قتل رجل، فضلًا عن القوة التي تستجمعها لإلقائه. استجوبتُها في هذه النقطة، فغيَّرَتْ قصتها وقالت إنه كان حجرًا كبيرًا استطاعت حمله بيدَيْها الاثنتين، وإنها لم تقذفه بل حطَّمَتْه فوق رأسه من الخلف. قلتُ: لماذا لم يمنعك شقيقُه؟ فقالت إنه كان ينظر إلى الجهة الأخرى، ثم قلتُ: لا بد من وجود حجر مخضَّب بالدماء في مكانٍ ما في الغابة، فقالت إنها أزالت آثارَ الدماء بالثلوج (في واقع الأمر ليس من المُحتمَل أن يصل حجرٌ إلى يدها بهذه السهولة، مع عُمْق الثلوج ذاك). طلبتُ منها أن تشمِّر عن ساعدَيْها كي يتسنَّى لي معرفة مدى قوة عضلاتها التي مكَّنَتْها من فعل ذلك الأمر، فقالت إنها كانت قويةَ العضلات منذ عدة شهور.
استنتجتُ أنها تكذب، أو متوهِّمة، لكنني لا أرى شيئًا آخَر أفعله الآن سوى إيداعها السجن. سألتُها ماذا تتوقَّع أن يحدث لها الآن؟ فقالت: إننا سنحاكمها ثم سنعدمها شنقًا. وأضافتْ: إننا لا نُعدِم الناس في الشتاء؛ لذا فهي تتوقَّع أن تمكث هنا حتى الربيع. قالت إننا إذا سمحنا لها بالعمل هنا، فربما ستتولَّد لدينا رغبةٌ بعد ذلك في استمرارها في العمل وعدم إعدامها. لا أدري من أين أتت بفكرة أنَّ الناسَ لا يُعدَمون في فصل الشتاء! لقد أصابتني بالحيَّرة. ربما نما إلى علمك أنَّ لدينا هنا سجنًا جديدًا وجيدًا جدًّا، يوفِّر مستوًى جيدًا من التدفئة والتهوية للسجناء، ويقدِّم لهم الطعامَ والمعامَلةَ اللائقة بكل إنسانية. وتردَّدت شكوى أنَّ بعضهم لا يشعرون بالندم على دخولهم السجن، بل يشعرون أيضًا بالسعادة في هذا الوقت من العام، لكن من الواضح أنها لا تستطيع التسكُّع أكثر من ذلك، وبناءً على روايتك فهي غير راغبة في المكوث لدى الأصدقاء، وغير قادرة على توفير منزل لائق لنفسها. إن السجن في الوقت الحالي يمثِّل مكانًا لاحتجاز المُختلِّين عقليًّا مثلما هو تمامًا مكانٌ لاحتجاز المجرمين. وإذا اتُّهِمت باختلال عقلي، فإنني أستطيع الإبقاء عليها هنا فترةَ الشتاء، وربما ترحيلها إلى تورونتو في الربيع. لقد طلبتُ من طبيبٍ المجيءَ لزيارتها، تحدَّثْتُ معها بشأن خطابك وبشأن رغبتك في أن تأتي لرؤيتها، لكنني وجدتُها لا تحبِّذ الأمر على الإطلاق. طلبتْ ألَّا يُسمَح لأيِّ شخصٍ بزيارتها باستثناء السيدة سادي جونستون، وهي غير موجودة في هذه الناحية من البلاد.
سأرفِقُ خطابًا كتبتُه لشقيق زوجها كي ترسلَه إليه، بحيث يعلم ما قالته ويُخبِرني عن رأيه في هذا الأمر. أتوجَّه إليك بالشكر سلفًا عن إرسال الخطاب له، وكذلك على ما تكبَّدْتَه من عناءٍ لإحاطتي علمًا بالأمر كله مثلما فعلت. أنا عضو بالكنيسة الإنجليزية، لكنني أُكِنُّ احترامًا كبيرًا للعمل الذي تقوم به الطوائف البروتستانتية الأخرى في سبيل تحقيق الاستقرار في هذا الجزء من العالم الذي نعيش فيه. لك أن تعلم أنني سأبذل ما في وسعي كي تتمكَّنَ من التعامُل مع هذه الشابة، لكن ربما يكون من الأفضل الانتظار حتى تتولَّد لديها الرغبة في ذلك.
•••
من المُوقَّر والتر ماكبين إلى السيد جيمس مالن، ١٨ نوفمبر ١٨٥٢.
لقد حملتُ خطابك على الفور إلى السيد جورج هيرون، وأعتقد أنه ردَّ بخطابٍ يُطلِعك فيه على ذكرياته عن تلك الأحداث. لقد أصابته الدهشة من ادِّعاء زوجة شقيقه؛ نظرًا لأنها لم تذكر أيَّ شيءٍ من هذا القبيل أمامَه أو أمام أي شخصٍ آخَر. يقول إن هذا كله من نسج خيالها؛ حيث إنها لم تذهب قطُّ إلى الغابة عندما وقع الحادث، ولم يكن ثمة ما يتطلَّب وجودها هناك؛ فقد حَمَلا الطعام معهما عندما غادرا المنزل. قال إنه رأى شقيقَه يُوبِّخها في وقتٍ آخَر عندما أفسدتِ الكعك؛ عندما وضعَتْه بالقرب من السَّمك، لكن ذلك لم يحدث في تلك المرة، وكذلك لم تكن ثمة أيُّ أحجار في المكان لارتكاب تلك الفِعْلة بتهوُّرٍ لو افتُرِض أنها كانت هناك ورغبتْ في فعل ذلك.
إنَّ تأخُّري في الرد على خطابك — وهو الأمر الذي أستمحيك عذرًا فيه — يرجع إلى إصابتي بوعكة صحية. مُنِيتُ بنوبةٍ من آلام حصوات الكُلَى وروماتيزم المَعِدة أسوأ من أي مأساة حلَّتْ بي من قبلُ. لقد تعافيتُ نوعًا ما الآن، وسأتمكَّنُ من ممارسة حياتي الطبيعية بحلول الأسبوع المقبل إذا استمرَّتِ الأمور في التحسُّن.
بخصوص مسألة السلامة العقلية لهذه الشابة، لا أدري ماذا سيقول طبيبك، لكنني فكَّرْتُ في هذا الأمر واستشرتُ الرَّبَّ، وإليكَ وجهةَ نظري: ربما أنه في مرحلة مبكرة للغاية من الزواج لم يكن خضوعها لزوجها تامًّا، وربما كان هناك إهمالٌ من جانبها فيما يتعلَّق براحته، وربما كانت تستعمل كلماتٍ بذيئة، وتَصدر عنها تصرُّفاتٌ مشاكسة، إضافةً إلى التجهُّم والصمت المُؤلِم الذي يميل إليه جِنْسُها. ونتيجةً لحدوث الوفاة قبل تصحيح أيٍّ من هذه الأمور، شعرتْ بندم طبيعي ومكدر، ولا بد أن هذا الشعور استحوذ عليها بشدة لدرجةٍ جعلتها ترى نفسها مسئولةً في الواقع عن موته. وبهذه الطريقة، أعتقدُ أن الكثير من الناس يصابون بالجنون. إنَّ الجنون يُؤخَذ في البداية من قِبَل البعض على أنه نوع من العبث، وهذا التفكير السطحي والجريء يُعاقَبون عليه لاحقًا، بعدما يكتشفون أنه لم يَعُدْ عبثًا، بعدما يكون الشيطان قد سَدَّ منافِذَ الهروب جميعها.
ما زلتُ آمل في الحديث معها لإقناعها بهذا الأمر. ثمة صعوبات أمامي الآن ليس فقط بسبب جسدي البائس، لكن أيضًا لنزولي بمكان قبيح وصاخب أضطر فيه إلى سماع تلك الجلبة التي تفسد نومي وتأمُّلي، وتكدِّر حتى صلواتي. تهبُّ الريح بضراوة بين جذوع الأشجار، وإنْ توجَّهْتُ إلى المدفأة بالأسفل، أرى مَنْ يتجرعون المشروبات الكحولية بشراهة وأسمع أقذع الوقاحات، وبالخارج لا يوجد شيءٌ سوى أشجارٍ تسدُّ كلَّ المنافذ، ومستنقع جليدي يمكن أن يبتلع رجلًا على صهوة جواده. وُعِدتُ بأنْ تُبنَى لي كنيسة وسَكَن، لكن أولئك الذين أعطوني ذلك الوعدَ زاد انشغالهم بشئونهم الخاصة، ويبدو أن الأمر أُرجِئ، إلا أنني على الرغم من ذلك لم أتوقَّف عن إلقاء الوَعْظِ حتى في مرضي وفي أماكن مثل الحظائر والمنازل حسبما يتاح. أشعرُ بالسعادة كلما تذكَّرْتُ رجلًا عظيمًا يُدعَى توماس بوسطن. إنه واعظ عظيم ومفسِّر لمشيئة الرَّب؛ في الأيام الأخيرة من مرضه، ألقى موعظةً عن عظمة الرَّب من نافذة حجرته على مسامع جَمْعٍ يضمُّ ألفَيْ شخص تقريبًا تجمَّعوا في الفناء بالأسفل؛ لذا أنوي أن أستمر في الوعظ حتى النهاية على الرغم من أن رعيتي ستكون أقل عددًا.
«أيُّ منعطفٍ نجده في طريقنا فهو من صنع الرَّبِّ.» توماس بوسطن.
«إن هذا العالَم كالبريَّة، ربما نغيَّر موقعَنا فيه، لكنَّ تحرُّكَنا سيكون من موقعٍ في البريَّة إلى آخَر.» توماس بوسطن.
•••
من السيد جيمس مالن إلى المُوقَّر والتر ماكبين، ١٧ يناير ١٨٥٣.
أكتبُ إليك لإحاطتك بأن صحة الشابة التي نتحدَّث عنها تبدو جيدة، ولم تَعُدْ تبدو كالفَزَّاعة في الحقول؛ فهي تأكل جيدًا وتحافظ على نظافتها وهندامها، كما أنها تبدو أكثر هدوءًا من الناحية النفسية؛ فقد اعتادتْ إصلاحَ البياضات في السجن، وهو ما تجيد فعله، لكنْ يتحتَّم عليَّ إخبارُك بأنها لا تزال ثابتةً على موقفها فيما يتعلَّق بالزيارات، كما في السابق، ولا أستطيع نصحك بالمجيء لزيارتها هنا؛ لأنني أظن أن عناءك سيضيع هباءً. إن الرحلة قاسيةٌ للغاية في الشتاء ولن تكون مفيدةً لحالتك الصحية.
لقد بعثَ لي شقيقُ زوجِها خطابًا رقيقًا للغاية يؤكِّد فيه أن روايتها ليستْ صادقةً؛ لذا أشعرُ بالرضا حيال ذلك.
ربما ترغبُ في سماع ما قاله الطبيب الذي زارها عن حالتها. يرى الطبيب أنها رهن نوعٍ من الوَهْم خاصٌّ بالنساء، والدافعُ وراءه هو رغبةٌ في الاعتداد بالنفس، وكذلك رغبةٌ في الفرار من رتابة الحياة، أو حالة الكَدْح التي كُتِبت عليهن. ربما يتخيَّلن أنفسهن وقد استحوذتْ عليهن قوى الشر لدفعهن لارتكاب جرائم متنوِّعة وبَشِعة، وغير ذلك. في بعض الأحيان يَقُلْنَ إنَّ لهن عشَّاقًا كُثرًا، لكنَّ هؤلاء العشَّاقَ وهميُّون، والمرأة التي ترى نفسها آيةً في الرذيلة تكون في الحقيقة عفيفةً تمامًا ولم تُمَسَّ. وفي هذا، يُلقِي الطبيبُ باللوم على نوع القراءات المتاحة لهؤلاء النساء، سواءٌ أكانت تلك القراءات عن الأشباح، أم الشياطين، أم مغامرات العِشْق بين الملوك والأدواق وما شابه. بالنسبة إلى كثيرٍ منهن، يمثِّل ميلُهن لهذه الحكايات ميلًا عابرًا يعزفن عنه عندما تطرأ الواجباتُ الحقيقية للحياة، وبالنسبة إلى أخريات، يكون ثمة انغماسٌ من جانبهن في تلك الحكايات بين الحين والآخر، كما لو كانت حَلْوى أو شرابًا مسكرًا. أما الفريق الثالث منهن، فيستسلمن استسلامًا تامًّا لها، ويعشْنَ داخل تلك الحكايات كما لو كانت حُلمًا. لم يستطع استخلاص معلوماتٍ منها عن قراءاتها، لكنه يرى أنها ربما تكون نسيتْ في الوقت الحالي ما قرأَتْه، أو تُخْفِي الأمرَ بدافع الخِداع والمراوغة.
لدى حديثه معها اتَّضَحَ بالفعل شيءٌ آخَر لم نكن نعلمه. عندما سألها: هل هي لا تخشى الموت شنقًا؟ أجابت قائلة: «كلا، سوف يوجد سببٌ يَحُول دون شنقي.» سألها ما إذا كانت تقصد أنهم سيعفون عنها لاختلالها عقليًّا، فقالت: «ربما يحدث ذلك، لكن أليس من الصحيح أيضًا أنهم لا يُقْدِمون أبدًا على شنقِ امرأةٍ تحمل طفلًا؟» بعد ذلك فحصها الطبيب ليكتشف ما إذا كانت صادقةً في كلامها — ووافقتْ على الفحص — فلا بد أنها قالت هذا الادِّعاء بحُسْن نية. لكنه اكتشف مع ذلك أنها خدعتْ نفسها؛ فالأعراض التي استندَتْ إليها لم تكن سوى نتيجةٍ لعدم حصولها على التغذية الكافية لفترة طويلة وبقائها في تلك الحالة الواهنة، وفيما بعدُ — على الأرجح — نتيجةً لإصابتها بالاضطراب العصبي. أبلَغَها الطبيبُ بنتائج فحصه، لكن من الصعب تقرير ما إذا كانت صدَّقَتْه أم لا.
لا بد من الاعتراف بأن هذه البلاد تقسو بالفعل على النساء؛ فقد دخلتْ مؤخرًا امرأةٌ أخرى مختَلَّة عقليًّا إلى هنا، وحالتها أكثر إثارةً للشفقة؛ إذ مسَّها الجنون بعد حادث اغتصاب. حُبِسَ الشخصان اللذان اعتديَا عليها هنا. هما في واقع الأمر في قسم الرجال. لا يفصل بينها وبينهما سوى جدار. أحيانًا ما يدوي صراخُ الضحية لساعاتٍ بلا توقُّف؛ ونتيجةً لذلك أضحى السجن مأوًى أقلَّ إمتاعًا بكثيرٍ، لكن هل هذا سيقنع قاتِلتنا المُدَّعية على نفسها بالتراجُع عن أقوالها والرحيل. لا أدري. إنها خيَّاطة بارعة وتستطيع الحصول على وظيفة إذا أرادتْ.
يُؤسِفني سماع أنباءٍ عن سوء حالتك الصحية ومسكنك البائس. لقد أضحت البلدة هنا أكثر تحضُّرًا للغاية، حتى إننا نسينا مشقات المناطق النائية. إنَّ أمثالك من الناس الذين يختارون تحمُّلَ المشقة هناك جديرون بالإعجاب، لكن أظنُّكَ تسمح لي أن أقول إنه يبدو من المؤكَّد — إلى حدٍّ كبير — أن رجلًا لا يتمتَّع بصحة جيدة لن يكون قادرًا على الصمود طويلًا في مثل موقفك. من المؤكَّد أن كنيستك لن تعتبر الأمر ارتدادًا عن العقيدة إذا اخترتَ تأديةَ خدمتك لها لوقتٍ أطول بنقلك إلى مكانٍ أكثر راحةً.
أرفقتُ خطابًا كتبَتْه الشابة وأرسلَتْه إلى الآنسة سادي جونستون، القاطنة بكينج ستريت، في تورونتو. اطَّلَعْنا على الخطاب بحيث يتسنَّى لنا معرفة المزيد حول سلامتها العقلية، ثم أرسلناه، لكنه عاد إلينا وعليه علامة «لم يُستدَل عليه.» لم نُطْلِع كاتِبة الخطاب على الأمر أملًا في أن تكتب ثانيةً وعلى نحوٍ وافٍ؛ ومن ثَمَّ تكشف لنا شيئًا يساعدنا في تقرير ما إذا كانت كاذبةً تتعمَّد الكذب أم لا.
•••
من السيدة آني هيرون، سجن والي، مقاطعتا هورون وبروس المتحدتان، إلى الآنسة سادي جونستون، ٤٩ كينج ستريت، تورونتو، ٢٠ ديسمبر ١٨٥٢.
سادي، أنا هنا في حالة جيدة للغاية وآمنة، ولا يوجد شيء أشكو منه، سواءٌ أكان يتعلَّق بالطعام أم الغطاء. إنه مبنًى حجري جميل يشبه دُورَ الرعاية. إذا استطعتِ المجيء لزيارتي فسأسعد كثيرًا. كثيرًا ما أتحدَّث إليكِ في مخيلتي، وهو ما لا أودُّ أن أكتبه خشيةَ أن يتجسَّسوا على خطابي. أمارس الخياطة هنا. لم تكن الأمور بحالة جيدة عندما أتيتُ، لكنها الآن جيدة جدًّا. كذلك أصنع الستائر لدار الأوبرا، وقد أُرسِلتْ تلك المهمة. أتمنَّى رؤيتكِ. بإمكانكِ ركوب العربة التي تجرها الخيول إلى هذا المكان مباشَرةً. ربما لا تودين المجيء في الشتاء، لكن قد ترغبين في المجيء في فصل الربيع.
•••
من السيد جيمس مالن إلى المُوقَّر والتر ماكبين، ٧ أبريل ١٨٥٣.
لم أتلقَّ أيَّ ردٍّ منك على خطابي الأخير! أرجو أن تكون بخير ولا تزال مهتمًّا بقضية آني هيرون. هي لا تزال هنا وتشغل وقتها في إنجازِ مهام حياكة تولَّيْتُ جلْبَها إليها من خارج السجن. لم تذكر شيئًا آخَر عن حملها أو شنقها أو روايتها. كتبَتْ مرةً أخرى للآنسة سادي جونستون، لكنه كان خطابًا موجزًا للغاية، وأُرفِق خطابها هنا. هل لديك فكرة مَنْ تكون سادي جونستون هذه؟
•••
لم أتلقَّ ردًّا منكِ، يا سادي! لا أظنُّ أنهم أرسلوا خطابي. اليوم هو الأول من أبريل من عام ١٨٥٣، لكنها ليست كذبة أبريل كما اعتادَتْ إحدانا خداع الأخرى. رجاءً تعالَي لزيارتي إنِ استطعتِ. أنا في سجن والي، لكنني آمنة وبحالة جيدة.
•••
إلى السيد جيمس مالن من إدوارد هوي؛ مالِك نُزُل كارستيرز، ١٩ أبريل ١٨٥٣.
لقد أُعِيدَ إليكَ خطابُك الذي أرسلتَ إلى السيد ماكبين؛ فقد مات هنا في النُّزُل في ٢٥ فبراير. ثمة بعض الكتب هنا لا يرغب أحدٌ فيها.
٣
من آني هيرون، سجن والي، إلى سادي جونستون، تورونتو. رجاءٌ ممَّنْ يعثر على الخطاب أن يرسله إلى وجهته.
جاء جورج وهو يجرُّه بين الثلوج. ظنَنْتُ أنه يجرُّ جذعَ شجرة. لم أكن أعلم أنه كان الشيء الذي يجره. قال جورج إنه هو. قال إن غصن شجرة سقط وارتطَمَ به. لم يقل إنه مات. انتظرتُه حتى يتحدَّث. كان فمه مفتوحًا بعض الشيء والثلج بداخله. كذلك كانت عيناه شبه مفتوحتين. اضطررنا إلى الدخول إلى المنزل؛ إذ بدأتِ العاصفةُ تهبُّ بقوةٍ هائلة. جذبناه إلى المنزل وأمسَكَ كلٌّ منَّا بإحدى ساقَيْه. تظاهرتُ أمام نفسي حين أمسكتُ بساقه أنني أُمْسِكُ بجذع الشجرة. كان المنزل دافئًا من الداخل حيث كنتُ قد أشعلتُ المدفأة، وبدأتِ الثلوج تذوب من فوقه. تحرَّك الدم قليلًا في عروقه في المنطقة المحيطة بأذنه. لم أَدْرِ ماذا أفعل. كنتُ أخشى الاقتراب منه. ظننْتُ أن عينَيْه ترقباني.
جلسَ جورج بجانب النار وهو يرتدي معطفه الثقيل الضخم، وحذاءه كذلك، واستدار بعيدًا. جلستُ عند الطاولة المصنوعة من كُتَلٍ خشبية اقتُطِعتْ من الأشجار. قلت له: «كيف عرفتَ أنه مات؟» قال جورج: «الْمسيه إنْ أردتِ أن تعرفي.» لكنني لم أفعل ذلك. هبَّتْ عاصفةٌ عنيفة بالخارج، وعصفت الرياح بين الأشجار وفوق سطح المنزل. صلَّيْتُ بصلاة «أبانا الذي في السماوات»، وهكذا استجمعتُ شجاعتي. أخذت أردِّد صلاتي هذه مع كل تحرُّكٍ لي. قلت لنفسي يجب أن أُغسِّله، وطلبتُ المساعدة. وضعتُ الدَّلْو في مكانِ ذوبان الثلج. بدأتُ بقدمَيْه وتعيَّن عليَّ خلع حذائه، كان أمرًا شاقًّا. لم يستدِرْ جورج أو ينتبه إليَّ أو يساعدني عندما طلبتُ منه المساعدة. لم أخلع بنطاله أو معطفه؛ لم أتمكَّن من ذلك، لكنني نظَّفْتُ يدَيْه ورسغَيْه. دائمًا ما كنت أضع قماشةَ التنظيف بين يديَّ وبشرته. عندما ذابت الثلوج من فوقه أضحت الأرض مبتلةً بالماء والدماء من أسفل رأسه وكتفَيْه؛ لذا أردتُ أن أقلِّبه وأنظِّفه، لكنني لم أتمكَّن من ذلك؛ لذا سِرتُ وجذبتُ جورج من ذراعه. قلت له إنني بحاجةٍ إلى مساعدته، فردَّ قائلًا: «ماذا؟» أخبرته أن علينا قلْبَه، فجاء وساعَدَني وأَدَرْناه بحيث أصبح مواجِهًا للأرض. بعد ذلك رأيتُ … رأيتُ الجرح الذي صنعه الفأس.
لم ينبس أيٌّ منا ببنت شفة. نظَّفْتُ الجرح من الدم وغيره. أخبرتُ جورج بأن يذهب ويحضر لي ملاءةً من الصندوق الخاص بي؛ حيث احتفظت بالملاءة الجميلة التي لم أضعها فوق الفراش. لم أرَ جدوى من محاولة نزع ثيابه على الرغم من أنها كانت ثيابًا جيدة. اضطررنا إلى تمزيقها في المواضع التي يلتصق بها الدم، وبعدها لم يكن لدينا سوى قِطَع مهلهلة. قصصتُ خصلةً صغيرة من شعره؛ لأنني أذكر حين ماتت «ليلا» في الدار فعلوا ذلك، ثم طلبت من جورج مساعدتي في دحرجته فوق الملاءة، ثم بدأت في خياطة الملاءة من فوقه. بينما كنتُ أخيط الملاءة، قلتُ لجورج: اذهب إلى الجزء الجانبي المظلل من المنزل حيث يتكدَّس الحطب، فربما تجد فيه ملاذًا جيدًا كي تحفر قبرًا. حرِّكِ الحطب بعيدًا وعلى الأرجح ستجد الأرضَ من تحته رخوةً أكثر.
اضطررتُ إلى الجثوم أثناء الخياطة؛ لذا تمدَّدْتُ تقريبًا إلى جانبه فوق الأرض. خيَّطْتُ حول رأسه أولًا بعد أن ثنيْتُ الملاءةَ فوقه؛ لأنني كنت أنظر إلى عينَيْه وفمه. خرج جورج، وأدركتُ من الصوت الذي تخلَّل أصوات العاصفة أنه كان يفعل ما أخبرته به، وأحيانًا ما كانت تُقذَف قِطَعًا من الأخشاب بفِعل الرياح وترتطم بجدار المنزل. واصلتُ الخياطة، وعند كل جزءٍ منه يتوارى داخل الملاءة أقول بصوتٍ عالٍ: أوشك الأمرُ على الانتهاء، أوشك الأمر على الانتهاء. طويتُ الملاءة فوق رأسه جيدًا، لكن عند قدمَيْه لم يتبقَّ جزءٌ كافٍ من الملاءة لتغطيته؛ لذا خيَّطْتُ التنورة الداخلية المغزولة التي صنعتُها بالدار كي أتعلَّم الحيَّاكة، وهكذا غُطِّيَ تمامًا.
خرجتُ لمساعدة جورج. كان قد أزاح الحطب كله بعيدًا، وكان يحفر. كانت الأرض رخوة بدرجةٍ ملائمةٍ، كما توقَّعت. كان يمسك بالمِعْوَل؛ لذا أمسكتُ بالجاروف العريض وأخذنا نعمل في جدٍّ؛ تولَّى هو الحفر وقلقلة التربة، وأنا تولَّيْتُ العمل بالجاروف.
بعد ذلك أخرجناه من المنزل. لم نستطع آنئذٍ حمْلَه معًا من ساقَيْه؛ لذا أمسك به جورج من عند الرأس، وأنا أمسكتُ به من عند كاحله حيث وضعتُ التنورةَ الداخلية، ثم دحرجناه داخل الأرض وشرعنا مرةً أخرى في مُواراتِه. أمسَكَ جورج بالجاروف وبدا أنني لا أستطيع دَفْع الكثير من الثرى بالمِعْوَل، فأخذتُ في دَفْع الثرى بيدي وركله بقدمي بأية طريقة ممكنة. عندما أَعَدْنا الثرى داخلَ الحفرة مرةً أخرى، أخذ جورج يدكُّها لتصير مستويةً، باستخدام الجاروف، قدر استطاعته، ثم نقلنا الحطب مرةً أخرى إلى مكانه بعد أن فتَّشْنا عن مكانه بين الثلوج، ثم كدَّسْناه على النحو الصحيح بحيث لم يَبْدُ أن أحدًا حرَّكَه. لا أظنُّ أننا كنَّا نرتدي قبعة أو وشاحًا، لكن الجهد أشعرنا بالدفء.
أخذنا معنا إلى الداخل مزيدًا من الحطب من أجل المدفأة وأغلقنا الباب بالعارضة. مسحتُ الأرض وقلت لجورج: انزع حذاءك ثم اخلع معطفك. فعَلَ جورج ما أخبرته به. جلس بجانب المدفأة. أعددتُ الشاي من أوراق النعناع البري بالطريقة التي علَّمَتْنا إياها السيدة تريس، ووضعتُ فيه قطعة من السكر. لم يرغب جورج في احتساء الشاي. قلتُ له: أهو شديد السخونة؟ سأتركه حتى يبرد، لكنه رفض احتساءه عندما برد أيضًا، فبدأتُ أنا الحديث وقلتُ له: أنت لم تقصد فعل ذلك.
حدث ذلك في ثورة غضبك. لم تقصد ما تفعله.
شاهدتُ في أوقاتٍ أخرى ما كان يفعله بكَ؛ رأيته وهو يطرحك أرضًا نظيرَ أمورٍ تافهة وأنت تنهض فحسب ولا تنطق بكلمةٍ واحدة. وهذا ما فعله معي أيضًا.
لو أنك لم تفعل ذلك، في يومٍ ما كان سيفعل ذلك بك.
أصغِ إليَّ يا جورج، أصغِ إليَّ.
إذا اعترفتَ بجريمتك ماذا سيحدث في اعتقادك؟ ستُعدَم شنقًا؛ ستموت ولن يجني أحدٌ نفعًا من ذلك. ماذا سيكون مصير أرضك؟ الأرجح أنها ستعود إلى حيازة التاج الملكي وسيحصل عليها شخصٌ آخَر، وكلُّ ما بذلتَه من عملٍ بها سيذهب لذلك الشخص.
ماذا سيكون مصيري هنا إذا أمسكوا بكَ؟
أحضرتُ بعض كعك الشوفان الباردة وسخَّنْتُها. وضعتُ واحدةً فوق ركبته. أخذها وقضمها ومضغ، لكنه لم يستطع ابتلاعَها فبصقها في النار.
قلتُ له: استمع إليَّ. أنا على درايةٍ بالأمور. أنا أكبر منك سنًّا. أنا متديِّنة أيضًا؛ أصلِّي في كل ليلةٍ ويجيب الله صلواتي. أعلمُ مشيئةَ الرَّبِّ جيدًا كما يعلمها أيُّ واعظ، وأعلمُ أنه لا يريد أن يُشنَق شابٌّ طيب مثلك؛ كلُّ ما عليك فعله هو أن تقول إنك تشعر بالأسف. قُلْ إنك تشعر بالأسف بصدقٍ وسيغفر لك الرَّبُّ. سأقول الشيء نفسه؛ سأقول إنني أشعر بالأسف أيضًا؛ لأنني عندما رأيتُه ميتًا لم أتمنَّ، للحظةٍ واحدة، أن يكون على قيد الحياة. سأقول ربي اغفر لي. افعلِ الشيءَ نفسه. اجثمْ على ركبتيك.
لكنه لم يجثمْ، لم يتحرَّك من مقعده، فقلتُ: حسنًا، عندي فكرة؛ سأذهب لإحضار الإنجيل. سألته: هل تؤمن بالإنجيل؟ قُلْ أجلْ، أوْمِئْ برأسك.
لم أَرَ إن كان أومأ برأسه أم لا، لكنني قلتُ: ها أنت ذا، ها أنت ذا. الآن سأفعل ما اعتدنا فعله جميعًا في الدار عندما أردنا معرفة ماذا سيحل بنا، أو ماذا ينبغي لنا فعله في الحياة. كنَّا نفتح الإنجيل على أيِّ موضعٍ ونضع إصبعنا فوق الصفحة، ثم نفتح أعينَنا ونقرأ الآية حيث يقف إصبعنا، وهذا يخبرك بما تحتاج إلى معرفته. إمعانًا في التأكيد قُلْ فقط حين تغمض عينَيْك: ربي أَرشِدْ إصبعي.
لم يرفع يده من فوق ركبته؛ لذا قلتُ: لا بأس، لا بأس. سأفعل ذلك نيابةً عنك. فعلتُ الأمر، وقرأتُ حيث وقف إصبعي. أمسكتُ الإنجيل بالقرب من النار كي أتمكَّن من القراءة.
كانت آيةٌ عن الشيخوخة والشيب: «يَا اللهُ لَا تَتْرُكْنِي.» قلتُ: هذا يعني أنه من المفترض أن تعيش حتى تشيخ ويشيب شعرُ رأسك، وليس من المفترض أن يحدث لك شيء قبل ذلك. هذا ما تقوله الآية في الإنجيل.
ثم كانت الآية التالية «فَذَهَبَ وَأَخَذَ (فلانة) فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ لَهُ ابْنًا.»
قلتُ له: تقول الآية إنك ستُرزَق بوَلدٍ. ستعيش وتتقدَّم في العمر وتتزوَّج وتُرزَق بوَلدٍ.
لكن الآية التالية أذكرها جيدًا، وبإمكاني كتابتها كاملة: «وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُثْبِتُوا مَا يَشْتَكُونَ بِهِ الآنَ عَلَيَّ.»
قلتُ: جورج، أتسمعُ ذلك؟ «وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُثْبِتُوا مَا يَشْتَكُونَ بِهِ الآنَ عَلَيَّ.» هذا يعني أنك في أمانٍ.
أنت في أمان. انهض الآن، اذهبْ واستلقِ في فراشك واستغرق في النوم.
لم يستطع فعل ذلك بنفسه، فساعدتُه. شرعتُ في جذبه حتى وقف، ثم دفعتُه باتجاه الغرفة، ثم إلى الفراش الذي لم يكن فراشه الموجود بالزاوية، بل الفراش الأكبر، ثم أجلستُه فوقه، ثم جعلته يستلقي. دفعتُه للأمام والخلف حتى نزعت له ملابسه وأصبح مرتديًا القميصَ فقط. اصطكَّتْ أسنانُه بعضُها ببعضٍ وخشيتُ أن يصاب ببردٍ أو حمَّى. سخَّنْتُ المكاوي ودثرتُها بالقماش ووضعتُها بجانبه؛ واحدة عند كل جانب من جانبَيْه، بالقرب من جلده. لم يكن يوجد بالمنزل ويسكي أو كونياك، فقط شاي النعناع البري. أضفتُ المزيد من السكر إليه وأجبرته على احتسائه بملعقةٍ. دلَّكْتُ قدمَيْه بيدي، ثم ذراعَيْه وساقَيْه، ثم عصرتُ الملابس بالماء الساخن ووضعتُها فوق بطنه وقلبه، ثم تحدَّثْتُ معه حينها بطريقةٍ مختلفة رقيقة للغاية، وأخبرته أن ينام وعندما يستيقظ سيكون ذهنُه صافيًا وستزول عنه جميعُ مخاوفه.
سقطَ غصن شجرة فوقه. هذا ما أخبرتَني به تمامًا، أستطيع رؤية الغصن وهو يسقط، أستطيع رؤيته وهو يهبط بسرعةٍ هائلةٍ كالبرق والأغصان الصغيرة تتهشَّم مُحدِثةً صوتًا أثناء سقوطها، في وقتٍ يضاهي وقتَ إطلاقِ نارٍ من بندقية وأنت تقول ما هذا؟ حتى ارتطم الغصنُ به وفارَقَ الحياة.
عندما أَنمتُه رقدتُ بجانبه على الفراش. خلعتُ ثوبي ورأيتُ آثارَ الرضوض الزرقاء على ذراعي. جذبتُ تنورتي كي أرى إنْ كانت لا تزال على ساقي من أعلى، وكانت موجودةً بالفعل. كان ظهر يدي داكنًا أيضًا ويؤلمني.
لم يقع شيء سيئ بعد أن تمدَّدْتُ، ولم أَنَمْ طوال الليل، بل استمعتُ إلى أنفاسه، وكنت ألمسه لأرى ما إذا كان استدفأ أم لا. نهضتُ في أولى ساعات الصباح الباكر وأشعلتُ النار. عندما سمعني، استيقظ وكان أفضل حالًا.
لم يَنْسَ ما حدث، لكنه تحدَّث كما لو أن الأمور على ما يرام. قال: يجب أن نصلِّي ونقرأ شيئًا من الإنجيل. فتح الباب ورأينا تراكُمًا كبيرًا للثلوج، لكن السماء كانت صافية. كانت آخِر ثلوج الشتاء.
توجَّهْنا إلى الخارج وقرأنا الصلاة الرَّبية، ثم قال: أين الإنجيل؟ لماذا لا أجده فوق الرَّف؟ عندما جئتُ به من جانب النار قال: ماذا كان يفعل هناك؟ لم أذكِّره بأي شيء. لم يَدْرِ ماذا سيقرأ فانتقيتُ له مزمور ١٣١ الذي تعلَّمْناه في الدار: «يَا رَبُّ، لَمْ يَرْتَفِعْ قَلْبِي، وَلَمْ تَسْتَعْلِ عَيْنَايَ. بَلْ هَدَّأْتُ وَسَكَّتُّ نَفْسِي كَفَطِيمٍ نَحْوَ أُمِّهِ. نَفْسِي نَحْوِي كَفَطِيمٍ.» قرأه، وقال بعدها أنه سيشق ممرًّا بالجاروف ويذهب إلى آل تريس ويخبرهم. قلتُ سأطهو له بعضَ الطعام. خرج وعمل بالجاروف دون أن يتملَّكه التعبُ أو يدخل إلى المنزل لتناوُل الطعام مثلما انتظرتُ منه أن يفعل. أخذ يجرف الثلوج حتى شقَّ ممرًّا طويلًا لم أرَ نهايته ثم ذهب ولم يَعُدْ. لم يَعُدْ حتى قرب حلول الظلام ثم قال إنه تناوَلَ الطعام. قلتُ له: هل أخبرتهم بشأن الشجرة؟ فنظرَ إليَّ لأول مرة نظرةً مزرية. كانت النظرة المزرية نفسها التي اعتاد شقيقُه النظرَ بها إليَّ. لم أذكر أمامَه شيئًا آخَر على الإطلاق بشأن ما حدث أو أُلمِّحْ إليه بأية طريقة، وهو لم يذكر أيَّ شيء لي، فيما عدا ما قاله لي عندما يظهرُ بأحلامي، لكنني أدركتُ دومًا الاختلافَ بين أحلامي وبين أوقات يقظتي، فحين أكونُ يَقِظةً لم أكن أجد شيئًا سوى النظرة المزرية.
حضرَتِ السيدة تريس وحاولتْ إقناعي بالذهاب والعيش معهم مثلما فعل جورج. قالت إن باستطاعتي تناوُل الطعام والنوم هناك، كما أوضحَتْ أن لديهم ما يكفي من الأَسِرَّة، لكنني رفضتُ الذهاب. ظنُّوا أنني أرفض الذهاب بسبب شعوري بالحزن، لكنني رفضتُ الذهاب لأنه من الممكن أن يرى أحدُهم الرضوضَ الداكنة بجسدي، إلى جانب أنهم سينتظرون مني البكاء. قلتُ إنني لا أشعر بالخوف من المكوث وحدي.
حلمتُ كلَّ ليلة تقريبًا أن أحدهما جاء وطارَدَني بفأس؛ جورج أو هو، واحدٌ منهما، وأحيانًا لم يكن يحمل فأسًا، بل صخرة ضخمة يرفعها بيدَيْه الاثنتين وينتظر بها خلف الباب. إنَّ الأحلام تأتي لتحذيرنا.
لم أمكث في المنزل؛ حيث بإمكانه العثور عليَّ، وعندما توقَّفْتُ عن النوم بالداخل ونمتُ بالخارج لم تراوِدْني تلك الأحلام كثيرًا. حلَّ الدفءُ سريعًا وجاء الذبابُ والبعوض، لكن قلَّمَا أزعجاني. كنت أرى لدغاتهما دون أن أشعر بها، وهي إشارة أخرى على أنني محمية بالخارج. كنت أختبِئ لدى سماعي قدوم أيِّ شخصٍ. أكلتُ ثمارَ العليق الحمراء والسوداء على حدٍّ سواء، وحماني الرَّب من أي سوء بها.
بعد برهة راوَدَتْني أحلامٌ مختلفة؛ حلمت بأن جورج حضر وتحدَّث معي ولا تزال النظرة المزرية تعلو وجهه، لكنه حاوَلَ إخفاءها والتظاهُر بأنه حنون. استمرَّ في الظهور بأحلامي واستمرَّ في الكذب. زادت برودةُ الطقس بالخارج ولم أرغب في العودة مرةً أخرى إلى الكوخ، وكان الندى كثيفًا للغاية حتى إنه كان يصيبني البلل كثيرًا حين كنت أنام فوق العشب. ذهبتُ وفتحتُ الإنجيل كي أكتشفَ ما ينبغي لي فعله.
وحينها نِلتُ عقابي لقاء الخداع؛ لأن الإنجيل لم يخبرني بأي شيء أتمكَّن من تفسيره لأفعله؛ إذ مارسْتُ الخداعَ حين كنتُ أبحث عن آياتٍ أقرؤها لجورج، ولم أقرأ الآيات التي وقف عندها إصبعي تحديدًا، لكن جُلْتُ بناظريَّ سريعًا وعثرتُ على شيءٍ آخَر أقرب إلى ما أردتُه. اعتدتُ فعلَ ذلك أيضًا حين كنَّا نبحث عن آياتٍ في الدار، ودائمًا ما وقفتُ عند أمور جيدة ولم يضبطني أحدٌ أو يشك في الأمر قطُّ. وأنتِ لم يساوركِ الشك أيضًا يا سادي.
لذا، الآن نِلتُ عقابي عندما لم أعثر على أي شيء يساعدني أينما نظرتُ، لكن ثمة ما جعَلَني أفكِّرُ في القدوم إلى هنا ففعلتُ ذلك. كنت قد سمعتهم يتحدَّثون عن مدى دفء المكان هنا، وكيف أن المتسوِّلين يرغبون في المجيء إلى هنا والدخول إلى السجن؛ لذا فكَّرْتُ أن أفعل هذا أيضًا، وكذلك ثمة ما أدخَلَ في رأسي فكرةَ أن أخبرهم بما فعلتُه. أخبرتهم بالكذبة نفسها التي كثيرًا ما أخبرني بها جورج في أحلامي في محاولةٍ لإقناعي بأنني مَنْ قتَلَه وليس هو. إن شعوري بالأمان هنا بعيدًا عن جورج هو ما يهمُّ. إذا ظنُّوا أنني مختلة العقل وأنا أعي الفارق فأنا آمِنة. لا أرغبُ إلا في قدومكِ إلى هنا وزيارتي.
كما أرغبُ أن يتوقَّف ذلك الصراخ.
عندما أنتهي من كتابة هذا الخطاب، سأضعه بين الستائر التي أحيكها من أجل دار الأوبرا، وسأكتبُ عليها: رجاء ممَّنْ يعثر على الخطاب أن يرسله إلى وجهته. أثِقُ في هذه الطريقة أكثر من إعطاء الخطاب إليهم مثل الخطابَيْن السابقَيْن اللذَيْن أعطيتهم إياهما بالفعل ولم يرسلوهما قطُّ.
٤
من الآنسة كريستينا مالن، مدينة والي، إلى السيد ليوبولد هنري، قسم التاريخ، جامعة كوينز، كينجستون، ٨ يوليو ١٩٥٩.
أَجَلْ، أنا الآنسة مالن التي تَذْكُرُ شقيقةُ تريس هيرون حضورها إلى المزرعة، وهو لطفٌ بالغ منها أن تقول عني إنني كنت سيدة شابة جميلة ترتدي قبعة ووشاحًا. كان ذلك وشاحًا مخصَّصًا للقيادة، والسيدةُ العجوز التي ذكرَتْها هي زوجةُ شقيقِ جدِّ السيد هيرون، إنْ كان ما تَبيَّنْتُه صحيحًا. وحيث إنكَ تكتب السيرة الذاتية، فلا بد أن صلات القرابة ستتضح لديك. لم أصوِّت قطُّ لتريس هيرون؛ إذ إنني من مؤيدي حزب المحافظين، لكنه كان سياسيًّا لامعًا، وكما تقول فإن سيرةً ذاتيةً عنه ستلفت الأنظار إلى هذا الجزء من البلاد الذي كثيرًا ما يُنظَر إليه على أنه «مملٌّ إلى أبعد حدٍّ».
أشعرُ بالدهشة — إلى حدٍّ ما — من أن شقيقته لم تذكر السيارة على وجه الخصوص. كانت سيارة بخارية من طراز ستانلي ستيمر، اشتريتُها لنفسي في عيد ميلادي الخامس والعشرين عام ١٩٠٧. كلَّفَتْني ألفًا ومائتَيْ دولار؛ اشتريتها بجزءٍ من إرثي عن جدي جيمس مالن؛ الذي ينتمي إلى الرعيل الأول من كُتَّاب المحكمة في والي، وجنى ثروتَه من بيع المزارع وشرائها.
بعد موت والدي في شبابه، انتقلَتْ أمي للعيش في منزل جدي بصحبتنا نحن الفتيات الخمس جميعًا. كان منزلًا حجريًّا كبيرًا يُدعَى تراكوير، وهو الآن دارًا للمجرمين الأحداث. أحيانًا ما أقول مازحةً إنه طالما كان كذلك!
عندما كنت في سن صغيرة، وظَّفْنا بستانيًّا وطاهيًا وخيَّاطة؛ جميعهم كانوا «غريبي الأطوار»، وميَّالين إلى التقاتُل بعضهم مع بعض. كانوا جميعهم يَدِينون بالفضل في وظائفهم لحقيقةِ أنهم حظوا باهتمامِ جدي عندما كانوا نُزلاء في سجن المقاطعة، وأحضرهم في نهاية المطاف إلى المنزل.
عندما اشتريتُ السيارة البخارية، كنتُ الوحيدة بين شقيقاتي التي لا تزال تعيش في المنزل، وكانت الخيَّاطةُ الخادمةَ الوحيدة المتبقية من بين الخدم. كانت تُدعَى «العجوز آني»، ولم تعترض على ذلك الاسم، بل كانت تستخدمه بنفسها فتكتب رسائل إلى الطاهي تقول فيها: «لم يكن الشاي ساخنًا، هل سخَّنْتَ الإبريق؟ العجوز آني.» كان الطابق الثالث بأكمله مخصَّصًا للعجوز آني، وكانت إحدى شقيقاتي — دولي — تقول: إنها في أي وقتٍ تحلم بمنزل تراكوير، تحلم بالعجوز آني في الطابق الثالث بالأعلى تلوِّح بعصا القياس الخاصة بها، وترتدي ثوبًا أسود بذراعَيْن سوداوَيْن طويلتَيْن مخمليتين، ممَّا يجعلها أشبه بعنكبوت.
كانت إحدى عينيها منحرفة نحو الجانب، مما يعطي انطباعًا بأنها تستوعب معلوماتٍ أكثر من الشخص العادي.
لم يُفترَض بنا مضايقة الخدم بأسئلةٍ عن حياتهم الشخصية، لا سيَّما أولئك الذين كانوا في السجن، لكن بالطبع كنَّا نسألهم. أحيانًا ما كانت تطلق على السجن «الدار». ذكرَتْ أنه كانت هناك فتاةٌ في الفراش المقابل تصرخ بلا انقطاعٍ، ولهذا السبب فرَّتْ — آني — لتعيش في البرية. لقد ذكرَتْ أن الفتاة ضُرِبتْ لأنها تركت النار تنطفئ. سألناها: لماذا ذهبتْ إلى السجن؟ فكانت تقول: «كَذِبْتُ!» لذا، لبرهةٍ من الوقت، ترسَّخ لدينا انطباعٌ مفادُه أن الناسَ يذهبون إلى السجن إذا كذبوا!
في بعض الأيام تكون في حالة مزاجية جيدة، وتلعب معنا لعبة «فَتِّشْ عن الكُشْتَبان»، وأحيانًا تكون في حالة مزاجية سيئة، وتلدغنا بالإبر أثناء تعديلها أطراف الثوب إذا استدَرْنا أسرع من اللازم، أو توقَّفْنا أسرع من اللازم. قالت: إنها تعرف مكانًا يوجد به طوب يُوضَع على رءوس الأطفال يُوقِف نموَّهم. كان تكره صنع فساتين العُرس (لم تضطر لصنع واحد لي قطُّ)، ولم تعجب بأيٍّ من أزواج شقيقاتي. مقتَتْ عشيقَ «دُولي» للغاية، لدرجة أنها صنعت عيبًا متعمدًا بالأكمام جعلها تتمزَّق، وبَكَتْ دُولي، لكنها صنعت لنا ثيابَ سهرة جميلة لارتدائها حين قَدِمَ الحاكِم العام والسيدة مينتو إلى مدينة والي.
أمَّا عن زواجها، فكانت تقول أحيانًا إنها تزوَّجت، وأحيانًا أخرى إنها لم تتزوَّج. قالت إن رجلًا أتى إلى الدار واصطَفَّتْ جميع الفتيات أمامه وقال: «سوف أتخيَّر الفتاة ذات الشعر الحالِك السواد.» وكانت تلك الفتاة هي العجوز آني، لكنها رفضتِ الذهاب معه، على الرغم من أنه كان ثريًّا وحضرَ في عربةٍ. شيءٌ من قبيل قصة سندريلا لكنْ بنهايةٍ مختلفةٍ. ثم قالت: إن دبًّا قتل زوجها في البرية، وإن جدِّي قتل الدبَّ، ولفَّها في جِلْدِ هذا الدُّبِّ واصطحبها إلى المنزل من السجن.
اعتادت أمي أن تقول لنا: «الآن، يا فتياتي، لا تشجِّعْنَ العجوز آني على الحديث، ولا تصدِّقْنَ كلمةً واحدة ممَّا تقول.»
أنا أسهب في الحديث عن الماضي، لكنك ذكرتْ بالفعل أنك مهتمٌّ بتفاصيل تلك الفترة الزمنية. أنا مثل كُثُرٍ في سنِّي ممَّنْ ينسى شراءَ شيء ضروري في حياته اليومية، لكنه يذكر لونَ المعطف الذي كان لديه يومًا ما في سن الثامنة.
لذا عندما اشتريتُ السيارة البخارية، طلبتْ مني العجوز آني أن أصحَبَها في جولةٍ. تبيَّنَ لي أن ما أرادته هو أقرب إلى رحلةٍ بالسيارة. فاجَأَني الأمر إذ إنها لم تُرِدْ قطُّ الخروجَ في رحلاتٍ من قبلُ، ورفضتِ الذهابَ إلى شلالات نياجرا، ولم ترغب حتى في الذهاب إلى المَرفأ لمشاهدة الألعاب النارية في احتفالات العيد القومي في الأول من يوليو. كذلك كانت تخشى السيارات وترتاب في قيادتي، لكن المفاجأة الكبرى أنها كانت تعرف شخصًا ما تودُّ الذهاب لزيارته. أرادت مني الذهاب إلى كارستيرز لزيارة آل هيرون، الذين قالت عنهم إنهم أقاربها. لم تتلقَّ أيَّ زيارات أو خطابات من أولئك الناس، وعندما سألتُها هل أرسلتْ خطابًا تسأل فيه إن كان بإمكاننا زيارتهم أم لا، قالت: «لا أستطيع الكتابة.» كان جوابها سخيفًا؛ فقد كتبَتْ رسائلَ للطاهي وقوائمَ طويلةً بالأشياء التي تريدني أن أشتريها من الميدان أو من المدينة؛ شريطة، وقماش باكرام، وقماش التفتا. كان بإمكانها تهجِّي كلَّ هذه الكلمات.
قالت: «وهم ليسوا بحاجةٍ إلى معرفة سابقة؛ في الريف الأمورُ مختلفةٌ.»
حسنًا، أحببتُ الذهابَ في رحلاتٍ بالسيارة البخارية. اعتدتُ القيادة منذ أن كنت في الخامسة عشرة من عمري، لكن هذه كانت أول سيارة أتملَّكُها بصفة شخصية، وعلى الأرجح السيارة البخارية الوحيدة في مقاطعة هورون. كان الجميعُ يهرعون لمشاهدةِ السيارة أثناء مرورها. لم تُصدِر ضجةً عالية وصليلًا وجلجلة، بل كانت تسير في هدوءٍ إلى حدٍّ ما كسفينة بشراعٍ عالٍ تسير فوق مياه البحيرة، كما أنها لم تعكِّر الهواء، بل خلَّفَتْ وراءَها سحابةً من البخار. حُظِرت سيارات ستانلي ستيمر في بوسطن؛ نظرًا لأن البخار لبَّدَ الهواء بالغيوم. لطالما أحببتُ أن أخبر الناس: «قُدْتُ سيارةً كانت محظورة في بوسطن.»
بدأنا الرحلة في ساعةٍ مبكرة إلى حدٍّ ما في يوم أحدٍ من شهر يونيو. استغرقتُ نحو خمسةً وعشرين دقيقة لتشغيل محرِّك السيارة، وطوال ذلك الوقت جلستِ العجوز آني في المقعد الأمامي كما لو أن العرض سيبدأ بالفعل. ارتدينا نحن الاثنتين وشاحَ القيادة ومِئزَرَيْن طويلين، لكن الثوب الذي ارتدَتْه العجوز آني أسفل السترة كان حريريًّا وبلون أرجواني داكن. في واقع الأمر، كانت قد أعادتْ صنعَه من الثوب الذي ارتدته جدتي عند مقابلة أمير ويلز.
قطعتِ السيارةُ البخارية الأميالَ بسرعةٍ كبيرة؛ كانت تقطع خمسين ميلًا في الساعة — كان ذلك رائعًا حينذاك — لكنني لم أزِدِ السرعة. كنتُ أحاول ألَّا أتسبَّب في أي توتُّر للعجوز آني. كان الناسُ لا يزالون في الكنائس حين بدأنا رحلتنا، لكن فيما بعدُ امتلأتِ الطرق بالخيول والعربات التي تجرُّها الخيول التي تشقُّ طريقَها إلى بيوتهم. التزمتُ الكياسةَ بأكبر قدرٍ ممكن وأنا أسير ببطء مارَّةً بهم، لكن تبيَّنَ أن العجوز آني لم تحبِّذْ هذه الرصانة وأخذَتْ تقول: «فَلْتضغطي عليه.» قاصدةً البوق الذي كان يعمل بمصباح أسفل رفرف السيارة بجانبي.
لا بدَّ أنها لم تخرج من مدينة والي لسنواتٍ تتجاوز السنوات التي عشتها. عندما عبرنا الجسر بسولتفورد (ذلك الجسر الحديدي الذي شهدَ الكثير من الحوادث بسبب الانعطاف من الطرفين)، قالت إنه لم يكن يوجد جسر هناك، وكان على المرءِ أن يدفع المال لرجل كي يجدِّف به عبر النهر.
قالت: «لم يكن باستطاعتي دفع المال، فعبرتُ فوق الأحجار ورفعتُ تنورتي وخضتُ في الماء. كان الطقس بهذه الدرجة من الجفاف في الصيف.»
بالطبع لم أعرف عن أي صيفٍ كانت تتحدَّث.
بعد ذلك، قالت: «انظري إلى تلك الحقول الشاسعة، أين ذهبت جذوع الأشجار؟ أين الأدغال؟ انظري كيف يمتد الطريق في خطٍّ مستقيم. إنهم يبنون منازلهم من القرميد! وما هذه المباني التي تضاهي الكنائس حجمًا؟»
قلتُ: «إنها حظائر.»
كنت أعرف الطريق إلى كارستيرز جيدًا، لكنني انتظرتُ من العجوز آني أن تساعدني بمجرد أن نصل إلى هناك؛ لكنْ لم تَلُحْ في الأفق أي مساعدة. قُدْتُ السيارة في الشارع الرئيسي جَيْئَةً وذهابًا في انتظار أن ترى شيئًا مألوفًا. قالت: «ليتني أرى النُّزُل فقط؛ سأعرفُ حينها المسار خلفه.»
كانت بلدةً مقامة حول مصنعٍ ما، ولم تكن بلدة جميلة، في رأيي. بالتأكيد لفتتِ السيارة البخارية الأنظار، واستطعتُ السؤال عن الاتجاهات المؤدِّية إلى مزرعة هيرون دون إيقاف المحرك، وبعد صيحاتٍ وإشارات تمكَّنْتُ في النهاية من الوصول إلى الطريق الصحيح. أخبرتُ العجوز آني أن تنتبه إلى صناديق البريد، لكنها كانت منشغلة بالبحث عن الجدول المائي. عثرتُ على الاسم بنفسي، وانعطفتُ إلى ممر طويل يؤدِّي إلى منزل من القرميد الأحمر في نهايته، ملحقةٌ به حظيرتان أثارتا ذهولَ العجوز آني. كانت المنازل القرميدية الحمراء ذات الشرفات والنوافذ الكبيرة هي الطراز المعتاد حينئذٍ، وكانت منتشرة في جميع الأنحاء.
قالت العجوز آني: «انظري إلى هذا!» ظننتُ أنها تقصد قطيع الأبقار الذي كان يفرُّ بعيدًا عنَّا في المرعى المتاخم للممر، بَيْدَ أنها كانت تشير إلى ركام غُطِّي معظمه بعنب بري، تبرز منه بضع أحطاب، قالت إنه الكوخ. قلت: «حسنًا، آمُل أن تتعرفي على شخص أو اثنين من الناس.»
كان ثمة عددٌ كافٍ من الناس من حولنا. وقفتْ عربتان زائرتان في الظِّلِّ، والخيول مقيَّدة وتأكل الحشائش. عندما أوقفتُ السيارة عند الشرفة الجانبية، اصطفَّ جَمْعٌ من الناس وأخذوا ينظرون إليها. لم يتقدَّموا نحونا — ولم يندفع الأطفال إلى الخارج ليتفحَّصوا السيارة عن قُرْب كما يفعل الأطفال بالبلدة — بل وقفوا جميعًا فحسب في صفٍّ ينظرون إليها وهم يعضُّون على شفاههم.
حدَّقت العجوز آني في اتجاه مختلف.
أخبرتني أن أترجَّل من السيارة، قالت: انزلي وَسَلِيهم هل السيد جورج هيرون يعيش هنا، وهل هو على قيد الحياة أم مات؟
فعلتُ ما طُلِب مني، وقال أحد الرجال: «هذا صحيح، إنه أبي.»
أخبرتهم: «حسنًا، أحضرتُ شخصًا ما. أحضرتُ السيدة آني هيرون.»
قال الرجل: «هكذا إذن؟»
(هنا حدث توقُّفٌ مؤقت في كتابة الخطاب نتيجةً لإصابتي بنوبات إغماءٍ وذهابي إلى المستشفى. وبعد إجراء الكثير من الفحوصات التي دفعتُ مقابلَها أموالًا طائلة، الآن عدتُ من المستشفى وقرأتُ ما كَتبتُه، اندهشتُ من الإطالة والتشتُّت، لكن أشعر بكسلٍ شديد للبدء من جديد. لم أصل حتى إلى الجزء الخاص بتريس هيرون، وهو محل اهتمامك، لكن انتظر، أوشكتُ على بلوغه.)
اجتاحهم الذهول بشأن العجوز آني، أو هكذا استنتجتُ. لم يكونوا يعرفون مكانها، أو ماذا كانت تفعل، أو ما إذا كانت على قيد الحياة، لكن لا يجعلك هذا تعتقد أنهم اندفعوا إلى الخارج ورحَّبوا بها في ابتهاج؛ إذ لم يخرج سوى شابٍّ، مهذَّب للغاية، وساعَدَها أولًا في النزول من السيارة ثم ساعَدَني بعدها. أخبرني أن العجوز آني هي زوجة شقيق جَدَّه. قال إنه من المؤسف للغاية أننا لم نأتِ قبل بضعة أشهر؛ فقد كان جَدُّه بصحة جيدة وذهنه صافيًا تمامًا، حتى إنه كتب مقالًا لصحيفةٍ ما يحكي فيها عن أيامه الأولى؛ لكنه مَرِضَ بعد ذلك. وعلى الرغم من أنه تعافَى، فإنه لم يَعُدْ إلى طبيعته مجددًا؛ فلم يعد بوسعه التحدُّث، سوى بضع كلمات بين الحين والآخر.
كان ذلك الشاب المهذَّب هو تريس هيرون.
لا بد أننا وصلنا بعد أن انتهوا من تناوُل العشاء بالضبط. خرجتْ ربةُ المنزل وطلبتْ من تريس هيرون أن يسألنا ما إذا كنَّا قد تناولنا الطعام. قد تظن أن ربة المنزل أو أننا لم نكن نتحدث الإنجليزية. كانوا جميعًا في منتهى الخجل؛ النساء بشعرهن المصفَّف للخلف، والرجال ببذلاتهم الزرقاء الداكنة، والأطفال المعقودي اللسان. أرجو ألَّا تظن أنني أسخر منهم؛ كلُّ ما في الأمر أنني لا أستطيع فَهْم سبب أن يكون المرء خجولًا للغاية، بالضرورة.
اصطُحِبنا إلى حجرة تناوُل الطعام التي بدت غير مستخدَمة — لا بد أنهم تناولوا طعامهم في مكان آخَر — وقُدِّمت لنا أصنافٌ كثيرة من الطعام؛ أذكر منها الفجل المُملَّح، وأوراق الخس، والدجاج المشوي، والفراولة والقشدة. كانت الأطباق من خزانة حفظ الأواني الخزفية؛ لم تكن صحونهم العادية. شجرة هندية عتيقة وجميلة. لديهم أطقم من كل شيء. جناح حجرة المعيشة المخملي. جناح حجرة الطعام من خشب الجوز. فكرت في أنهم سيستغرقون برهة من الوقت حتى يعتادوا على حياة الترف.
استمتعت العجوز آني بشعور أن أحدًا يقوم على خدمتها، وتناولت الكثير من الطعام، وأمسكت بعظام الدجاج لتنزع منها الفتات الأخير من اللحم. تسلَّل الأطفال خفيةً عند المداخل وتحدَّثت النساء بأصواتٍ خافتة ومخجلة إلى حدٍّ ما في المطبخ. كان تريس هيرون يتَّسِم باللياقة، وجلس معنا، واحتسى كوبًا من الشاي أثناء تناوُلِنا الطعام. ثرثَرَ عن نفسه طوعًا بقدرٍ كافٍ وأخبرني أنه درس علم اللاهوت بكلية نوكس كوليدج. أخبرني أنه أحبَّ العيش في تورونتو؛ تملَّكَني شعور بأنه يسعى إلى إقناعي بأن طلاب اللاهوت ليسوا جميعًا على هذه الدرجة من النحافة على الإطلاق، كما كنت أظن، أو يعيشون حياة متزمتة. أخبرني أنه مارَسَ التزلج على الجليد في هاي بارك، وأنه كان يذهب في نزهات خلوية بهانلانز بوينت، وأنه شاهَدَ الزرافة في حديقة حيوان ريفرديل. أثناء حديثه، تشجَّعَ الأطفال قليلًا وبدءوا في الدخول إلى الغرفة واحدًا تلو الآخر. طرحتُ عليهم الأسئلة الحمقاء المعتادة: كَمْ أعماركم؟ ماذا تدرسون في المدرسة حاليًّا؟ هل تحبون المُعلِّم؟ كان تريس يحثُّهم على الإجابة أو يجيب عنهم بنفسه، وأخبرني أيُّهم أشقاؤه وشقيقاته، وأيُّهم أبناء وبنات عمومته.
قالت العجوز آني: «هل يحبُّ بعضُكم بعضًا إذن؟» ممَّا استدعى التطلُّع بنظراتٍ تعلوها الدهشة.
حضرتْ سيدة المنزل مرةً أخرى وتحدَّثت إليَّ مجددًا من خلال طالب اللاهوت. أخبرَتْه أن الجَدَّ استيقظ الآن ويجلس بالشرفة الأمامية. نظرتْ إلى الأطفال وقالت: «لماذا سمحتَ لهم جميعًا بالدخول إلى هنا؟»
سِرْنا نحو الشرفة الأمامية؛ حيث وُضِع مقعدان بمتكأ مستقيم، وجلس رجلٌ عجوز على واحد منهما؛ كانت له لحية بيضاء جميلة تصل إلى طرف الصُّدْرِيَّة التي يرتديها. لم يبدُ أنه مهتمٌّ بنا. كان له وجه عجوز طويل وشاحب ومذعن.
قالت العجوز آني: «حسنًا يا جورج.» كما لو أن هذا ما كانت تتوقَّعه. جلستْ على المقعد الآخَر وأخبرتْ إحدى الفتيات الصغيرات: «احضري لي الآن وسادة. احضري وسادة رفيعة وضَعِيها عند ظهري.»
•••
أمضيتُ فترةَ ما بعد الظهيرة في تقديم خدمات توصيلٍ بسيارتي البخارية. علمتُ ما يكفي عنهم الآن بما لا يجعلني أشرع في سؤالهم عمَّنْ يرغب في توصيلة، أو إمطارهم بوابل من الأسئلة من قبيل: هل يهتمون بالسيارات؟ خرجت فحسب وربَّتُّ على السيارة في أماكن مختلفة كما لو أنها حصان، وتفحَّصتُ المرجل البخاري. تتبَّعَني طالب اللاهوت وقرأ اسم السيارة البخارية على الجانب «مركبة الرجل النبيل السريعة». سألني إنْ كانت لأبي.
أخبرته بأنها تخصُّني. شرحتُ له كيف يَسخن الماء داخل المرجل، وقدر الضغط البخاري الذي يحتمله المرجل. لطالما تساءَلَ الناس حول ذلك؛ حول حدوث انفجارات. اقترب الأطفال مني عندئذٍ، وفجأةً لاحظتُ أن المرجل كان خاويًا تقريبًا. سألتُ هل من سبيل أحصل به على بعض الماء.
ركضوا لإحضار الدِّلاء وتشغيل المضخة! اتجهت نحو الشرفة وسألت الرجال هناك: هل من مانع في ذلك؟ وشكرتهم حين أخبروني بأنَّ لي ما أشاء. بمجرد أن امتلأ المرجل كان من الطبيعي — بالنسبة إليَّ — أن أسألهم إن كانوا لا يمانعون في تشغيل المحرك البخاري، وقال متحدِّث: لا بأس. لم يَضِقْ صدرُ أحدٍ أثناء الانتظار. حدَّقَ الرجال في المرجل بتركيز. لم تكن، بالطبع، هذه أول سيارة يرونها، لكنها — على الأرجح — السيارة البخارية الأولى.
عرضتُ على الرجال توصيلهم أولًا، من باب اللياقة. أخذوا يراقبونني في ارتيابٍ بينما كنت أعبث في المقابض والأذرع لتشغيل السيارة. ثلاثة عشر جزءًا مختلفًا يُدفَع أو يُجذَب! تأرجحنا فوق الممر أثناء ذهابنا في الخامسة، ثم سِرنا بسرعة عشرة أميال في الساعة. علمتُ أنهم يشعرون بالضيق بعض الشيء؛ لأن سيدة تقود بهم، لكن حداثة التجربة جعلتهم يتحمَّلون. بعد ذلك، صعد مجموعة من الأطفال، ساعَدَهم في الركوب طالبُ اللاهوت وهو يخبرهم بأن يجلسوا بلا حراكٍ ويتشبَّثوا جيدًا، وألَّا يشعروا بالذعر أو يسقطوا خارج السيارة. زِدتُ السرعةَ قليلًا، بعد أن أصبحتُ على دراية الآن بالأخاديد وحفر الوحل، كما أن صيحات الخوف والبهجة لم يكن من الممكن إيقافها.
لقد أغفلتُ ذِكْرَ أمرٍ يتعلَّق بحالتي، لكنني لن أغفل ذِكْرَه الآن، نتيجة لآثار كأس المارتيني الذي أحتسيه الآن، وهو لذة آخِر الظهيرة بالنسبة إليَّ. كنت أعاني مشكلات حينئذٍ لم أبُحْ بها لك بعدُ؛ لأنها كانت مشكلاتٍ عاطفيةً، لكن عندما شرعت في الرحلة ذاك اليوم مع العجوز آني، قررتُ أن أستمتع بوقتي قدر استطاعتي. بَدَا أنه من الإهانة لسيارتي البخارية ألَّا أفعل ذلك. طوال حياتي وجدت في هذا قاعدة جيدة ينبغي عليَّ اتِّباعها؛ على المرء الاستمتاع بالأشياء إلى أقصى درجةٍ ممكنة، حتى عندما لا يكون ميَّالًا إلى الشعور بالسعادة.
أخبرتُ أحد الصِّبْيَة بأن يركض إلى الشرفة الأمامية ويسأل هل يرغب جَدُّه في جولةٍ بالسيارة، لكنه عاد وقال: «إنهما نائمان.»
تعيَّن ملء المرجل قبل أن نبدأ في رحلة العودة، وأثناء ذلك، جاء تريس هيرون ووقف بالقرب مني.
قال: «لقد منَحْتِنا جميعًا يومًا لا يُنسَى.»
لم أترفَّع عن مغازلته. في حقيقة الأمر، كان لي باعٌ كبير في المغازلة. إنه سلوك طبيعي للغاية؛ بمجرد أن تجعلك خسارةُ الحبيب تتخلَّى عن أفكارك المتعلِّقة بالزواج.
أخبرته أنه سينسى كلَّ هذا بمجرد أن يعود إلى أصدقائه في تورونتو. قال كلا بالطبع، لن ينسى أبدًا، وسألني هل من الممكن أن يراسِلني، قلتُ إنَّ أحدًا لن يمنعه.
في طريق عودتنا إلى المنزل فكَّرتُ في المحادثة التي دارت بيننا، وكيف أنه سيكون من السخف أن ينمو لديه انجذابٌ جِدِّيٌّ تجاهي. طالِب اللاهوت! لم تكن لديَّ أيُّ فكرة حينئذٍ، بالطبع سيترك اللاهوت ويتجه إلى السياسة.
قلتُ للعجوز آني: «من المؤسف حقًّا أن السيد هيرون العجوز لم يكن باستطاعته التحدُّث معك.»
قالت: «حسنًا، استطعتُ أنا التحدُّث معه.»
في واقع الأمر، راسَلَني تريس هيرون، لكن لا بد أنه خالَجَتْه الظنون أيضًا؛ لأنه أرفق بضعة منشورات عن المدارس التبشيرية؛ شيء عن جمع المال للمدارس التبشيرية. أحبَطَني ذلك الأمر ولم أردَّ عليه بخطاب (بعد مرور سنواتٍ كنت أمزح وأقول إنه كان من الممكن أن أتزوَّج به إذا جاريتُه على النحو الذي يجب).
سألتُ العجوز آني: «هل استطاع السيد هيرون فهمها عندما تحدَّثَتْ معه؟» فقالت: «إلى حدٍّ كافٍ.» سألتها: «هل ستشعر بالسعادة لدى رؤيته مرة أخرى؟» فقالت: «أنا سعيدة من أجله لأنه رآني.» بأسلوب لا يخلو من الارتياح الماكِر، بالتلميح — على الأرجح — إلى ما ترتديه والمركبة التي حضرتْ بها.
لذا انطلقنا فحسب في السيارة البخارية أدنى الأشجار العالية المُقوَّسة التي اصطفَّتْ على جوانب الطرق في تلك الأيام. ومن مسافةٍ بعيدة استطعنا رؤيةَ البحيرة؛ لمحاتٍ فقط منها، ولمحاتٍ من الضوء، الذي يتخلَّل الأشجار والتلال؛ لذا سألتني العجوز آني: «هل من الممكن أن تكون هي البحيرة نفسها؛ نفس البحيرة التي كانت مدينة والي على ضفافها؟»
كان ثمة الكثير من كبار السِّن حينئذٍ تجول في أذهانهم أفكارٌ غير منطقية، وإنْ كنتُ أظن أن العجوز آني كان لديها من تلك الأفكار أكثر من أغلبيتهم. أذكر أنها أخبرتني في وقتٍ آخَر أن فتاةً في الدار وضعتْ طفلًا من بثرة ضخمة انفجرت من بطنها، وكان في حجم فأر، ولم يكن حيًّا، لكنهم وضعوه داخل فرن فانتفخ حتى صار في حجم مناسب، وتحمَّص حتى أصبح لونه مقبولًا وبدأ في تحريك ساقَيْه. (لا بد أن ما تفكر فيه الآن هو المقولة الشهيرة: اطلبُ من امرأة عجوز أن تستغرق في الذكريات وستسمع مزيجًا من أشياءَ غيرِ مترابِطة.)
أخبرتُها أن هذا غير معقول؛ لا بد أنه كان حُلمًا.
قالت: «ربما كان كذلك.» واتفقتْ معي في الرأي لمرة واحدة: «كانت تراودني بالفعل أفظع الأحلام.»